في السنوات الأخيرة، واجهت تركيا سلسلة من التحديات والتهديدات التي نشأت من التحولات في النظام الدولي، وما ينتج عنها من عدم الاستقرار، والمخاطر المتزايدة التي تنمو في جوارها. وهذه الموجة الجديدة من التحديات دفعت تركيا إلى البحث عن نظرة مستقبلية جديدة شاملة ومبتكرة في طبيعتها لهذه التطورات والأحداث. بالتوازي مع ذلك، ظهرت نقاشات تشير إلى الضغط على تركيا لوضع إستراتيجية كبرى جديدة قادرة على التعامل مع هذه التحديات والمخاطر، بناءً على قراءة ذاتية من منظورها الفريد. والسؤال الأساسي الذي يدور حوله الجدل يتألف من الأسئلة الآتية: هل تحتاج تركيا إلى إستراتيجية كبرى؟ ما الذي يجب أن تكون عليه إستراتيجية تركيا الكبرى؟ فالسؤال الأول ناشئ من التشكيك في فكرة حاجة امتلاك القوى الوسطى لإستراتيجية كبرى في المقام الأول. والسؤال الثاني ناشئ من منظور المؤيدين الذين يعتقدون أن على تركيا (وهي تعمل على امتلاك القوى) أن تضع وتنفذ إستراتيجية كبرى لحل التناقضات التي تواجهها، وزيادة مكانتها الدولية. وسواء أكانت تركيا تحتاج إلى إستراتيجية كبرى أم لا، فإن النقاش المتزايد يقدم إسهامات لا تقدر بثمن لجهود الاستكشافات الفكرية حول هذا الموضوع.
تشير هذه الدراسة إلى أن تركيا اتبعت منذ بداية العهد الجمهوري إستراتيجية كبرى، على الأقل من حيث الرؤية والهدف النهائي، هي إستراتيجية كبرى تهدف إلى ضمان وتعزيز وكالة الدولة ‘لبلوغ مستوى الدول المتحضرة، وتجاوز هذا المستوى'. في هذا السياق، لم يجرِ تصميم هذه الدراسة للإشارة إلى أن تركيا بحاجةٍ إلى إستراتيجية كبرى أو إلى اقتراح إستراتيجية كبرى واضحة المعالم يجب تطبيقها من دون أي ارتجال، بل لاستكشاف السمات والميزات المحتملة التي يجب إسباغها على إستراتيجية تركيا الكبرى، على اعتبار أن النظام الدولي يمر بتغيرات كبيرة، وأن المنطقة التي بها تركيا تواجه تحولًا يميل بطبيعته إلى إنتاج دورة جديدة من التحديات والمخاطر.
تتناول الدراسة في جزئها الأول مناقشة نقدية للسمات الرئيسة لإستراتيجية تركيا الكبرى عند التنظير العام والسائد، وفي جزئها الثاني يجري تسليط الضوء على دوافع التغيير التي تنفي هذا التنظير السائد، وتوفر نهجًا بديلًا للتنظير القائم على الواقعية النقدية التي تستكشف كيف يمكن للبنى الاجتماعية غير القابلة للرصد أن تورط الفاعلين في إعادة صياغة إستراتيجياتهم. وفي الجزء الثالث يجري حصر النقاشات بحيث تركز على الإستراتيجية الكبرى لتركيا بناءً على سياقها وعلم السلوك (نظرية الفعل البشري). وقد جرى تخصيص الجزء الآتي لاستكشاف سمات الإستراتيجية الكبرى المتمثلة في المرونة والقوة المتقلبة والترابط، ومناقشة قدرة تركيا على تعزيز إستراتيجياتها في بيئة غامضة من خلال دمج هذه المفاهيم. يحاول هذا الجزء تقديم لمحة سريعة عن التطبيقات العملية لهذه المفاهيم، وكيف استخدمتها تركيا في بعض الحالات.
تحديد سمات النظريات السائدة في الإستراتيجية:
تركز الأدبيات الموجودة بكثرةٍ على الإستراتيجيات الكبرى للقوى العظمى. في الواقع، يعرّف موراي الإستراتيجية الكبرى بأنها "مسألة ذات صلةٍ بالدول الكبرى وحدها دون غيرها ... ولا توجد دول صغيرة ... تستطيع صياغة إستراتيجية كبرى"[1]. هذا الموقف المعياري السابق ينص بشكلٍ أساسيّ على أن القوى العظمى وحدها تمتلك القدرات والإمكانيات لوضع إستراتيجية كبرى وتنفيذها. ولكن مع تحول النظام الدولي من نظامٍ دوليّ أحادي القطب إلى نظامٍ دوليّ متعدد الأقطاب، بدأت تظهر أدبيات ترى بأن القوى الوسطى، وكذلك الدول الصغيرة، ربما تستطيع هي الأخرى وضع إستراتيجية كبرى[2]، رغم القيود المفروضة عليها، وقلة الموارد المتاحة لتخصيصها في تحقيق أهدافها المنشودة. ولتوضيح التحول الذي طرأ على هذه النظرة بشكل أكبر، ستحدد هذه الدراسة الميزات التي تبرز في الأدبيات الحالية، وتسلط الضوء على الجوانب الناقصة والمضللة للنظريات السائدة؛ وذلك من أجل تسهيل المساعي لاستكشاف سمات الإستراتيجية الكبرى، واختيار السمات الأكثر بروزًا التي يجب دمجها في النهاية لدى وضع الإستراتيجيات.
تشترك المقاربات السائدة للإستراتيجية الكبرى بعدد من الميزات. أولى هذه الميزات هي أن فلسفة العلم الأساسية، تقود وتؤطر، أو تضيّق وتسيطر على الدراسات المتعلقة بالمفهوم. وبما أن الفهم الوضعي يركز على ما يمكن ملاحظته، فإنه يختزل حتمًا دراسة المفهوم على الوسائل المتاحة التي يمكن استخدامها لتحقيق الأهداف[3]. وأبعد من ذلك، يجلب هذا النهج بطبيعته تجسيد الغايات. وهذا الانشغال بالوسائل التي تجسد عن غير قصد، ويهمل من ثَمّ أهداف الإستراتيجية من منظور أوسع- تترك الواقعية باعتبارها النهج النظري الأكثر قابلية للتطبيق، وتقدم مفاهيم محاذية، مثل القوة والجغرافيا السياسية، لتعزيز جدوى الدراسات وصدقيّتها.
كما هو مذكور آنفًا، فإن تصور ودراسة الجانب المادي للإستراتيجية يؤدي حتمًا إلى تجسيد الغايات لمصلحة الوسائل. في مثل هذه الحالة، تشكل الوسائل المتاحة التي يمكن تسخيرها لتحقيق الغايات الإستراتيجية الشيء الوحيد الذي يبقى في متناول اليد لتجري دراسته بشكلٍ هادفٍ، أو بشكلٍ علمي كما يدّعي الوضعيّون، عند اتباع نهجٍ اختزالي. على أيّ حال، أثبتت مواجهة الجانب المادي بالنهج الفكري فعالية الأخير في تحقيق الغايات الإستراتيجية، الأمر الذي لاحظه العالم مؤخرًا في أفغانستان حيث حددت طالبان إستراتيجيتها بناء على المثل: "لديك الساعات ولدينا الوقت".
وينشأ تناقض آخر من هذا الموقف النظري الذي يمكن تلخيصه في دراسة الإستراتيجية الكبرى المبنية على افتراضات واقعية المنحى، على الرغم من أن الفاعلين، وبعدهم الوكلاء من الآن فصاعدًا، يمارسون إستراتيجياتهم الكبرى ضمن نظام دولي يتميز بالليبرالية. بعبارة أخرى، يظهر التناقض من دراسة المفهوم التي تركز على القوى في نظام دولي قائم على الاختيار. بتعبير أدق، يفترض الوكلاء أنهم يعملون في نهاية المطاف للوصول إلى نظام ليبرالي بوسائل واقعية. وبغض النظر عن الجدل المستمر الذي لا يقبل المساومة، فإن الجغرافيا السياسية لا تزال تؤدّي دورًا حاسمًا ومهيمنًا في وضع الإستراتيجيات.
وعلى الرغم من أن مفهوم الإستراتيجية مصطلح يميل إلى الواقعية، فإن الجغرافيا السياسية تشكل العقلية الدافعة غير المعلَنة التي تقود التحركات الإستراتيجية للوكلاء. وقد أُلقِي اللوم على الجغرافيا السياسية؛ لأنها أنتجت حربين عالميتين، وجرى تقديم مفهوم الإستراتيجية بوصف ذلك علاجًا للتخفيف من الدلالات السلبية المنسوبة إلى مفهوم الجغرافيا السياسية. لهذا السبب جرى تصميم الإستراتيجية بوصفها مفهومًا، وبدأت دراستها بوصف المفهوم ردّ فعلٍ على الحربين العالميتين. ولكن نظرًا لمنحاه الوضعي في الغالب، لم يتمكن المفهوم من إحراز تقدمٍ كبيرٍ بالمقاربات التقليدية إلى أن حدثت التطورات الأخيرة في العلاقات الدولية التي أجبرت الممارسين والأكاديميين على تبني نهج منقّح.
والميزة الثالثة هي دراسة مفهوم الإستراتيجية بحيث تركز على القوى العظمى. وبما أن المفهوم يعطي إحساسًا بأن القوى العظمى وحدها هي التي تمتلك الوسائل الضرورية والمتاحة لوضع وتنفيذ إستراتيجية كبرى، فإنه يمكن النظر إلى هذه الميزة بأنها نتاج نهجٍ وضعي يركز على الوسائل ويقوم على العمل. إذ بُنِيَ المفهوم على أساس منطق ما بعد الحروب العالمية الذي ترك عددًا من القوى القادرة على ممارسة مثل هذه الإستراتيجية. بعبارة أخرى، تأخرت النظريات الثنائية القطب والأحادية القطب في الاعتراف بحقائق العالم المتعدد الأقطاب، ومن هنا تأخرت في تناولها. وكما يقول أرون: "الأهداف السياسية متنوعة، لكن لا يمكن اختزالها في الرغبة في حشد القوة"[4].
دراسة التغيرات التي تنفي التحليل السائد:
دأبت الدراسات على ذكر السمات المبينة آنفًا وتكريسها، لكن الظاهرة التي زعمت معالجتها ودراستها شهدت تغيرات عميقة، من أبرزها نشوء عالم متعدد الأقطاب. وهذا التحول المنهجي قدم ديناميكيات جديدة لدراسة مفهوم الإستراتيجية، وهذا جعل الطرق التقليدية للدراسة غير مهيأة للاعتراف بهذه التغيرات والتوافق معها. هذا الوضع يضاهي تشبيه لعنة المنتصر، مما يقترح بأن حلول الماضي في غير محلها أو متخلفة من حيث ضرورتها لحل التحديات الجديدة في الوقت الذي يغير فيه المتحدي فهمه. بتعبير آخر، يقدم اللاعبون الجدد حلولًا جديدة، بينما يفترض المنتصرون أن الحلول القديمة ستكون فعالة كما كانت في الماضي. ولكن لا يمكن للحلول التي عفا عليها الزمن حل المشكلات المعاصرة والمستقبلية. هذا التناقض الحتمي بين التحديات والحلول يميل ولو بدون قصدٍ إلى إنتاج نظام عالمي مختلف يتطلب استجابات جديدة لمشكلات جديدة.
ومن أهم نتائج هذا التحول المنهجي انتشار الفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين، ولكل منهم غاياته المميزة ووسائله المتاحة لمواجهة التحديات. فانتشار الجهات الفاعلة في النظام الدولي يجعل النظام أكثر عرضة لإنتاج تحديات متنوعة غير متكافئة وغير مسبوقة، تحدياتٍ لا يمكن اكتشافها مسبقًا أو التعامل معها بشكل جيد، ويزيد بشكل كبير من عدد الغايات التي يصعب التوفيق والتنسيق بينها، وهو في الواقع المحرك الأساسي للتحديات الناشئة.
وكذلك كثرت الوسائل المخصصة لبلوغ الغايات، وهذا أدّى إلى إضافة مصطلحات ومفاهيم جديدة إلى المعجم الحالي. ومع تعريف التحوّل المنهجيّ وتجربته، ظهرت نقاشات الحرب الهجينة والحرب بالوكالة والحرب الإلكترونية والحرب القانونية وعقدت النقاشات حول الإستراتيجية. ولاحظ العالم كيف حقّقت استعارة "الساعات والوقت" النجاح، وأثارت في النهاية مناقشات حول تدهور النصر إلى فوضى. فبيتز في الواقع يصف النتيجة في أفغانستان بأنها مثال على كيفية انتصار "الانفصال" على "الارتباط"[5].
وبالنظر إلى التغييرات والتحديات العميقة التي جرت ملاحظتها وتجربتها، يجب أن تتكيف المناقشات حول سمات الإستراتيجية الكبرى لمعالجة الظواهر الناشئة. وانطلاقًا من الوعي بنواقص المفهوم في معالجة التحديات الحديثة في هذه المرحلة- ظهرت الحاجة إلى تجديده، قلا بد من وضع مقاربة نظرية وفلسفية لمراجعة الفهم الحالي واستبدال فهم واعد به قادر على تلبية الاحتياجات الجديدة.
نحو تنظيرٍ بديل:
الواقعية النقدية توفر تحليلًا جدليًّا (ديالكتيكيًّا) متكاملًا لتفاعل الفاعلية والبنية. فبينما تشير الفاعلية إلى أن الفاعلين الذين لديهم دوافع في الأصل لإنتاج بنية تناسب شروطهم الخاصة، تسعى البنية لإعادة إنتاج نفسها للحفاظ على الاستمرارية. وهناك ثلاث بنى أساسية تشير إلى الفاعلية والقوة: النظام السياسي الدول، والاقتصاد العالمي، والجغرافيا.
فالنظام السياسي الدولي كما سبق ذكره، شهد تغييرًا جوهريًّا من خلال تكاثر الجهات الفاعلة. والاقتصاد العالمي باعتباره أساسًا للموارد المالية ولا يزال يشهد تحولًا من خلال أنماط الإنتاج الجديدة المصممة بمصطلحات مثل "الصناعة 4.0" وابتكارات التكنولوجيا المالية التي تقودها العملات المشفرة. وتخضع الجغرافيا أيضًا لإعادة تصور المفاهيم على أساس الروابط الجديدة التي يجري بناؤها وتكوينها، وهو ما يؤدي إلى المزيد من المفاهيم الجديدة، مثل جغرافيا الترابط (Connectography). كل هذه التحولات الرائدة غيرت بشكل جوهري كيفية عمل العالم، ودفعت الوكلاء للتكيف مع الحقائق الجديدة. ومعالجة هذه الابتكارات والتطورات الرائدة التي تعمل على تحويل الحسابات الإستراتيجية للوكلاء- توجب استكشاف السمات الجديدة للإستراتيجية التي يجب دمجها في التخطيط الإستراتيجي.
والجهات الفاعلة غير الحكومية كذلك، اكتسبت عبر انتشارها، شكلًا من أشكال الوكالة لتغيير تصرفات الجهات الحكومية؛ لاكتسابها الوسائل لتحقيق غاياتها الخاصة المتضاربة في الغالب من خلال التعاون مع الجهات الحكومية، أو بسبب الضغط عليها لتحقيق غايات الجهات الفاعلة التي توظفها، فهذه الجهات تقدم نفسها بشكل وسيلة منخفضة التكلفة ليجري توظيفها. في كلتا الحالتين، ظهروا في نهاية المطاف وكلاء يجب أن يؤخذوا في الحسبان في حسابات الدول الإستراتيجية، فهم متورطون بشكل لا رجوع فيه في الحسابات الإستراتيجية للفاعلين الحكوميين[6].
إن النهج الواقعي النقدي للإستراتيجيات المعزَّز بمفاهيم جديدة، يقدم ما هو مطلوب للتكيف مع الحقائق الجديدة الناشئة، ولكن لم يتم تناولها بشكل كافٍ بعد. وهذا النهج يضع مفهوم الإستراتيجية في جدلية الفاعل والبنية[7]. وهذا النهج الديالكتيكي يعزز فهم الكيفية التي يجري بها استيعاب العوامل الخارجية، وإقصاء العوامل الداخلية، وهو ما ستجري مناقشته بمزيد من التفصيل أدناه[8]. فمفهوم الإستراتيجية هنا بأبسط مصطلحاته بعيدًا عن الأطر المسبقة والتعسفية التي يفرضها التفكير الوضعي، والتي تؤدي مِن ثَمّ إلى عرقلة الإستراتيجية وتباطئها- هو تراصفٌ أو مطابقةٌ للوسائل والغايات. والواقعية النقدية على عكس المقاربات الوضعية، تسمح بإدراج الغايات في التحليل من خلال توفير مساحة أكبر لتحليل الفاعلية. إنها تتعامل مع الإستراتيجية على أنها خاصية مؤثرة لا تتكون من الوسائل المتاحة فحسب، بل كذلك من الغايات التي تحرك الوسائل. بعبارة أخرى، بدلًا من تبني موقف ثنائي يشير إلى تحريك النهاية أو نهاية التحريك، فإن النهج الواقعي النقدي للإستراتيجية يتعامل مع مسألة التخطيط الإستراتيجي من موقف ديالكتيكي يركز على كيفية تكوين الوسائل والغايات والتطور المشترك في سياق منظم.[9]
إن التخطيط الإستراتيجي هو "نشاطٌ موجَّهٌ نحو الهدف"[10]، ومصمَّمٌ على تحويل "الإمكانية إلى حقيقة"[11]، لذلك فهو في جوهره سمةٌ من سمات الوسيلة. يؤكد فاروق يالواج الدور الفاعل في الإستراتيجية بقوله: إن "الإستراتيجية هي ما تنفذه الدول منها"[12]. وهذه النقطة تعتمد في الواقع على أنه "إن لم يعد الوعي موجودًا عند التلقي، فإنه أيضًا لم يعد موجودًا في التنفيذ"[13]. ومع ذلك، فإن هذا، أي النهج الواقعي النقدي الإستراتيجي، لا يتجاهل دور الوسائل المتاحة التي يجب تخصيصها لتحقيق الغايات الإستراتيجية، ولا يجسّد الغايات كما يتجلى في العقل الإستراتيجي للفاعلين. إنه في الواقع يتبنى نهجًا يقترح أنه ينبغي النظر في عنصري الإستراتيجية معًا، الوسائل والغايات، وتحقيق ملاءمتهما في النهاية.
وهنا تثار أسئلةٌ على غرار "كيف يمكن للوكيل وضع إستراتيجية؟" و "ما هو مصدر كفاءات الوكيل؟" للتغلب بنجاح على حالات الشك أو عدم اليقين والتحديات التي تواجهه. وفي الواقع، يمكن النظر إلى هذا على أنه تقابُلٌ بين البنية والوكالة، أو بين العوامل الداخلية (مظهره الداخلي) والعوامل الخارجية (مظهره الخارجي). فالعوامل المحيطة والشرطية (التقييدية أو التنشيطية) تشكل العوامل الخارجية للوكيل، ويعيد الوكيل تشكيل عوامله الخارجية بقراءة داخلية تتشكل من خلال سماته التفاعلية بوصفه وكيلًا، مثل الوعي والإدراك والانعكاسية والقصد وما إلى ذلك[14]. فإذا ما تمكن الوكيل من تحديد التناقض، ربما يفضل حله من خلال تصرف تفاعلي؛ لأن التناقض الملحوظ يمكن أن يشمل عوامل ضارة بأهدافها الشاملة. في هذه العملية الديالكتيكية، يمتثل الوكيل مظهره الخارجي ويحيله مظهرًا داخليًّا، ويعكس مظهره الداخلي إلى مظهر خارجي من خلال وضع الإستراتيجيات على وجه التحديد[15]. وهكذا توجد هنا قراءةٌ وملاءمةٌ ديالكتيكية تتفاعل وتشكِّل وتتضمن السياق، وتشكل التطبيق العملي المستمر للوكلاء.
إن فعل التخطيط الإستراتيجي هو في الأساس فعل عملية التمركز (praxis)[16] التي "تدل على الاستيلاء والانتقال"[17] من الظروف المقيدة التي تفرضها البنية إلى تلك الظروف المرغوبة التي من شأنها أن تتيح مساحة إضافية للوكيل. ومعرفة الوكلاء تؤدّي دورًا أساسيًّا في هذه العملية التي ستجري مناقشتها بمزيد من التفصيل في أثناء تحديد سمات الإستراتيجية الكبرى[18]. والبنى على أيّ حال لا تكشف عن نفسها بآثارها وتداعياتها ما لم يدركها الوكيل ولم يتصورها (أي ما لم تكن العوامل الداخلية مرتبطة بالمفهوم)، وما لم يقرر الوكيل التحرك (مرتبطًا بالفاعلية) ضمن السياق المحدد (الزماني والمكاني)[19]. فالوعي الوكاليُّ، بعبارة أخرى، يقيد أعمال الفاعل التي تعمل على تحويل الأفكار العملية إلى أفعال[20]. والتخطيط الإستراتيجي، بهذا المعنى، يتشكل عبر علاقة ديالكتيكية بين "ما تمليه" البنية وبين "ما يتعرض له" الوكيل.
إستراتيجية تركيا الكبرى: السياقية وعلم السلوك (Praxeology)
إن عودة ظهور مفهوم الإستراتيجية الكبرى وإعادة إثارة الجدل حولها، ولاسيما حول ملاءمة مشاركة الجهات الفاعلة الأخرى غير القوى العظمى- لكل ذلك أصداء في تركيا. وبصرف النظر عن كونه جدلًا أكثر شمولًا، فإن التحول الذي يحدث في البُنى خلق شكوكًا وحالات جديدة من عدم اليقين وتحديات جديدة تجب معالجتها عبر الوكلاء لا عبر القوى العظمى. وبما أن التحول يحصل على مستوى البنى، فإنه يجبر الدول الأخرى غير القوى العظمى على إعادة صياغة مفهوم الإستراتيجية. بالتوازي مع ذلك، تتنامى في تركيا الأدبيات التي تلقي الضوء على ما يجب أن تكون عليه إستراتيجية تركيا الكبرى[21]. وهذا المنحى هو انعكاس لتزايد التحديات والتناقضات وحالات عدم اليقين التي تأتي بها التحولات غير المسبوقة في البنى التي تمكّن وتقيِّد عمل الوكلاء في آن واحد. تهدف هذه الدراسة إلى تقديم الإسهامات في هذه الأدبيات باعتبار أن فلسفة العلم (الوضعية) التي تقف وراء النقاشات غير مجهزة للتعامل مع التحديات الجديدة الناشئة. وإذا كان السياق، كما جرت مناقشته آنفًا، قد تغير ولا يزال يستمر في التغير، فإنه ينبغي على علم السلوك أيضًا أن ينسجم مع هذه التغيرات؛ ليتكيف مع الوضع الجديد.
تحتوي الأدبيات على مجموعة واسعة من التعريفات للإستراتيجية الكبرى، كل منها يسلط الضوء على جوانب مختلفة من الإستراتيجية الكبرى. ويُعتقَد أن تبني تعريف مبسط يتكون من المبادئ الأساسية للإستراتيجية الكبرى يكون أكثر شمولًا، على غرار تعريف الإستراتيجية بأنها تطابق الوسائل والغايات. وعلى المنوال نفسه، يمكن تعريف الإستراتيجية الكبرى على أنها "الرؤية" التي تقود السياسة الخارجية للبلدان[22]. وهناك عناصر يمكن الإشارة إليها عند تعريف "الرؤية"، من بينها المستقبل البعيد، والمكان المراد تحقيقه، والأهداف المنشودة.
بالنسبة للحالة التركية، يمكن للمرء أن يستكشف عناصر رؤيتها من خلال الكشف عن الموضوعات والروايات الدائمة التي يمكن القول إنها تميز وتحدّد منحى سياستها الداخلية والخارجية لتجسيد إستراتيجيتها الكبرى. من منظور تاريخي، هناك استمرار لموضوع واحد وسرد سائد مهيمن، ألا وهو "بلوغ مستوى الدول المتحضرة، وتجاوز هذا المستوى". وقد قدم هذا الموضوع رؤى وتوجيهات شاملة من أجل الإستراتيجية الكبرى، ويجري تبنيها باستمرار من قبل الحكومات التركية المتعاقبة بغض النظر عن توجهاتها السياسية. وقد اختلفت الإدارات في وسائلها، ولكن لم تُلاحَظ تقلبات كبيرة فيما يتعلق بأهدافها وغاياتها النهائية[23].
إن وجود رؤية إستراتيجية كبرى، بوصفها هدفًا نهائيًّا، لا يستبعد النقاش والحاجة إلى إستراتيجية (إستراتيجيات) لدعم الإستراتيجية الكبرى. من هذا المنظور، يمكن تعريف الإستراتيجية الكبرى بأنها "إستراتيجية الإستراتيجيات". والنقطة الجوهرية هنا هي أن الإستراتيجية الكبرى ينبغي أن تجمع جميع الإستراتيجيات التكميلية تحت مظلتها، أو ضمن النموذج الفكري الخاص بها. هذه الإستراتيجيات التكميلية يجب أن تكون مترابطة، بحيث يمكن تصوير الإستراتيجية الكبرى على أنها نظام موحد تلتزم فيه كل إستراتيجية بتعزيز وإكمال الإستراتيجيات الأخرى، وكلها في نهاية المطاف تتلاقى لتحقيق أهداف شاملة تشكل بمجموعها الرؤية الإستراتيجية الكبرى.
قد تؤدي الإستراتيجيات قصيرة المدى التي يجري وضعها استجابة للتحديات والتناقضات الناشئة إلى عرقلة الأهداف الكبيرة للإستراتيجية الكبرى؛ لأن الإستراتيجية الكبرى عمليًّا هي إستراتيجيات طويلة الأمد، تغطي فترات طويلة. والبنى ربما لا تنتج دائمًا مثل هذه التناقضات، وربما تخلق أيضًا بيئة مواتية لإحداث انفتاحات جديدة لتحقيق الرؤية طويلة المدى، بحسب السياق المتطور. فبينما تؤدي الأولى إلى إستراتيجيات تركز على التهديدات، فإن الأخيرة تسمح بصياغة إستراتيجيات تركز على الرؤى. لكنهما يمثلان شكلًا من أشكال الاستمرارية بغض النظر عن اختلافاتهما الحدسية. في كلتا الحالتين، سواء كانت الإستراتيجية قصيرة المدى تركز على التهديدات أم على الرؤى، يبقى الحفاظ على وعي الوكيل في مواجهته مع البنى أمرًا ضروريًّا لابتكار إستراتيجية جديرة طويلة الأمد.
قد تنتج عن السياق، بديناميكياته التمكينية والمقيدة، ظروف تسامحية تخلق إستراتيجية تركز على الرؤية، أو ظروف تقييدية تؤدي إلى إستراتيجية تركز على التهديدات. فيأتي بعد ذلك سؤال يطرح نفسه: ما الذي يثير طبيعة السلوك؟ السلوك هو النتيجة الديالكتيكية لتقابل الوكلاء مع السياق، سواء كان مجرَّبًا أو متوقَّعًا. فالمحدد الرئيس بالنسبة للوكلاء هو مفهوم السياق الذي يعمل فيه، أو السياق المتوقّع. وعلم السلوك علم يتعلق بنشأة فكرة تكمن وراء تحول الأفكار إلى أفعال. بتعبير آخر، الشعارات توفر الوعي الوكالي، والسلوك يوظف الخبرة والدراية. لكن طبيعة الإستراتيجية، ارتكاسية كانت أم احترازية، مشروطة بوعي الوكيل للتناقضات السياقية القائمة والناشئة.
استكشاف السمات:
كما هو مذكور آنفًا، لم يجرِ تخصيص هذا الجزء لاقتراح إطار عمل لإستراتيجية كبرى، بل للتركيز على السمات والميزات التي تتوافق مع الحقائق الجديدة للعالم المتغير. قد يكون العمل على وضع إستراتيجيات من نوع التصميم اعتمادًا على وهم الأطر الصلبة مضللًا، وقد يخلق إستراتيجيات قصيرة النظر، لكن العمل على صياغة اقتراحات ديناميكية ورشيقة مرنة يمكن أن تؤدي إلى مقترحات بعيدة النظر وذات كفاءة. هناك ثلاثة مفاهيم جديدة متمثلة في "المرونة" و"القوة المتقلبة" و"الترابط" يمكنها أن تعزز كفاءة وضع الإستراتيجيات في السياقات الناشئة والمفعمة بالغموض وعدم اليقين.
المرونة (Resilience):
تستلزم حالات الشك وعدم اليقين وعيًا وكاليًّا معزِّزًا للاتجاهات المتطورة والمواقف التي قد تقيّد أو تعزّز وضع الإستراتيجيات. فالوكالة، عند مواجهة تطورات غير مسبوقة، تتطلب مزيدًا من الوعي والإدراك من أجل اكتشاف الأمور المزعجة والتناقضات والتحديات والتآكلات والأمور الواعدة. كذلك يزود الوعي الوكالي الوكلاء بالصفات التي من شأنها تعزيز قدرتهم على التعامل مع هذه التطورات بشكل فعال. ويبرز مفهوم "المرونة"[24] بوصفه واحدًا من أهم سمات الوكالة؛ لأنه يشير إلى القدرة على مقاومة الصدمات والتكيف مع حالات عدم اليقين الناشئة. ويحتفظ الوكلاء المرنون بالقدرة على وضع الإستراتيجيات في أوقات غير متوقعة.
إن المرونة حساسة للوقت؛ لأن الفعل الوكالي بنيةٌ تعتمد على العامل الزماني والمكاني، وهي حالة طارئة تحث الوكلاء على مراقبة التطورات باستمرارٍ، وتحثهم كذلك على الارتجال في إستراتيجياتهم للتكيف مع السياقات الناشئة. فالوعي الوكالي الذي هو أداة لإنتاج المعرفة، يقدم مفهومًا آخر، هو الاستخبارات السياقية. يعرّف جوزيف ناي الاستخبارات السياقية بأنها "القدرة على فهم البيئة المتطورة والاستفادة من الاتجاهات"[25]، ويعتقد أن الاستخبارات السياقية "ستصبح مهارة حاسمة في تمكين القادة من تحويل موارد القوة إلى إستراتيجيات ناجحة"[26]. تتطلب الاستخبارات السياقية "استخدام تدفق الأحداث لتنفيذ إستراتيجية"[27]، و"تظل المعرفة سياقية"[28] على حد قول بوربو، ومن هنا فإن "قوة الاستخبارات"[29] هي إحدى الأمور التي تسهل عمل الوكالة، جنبًا إلى جنب مع الجامعات ومراكز الفكر التي تشكل قدرات إنتاج المعرفة. ويسند كارل دبليو دويتش أهمية كبيرة إلى أنظمة المعرفة (جماعة الاستخبارات) التي يجري التعامل معها على أنها "عصب الحكومة"[30]. في الآونة الأخيرة، خضعت الاستخبارات في تركيا لتحولات مؤسسية وتحولات أخرى من ناحية العقلية الحاكمة[31]. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تعزيز قوة الاستخبارات توفر القدرة على التفكير المسبق والعمل إلى الأمام، ومن ثَمّ تقديم ميزة تنافسية وتفوق موضعي فيما يتعلق بالتناقضات الناشئة.
وإلى جانب زيادة الوعي والقدرة على التمييز بين نقاط الخلاف ونقاط التحدي، التي يتطلب كل منها مستويات مختلفة من التكيف، فإن قوة الاستخبارات أيضًا تسمح للوكلاء بإعادة ترتيب إستراتيجياتهم[32]. فإستراتيجية التكيف، أو الارتجال، يتطلب تقييمًا مستمرًّا للسياقات المتطورة، وضبط كل من الوسائل والغايات بما يتماشى مع التحديات الناشئة. وفي الواقع، تُعَدّ الديناميكية والمرونة وسرعة التكيف نتائج لزيادة الوعي والمرونة، وهو ما يحثّ الوكلاء على إعادة صياغة إستراتيجيتهم بما يتماشى مع السياق المعاد صياغته.
القوة المتقلبة (Protean Power):
السمة الثانية للتخطيط الإستراتيجي يجب أن تكون مجهزة بفهمٍ جديدٍ للسلطة؛ لأنها تشكل عنصر التصرف في الإستراتيجية. إذ إنّ طبيعة الوكلاء تتغير، فتتغير قدراتهم، وهو تغيير يقوض موارد القوة التقليدية. يأخذ جوزيف ناي في الاعتبار النظام السياسي الدولي الناشئ، ويشير إلى عمليات انتقال السلطة بين القوى العظمى، وانتشار القوة بعيدًا عن الدول[33]. فقد أسست تركيا إستراتيجيتها على وسائل القوة الناعمة في بداية الربيع العربي، لكن تطورات الربيع العربي، ولاسيما إدخال السياسة الواقعية على الأرض، جعلت الوسائل الإستراتيجية الموجهة للقوة الناعمة عديمة التأثير، حيث سيطرت إستراتيجيات القوة الصلبة على وتيرة التطورات واتجاهاتها. في نهاية المطاف، وجدت تركيا نفسها غير مجهزة للتعامل مع هذه التغييرات، مما دفعها إلى مراجعة إستراتيجيتها بسرعة، وربما كانت السمة الجديدة الأكثر تحدّيًا للنظام هي عدم اليقين، وهذا يتطلب نهجًا جديدًا لمفهوم القوة.
يقدم مفهوم "القوة المتقلبة" نظرة جديدة لمشكلة القوة. فقد ركزت التحليلات تقليديًّا، على مفهوم القوة باعتباره انعكاسًا للتنظير الوضعي، يشير إلى إمكانية قياس القوة، والتنبؤ بالنتيجة عند تطبيقها، لكن حقيقة أن البنى غير القابلة للرصد يمكنها أن تتسبب في ظهور أحداث غير مسبوقة، وحقيقة أن القوة تشير في بعض الأحيان إلى الاحتمالية بدلًا من الواقعية، يفتح الطريق إلى الحاجة إلى مفهوم قوةٍ أكثر شمولًا. وبهذا المعنى، فإن التمييز بين "قوة التحكم" و"القوة المتقلبة" يوسع النهج لمفهوم القوة. فالمفهوم الأول فعال في ظل ظروف المخاطرة التي يمكن حسابها، والثاني يخدم بشكل أفضل في ظلّ ظروف عدم اليقين التي تنطوي بطبيعتها على متغيرات غير محسوبة[34]. تعزز القوة المتقلبة مرونة الوكيل وقدرته على التكيف في ظل بدائل الوسائل الجديدة التي يمكن استخدامها في تحقيق الغايات وحل التناقضات الناشئة عن عدم اليقين.
يميز ناي بين ثلاثة وجوه للسلطة، حيث يركز الوجه الثالث على القدرة على خلق المفاهيم وتشكيلها[35]، ومن ثَمَّ إبراز جانب تأثير القوة. فقد ظهر التأثير بوصفه شكلًا من أشكال القوة التي يمكن ممارستها في ظل تزايد عدم اليقين، من خلال وسائل أخرى تختلف عن المفاهيم التقليدية للسلطة، التي "تسعى إلى تغيير تصور الموقف، بدلًا من تغيير الوضع نفسه"[36]. إنه يتوافق مع ظاهرة ناشئة حديثًا وصفت بـ"ما بعد الحقيقة"، التي جرى تعريفها في قاموس أكسفورد على أنها تتعلق أو تشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من نداء العاطفة والمعتقدات الشخصية. يهدف "ما بعد الحقيقة" إلى خلق وعي زائف يقود الوكلاء إلى اتخاذ قراراتٍ خاطئةٍ، وعدم التصرف وفقًا لشروط الوكالة. والنتيجة الوشيكة الواضحة هي تدهور النجاح الإستراتيجي.
تواجه تركيا، مثل العديد من البلدان، أشكالًا مماثلة من عمليات ما بعد الحقيقة التي تُستخدَم فيها معلومات خاطئة مضللة لتغيير الرأي العام بشأن تركيا أو لاستقطاب الدعم داخل البلاد. في إطار هذه الجهود، يجري في الغالب تجاهل أو تفنيد ارتباط حزب الاتحاد الديمقراطي/ تنظيم وحدات حماية الشعب الإرهابي بإرهاب حزب العمال الكردستاني، في حين يجري الترويج لتوظيفها وكيلًا في القتال ضد داعش، ومنحها من هنا شكلًا من أشكال الشرعية، والتوجه نحو تعميم تغيير اسم الجماعة تحت ستار "قوات سوريا الديمقراطية". بالمقابل، بُذِلت محاولات كثيرة لنزع الشرعية عن عمليات تركيا لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي، وإسباغ الشرعية على حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، بروايات تشير إلى أن تركيا تستهدف الأكراد أو تطلق سراح إرهابيي داعش. وعندما تنتشر مثل هذه الروايات في الرأي العام، تتحقق النتيجة المرجوة المتمثلة في بث الشكوك حول تركيا. ومثل هذا الوضع يوجب على تركيا تعزيز وسائل تأثيرها لنقل الرسائل الصحيحة إلى الجماهير المستهدفة، في سبيل تجنب استهدافها من قبل مثل هذه العمليات المعلوماتية. يمكن عدّ هذه القدرة عنصرًًا من عناصر القوة المتقلبة.
علم الترابط (Connectography):
واجه المفهوم المكاني الزماني للإستراتيجية أيضًا، في سياقه المتغير، تحولًا تكاثرت فيه المجالات التي تمكِّن أو تقيِّد الإستراتيجية، وأصبحت مترابطة بشكل كثيف. يتناول مفهوم جغرافيا الترابط[37]، الذي يمكن تعريفه على أنه الجغرافيا المتولّدة عن الترابط، الكثافة العالية للتفاعلات التي يمكن رصدها أو عدم رصدها ولكنها حقيقية. فمن السمات البارزة للترابط هو المعاني والوظائف الجديدة المرتبطة بالمناطق الجغرافية الموجودة بالفعل. وبهذا المعنى، فإن مفاهيم الجغرافيا ليست متعارضة مع مفاهيم جغرافيا الترابط، بل هما، على العكس من ذلك، متكاملان يعزز بعضهما بعضًا مع الحقائق الناشئة الجديدة. فلا تزال الجغرافيا تحتفظ بالأولوية والحسم[38]، وتتمتع جغرافيا الترابط بالقدرة على تحويل طبيعة المناطق الجغرافية، تمكينًا أو تقييدًا لحركية الوكلاء المقيمين في مناطق جغرافية متعددة، وامتلاك أو إضافة علاقات ترابط جديدة. وبهذه الطريقة، يتم بالفعل دمج المجالات الجديدة، مثل الفضاء الإلكتروني، في حساب الإستراتيجية.
ونرى أن باراغ خانا يجسد التحول والتكامل بين المفهومين في وصفه لتركيا حين قال: "عُرفت تركيا بأنها الدولة التي تتصادم فيها القارات، ولكنها الآن تُعرف بأنها الدولة التي تترابط فيها القارات[39]. فازدياد عدد الترابطات في جميع الاتجاهات المرئية أو غير المرئية أدى إلى تنويع التفاعلات، وتعميق العلاقات، وزيادة المخاطر، وتضاعف أعداد أصحاب المصلحة الذين يشكلون جزءًا من تلك الترابطات، وأدى من ثَمّ إلى تعزيز العوامل التمكينية لوضع الإستراتيجيات. وفي الوقت الذي تمكنت فيه تركيا من تجاوز حدود التشبيه التقليدي: "الجسر أو السد"، ازداد الترابط، وبدأت مرونة البلاد تتحسن. هذا الفهم الجديد، على عكس الفهم التقليدي، يفرض على الإستراتيجية السعي من أجل الترابط، بدلًا من السيطرة[40]. ولديه القدرة على خلق الوسائل التي يمكن استخدامها على شكل قوة متقلبة.
أضافت مشروعات تركيا بسبب زيادة التفاعل مع الدول الإفريقية، وكذلك المبادرات مثل "قلب آسيا - عملية إسطنبول"- قوةَ دفعٍ جديدة لتفاعلات أنقرة مع القارتين الإفريقية والآسيوية، وتسير هذه التفاعلات بسلاسةـ وتضيف تفاعلاتٍ جديدةً إلى الارتباطية، ذلك لأن تركيا محظوظة من حيث عدم وجود استياء وانطباع تاريخي سلبي في هذه الجغرافيات. ودول هاتين القارتين في الواقع، ترحب بتفاعلات تركيا، ولا تنظر إلى مساعي أنقرة على أنها مدفوعة بالنهج الذي يريد استعادة الأراضي التي خسرتها. أجل إنها ترحب بتركيا أشد الترحيب، على الرغم من الافتقار إلى التقارب اللغوي مع دول ما بعد الاستعمار، ذلك لأن تركيا لا تستغل ماضي تلك الدول الاستعماري، ولا تستغل المآسي التي عاشتها هذه الدول أيام الاستعمار، والأهم من ذلك أن العلاقات المتنامية بينها وبين تركيا لا تهدف إلى الاستغلال، بل إلى تحقيق المنفعة المتبادلة للوكلاء المتفاعلين. بعبارة أخرى، لم تُبْنَ العلاقات على الإملاءات من جانب واحد، بل بُنِيَت على الحوار الثنائي بموافقة الجانبين. وأولئك الذين يجدون في مبادرات تركيا تهديدًا يمثلون في الغالب القوى الاستعمارية القديمة، إذ حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصنيف تركيا في المصطلحات الاستعمارية بالإشارة إلى الماضي العثماني في إفريقيا، لكن رسالته لم تلق أذنًا صاغيةً، بفضل الوعي المتنامي في تلك البلدان.
إن تعزيز الروابط والتفاعلات المتنوعة والكثيفة يمكنها تعزيز خاصية المرونة. فقد توترت العلاقات التركية مع الولايات المتحدة في أثناء عملية نبع السلام، وتجسدت هذه العلاقات المتوترة في لغة التهديد التي أطلقها الرئيس ترامب، التي استهدفت الاقتصاد التركي. وفي هذا السياق يمكن اعتماد علم الترابط من أجل اكتساب مقاومة أكبر للعقوبات التي تفيد في خلق أوجاع اقتصادية، تستهدف المكاسب السياسية. ويمكن الاستشهاد بالعقوبات الالتفافية، مثل قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات (CAATSA)، ضمن إسهامات الفهم المتغير للسياق الزماني المكاني الذي يُنظَر إليه على أنه مرونة قائمة على علم الترابط. في الواقع، يعزّز علم الترابط الاعتماد المتبادل المعقّد بفهمٍ جديدٍ، وهو في الأساس نهج ليبرالي. فالترابط يقلّل الميل إلى الحروب، لكنه قد يثير أيضًا الاستياء بين الفاعلين الآخرين، حيث يتسلل إلى المناطق الجغرافية التي يُعتقَد أنها الفناء الخلفي للقوى الاستعمارية السابقة، كحالة فرنسا في إفريقيا- من يملك الأجندات الإيجابية.
إنّ علم الترابط صُمِّم بفهمٍ ليبرالي، لكنه يستلزم أيضًا عناصر واقعية، على الأقل بمعنى ضمان تعزيز التفاعلات الليبرالية عبر أصول القوة الصلبة، مثل الطائرات المسيرة بدون طيار. طبّقت تركيا هذه الإستراتيجية في مناطق جغرافية مختلفة بفهم غير متماثل يقلّص آثار الحرب بالوكالة عبر حرب الطائرات المسيرة بدون طيار. والإستراتيجية التركية المطبقة في سوريا وليبيا وقره باغ كانت إستراتيجية دفاعية بطبيعتها، بينما كانت الرؤية متأصلة في استخدام الخيارات العسكرية.
في سوريا، واجهت تركيا تهديدات هائلة غير مسبوقة من حزب الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب الكردية التي تهدف إلى إنشاء منطقة حكم ذاتي على الحدود مع تركيا، ومن ثَمّ اغتنام الفرص لنشر تهديدها الإرهابي في تركيا، وتهديد وحدة سوريا من خلال الهندسة الديموغرافية. فبدأت تركيا سلسلة من العمليات للقضاء على التهديدات الإرهابية المنبثقة من سوريا. والأهم من ذلك، واجهت تركيا حربًا "بالوكالة" شُنَّت ضدها. ثم إن تردد أوباما في تسليح المعارضة المعتدلة في الأيام الأولى للثورة السورية خشية أن "يصل السلاح الأمريكي إلى أيدٍ خاطئة" تحوّل إلى تسليحٍ لمنظمة إرهابيةٍ جرى "إسباغ الشرعية" عليها بحجة قتال ضد تنظيم داعش، الأمر الذي تسبب في وصول الأسلحة ليس فقط إلى الأيدي الخطأ، بل جرى توجيهها أيضًا ضد حليف تقليدي لحلف شمال الأطلسي. فاستجابت تركيا، عند تقييم الوضع الأمني المتدهور، بطائراتها المسيرة بدون طيار، لتقليص آثار الحروب بالوكالة والقضاء عليها[41]. فالعمليات في سوريا كانت بمثابة إستراتيجية ركزت على التهديدات بشكل أتاح بناء رؤية مستقبلية للمنطقة.
وفي ليبيا، قدّمت تركيا الدعم والتدريب العسكري بناءً على طلب حكومة الوفاق الوطني التي تعترف بها الأمم المتحدة، بكون ذلك مساعدة من المجتمع الدولي لصد هجمات أمير الحرب حفتر، حتى تم الإعلان عن وقف إطلاق النار بهدف إجراء انتخابات حرة ونزيهة لتوحيد البلاد والقضاء على آثار استخدام القوة من قبل أمراء الحرب. في الحالة الليبية، حافظت تركيا على شرعية المجتمع الدولي والأمم المتحدة، من خلال عدم السماح لأمراء الحرب بإسقاط الحكومة الشرعية، وعملت على تهيئة الأرضية التي تحتاج إليها الانتخابات الحرة النزيهة. وساعد هذا التدخل تركيا في عملية إرساء الأساس للتفاعل مع القارة الإفريقية. بعبارة أخرى، نجحت تركيا عبر ليبيا في تحويل الترسيم الضعيف للحقبة الاستعمارية إلى ترابطٍ من شأنه أن يقضي على الاضطرابات والصدمات والتخلف الموروث واستغلال الماضي من خلال الأجواء الإيجابية التي يخلقها التفاعل والترابط.
وفي أذربيجان، كانت الحرب الأخيرة التي ساندت تركيا فيها أذربيجان في قره باغ- عمليةً مهمّة لتحرير أراضيها التي احتلّتها أرمينيا بشكل غير قانوني لما يقرب من ثلاثة عقود، رغم العديد من قرارات مجلس الأمن وعمليات السلام التي جرت تحت رعاية الأمم المتحدة، مثل مبادرات مجموعة مينسك لحل النزاع، التي أخفقت في إنهاء هذا الاحتلال. فهذه العمليات التي استهدفت توحيد الأراضي الأذربيجانية سهّلت القضاء على الانقسامات المصطنعة التي أحدثتها النزاعات المجمدة. وأصبحت أرمينيا نفسها أسيرة الصور النمطية القديمة، وفي الواقع، تبقى "البلدان غير الساحلية حبيسة الجغرافيا، ويبقى الترابط هو السبيل الوحيد للخروج من هذا الحبس" على حد قول باراغ خانا[42]. لقد خلّصت حرب قره باغ أرمينيا من عبء، وإذا وافقت يريفان، يمكن كتابة تاريخ جديد قائم على الترابط من شأنه أن يجعل المنطقة تشهد علاقةً وديةً بصيرةً تحل محل العداء الذي عفا عليه الزمن.
الخاتمة:
يشهد النظام الدولي تحولات كبيرة، لكن التنظير التقليدي للإستراتيجية غير مجهز بما فيه الكفاية، ومن ثَمّ هناك حاجة إلى استخدام مفاهيم جديدة أكثر شمولًا في معالجة التغيرات الملحة. تقليديًّا، تميل مناقشات الإستراتيجية الكبرى إلى الواقعية، وتتوجه نحو القوى العظمى، وتركز بالدرجة الأولى على الوسائل على حساب الغايات. وهذا الميل هو نتاج فطري للوضعية التي تركز على ما يمكن ملاحظته. إن تطبيق واقعية نقدية- باعتبارها فلسفة علومٍ وطريقةٍ لاكتساب معرفةٍ بالواقع- تتجاوز ما يمكن ملاحظته- يؤدي إلى إستراتيجية تنظيرية ذات منظورٍ أكثر شمولًا. فالتحليل الواقعي النقدي الذي يحدّد فعل التخطيط الإستراتيجي ضمن العلاقة الديالكتيكية القائمة بين البنية والوكيل، يوسّع النقاش ليشمل ما لا يمكن ملاحظته، ويقلّل من الثغرات المتأصلة في التحليل الوضعي لرسم الإستراتيجيات.
إن مصطلح "الإستراتيجية الكبرى" أكثر شمولًا مقارنة بمصطلح "الإستراتيجية"، حيث تشير الإستراتيجية الكبرى إلى الإستراتيجية ذات المدى الطويل والأهداف السامية. وبما أن كلا المفهومين يواجهان تحديات متشابهة في معالجة عدم اليقين والديناميكية الناتجة عن النظام الدولي المتطور بشكل فعال- فقد أصبحت الاستفادة من المفاهيم الجديدة الأكثر استعدادًا للتعبير عن التحديات الجديدة ومعالجتها أمرًا لا مفر منه. فاستكشاف المفاهيم الجديدة توسع وجهاتِ النظر وتثير النقاشات حول هذا الموضوع. وبهدف الإسهام في النقاشات الحيوية الموجودة مسبقًا حول الإستراتيجية الكبرى، استكشفت هذه الدراسة العديد من الثغرات النظرية والمفاهيمية والعلاجات التي يمكنها معالجة هذه الثغرات.
إن تكاثر الوكلاء، وتحول البنى، وتآكل قواعد السلطة من خلال انتقال السلطة بين القوى العظمى، وانتشار القوة بعيدًا عن الدول- يستلزم استخدام مفاهيم ديناميكية، مثل الترابط والقوة المتقلبة والمرونة؛ لاستكمال النظريات والإستراتيجيات القائمة. لم يجرِ اختيار هذه المفاهيم لأنها شاملة، بل جرى اختيارها لتوسيعها وإدخال ديناميكية إلى النقاش.
كما ذكرنا آنفًا، تمتلك تركيا إستراتيجية كبرى، على الأقل من حيث الرؤية، وهذه الإستراتيجية الكبرى، بدون دلالة على "الآخر"، ترسم أهدافًا إستراتيجية ديناميكية. وقد جرى الاستمرار في اتباع هذه الإستراتيجية بغض النظر عن التوجهات السياسية للحكومات المتعاقبة منذ العهد الجمهوري، وحافظت هذه الإستراتيجية على استمراريتها بصرف النظر عن الفروق الضئيلة المنبثقة عن طبيعة السياق المتطور ووقائعه.
وبرزت التقلبات في الاستمرارية نتيجة ارتجال العوامل المختلفة للاستجابة للسياق المتغير، وهو ما أدّى إلى تنفيذ إستراتيجيات تركز على التهديدات أو إستراتيجيات تركز على الرؤى، ضمن رؤية أكبر. وفي سياق العصر الحديث الناشئ حديثًا، بدأت تركيا بالفعل في استخدام المفاهيم الجديدة التي نوقشت هنا. فضلًا عن أن تصورها من أجل دمجها بشكل أكبر في إستراتيجيات تركيا يمكن أن يرفع فعالية إستراتيجياتها في بيئةٍ مليئة بحالات الشكّ وعدم اليقين التي يجري كشف الغطاء عنها اليوم باستمرار.
المراجع والهوامش:
[1] Williamson Murray, “Thoughts on Grand Strategy,” in Williamson Murray, Richard Hart, and James Lacey (eds.), The Shaping of Grand Strategy: Policy, Diplomacy, and War, (New York: Cambridge University Press, 2011), pp. 1-2.
[2] Thierry Balzacq, Peter Dombrovski, and Simon Reich, Comparative Grand Strategy: A Framework and Cases, (Oxford: Oxford University Press, 2019).
[3] Richard Wyn Jones, Security, Strategy and Critical Theory, (Boulder, CO: Lynne Rienner, 1999), p. 129.
[4] Muriell Cozette, “Realistic Realism? American Political Realism, Clausewitz and Raymond Aron on the Problem of Means and Ends in International Politics,” Journal of Strategic Studies, Vol. 27, No. 3 (September 2010), p. 440.
[5] David Betz, Carnage and Connectivity: Landmarks in the Decline of Conventional Military Power, (London: Hurst, 2015), p. 35.
[6] Hasan Yükselen, Turkey and Russia in Syria: Testing the Extremes, (Ankara: SETA, 2020).
[7] Alexander Wendt, “The Agent-Structure Problem in International Relations,” International Organization, Vol. 41, No. 3 (1987), pp. 335-370; Colin Wight, Agents, Structures, and International Relations: Politics as Ontology (Cambridge: Cambridge University Press, 2006); David Dessler, “What’s at Stake in the Agent-Structure Problem,” International Organization, Vol. 43, No. 3 (1989), pp. 441-473; Audie Klotz, “Moving Beyond the Agent-Structure Debate,” International Studies Review, Vol. 8, No. 2 (2006), pp. 355-381.
[8] Pierre Bourdieu, Outline of a Theory of Practice, (Cambridge: Cambridge University Press, 1977), p. 205.
[9] Hasan Yükselen, “Strateji Kavramını Çalışmak [Studying the Concept of Strategy],” Journal of Security Strategies, Vol. 14, No. 27 (2018), pp. 1-38.
[10] Richard J. Bernstein, Praxis and Action: Contemporary Philosophies of Human Activity, (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 1971), p. 43.
[11] Christian Heine and Benno Teschke, “Sleeping Beauty and the Dialectical Awakening: On the Potential of Dialectic for International Relations,” Millennium, Vol. 25, No. 2 (1996), p. 414.
[12] Faruk Yalvaç, “Strategic Depth or Hegemonic Depth? A Critical Realist Analysis of Turkey’s Position in the World System,” International Relations, Vol. 26, No. 2 (2012), pp.165-180.
[13] Jonathan Joseph, “Foucault and Reality,” Capital and Class, Vol. 28, No. 1 (2004), p. 152.
[14] Jonathan Joseph, “Hegemony and the Agent Structure Problem in International Relations: A Scientific Realist Contribution,” Review of International Studies, Vol. 34, No.1 (2008), p. 117.
[15] Bourdieu, Outline of a Theory of Practice, p. 205.
[16] Frederic Merand and Amelie Forget, “Strategy: Strategizing About Strategy,” in Rebecca Adler-Nissen (ed.), Bourdieu in International Relations: Rethinking Key Concepts in IR, (New York: Routledge, 2013), pp. 93-113, p. 104.
[17] Heine and Teschke, “Sleeping Beauty and the Dialectical Awakening,” p. 413.
[18] John Scott, “Where Is Social Structure?” in José Lopez and Garry Potter (eds.), After Postmodernism: An Introduction to Critical Realism, (London: The Athlone Press, 2001), p. 84.
[19] David Harvey, “Agency and Community: A Critical Realist Paradigm,” Journal for the Theory of Social Science, Vol. 32, No. 2 (2002), p. 170; Roy Bhaskar, The Possibility of Naturalism: A Philosophical Critique of Contemporary Human Sciences, (New York: Harvester Wheatsheaf, 1989), p. 38; Benno Teschke and Can Cemgil, “The Dialectic of the Concrete: Reconsidering Dialectic for IR and Foreign Policy Analysis,” Globalizations, Vol. 11, No. 5 (2014), p. 619.
[20] Teschke and Cemgil, “The Dialectic of the Concrete,” p. 616.
[21] Murat Yeşiltaş and Ferhat Pirinççi, Türkiye’nin Büyük Stratejisi, (İstanbul: SETA, 2020); Perceptions: Journal of International Affairs, Vol. 25, No. 2, (Winter, 2020); Ali Karaosmanoğlu and Ersel Aydınlı, Strateji Düşüncesi: Kuram, Paradoks, Uygulama, (İstanbul, Bilgi Üniversitesi Yayınları, 2020).
[22] Braz Baracuhy, “The Art of Grand Strategy,” Survival, Vol. 53, No. 1 (2011), p. 147.
[23] Hasan Yükselen, Strategy and Strategic Discourse in Turkish Foreign Policy, (Basingstoke UK: Palgrave Macmillan, 2020).
[24] Philippe Bourbeau, On Resilience: Genealogy, Logics, and World Politics, (Cambridge: Cambridge University Press, 2018).
[25] Joseph S. Nye, The Powers to Lead, (Oxford: Oxford University Press, 2008), pp. 85-108.
[26] Joseph S. Nye, The Future of Power, (New York: Public Affairs, 2011), p. xvii.
[27] Nye, The Powers to Lead, p. 88.
[28] Bourbeau, On Resilience, p. 29.
[29] Michael Herman, Intelligence Power in Peace and War, (Cambridge: Cambridge University Press, 1996).
[30] Karl W. Deutsch, The Nerves of Government (New York: Free Press, 1963).
[31] Merve Seren, “Türk İstihbaratının Değişen Dinamikleri: Son 10 Yılda Reform Siyasal ve Operasyonel Açılım,” Tesam Akademi Dergisi, Vol. 8, No. 2 (2021), pp. 371-405.
[32] Bourbeau, On Resilience, p. 28.
[33] Nye, The Future of Power, pp. vii-viii.
[34] Peter J. Katzenstein and Julia A. Serbert, Protean Power: Exploring the Uncertain and Unexpected in World Politics, (Cambridge: Cambridge University Press, 2018).
[35] Steven Lukes, Power: A Radical View, (New York: Palgrave, 2006).
[36] Moisés Naim, The End of Power, (New York: Basic Books, 2013), p. 27.
[37] Parag Khanna, Connectography: Mapping the Future of Global Civilization, (New York: Random House, 2016).
[38] Khanna, Connectography, p. 16.
[39] Khanna, Connectography, p. 7.
[40] Khanna, Connectography, p. 28.
[41] Yükselen, Turkey and Russia in Syria.
[42] Khanna, Connectography, p. 203.