"لن نكرر الأخطاء التي ارتكبت بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. هذه المرة سننتهز الفرصة التي تطرق باب بلادنا"[1].
رجب طيب أردوغان
تعرض النظام العالمي لتحولٍ كبيرٍ يدفع تركيا إلى تغيير موقعها الدولي. ومن هنا لا بد من رؤيةٍ إستراتيجيّة شاملةٍ لإعادة ترتيب وضع تركيا في نظامٍ عالميٍّ ناشئٍ لا يزال يخضع لتغييرٍ كبيرٍ، وتعزيز وسائل تنفيذ هذه الرؤية، وإنتاج خريطةِ طريقٍ واسعةٍ بشأن كيفية تحقيق هذه الرؤية. في هذا البحث، نركز على الكيفية التي يجب أن تتشكل بها هذه الرؤية الإستراتيجيّة في مجال السياسة الخارجية. فالنظام الدولي الناشئ متعدد الأقطاب يشكل مخاطر ويوفر فرصًا نصفها في الأجزاء الأخيرة من هذا البحث. وتركيا تحتاج إلى إستراتيجيّة كبرى للقضاء على تلك المخاطر واغتنام الفرص.
تحتاج تركيا في المقام الأول إلى رؤيةٍ شاملةٍ للديناميكيات المتغيرة للنظام الدولي الحالي لبناء إستراتيجيّتها الكبرى الشاملة. وعلى الرغم من أن السياسة العالمية متعددة الأطراف، فإنه يجب التعامل مع النظام الدولي المستقبلي بنهج متكامل. ينبغي على تركيا تصميم إستراتيجية كبرى على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي، لأن التركيز على المسائل الوطنية والاقتصار عليها يفتح الباب لتعميق التحديات التي تواجهها. والنهج الذي يركز على القضايا الإقليمية ويتجاهل القضايا العالمية لا يصلح أيضًا؛ بسبب التداخل القائم بينهما. فالواجب الذي يترتب على صناع القرار، هو تقييم التوجه الإستراتيجي لتركيا: من هم حلفاؤها ومنافسوها وخصومها المحتملون؟ أين يمكن أن تنشأ التحديات وكيف؟ وكيف يمكن لتركيا التعامل مع تلك التحديات؟ إن تطوير إستراتيجية كبرى هو أفضل طريقة لإعادة توطين تركيا بشكل إستراتيجي وإعادة تحديد موقعها في النظام الدولي المتغير. وهذه الإستراتيجية ينبغي أن تأخذ في الاعتبار السمات المميزة للفترة الانتقالية، والتعامل معها بشكل يسهل التكيف مع بنية النظام العالمي الذي سيظهر بعد الفترة الانتقالية. كما ينبغي أن تكون هذه الإستراتيجية شاملة بما يكفي لتنفيذ السياسات الخارجية والأمنية بشكل فعالٍ في المناطق الإستراتيجيّة المحيطة بتركيا حتى تضمن تحقيق أهدافها. إننا نقترح إنشاء فترة استعداد جديدة من خلال فهم التغيرات التي يمر بها النظام العالمي بكل معنى الكلمة، وحماية مصالح تركيا على المدى الطويل، وتأمين مكانةٍ صلبةٍ لتركيا في النظام الجديد من خلال التكيف القوي المستقر الفعال مع هذا النظام الجديد. وهذه المكانة القوية يجب أن تكون فعالة تملك الردع العسكري والقدرة على عرقلة ظهور التهديدات المحتملة ضد تركيا على نطاقٍ واسعٍ من خلال الحذر من التطورات في محيطها القريب.
في الجزء الأول من هذا البحث، نستكشف السمات المميزة للفترة الديناميكية الحالية للتغير الأساسي الذي يحدث في النظام الدولي. وفي الجزء الثاني نناقش التغيرات والتحولات في البيئة الإستراتيجية لتركيا مع التركيز على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية. وفي الجزء الثالث، نقترح إطار عمل لإستراتيجية تركيا الكبرى. وفي الجزء الأخير، نقوم بتحليل السياسة الخارجية لتركيا من خلال الأخذ في الاعتبار بشكل خاص "المناطق/ النطاق الإستراتيجي" حيث تقوم تركيا بتفعيل أولوياتها الإستراتيجيّة، متبعةً إطارنا المقترَح للإستراتيجية الكبرى.
النظام الدولي: فراغ جديد في القيادة!
تتنوع النقاشات المتعلقة بوضع تصورٍ لبنية النظام الدولي الحالي. فبينما تؤكد بعض النقاشات على الطبيعة ثنائية القطب للنظام الدولي، باعتبار التنافس على السلطة بين الولايات المتحدة والصين[2]، تسلط النقاشات الأخرى الضوء على النظام الدولي متعدد الأقطاب من خلال التركيز على تأثير القوى الناشئة على السياسة الإقليمية والدولية. لكن هذه النقاشات في غالبيتها تركز على الديناميكيات المتغيرة لتوزع القوى بين الدول، وتتجاهل الطبيعة المعقدة القائمة للنظام العالمي منذ نهاية الحرب الباردة.
أصبح العالم أكثر توترًا بطريقة لا تعكس التحولات البنيوية فحسب، بل تعكس أيضًا ظهور موقف تنافسي أكبر. إنها لحقيقة أن النظام أحادي القطب الذي ظهر بعد الحرب الباردة قد ولّى وانتهى، تاركًا مكانه المجال لنظام دولي متعدد القطبية ومتعدد الطبقات. والقطبية متعددة الطبقات، أو "البنية متعددة الأقطاب ومتعددة الطبقات" تُعَدُّ بنيةً دوليَّةً متنوعةً سياسيًّا ومترابطةً مؤسسيًّا. وهذا الوضع يشير إلى أن النظام الدولي الليبرالي المتمركز حول أمريكا يواجه تحديات جذرية. لكن انهيار النظام أحادي القطب لم يؤد بعد إلى نشوء نظامٍ آخر يمكن تعرّفه بسهولةٍ، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور قضايا عالميةٍ وإقليميةٍ جديدةٍ تجعل الساحة الدولية الحالية أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. والأمر المهمّ للغاية هنا هو فهم طبيعة التعقيدات الحالية على المستوى العالمي، والتي تبدو على شكل فترة فراغ في القيادة العالمية.
الافتقار إلى القيادة العالمية:
يُعَدّ الافتقار إلى القيادة العالمية من السمات المميزة للطبيعة المعقدة التي يتمتع بها النظام الدولي الحالي غير المكتمل. فمشكلة القيادة العالمية تنشأ على ثلاثة مستويات مختلفة:
أولها على مستوى رؤساء الدول والحكومات، فالاختلافات البارزة التي ظهرت بين مواقف وأولويات القادة السياسيين، ومنهم قادة القوى العظمى، حول قضايا، مثل الاقتصاد والأمن وتغير المناخ والإرهاب الدولي والتمييز والتسلح الفردي- تدفع القادة نحو الانطوائية بعيدًا عن التعددية. وتؤدي هذه الاختلافات إلى تعميق الاشتباكات الإقليمية وتأخير حلول الأزمات.
وثانيها على مستوى الحوكمة العالمية والمنظمات العالمية، فالافتقار إلى القيادة العالمية لا تزال تنعكس على شكل مشكلة الحوكمة في المنظمات الدولية. فالأمم المتحدة التي تُعَدّ عنصرًا أساسيًّا في الحوكمة العالمية منظمةٌ ضعيفةٌ عندما يتعلق الأمر بالقيام بدورٍ نشطٍ في الأزمات الدولية[3]. إذ أصبحت الأمم المتحدة منظمة مختلة وظيفيًّا، وأصبحت تعمل أداة للتنافس الجيوسياسي بين القوى العظمى بدلًا من أخذ زمام المبادرة في إدارة الأزمات. ولا تقتصر مسألة الحوكمة هذه على الأمم المتحدة، بل تتعداها إلى المنظمات العالمية والإقليمية الأخرى، مثل منظمة الصحة العالمية التي أخفقت في أداء دور استباقي في إدارة الأزمات في مجالاتها.
وثالثها على مستوى الدول، إذ إنّ افتقار النظام الدولي للقيادة العالمية يتجلى في غياب القيادة عن محور القضايا الدولية. فالولايات المتحدة تحولت إلى جهة فاعلة تسبب المشكلات العالمية بدلًا من حلها، وفقدت موقفها المفترض سابقًا المتمثل في ‘الحياد’ في العديد من القضايا الدولية. وهذه المشكلة التي تواجهها القيادة العالمية على مستوى الدولة لا تقتصر على الولايات المتحدة، بل تتعداها إلى الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا والقوى العظمى الأخرى[4]. فالاتحاد الأوروبي تحول إلى مجموعة من الدول التي تتخذ قرارات على نطاقٍ وطنيٍّ بدلًا من اتخاذ القرار والعمل بصفة اتحاد في العديد من القضايا. والصين التي من شأنها أن تصبح قيادة عالمية، على الأقل من حيث عدد سكانها الهائل ومؤشراتها الاقتصادية السليمة- تواجه مشكلات واسعة النطاق في القيادة العالمية، في مقدمتها غياب إرادةٍ قويَّةٍ أو هدفٍ في هذا الاتجاه كما يبدو[5]. ومع ذلك، لا يمكن الادعاء بأن الصين لديها قدرة فعالة على القيادة العالمية.
التعددية القطبية وتعددية الطبقات:
السمة المميزة الثانية للنظام الدولي الناشئ هي القطبية متعددة الطبقات. وأوّل عناصر هذه التعددية القطبية المجزأة والهشة نسبيًّا هو الشكل الجديد لتوزيع القوة الذي يختلف في بعض نواحيه عن نماذج توزيع القوة السابقة[6]. فالبنية الكلاسيكية للتعددية القطبية التي كانت سائدةً في القرن التاسع عشر ساعدت في الحفاظ على التوازن المثالي بين اللاعبين الخمسة في النظام[7]. وبالمثل، فإن بنية القطبية الثنائية التي كانت النموذج السائد خلال الحرب الباردة، كانت تتمتع بسماتٍ خلافيةٍ تعكس توازن القوى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي[8]. وبينما كانت القوى تتوزع حول الجهات الفاعلة التي من شأنها أن تضمن التوازن في القطبية المتعددة، كانت علاقات التحالف تتمتع بمظهر فضفاض للغاية. أما في نظام القطبية الثنائية، فقد اصطفت القوى حول الجهتين الفاعلتين في التوازن من باب الضرورة[9]. في مثل هذا النظام، كانت علاقات التحالف أكثر صرامة، وكانت الانتقالات بين طرفي التوازن نادرةً للغاية. وفي فترة ما بعد الحرب الباردة حيث البنية أحادية القطب، كان للنظام مظهر هرميّ من حيث التوزع النسبي للقوة، وكان الفاعلون عمومًا قادرين على اكتساب موطئ قدم في سياق علاقاتهم المباشرة أو غير المباشرة مع القوى العظمى[10].
كان التوازن في النظام أحادي القطب مكلفًا، ولم يدم طويلًا، وبحلول القرن الحادي والعشرين بدأت هذه العملية التي شكلت النظام العالمي الذي قادته الولايات المتحدة إلى حدٍّ كبيرٍ بالتآكل. ولكن التنافس على الأمن والسلطة بين القوى المنفصلة على طول محاور القوة الاقتصادية والعسكرية العالمية للقرن الحادي والعشرين، التي اتخذت شكل الأقطاب المتعددة المتشكلة حديثًا- يمثل مظهرًا أكثر تفككًا. وعلى الرغم من عناصر عدم المساواة بين الأطراف، فإن قدرات القوى المطلقة والنسبية للعديد من الجهات الفاعلة أدت إلى نشوء حقبةٍ جديدةٍ من القطبية الهجينة متعددة الطبقات. لذلك، يتم إعادة تشكيل الأزمات في النظام الحالي بشكلٍ جديدٍ في النظام الدولي الناشئ المتعدد الطبقات والأقطاب[11].
من وجهة النظر هذه، تختلف التعددية القطبية الناشئة عن التي سبقتها في بعض النواحي. أولًا: القطبية المتعددة السابقة كانت على شكل إمبراطوريات تغذيها المستعمرات، وكانت هذه القوى العظمى هي الجهات الفاعلة الرئيسة. ثانيًا: على عكس القرن التاسع عشر، أصبح الاقتصاد إحدى السمات المميزة للنظام الدولي الحالي، وأصبح أكثر عالميةً في نطاقه، وأكثر مترابطًا في محتواه، فالتجارة والتمويل العالميان، وشبكة الإنتاج العالمية، وسلسلة التوريد العالمية، هي التي تميز بشكلٍ كبيرٍ النظام الناشئ متعدد الطبقات عن النظام متعدد الأقطاب السابق الذي يعتمد على التجارة دون غيرها. ثالثًا: لا يقتصر التفاعل الناتج عن الاستقلالية الاقتصادية المتبادلة اليوم على منطقة جغرافية محددة. رابعًا: كانت بنية النظام متعدد الأقطاب القديم قائمًا على الانسجام بين القوى الأوروبية، والدبلوماسية الأوروبية، والمؤسسات الدولية الأوروبية التي تهتمّ بتوازن القوى الأوروبية. والنظام متعدد الطبقات مبني على اختلاف معياري تنتشر فيه المنظمات الدولية على مستوى عالمي. خامسًا: كان الصراع الإقليمي التقليدي بين الدول الأوروبية يمثل العامل الرئيس الذي يهدد انسجام التعددية القطبية الكلاسيكية. لكن الصراعات بين الدول انحسرت بمرور الوقت، وتنوعت الصراعات في القطبية متعددة الطبقات الجديدة، تنوعت ولم تعد تقليدية[12]. فقد تراجعت خشية الدول في العالم المعاصر من هجمات الدول الأخرى، ونمت تهديدات أخرى تأتيها من الإرهاب أو الاضطرابات الداخلية أو الأزمات الصحية (مثل كوفيد-19)[13].
القوى الصاعدة:
إنّ القطبية الأحادية الأمريكية التي لم تعمّر طويلًا فسحت المجال أمام توزع القوة بصورةٍ مجزأةٍ إلى حد كبير. فالسمات الأساسية للقوى الصاعدة تتمثل في نشاطاتها الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية التي تعمل على نشرها رغبةً منها في زيادة استقلاليتها الإستراتيجيّة (سياسة خارجية أكثر استقلالية). ومن المتوقع أن تواصل القوى الصاعدة جهودها في تنويع وتعميق مساعيها لزيادة نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي في الساحة الدولية متعددة الطبقات الجديدة، والاقتصاد العالمي هو من أهم المجالات التي تنعكس فيه مساعي التنويع والتعميق هذه على أفضل وجهٍ. فالنشاط الجديد في منظمة التجارة العالمية الذي يتمحور حول البرازيل والهند، والسعي وراء الاستقلال الاقتصادي، يكشفان عن ضرورة مشاركة الكعكة بين مجموعة أوسع من الجهات الفاعلة، كما يتضح من إنشاء مجموعة العشرين في عام 1999. وقد اتجه هذا السعي والنشاط الدبلوماسي الجديد نحو إحداث تأثيرٍ أكبر على الاقتصاد العالمي قابلٍ للتوسع في الألفية الثالثة؛ بسبب جداول الأعمال الإستراتيجيّة المتداخلة للبلدان النامية. على سبيل المثال، جلب منتدى حوار IBSA الذي يضم الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، التعاون إلى جدول الأعمال العالمي، لا في المجال الاقتصادي فقط، بل في المجال السياسي أيضًا.
وجاءت عقب هذا التوسع مجموعة BASIC في عام 2009 التي تضم البرازيل وجنوب إفريقيا والهند والصين. ومع إنشاء مجموعة بريكس التي تتألف من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، تم الجمع بين أكبر خمسة اقتصادات خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وأصبح من الواضح أن تغيرات بنيوية أكثر عمقًا كانت تحدث في الاقتصاد العالمي وديناميكيات الرأسمالية العالمية. وبذلك تخلصت الدول الخمس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) التي تملك حوالي 50 بالمئة من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية من اعتمادها على المساعدات الخارجية، وبدأت في قيادة الطريق نحو المساعدات الاقتصادية العالمية. وفي أعقاب هذا النشاط الاقتصادي والسياسي جرى إنشاء مجموعة ميكتا (MIKTA) [14] في عام 2013 بحيث تضم المكسيك وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وتركيا وأستراليا. ودول ميكتا هذه عززت مواقفها بوصفها فاعلة في مناطقها، وأسهمت إسهامًا كبيرًا في السلام والاستقرار على الصعيدين الإقليمي والعالمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنها في الغالب تتبع نهجًا متشابهًا في معالجة المشكلات الدولية.
بدأت القوى الصاعدة عملية إعادة ترتيب موضعها تبعًا لحيويتها الاقتصادية وتوسعها الاقتصادي، ومن ثّمّ عملت على تغيير الاقتصاد العالمي وخلق توجهٍ استراتيجي جديدٍ من شأنه أن يغير موازين القوى العالمية. وبينما كانت القطبية الأحادية المتشكلة حول محور القيادة الأمريكية تعاني انحسارًا سريعًا، كان الموقع الجديد للقوى الصاعدة يفتح الطريق لبعض النتائج الجيوسياسية. وقد تحققت أولى هذه النتائج على شكل تغير التسلسل الهرمي للقوة من المحور الرأسي إلى المحور الأفقي، وأصبحت المسألة الآن هي مسألة انتشار القوة أكثر من توزيعها. فمساعي القوى الصاعدة وراء مكانة جيوسياسية امتدت وانتشرت على طول محور التوسع الاقتصادي وتعزيز القوة العسكرية، وقوضت احتكار الولايات المتحدة في مناطق مختلفة، فحصل تغيير في موازين القوى الإقليمية[15].
كما بدأت معايير فرعية جديدة بالظهور في ظل المؤسسات العالمية للنظام الليبرالي بالتزامن مع القوى الصاعدة. فالدول الصاعدة تميل بطبيعة الحال إلى تحدّي الوضع الراهن ومراجعة المعايير السائدة في النظام لتعكس مصالحها وقيمها. علاوة على ذلك، أصبحت القوى الصاعدة أكثر قوةً على الصعيد العسكري بطريقةٍ تؤدي إلى نتائج جيوسياسية في مناطقها، وأشعلت بطابعها الردعي والهجومي فتيل التطورات التي ستسمح بالتمرد عند الضرورة[16]. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة حاولت منع ظهور هذه الجهات الفاعلة، مستخدمة القوة العسكرية في بعض الأحيان، إلا أن محاولاتها باءت بالإخفاق، فظلت مساعي القوى الصاعدة وراء مكانة جديدة تعزز البنية المتعددة الطبقات للنظام الدولي.
البنية الأمنية الدولية الجديدة:
أدت تعددية الأقطاب وتعددية الطبقات الجديدة إلى انتشار القوة من جانبٍ، وأدت إلى تشكيل بنية أمنية عالمية وإقليمية جديدة بسبب المنافسة الجيوسياسية العالمية والإقليمية الناشئة من جانبٍ آخر. فالبنية الأمنية العالمية التي تعد جزءًا لا يتجزأ من السياسة العالمية تبدي أيضًا مظهرًا مجزأ، مثل الحالة الجديدة للسياسة العالمية تمامًا. فالبنية الأمنية للنظام العالمي خلال الحرب الباردة كانت بسيطة للغاية، إذ لم يؤد أي موقف اختلفت فيه القوتان العظميان إلى صراع عالمي، وكان افتراض التدمير المتبادل على وجه التأكيد يحول دون التحول إلى صراع عالمي، لذلك آثر الطرفان استخدام أساليب القتال غير المباشرة على الصراع العلني. وكانت السمة الأكثر تمييزًا لهذه البنية هي قوة الدول ونظام التحالف الذي أنشأته هذه الدول باستخدام هذه القوة. لكن المشكلة الرئيسة للبنية الأمنية في العصر الجديد هي صعوبة سيطرتها على التهديدات.
تظهر السمة الأولى للبنية الأمنية الجديدة على المستوى الجيوسياسي. فالصراع الجيوسياسي متعدد الطبقات له سمة مميزة، وهي عدم اقتصار التنافس والسباق على الدول. ففي التعددية القطبية الكلاسيكية، كانت المنافسة الجيوسياسية الإمبراطورية تدور فقط بين الدول والإمبراطوريات حول القضايا الاقتصادية والإقليمية والعسكرية. لكن المنافسة الجديدة متعددة الطبقات والأقطاب تحصل بين الوحدات السياسية المختلفة، وكذلك بين الدول على المستوى الرأسي، بينما تظهر على المستوى الأفقي في مجموعة واسعة من المجالات بما فيها المناخ والصحة والنقل والغذاء، وكذلك القضايا الاقتصادية والعسكرية.
هناك أربع طبقات في بُعد الصراع الجيوسياسي والمنافسة غير المحدودة للبنية الأمنية الجديدة: الجغرافيا السياسية على نطاق الفضاء، والجغرافيا السياسية العالمية، والجغرافيا السياسية الإقليمية، والصراع الجيوسياسي المحلي. وعلى الرغم من أن الانتقال بين الطبقات في التنافس الأمني الجديد يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمعامِلات القوة المادية، فإن الجانب الأكثر أهمية هو أن التنافس الأمني على المستوى المحلي يمكن أن يخلق تأثيرات عالمية.
ثمة سمة ثانية للبنية الأمنية العالمية الجديدة، هي الطابع المتغير للحروب والصراعات. فأشكال الحروب وطابعها ومداها تشكل السمات المميزة للبنية الأمنية للنظام العالمي. في ظل الظروف العادية، يُفترض أن تستند الحروب إلى ثلاثة عناصر، هي: القوة والنار والتكنولوجيا. في حالة الحرب التقليدية، تُعَدّ عوامل مثل أطراف الحرب وأساليبها وطبيعتها مهمّةً. في البنية الأمنية الجديدة يُعَدّ التغير في عدد ونوع الفاعلين المتورطين في الحرب مهمًّا؛ لأن الدول لم تعد الفاعل الوحيد في الحرب. ثم إن أساليب وطبقات الحرب تغيرت بشكل جذري[17]. ففي البنية الأمنية الجديدة توجد ساحة الحرب المتعددة الطبقات. والطبيعة المتغيرة للحروب من الحروب الساخنة إلى الحروب النفسية والحروب الهجينة في العصر الجديد المتعدد الطبقات- جعلت الخط الفاصل بين حالة الحرب والسلام أكثر ضبابية وكثيرة المعابر. بهذا المعنى، فإن مفهوم الحرب نفسه داخل البنية الأمنية الجديدة له طابع هجين (يجمع بين الحروب التقليدية وغير النظامية والحروب الحديثة كالسيبرانية وغيرها). فالحرب الدائرة في سوريا على سبيل المثال، تعكس الطابع المتغير للحروب على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي من جوانب كثيرة.
هناك خاصية أخرى للبنية الأمنية الجديدة، هي ظاهرة الإرهاب. إذ أدت ممارسات الولايات المتحدة في إطار مبدأ الأمن الوقائي، بعد هجمات 11 سبتمبر، إلى تنويع الأخطار الأمنية العالمية، وأحدثت أيضًا تحولًا جذريًّا في النطاق المكاني للمشكلات الأمنية. فقد أدى ظهور وانتشار تنظيم داعش إلى إزالة حدود الأمن الدولي وتغيير بنية الأمن العالمي بشكل جذري[18]. وفي الوقت الذي يعمق فيه الإرهاب الصراعات منخفضة الحدة في مناطق مختلفة، ظهرت علاقة مباشرة بين الجهود المبذولة لضمان الأمن الدولي وانتشار الإرهاب.
تراجع المعايير الدولية وظهور أخرى:
يتمتع النظام الدولي متعدد القطبية ومتعدد الطبقات بسمة أخرى، هي ظهور جهات فاعلة غير غربية كلما تضاؤل تأثير المعايير الدولية. وفي البداية يمكن القول: إن العصر الجديد يفتقر إلى معيار عالمي مهيمن، ومنهج فكري عالمي شامل، فالنظام الليبرالي المتمركز حول أمريكا له محدد أساسي لا يتمثل في توزيع القوى، بل في نظامٍ دستوريّ دوليّ قادرٍ على تحديد العلاقة بين القوى. فكل نظام دولي يضع معايير عالمية تشكل بدورها طريقة عمل النظام الدولي، وهذا يعني أن وجود المعايير هو الذي يحدد الإجراءات التي سيجري من خلالها تشكيل سلوك الوحدات السياسية التي تشكل النظام الدولي. من الجدير بالذكر هنا أن النظام الدولي الليبرالي الجديد بمركزية الولايات المتحدة حقق هذا الأداء الداخلي سياسيًّا عبر الأمم المتحدة، واقتصاديًّا عبر اتفاقية بريتون وودز، وأمنيًّا عبر حلف شمال الأطلسي بعد عام 1945، لكن النظام نفسه تغير بفعل التطورات العالمية الجديدة في الثمانينيات والتسعينيات والألفية الجديدة[19].
يمكن الحديث عن ثلاث وحدات سياسية مختلفة في سياق العلاقة بين المعايير والنظام الدولي: أولها هي الوحدات السياسية المنتجة للمعايير. صحيحٌ أن الدول هي منتجة للمعايير، لكن المؤسسات الدولية تؤدّي دورًا حيويًّا في نشر هذه المعايير، وفي بعض الحالات، تصبح الدول منتجة وناقلة ومنفذة للمعايير السائدة. والغزو الأمريكي للعراق هو خير مثالٍ على محاولة تغيير النظام الدولي للقيام بالتدخل العسكري خارج نظام الأمم المتحدة، وثانيها هي الجهات الفاعلة التي تستهلك المعايير أو تمتثل للمعايير (متلقي المعايير). وتؤدّي العلاقة بين النظام الدولي والمعايير دورًا في هذه النقطة؛ لأن هناك علاقة مباشرة بين التكيف مع النظام والتوافق مع المعايير. ولا يمكن للجهات الفاعلة غير الموجودة في سلسلة استهلاك المعايير العالمية؛ أي التي لا تمتثل للمعايير العالمية- أن تكون لاعبًا "عاديًّا" في النظام، وثالثها هي الجهات الفاعلة التي تعارض/ تتحدى المعايير. قد تكون هذه الجهات الفاعلة جهات حكومية أو غير حكومية. وخير مثال على هذه المجموعة داعش وكوريا الشمالية[20].
إن العلاقة بين النظام الدولي الناشئ والمعايير الدولية محفوفة بالمشكلات: المشكلة الأولى هي ضعف الجهات الفاعلة التي تنتج المعايير الدولية العالمية، على سبيل المثال، تولت الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب وظيفة تقويض المعايير القائمة بدلًا من أن تؤدّي دور المنتج والحامي والناقل للمعايير العالمية. وما نراه اليوم في نموذج الولايات المتحدة هو عملية تحويل المعايير الدولية إلى إستراتيجيّة أكثر من كونها الحفاظ على صلاحيتها وقابليتها للتطبيق عالميًّا. وهذا الوضع يفسّر نقصان المعايير المشتركة، وسباق المعايير المتنافسة في النظام الدولي الجديد. ففي هذا النظام الهجين الجديد، يتم تأجيج صراع المصالح قصير الأمد من جهةٍ، وتسهيل عمل المنتجين الآخرين للمعايير مثل روسيا والصين من جانبٍ آخر. وهذا الوضع يكشف عن مشكلة أخرى في العلاقة بين النظام والمعيار، نظرًا لتنوع التنافس على إنتاج واستهلاك المعايير في النظام الدولي الناشئ، ففي الفترة الانتقالية، حيث تظهر التعددية القطبية الجديدة، يضعف إنتاج وتطبيق المعيار أو المعايير العالمية والالتزام بها، وتظهر علاقات معيارية بديلة. ويؤدي استمرار هذا الوضع إلى انحسار التفوق الإستراتيجي للغرب وظهور جهات فاعلة غير غربية.
المشهد الإستراتيجي الجديد لتركيا: عودة سياسة القوة وانحسار العصبية الإقليمية[21]:
لابد في البداية، تحليل البيئة الإستراتيجيّة لتركيا بين يدي تطوير إستراتيجيّتها الكبرى، فهناك ثلاثة مستويات تشكل البيئة الإستراتيجيّة لتركيا: المستوى الوطني والمستوى الإقليمي والمستوى العالمي. وهناك أيضًا علاقة بنيوية متبادلة بين تركيا وبيئتها الإستراتيجيّة في بناء تصوراتها للتهديدات والأولويات الإستراتيجيّة وموقعها الجغرافي السياسي في السياسة الإقليمية والدولية، ولا بد من أخذ هذه العوامل في الاعتبار عند تصميم إستراتيجيّتها الكبرى.
المستوى الوطني:
إن الطابع الدفاعي من السمات التاريخية المهمّة التي تميّز ثقافة تركيا الإستراتيجيّة. والنظرة العميقة في موقع تركيا في النظامين الدولي والإقليمي تكشف أن الجغرافيا السياسية الدفاعية باعتبارها إستراتيجيّة على مستوى الخطاب والممارسة- لا تقتصر على السياسة الخارجية. إذ أُسِّس الخطاب والممارسة الجغرافية السياسية الدفاعية تاريخيًّا، بوصفه جزءًا لا يتجزأ من القومية والعلمانية ومركزية الدولة والرؤية الحضارية التي ظهرت في تركيا في فترات تاريخية مختلفة. بتعبير أدق، لم تقتصر الثقافة الإستراتيجيّة الدفاعية على تشكيل ممارسات السياسات الخارجية والأمنية خلال الحرب الباردة وحقبة ما بعد الحرب الباردة فحسب، بل قامت أيضًا بتأسيس نوعٍ من الذاتية السياسية والدولة القومية[22].
وعلى الرغم من التغيرات الكثيرة التي طرأت على البيئة الخارجية لثقافة تركيا الإستراتيجيّة منذ نهاية الحرب الباردة، فإن التسعينيات كانت الحقبة التي شهدت فيها تركيا إعادة إنتاج الثقافة الأمنية الجمهورية[23]. في هذه السنوات التي شكلت فيها الأعمال الإرهابية لحزب العمال الكردستاني الإرهابي والقضية الكردية نهج الأمن التركي، حصلت عودة قوية إلى وحدة الأراضي باعتبارها أولوية إستراتيجيّة رئيسة. كما جرى تسجيل هذه الحقبة في التاريخ باعتبارها الحقبة التي ساد فيها المشهد السياسي الذي يهيمن فيه الجيش على مقاليد الحكم في تركيا، ويشكل المؤسسة الرئيسة التي تعلو السياسة وتحدد السياسة الخارجية والأمنية لتركيا.
وفي السنوات العشر التي تسلّم فيها حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في تركيا، تغيرت هذه الثقافة الإستراتيجيّة، وتحول محور الخطاب الجيوسياسي بشكلٍ كبيرٍ من الدولة القومية إلى الحضارة[24]، ورغم أن الجيش حافظ مؤسسيًّا في هذه السنوات على موقعه على أّنه فاعل في توفير الأمن في العديد من قضايا السياسة الخارجية[25]، فإنه اضطر تدريجيًّا إلى تسليم مكانته في النضال المؤسسي إلى الرئاسة ووزارة الخارجية[26]. وأصبح التصميم الديمقراطي للسياسة الخارجية والأمنية ممكنًا بعد أن غدت القيادة السياسية فعالة بعد انقطاع كبيرٍ، وبعد أن تحولت العلاقة بين الدولة والمجتمع من علاقة تتفوق فيها الدولة على المجتمع إلى علاقة ندية متساوية يجري تحديدها بشكل متبادل.
وأتاحت الانتفاضات العربية التي بدأت في نهاية عام 2010 فرصة لتركيا لإحياء وتسريع الزخم الذي فقدته في الداخل على محور توطيد الديمقراطية الإقليمية[27]. ثم واجهت السياسة الخارجية والأمنية التركية تحديًا جديدًا في الداخل، عندما تغير المسار الديمقراطي للربيع العربي، نتيجة الانقلاب العسكري في مصر واندلاع الحرب الأهلية في سوريا.
وفي الوقت الذي تسبب فيه تشرذم البنية الأمنية الإقليمية في ظهور خطوط صدع جديدة، أدى توقف عملية المصالحة التي كانت قد ضعُفت في يوليو 2015 بسبب هجمات حزب العمال الكردستاني الإرهابية إلى تشكيل محور جديد لغياب الأمن[28]. كما أدى فساد بنية الأمن الداخلي في تركيا؛ بسبب هجمات داعش الإرهابية ومحاولات تنظيم غولن الإرهابي للإطاحة بالحكومة من الداخل- إلى حمل تركيا على إعادة تصميم سياستها الخارجية والأمنية بالتركيز على مكافحة الإرهاب. وتسببت موجة الإرهاب الجديدة التي أطلقها حزب العمال الكردستاني بحرب الخنادق في خلق مشكلةٍ أمنيةٍ جديدة متعددة الأبعاد في تركيا. وعندما أحسّت تركيا بأن بنيتها الأمنية الداخلية على وشك الانهيار بسبب محاولة الانقلاب التي نفّذها تنظيم غولن الإرهابي، هبت لمواجهة هذه المحاولة، وأحبطتها، وعملت على دفع الأضرار في بنيتها الأمنية من خلال التدخل عسكريًّا في الأزمة السورية، حتى تكلل بطرد داعش بعيدًا عن أراضيها، ودخلت فترةً جديدةً من النشاط العسكري لإحباط مشروع وحدات حماية الشعب الكردية الذي يمثل جناح حزب العمال الكردستاني في سوريا، ومحاولاتها في إقامة "دولة حامية/ Garrison State".
المستوى الإقليمي: التنافس الأمني الإقليمي وعودة القلق الجيوسياسي
تشكل التطورات التي حصلت في منطقة الشرق الأوسط في الأعوام الماضية النقطة المحورية للتعقيدات الأمنية الإقليمية التي تمثل المستوى الثاني لبيئة تركيا الإستراتيجيّة، إذ حصلت تغيرات وتحولات كبيرة في المناطق القريبة من تركيا، مثل بلاد البلقان والبحر الأسود وجنوب القوقاز ومنطقة البحر المتوسط، بالإضافة إلى تعقيدات التحول في الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة. لكن التحولات التي جرت في الشرق الأوسط لم تؤثر بشكل جذري في أمن تركيا وسياستها الخارجية بالقدر الذي أثّرت فيه ثورات الربيع العربي[29]. لهذا السبب، وضعت تركيا إستراتيجيّتها للربيع العربي على محور امتلاك موجة التغيير. فالإطاحة بالأنظمة الاستبدادية، وفقدان نظام الأسد سلطته في سوريا سريعًا، والافتراض بأن رياح التغيير الدولية كانت وراء الديناميكية الديمقراطية للربيع العربي، جعل تركيا تتبع إستراتيجيّة "تقود موجة التغيير"، بغية إحداث تطورات سياسية لتغيير الأنظمة الإقليمية في المنطقة.
لكن الرياح لم تجرِ بما تشتهي السفن؛ فقد أخفقت إستراتيجيّة تركيا في "قيادة التغيير" في سوريا عام 2013، لأن التحول السريع للأزمة السورية من أزمةٍ سياسيةٍ إلى صراعٍ مسلحٍ، ثم إلى صراعٍ عسكري فحربٍ إقليمية بالوكالة- حمل تركيا على تبني إستراتيجيّة هجومية تهدف إلى "الإطاحة بالنظام السوري"، من خلال اتباع إستراتيجيّة دعم فصائل المعارضة العسكرية، وذلك لتعزيز سياستها الخارجية في مواجهة النظام السوري، وإعادة ضبط موقعها الإقليمي. ثم إن الأزمة الأمنية الشاملة، بما في ذلك أمن الحدود، بالتزامن مع تحول الأزمة السورية من نزاع مسلح إلى منافسة جيوسياسية إقليمية وعالمية جديدة، دفعت تركيا إلى التحول إلى إستراتيجيّة تمكنها من تفادي المشكلات الأمنية الناجمة عن الأزمة، من خلال تغيير موقعها في إستراتيجيّة الربيع العربي الموجهة لسوريا.
في هذه الفترة، تقلصت الفرص التي كانت تركيا تأمل في اغتنامها في الربيع العربي من أجل التوجه الإستراتيجي الجديد، وذلك بسبب صمت إدارة أوباما وأوروبا على الانقلاب الدموي الذي أدى إلى الإطاحة بمحمد مرسي وزجّه في السجن في مصر[30]، وطرأت تغيرات جوهرية على إستراتيجيّة حزب العمال الكردستاني ضد تركيا، إذ أدى دعم الولايات المتحدة لإستراتيجيّة حزب العمال الكردستاني المتمثلة في التمدد الإقليمي والحكم الذاتي في سوريا- إلى زعزعة السياسة الأمنية الإقليمية لتركيا. على أيّ حال، لم تدم هذه الفترة طويلًا، وسعت تركيا للتغلب على التهديدات الأمنية القادمة من تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني من خلال إستراتيجيّة الاشتباكات العسكرية الجديدة، وأصبح التدخل العسكري فيها حلًًّا نهائيًّا. وقد بدأت هذه الإستراتيجيّة مع عملية درع الفرات في عام 2016، واستمرت مع عملية غصن الزيتون في عام 2018، وتعمّقت مع عملية نبع السلام في عام 2019.
بعد عام 2016، قدّمت تركيا إستراتيجيّة عسكرية إقليمية جديدة، وهذا زاد من قدراتها العسكرية عبر الحدود، وتطورت لتصبح لاعبًا إقليميًّا يستعرض قوته، كما يشير إلى ذلك تدخلها في ليبيا وقطر والصومال. وكانت قبل عام 2012، قد حاولت اختراق المنطقة بقوتها الناعمة مستفيدةً من كونها دولة تجارية، وتحولت في عام 2016 إلى سياسة خارجية وأمنية تستخدم الأدوات العسكرية على نطاق أوسع. وعززت تركيا ردعها العسكري في المنطقة المتاخمة لها، عندما نقلت إستراتيجيّتها في سوريا إلى البحر الأبيض المتوسط أيضًا عبر مكانتها في ليبيا، وعززت كذلك قدراتها على اتخاذ خطوات دبلوماسية وعسكرية حاسمة في الأزمات الإقليمية[31].
تكللت السياسة الخارجية الحازمة التي اتبعتها تركيا بنتائج مهمّة على صعيد التوجه الإستراتيجي: أولها أن إستراتيجيّتها أصبحت تعتمد بشكل كبير على الوسائل العسكرية، الأمر الذي تبلور جليًّا في الحرب في ليبيا وسوريا. والنتيجة الثانية هي احتمالية ظهور مشكلة التوسع الإستراتيجي في السياسة الخارجية التركية، على اعتبار أن تركيا تواجه بشكل متزايد تحديات متعددة الأبعاد. والنتيجة الثالثة هي ظهور الكتل والتحالفات الإقليمية الجديدة؛ لتقليص نفوذ تركيا في مختلف المناطق والقضايا.
في ضوء كل هذه التطورات، اتخذ المشهد الأمني التركي على المستوى الإقليمي طابعًا جديدًا يتطلب رؤية إستراتيجيّة جديدة وخريطة طريق جديدة للفترة المقبلة. والسمة المميزة الأولى لهذه البنية الأمنية الإقليمية الجديدة هي انهيار مفهوم سيادة الدولة، فالعديد من الدول في معادلة الأمن الإقليمي التركي دول ضعيفة وهشة، وتعيش حالة من الصراع الداخلي وإن كانت على مستويات مختلفة، ويتعرض فيها نظام السيادة لضغوط داخلية وخارجية خطيرة، في ناغورني قره باغ، والعراق وسوريا وليبيا، على غرار أوكرانيا وجنوب القوقاز، وسياسات روسيا الهجومية في سوريا، إلى جانب الوضع الهش في البلقان وأوكرانيا وجنوب القوقاز. يُعَدّ هذا الوضع أيضًا من بين الصفات المميزة للبنية الأمنية الإقليمية واسعة النطاق في الدول المجاورة لتركيا.
الميزة الثانية المهمّة للبنية الأمنية الإقليمية هي الضغوطات الداخلية والخارجية على الحدود[32]. فالجماعات المسلحة غير الحكومية التي أصبحت أهم لاعب في المنطقة بالتوازي مع الربيع العربي، غيرت الوضع الحدودي في الخط الجنوبي لتركيا. وهناك ضغوطات خارجية أقوى لتغيير الحدود، في المناطق التي تتناغم فيها الإستراتيجيات الإقليمية على المستوى العالمي والمنافسة الجيوسياسية المحلية. والسمة الثالثة للبنية الأمنية الإقليمية هي أن ظاهرة الإرهاب نفسها خضعت لتغيرات جوهرية، فالبلدان التي ضعف فيها مفهوم السيادة بسبب انهيار سلطة الدولة استسلمت بسرعة للإرهاب، وازداد عدد المنظمات الإرهابية على الصعيد الإقليمي. وأدى تعميق التنافس الجيوسياسي إلى تسريع سباق القوة والأمن في بنية الأمن الإقليمي، ومن هنا طرأت تغيرات على ديناميكيات التسلح على المستوى الإقليمي، فالجهات الفاعلة الحكومية تورطت بدون استثناء في الحروب الأهلية في منطقة الشرق الأوسط، إما بشكل مباشر أو بالوكالة، وأصبحت الصراعات والحروب بالوكالة تشكل الوضع الطبيعي الجديد للبنية الأمنية الإقليمية، وتقوض بصورة أساسية طبيعة "العصبية[33] الإقليمية" التي تحاول تركيا إنشاءها منذ عام 2002.
أدت البنية الأمنية الإقليمية الجديدة والأخطار الأمنية الناشئة عن المستوى الأول إلى عودة ظهور الديناميكيات التاريخية، (مثل وحدة الأراضي)، في الثقافة الإستراتيجيّة لتركيا، فالبيئة الأمنية الإقليمية كانت مرنة نسبيًّا بين عامَي 2002 و2012، وهذا وفّر مزايا لتركيا من نواح كثيرة، وغيّر هذا الوضع الجديد الطريقة التي يجري بها التعامل مع الثقافة الإستراتيجيّة التقليدية لتركيا. وبعد عام 2012، أدى مشهد الأمن الإقليمي بطبيعته التقييدية المدفوعة بالأمن إلى عودة ظهور الرموز التاريخية التي تشكل الثقافة الإستراتيجيّة لتركيا، مثل القلق الإقليمي (الخوف من الانفصال).
المستوى العالمي: عودة تنافس القوة والأمن
لا يمكن القول إن تركيا تاريخيًّا لديها أجندة سياسة خارجية على المستوى العالمي. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن السياسة الخارجية التركية لا تتأثر بالتغيرات المنهجية، وأنها لا تريد التأثير في التطورات المنهجية، أو أنها لا تحاول التكيف مع التغيرات المنهجية على نطاق عالمي، فكل دولة تسعى جاهدةً لتحقيق "الحكم الذاتي[34]" في إستراتيجيّتها على مستويات معينة في النظام الدولي. وبهذا المعنى، فإن السياسة الخارجية والأمنية التركية تتبلور على المستوى العالمي ضمن ثلاثة عناصر أساسية: العنصر الأول هو الدور الذي تؤدّيه التغيرات والتحولات والتمزقات المنهجية في سياسة تركيا الخارجية، والعنصر الثاني هو تأثير الإسقاطات العالمية لسياسات الجهات الفاعلة تجاه المنطقة الجغرافية التي تقع فيها تركيا. ومن هنا فإن الذي يحدد السياسة الخارجية والأمنية لتركيا على المستوى الإقليمي هو السمات المميزة للمجموعات الأمنية الإقليمية المختلفة التي تشكل تركيا جزءًا منها، وسياسات اللاعبين الدوليين تجاه المجموعات الجيوسياسية الإقليمية التي تشكل تركيا جزءًا منها أيضًا، والعنصر الثالث هو التفاعل الخارجي والأمني المتولد من الجهود التي تبذلها تركيا لتحديد موقعها على الصعيد العالمي. وهناك علاقة وثيقة بين هذه العناصر الثلاثة.
الشكل 1: السياسة الخارجية والمعادلة الأمنية لتركيا
المصدر: من إعداد المؤلفينِ.
تسببت التغيرات التي جرت تجربتها على نطاق عالمي في السنوات العشرين الماضية في إحداث ديناميكية إستراتيجيّة جديدة في محيط تركيا المباشر. فلم تستطع تركيا التي أعادت ترتيب وضعها على المستوى الإقليمي مع ظهور التفكك الجيوسياسي العالمي والجغرافيا السياسية الجديدة التي تطورت عقب الحرب الباردة- أن تحقق التحول المنشود بين عامي 1990-2002، وأمضت وقتًا وهي تحاول التكيف مع التحولات المنهجية العالمية، ولكن من دون جدوى. وفي عام 2002 دخلت تركيا فترة جديدة، وعاشت أزمة أمنية جديدة[35]؛ لأن آثار أحداث 11 سبتمبر لم تقتصر على الصعيد العالمي فقط، بل كانت لها آثارٌ أحدثت تغيرًّا جذريًّا في إستراتيجيّة الولايات المتحدة العالمية والإقليمية، فالعملية التي بدأت في هذا العهد مع الغزو الأمريكي لأفغانستان، واستمرت مع الغزو الأمريكي للعراق، غيّرت موازين القوى في المنطقة الجغرافية المتاخمة لتركيا، بينما شهدت منطقة الشرق الأوسط فترة النظام الأحادي القطب بمركزية أمريكا. لكن العراق في هذه الفترة بقيت خارج اللعبة ضمن نظام توازن القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، وهذا أتاح الفرصة أمام إيران لتوسيع دائرة نفوذها، فتغير طابع التنافس الإقليمي إلى حد كبير. والأهم من ذلك، شهدت هذه الفترة تفاعلًا مباشرًا بين سياسات إشراك الجهات الفاعلة العالمية وبين العمليات على النطاق الإقليمي.
تجاوزت تركيا الأزمة المالية في عام 2008 دون أي ضرر اقتصادي كبير، لكن سياستها الخارجية ذات التوجه الأوروبي ضعفت بسبب التباطؤ في عملية الاتحاد الأوروبي والتقلبات الجيوسياسية الأوروبية الناجمة عن الأزمة. ورغم أنه يبدو أنها استطاعت التغلب على هذا الضعف بين عامَي 2008 و2012، فإن تركيا واجهت في وقتٍ واحدٍ تحدياتٍ جديدةً، مثل الثورات العربية التي اندلعت في نهاية عام 2010 والتحديات العالمية والمنهجية للسياسة الخارجية التركية[36]. وبينما أدت الأزمة السورية إلى زيادة العبء على سياسات تركيا الخارجية والأمنية على نطاق إقليمي، فإنّ البيئة الجيوسياسية الغامضة والمبهمة قلصت تحرك تركيا على الصعيد العالمي.
في هذه الفترة، تبنت تركيا إستراتيجيّة عسكريةً تهدف إلى الحد من الإرهاب، وحاولت إعادة علاقاتها الثنائية المتدهورة مع الولايات المتحدة إلى مسارها الصحيح، في محاولة منها لتحديد وإدارة سياستها الخارجية والأمنية في ظل التنافس الأمني الإقليمي، وحالة عدم اليقين العالمي. وكان التدخل الأمريكي في المنطقة أحد أهم الديناميكيات التي أثرت في سياسة تركيا الخارجية والأمنية. وكذلك، تعميق إستراتيجيّة المشاركة السلبية التي انتهجتها الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط في عهد أوباما واستمرت في عهد ترامب- أثر بشكل مباشر في السياسات الأمنية لتركيا على النطاق الإقليمي. وبالمثل، أدى التنافس بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا إلى تغيير تركيا سياساتها الأمنية، مع أخذ هذا التوازن بالحسبان. وفي أعقاب انتخاب ترامب في عام 2017، برز البعد الجغرافي الاقتصادي للتنافس الأمريكي الصيني، وتفاقمت المشكلات بين تركيا والولايات المتحدة. وحاولت تركيا التغلب على الانكماش في سياستها الخارجية والأمنية بمبادرات، مثل "آسيا من جديد"، لكن جميع قضايا السياسة الخارجية التي تواجه تركيا ألزمتها على التفاعل مع الجهات الفاعلة العالمية.
إستراتيجيّة الحكم الذاتي:[37]
في الوقت الذي يشهد فيه النظام الدولي تحولًا، تحتاج تركيا إلى التعامل مع الأحداث الجارية على المستويات السياسية المحلية والإقليمية والعالمية بطريقة شاملة؛ لتنفيذ إستراتيجيّتها الكبرى فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والأمنية؛ لأن جوهر أي إستراتيجيّة كبرى يكمن في السياسة. بعبارة أخرى، يجب على القادة الجمع بين العناصر العسكرية وغير العسكرية لحماية وتعزيز مصالح بلادهم على المدى الطويل، فالإستراتيجيّة لا يمكن أن تكون ‘كاملة أو معطاة مسبقًا’[38]. والإستراتيجيّة الكبرى شأن يتعلق بوقت الحرب بقدر ما يتعلق بوقت السلم، وتظهر بتركيبٍ متوازن من الغايات والوسائل. بتعبير آخر، يجب أن تأخذ الإستراتيجيّة الكبرى بالحسبان الوسائل التي سيتم من خلالها تحقيق الأهداف، وتكاليف تحقيق هذه الأهداف. والأهم من ذلك، يجب أن تضع الإستراتيجيّة الكبرى خطة "تعزز مكانة الدولة من خلال كسب الحلفاء، وكسب دعم المحايدين، وتقليل عدد الخصوم (أو الخصوم المحتملين) [39].
ينبغي أن تكون الإستراتيجيّة الكبرى لتركيا شاملة وبراغماتية؛ تأخذ بعين الاعتبار السمات المميزة للفترة الانتقالية الموضحة آنفًا؛ من أجل تسهيل تكيفها مع ديناميكيات النظام الدولي النامي حديثًا، وينبغي أن تنفذ بشكلٍ فعالٍ سياساتها الخارجية والأمنية في "الحزام الإستراتيجي" حول تركيا، تحقيقًا لأهدافها. وينبغي في هذا السياق اعتماد محور الاستقرار والأمن المستدامين على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي عند تصميم تركيا إستراتيجيّتها الكبرى التي يجب أن تكون في قلب سياستها الأمنية الخارجية، ويجب أن يكون الهدف الإستراتيجي الرئيس لتركيا في الفترة المقبلة تعميق حكمها الذاتي. ولا يمكن تحقيق هذا الحكم الذاتي إلا إذا قامت تركيا بتطوير وتنويع فرصها.
الحكم الذاتي الإستراتيجي عبارة عن ممارسة حرة ومستقلة للعمل السياسي. بهذا المعنى، ينقسم الحكم الذاتي إلى ثلاثة أقسامٍ مقبولة عمومًا: (1) الحكم الذاتي السياسي الذي يعني القدرة على اتخاذ القرارات في مجال السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية. (2) الحكم الذاتي العسكري الذي يعني القدرة على تخطيط وتنفيذ العمليات العسكرية بشكل مستقل. (3) الحكم الذاتي الصناعي/ التكنولوجي الذي يعني القدرة الصناعية على إنتاج المواد اللازمة لإجراء كل من العمليات المدنية والعسكرية، والحفاظ على البنية التحتية للبلاد من أجل الاستقلال التشغيلي اليومي[40]. ينبغي اعتبار الحكم الذاتي الإستراتيجي نقطة على طول طيفٍ يعكس التبعيات الإيجابية والسلبية في السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية[41]. في الحالة التركية، يمكننا تعريف الحكم الذاتي بأنه إمكانية وقدرة تركيا على تنفيذ أهدافها السياسية والعسكرية عبر العلاقات الثنائية، أو من خلال التحالفات (إن كانت هناك تحالفات)، أو بمفردها إن لم يكن هناك تحالفات، من خلال وضع إستراتيجيّتها الوطنية والإقليمية والدولية في مركز أولوياتها.
يتكون الحكم الذاتي الإستراتيجي من أربعة عناصر: العنصر الأول هو القدرات المادية وغير المادية للبلاد، فالقدرة على امتلاك القوة تؤثر في مستوى الحكم الذاتي، والعنصر الثاني للحكم الذاتي الإستراتيجي هو الموارد التي تمتلكها البلاد، فهذه الموارد تحدد الأهداف الممكنة، على الأقل جزئيًّا؛ أي أنها تحدد مقدار الموارد المطلوبة لتحقيق هدف معين، والعنصر الثالث هو حرية الحركة (التنقل)، والعنصر الرابع هو المرونة التي يمكن تعريفها على أنها القدرة على التغيير أو التكيف مع التغيير في وقت قصير، وبتكلفة قليلة وجهد قليل.
توفر العناصر التي يقوم عليها الحكم الذاتي الإستراتيجي الاستخدام الفعال (تفعيل) للمهارات التي يجب امتلاكها. بهذا المعنى، تشكل القدرة على معرفة المستقبل والتنبؤ به أحد أهم مبادئ الحكم الذاتي. وهذه القدرة يجب أن تكون مدعومة بحرية اتخاذ القرارات، فالقدرة على اتخاذ قرارات حرّة هي السمة الجوهرية للحكم الذاتي الإستراتيجي. والمبدأ الثالث للحكم الذاتي الإستراتيجي هو حرية التصرف (إستراتيجيًّا). فالقدرات التي هي جزء لا يتجزأ من الحكم الذاتي الإستراتيجي يجب أن توفر أولًا مجالات الحكم الذاتي وتحافظ عليها وتعمل على توسيعها. بعبارة أخرى، ينبغي على تركيا أن تتصرف بطريقة تحافظ بها على حكمها الذاتي السياسي (الدبلوماسي) والاقتصادي والعسكري والصناعي، ثم تنشر المكاسب التي حققتها، حتى تستطيع تحقيق ‘حكم ذاتي استراتيجي قوي’ على المستويين المحلي والإقليمي المذكورينِ آنفًا.
محدودية الإمكانات لا تشير إلى الحكم الذاتي الإستراتيجي المطلق. ومع ذلك، يمكن أن يكون هناك حكم ذاتي إستراتيجي قوي وراسخ، فالحكم الذاتي القوي هو أيضًا مفتاح الاستقرار المستدام الذي يوصف بأنه جزء من إستراتيجيّة تركيا الكبرى. هذا النوع من الحكم الذاتي يشير إلى أن الدولة تتمتع بقدر كبير من الاكتفاء الذاتي على المستويات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، وأنها تؤدّي دورًا رادعًا وفعّالًا في مجال الأمن والسياسة الخارجية في المناطق القريبة منها.
ينبغي على تركيا أن تكتسب القدرات والفرص للتصرف بشكل مستقل، من أجل تحقق الاستقرار الشامل والمطلق في الداخل، وتحقق قيادتها الإقليمية من خلال استهداف الاستقرار النسبي المستدام في منطقتها. هذه الفرصة ستمكن تركيا من إنتاج سياسة وقائية فعالة، وإدارة سياسة إسقاطات القوة في نطاق التنافس على المستوى الإقليمي مع جيرانها. والأهم من ذلك، سيكون لديها القدرة على التحرّك بمفردها عند الضرورة، لحماية مصالحها الأساسية، وستكثر لديها خيارات العمل واتّخاذ القرارات الإستراتيجيّة. في نهاية المطاف، سيجعل "الحكم الذاتي الإستراتيجي القوي" من تركيا دولةً تؤدّي دورًا أكثر فعاليةً في البيئة الجيوسياسية الإقليمية، لتعلن نفسها بأنها "الدولة الرائدة" في المنطقة. بناءً على ذلك، يجب على تركيا تصميم أهداف إستراتيجيّتها الكبرى؛ لتمنع الدول الأخرى من اتخاذ موقع مهيمن، أو لتحقيق تفوق إستراتيجي في القضايا الإقليمية التي يمكن أن تقوض نفوذ تركيا على الصعيد الإقليمي.
الشكل 2: إستراتيجيّة تركيا في الحكم الذاتي
المصدر: من إعداد المؤلفينِ.
ضبط إستراتيجيّة تركيا الكبرى:
إن المجالات التي يجب أن تعطيها تركيا الأولوية في سياستها الخارجية والأمنية متنوعةٌ ومتعددة المستويات. فتصنيف هذه الطبقات يقدم منظورًا معقولًا وواسع النطاق؛ لتنفيذ تركيا لإستراتيجيّتها الكبرى. ويمكننا اعتبار ‘الطبقات الإستراتيجيّة’ لتركيا على خمسة مستويات، بدءًا من القومي وانتهاء بالعالمي، من حيث السياسة الخارجية والأمنية، رغم عدم خضوعها لأي تسلسل هرمي. وهذه الأحزمة ليست مقترحات ذات أولوية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والأمنية التركية، بل إطار عملٍ بديل لفهم معنى إستراتيجيتنا الكبرى المقترحة. ينبغي التشديد هنا على أن الحزام الأول الذي يمثل المستوى الوطني هو أمر حيوي للمشاركة السليمة في أجندات الأحزمة الأخرى. ومع ذلك، فإن هذه الأهمية لا تشير إلى ضرورة إهمال المستويات الأخرى أو التطورات الإقليمية والعالمية. على العكس من ذلك، يجب تنفيذ السياسات التركية والأجندة العامة في كل طبقة من الطبقات بصورة متزامنة، وبناء على نهجٍ شاملٍ في إطار التوجه الإستراتيجي الجديد لتركيا. علاوة على ذلك، تتفاعل كل طبقة مع عناصرها الخاصة بها، ومع الطبقات الأخرى. والتشابك بين الطبقات واضحٌ ولاسيما في بعض المناطق المحددة.
صحيحٌ أن المستوى الوطني هو أهم منطقة بالنسبة لتركيا لتحقيق أهدافها الإستراتيجيّة، ولكن لا يمكن أخذ المستوى الوطني بعين الاعتبار بمعزلٍ عن الحزام الثاني الذي يضم الدول المجاورة المتاخمة لتركيا. وبالمثل، لا يمكن عدّ منطقة الدول المجاورة بشكل منعزلٍ عن المصالح الأساسية لتركيا في سياق هدفها في تحقيق الاستقرار المستدام في المنطقة الإقليمية حيث توجد جهات فاعلة ومشكلات أخرى. ومن ناحية أخرى، تُعَدّ البدائل الإستراتيجيّة على المستويين الوطني والإقليمي ضرورية من حيث الخيارات التي ستتخذها تركيا في توجهها الإستراتيجي، وتحتوي الطبقات الإستراتيجيّة الإقليمية والدولية التي تضم مزيدًا من العناصر ذات النطاق العالمي- على خياراتٍ أكثر من احتوائها على ضروريات. لهذا السبب، هناك علاقة تدريجية وانتقال تدريجي بين الأحزمة الإستراتيجيّة.
الشكل 3: الطبقات الإستراتيجيّة للجغرافيا السياسية الجديدة لتركيا
المصدر: من إعداد المؤلفينِ.
المستوى الوطني:
لدى المستوى الوطني قدرةً على التأثير في تشابك تركيا مع الطبقات الأخرى، إما إبطاءً أو تسريعًا. في هذا الصدد، ينبغي أن تكون الطبقات الإستراتيجيّة الأولى هي المركز، إذا اعتبرنا الطبقات هي الأحزمة الإستراتيجيّة. والإخفاق في هذه المنطقة الإستراتيجيّة، أي الإخفاق في المركز يمكن أن يقضي على جميع المبادرات في الأحزمة الإستراتيجيّة الأخرى.
إن المستوى الوطني هو المنطقة التي تبدأ فيها إستراتيجيّة تركيا الكبرى لتحقيق "الاستقرار المستدام"، ومن هنا يجب أن تكون جودة الاستقرار المستدام على المستوى الوطني شاملة ومطلقة. بعبارة أخرى، الاستقرار المطلق والشامل على المستوى الوطني ليس شرطًا من أجل إستراتيجيّة تركيا الكبرى، بل جزءًا أساسيًّا من أولويات تركيا الإستراتيجيّة، ولاسيما في عملية إعادة ترتيب موضعها في ظل النظام الدولي المتغير. لهذا السبب، يجب على تركيا إنشاء البنية التحتية اللازمة لتحقيق الاستقرار المطلق في هذه المنطقة، ثم إنشاء آليات مستدامة وفعالة لإزالة العناصر التخريبية التي من شأنها الإضرار بهذا الاستقرار، وأخيرًا تطوير وتوطيد هذا الاستقرار المطلق. فالاستقرار المطلق على المستوى الوطني له بنية ديناميكية. يجب مراجعتها باستمرار في ضوء المخاطر الحالية والناشئة، ويجب الحفاظ عليها باستمرار.
يمكن القول: إن عوامل الخطر التي تأتي في الصدارة في المنطقة الإستراتيجيّة الأولى على المدى القصير والمتوسط هي الإرهاب والأزمة الاقتصادية وتعميق الاستقطاب الاجتماعي، وتدفق اللاجئين وإعادة توطينهم.
دول الجوار
المنطقة الإستراتيجيّة الثانية تشمل المناطق المجاورة لتركيا، وتضم البلدان التي تشترك معها في الحدود البرية، بالإضافة إلى المناطق البحرية والجغرافيا المتصلة التي ظهرت على السطح في السنوات الأخيرة مع تصور "الوطن الأزرق". فالتطورات في بلدان المنطقة الثانية لديها القدرة على التأثير بشكل مباشر في أمن تركيا كلّها، ويمكن القول: إنها تشكل مركز ثقل السياسة الدولية. وفي هذا السياق، لن يكون من الخطأ وصف النطاق الثاني بأنه آخر قشرةٍ واقيةٍ لتركيا قبل القلب/ المركز. وإذا كُسِرت هذه القشرة أو ضعفت، فلن يكون تحقيق استقرارٍ شاملٍ على المستوى الوطني متيسرًا لتركيا. ولكن هذه البلدان في هذه الطبقة ليس لها التأثير نفسه في السياسة الخارجية والأمنية لتركيا؛ لذلك يجب النظر إليها في مجموعتين مختلفتين، ويجب تطوير مشاركة مختلفة خاصة بكلٍّ منهما.
تضم المجموعة الأولى سوريا والعراق وإيران واليونان والمناطق البحرية الثلاث، التي لا تزال مجتمعة في قلب السياسة الأمنية المحلية والإقليمية لتركيا على المدى القصير والمتوسط. وتتكون المجموعة الثانية من جورجيا وبلغاريا وجمهورية شمال قبرص التركية، وهؤلاء الجيران أكثر استقرارًا نسبيًّا على المدى القصير والمتوسط مقارنةً بالمجموعة الأولى، ولا يُتوَقَّع حدوث تغييرات سريعة فيها.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الطبقة هي المصدر الرئيس المؤثر في استقرار تركيا على المستوى الوطني، وهي كذلك مصدر التحديات ضد السياسات الأمنية والخارجية للبلاد. ومواجهة التحديات التي تفرضها دول هذه المنطقة ستسهم بشكل مباشر في استقرار تركيا.
يجب أن تحقق سياسة تركيا تجاه الطبقة الثانية استقرارًا نسبيًّا، لا مطلقًا. على الرغم من أن تركيا تؤدّي دورًا مهمًّا في توجيه التطورات العديدة التي تحدث في جميع دول هذه الطبقة، فإن خياراتها وقدراتها قد تكون غير كافية لتوجيه هذه التطورات وحدها. ولهذا السبب، يجب أن تكون أولوية تركيا في هذا النطاق في هذه الفترة- إرساء الاستقرار والحفاظ عليه مستدامًا نسبيًّا، لا مطلقًا كما هو على المستوى الوطني.
في هذا السياق، لا يعني الاستقرار النسبي الاستقرار بأي ثمن، بل هو استقرار مستدامٌ وعرضةٌ للحد الأدنى من التنازلات. يشير الاستقرار النسبي في دول هذه المنطقة إلى خلق مستويات دنيا من الديمقراطية والتمثيل والشرعية، والقضاء على العناصر الخلافية، والحفاظ على الاستقرار بعد قيامه. والاستقرار النسبي في المناطق البحرية الثلاث هو تبني الوضع الذي قبلته تركيا، والذي جرى التوصل إليه، أو يمكن أن يتحقق من قبل الأطراف.
إنّ التطورات في فترة ما قبل الجائحة جعلت تحقيق الاستقرار النسبي والحفاظ عليه في بعض بلدان هذا النطاق الإستراتيجي صعبًا، وأبرز ما يميز المنطقة التي تضم سوريا والعراق وإيران أنها عرضةٌ للتطورات السريعة للغاية. والديناميكيات الإقليمية يمكن أن تتغير باستمرار على مستوى البلدان، بل كذلك في داخل البلدان نفسها. وفي هذا السياق، وبالتماشي مع المحفظة الجيوسياسية المتنوعة، ربما تكون الطبقات الثانية هي المنطقة التي يكون فيها مبدأ المرونة الإستراتيجيّة أكثر أهمية.
الجيران البعيدون:
نحدّد الطبقة الإستراتيجيّة الثالثة بأنها "الجيران البعيدون". تغطي هذه الطبقة المناطق التي تقع فيها تركيا أو المناطق التي تحدث فيها التطورات التي تؤثر بشكل مباشر في إستراتيجيّة تركيا الكبرى. وهذه مناطق غير متجاورة، وتؤثر في مصالح تركيا، مثل الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، وأوروبا، والبلقان، وآسيا الوسطى.
هدف تركيا في هذه المنطقة الإستراتيجيّة هو الاستقرار النسبي المستدام. وفي سياق تحقيق هذا الهدف، تخضع تركيا لقيودٍ معينةٍ في سياق التشكيل المباشر للتطورات التي تحدث في مناطق هذه الطبقة، لأن كل منطقة لها محفظة متعددة الأبعاد من الناحية الجيوسياسية، ولها خصائصها الخاصة. وتداخل الديناميكيات داخل المنطقة والقوى من خارج المنطقة في العمليات- يخلق قيودًا لا لتركيا فقط، بل لجميع الجهات الفاعلة.
ستكون تركيا قادرةً على اختبار القيود التي أوجدتها الديناميكيات الإقليمية إلى الحد الذي تحقق فيه هدف الاستقلال الإستراتيجي بما يتماشى مع هدفها الرئيس المتمثل في الاستقرار المستدام في الطبقة الثالثة. بعبارةٍ أخرى، كلما كان الحكم الذاتي الإستراتيجي لتركيا أعمق، زادت قدرتها على الحركة وتوسيع حدود إمكانياته في مناطق هذه الطبقة، وزادت قدرتها على تشكيل الاتجاهات/ التطورات الإقليمية. لذلك، فإن تعزيز تركيا لاستقلاليتها الإستراتيجيّة، سيؤدي على المدى المتوسط إلى تغيير موقعها في هذه الطبقة الثالثة، من الإحجام إلى الإقدام والفاعلية في كثير من الحالات، وستزداد قدرتها على اتخاذ المبادرة وتحديد الاتجاهات/ التطورات الإقليمية.
تكمن أهمية الطبقة الإستراتيجيّة الثالثة في إستراتيجيّة تركيا الكبرى في علاقتها المباشرة مع الطبقة الثانية، ومن هنا مع الطبقة الوطنية. فالطبقة الثانية بأكملها، وهي آخر قشرة واقية لتركيا قبل اللّبّ، تشكّل نظامًا فرعيًّا للمناطق في الطبقة الثالثة. وعندما تُعَدّ كل منطقة في الطبقة الإستراتيجيّة الثالثة نظامًا إقليميًّا، فإن الاتجاهات الناشئة في هذه المناطق تؤثر حتمًا في الجوهر الرئيس والبلدان في الطبقة الإستراتيجيّة الثانية.
لذلك، تتمتع كل منطقة من مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا والبلقان وآسيا الوسطى بمكانة لا يمكن الاستغناء عنها في إستراتيجيّة تركيا الكبرى. في الفترة الجديدة، لن يكون هناك تسلسل هرمي في النهج تجاه هذه المناطق، وسيجري حشد جميع القدرات والأدوات بشكل شامل بما يتماشى مع هدف الحكم الذاتي الإستراتيجي. وهذا لا يعني أن مستوى الاستجابة لاتجاهٍ أو خطرٍ في أي منطقةٍ هو نفسه في جميع المناطق. وفي الواقع كانت بعض هذه المناطق في فترة ما قبل الجائحة أكثر بروزًا من حيث مصالح تركيا الإستراتيجيّة، وتضمنت تحدياتٍ خطيرةً لاستقرارها في الطبقتين الإستراتيجيتين الثانية والأولى. في الفترة الجديدة، سيكون هناك وضع مماثل في السياق الإقليمي. ومع ذلك، لا ينبغي أن تؤدي الأولوية أو الإلحاح في منطقة ما إلى إهمال مناطق أخرى. بعبارة أخرى، على الرغم من عدم وجود ترتيبٍ هرميّ، يجب إعطاء الأولوية للحالات/ المناطق العاجلة، ولكن ينبغي ألا يضيّق ذلك رؤية تركيا في الطبقة الإستراتيجيّة الثالثة.
ستظل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تصدرت جدول أعمال السياسة الخارجية والأمنية التركية في العقد الماضي- أحد العناصر الرئيسة في خريطة الطريق التركية في الفترة الجديدة. في هذه المنطقة، حيث يسود غياب الاستقرار الأكبر، سيؤدّي القضاء النسبي على العناصر التخريبية مع زيادة الحكم الذاتي الإستراتيجي لتركيا دورًا حافزًا مهمًّا لتنفيذ الإستراتيجيّة الكبرى. يشهد الشرق الأوسط تغيراتٍ سريعةً في الآونة الأخيرة، وتغيرَ ميزانِ القوى على فتراتٍ قصيرة. تؤثر القوة المحركة لهذه التطورات في التحالفات وأوجه التعاون، وتصبح الأحداث الإقليمية مجزأة أكثر فأكثر بدلًًا من التكامل.
مناطق أخرى:
تغطي الطبقة الإستراتيجيّة الرابعة منطقة أوسع، وتشمل مناطق، مثل القرن الإفريقي وإفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية وآسيا. وقد جرى تطوير هذه الطبقة بما يتماشى مع إستراتيجيّة تركيا الكبرى للاستقرار المستدام من دون قيود جغرافية أو تاريخية أو ثقافية. وعلى الرغم من التعبير عن الهدف الرئيس لتركيا في هذه المنطقة الإستراتيجيّة على أنه استقرار نسبي وفقًا للإستراتيجيّة الكبرى؛ فإن الدور الذي ستؤدّيه تركيا في ضمان الاستقرار النسبي قد يختلف من منطقة إلى أخرى. بعبارة أخرى، إن تركيا لديها القدرة على الإسهام بشكل أكثر فاعلية في تحقيق الاستقرار النسبي والحفاظ عليه في بعض أجزاء هذه الطبقة الإستراتيجيّة، لكن دورها أكثر محدودية في تحقيق الاستقرار النسبي في مناطق أخرى، ومن هنا يتوجب عليها العمل على تعزيز الاستقرار النسبي بدلًا من خلقه. وفي هذا السياق، يمكن إدراج القرن الإفريقي وإفريقيا جنوب الصحراء جزئيًّا في المجموعة الأولى، بينما يمكن وضع أمريكا اللاتينية وآسيا إلى حدّ كبير في المجموعة الثانية.
وسبب وجود منطقة القرن الإفريقي، التي تضم الصومال وإريتريا وجيبوتي، في المجموعة الأولى يعود إلى الإسهام الإيجابي الذي قدمته تركيا لاستقرار هذه المنطقة في السنوات العشر الماضية. وبينما تركزت الأنشطة التركية في المنطقة بشكلٍ كبيرٍ حول الصومال في الماضي، فإن تعميق تقديم المساعدات الدبلوماسية والاقتصادية والإنمائية/ المساعدات الإنسانية من تركيا والعلاقات التي سيجري تطويرها مع إريتريا وجيبوتي واستمرارها في الصومال في الفترة الجديدة سيؤدّي دورًا مهمًّا في التقليل من عناصر الاضطراب في المنطقة، وفي إرساء الاستقرار النسبي.
تغطي إفريقيا جنوب الصحراء مناطق جغرافية واسعة من حيث الجغرافيا السياسية، وتضم 46 دولة في المنطقة باستثناء خمس دول في شمال إفريقيا وثلاث في القرن الإفريقي. فهذه الجغرافيا واسعة، وتتعدد فيها الجهات الفاعلة المعنية، ويسودها عدم الاستقرار، وقدرة تركيا على الإسهام في الاستقرار النسبي في هذه المنطقة الواسعة محدودةٌ وبعيدة الاحتمال مقارنةً بقدرتها في القرن الإفريقي. لهذا السبب، يجب أن يكون هدفها في هذه المنطقة تعزيز الاستقرار النسبي بدلًا من توفيره. وتركيا تتمتع بميزة مهمة في هذه المنطقة، هي غياب أيِّ ماضٍ استعماريٍّ في هذه المنطقة، وليس لها أي طموح ونيات استعمارية جديدة في العلاقات التي ستقيمها في الفترة الجديدة.
وأمريكا اللاتينية هي المنطقة الجغرافية الأبعد عن تركيا مقارنةً بالمناطق الأخرى، والأحدث من حيث العلاقات التي تعود إلى الفترة الأخيرة فقط. وموقع تركيا الأساسي في هذه المنطقة يجب أن يكون في الفترة الجديدة بالتأكيد- موقع تعزيز السلام النسبي بدلًا من تحقيقه. وستكون سياسة المساعدات الإنسانية ذات الأبعاد الاقتصادية والدبلوماسية جنبًا إلى جنب، أكثر بروزًا في انخراط تركيا المتنامي في المنطقة.
وآسيا، هي الأخرى، تغطي مناطق جغرافية يجري تعريفها إلى حد كبير على أنها آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأقصى من حيث الخيال الجيوسياسي. والأمر المهمّ في هذا السياق، أن تركيا بدأت مبادرة (آسيا من جديد) في فترة ما قبل الوباء في إطار سعيها لتنويع نطاق سياستها الخارجية وتوسيع رؤيتها. وتُعَدّ مبادرة (آسيا من جديد) مبادرة مهمة يمكن تكييفها مع جميع المناطق في هذا النطاق الإستراتيجي، حيث تتوقع تركيا أن تكون بارزة في الفترة الجديدة.
المستوى العالمي:
البعد الأخير في الإستراتيجيّة الكبرى لتركيا هو البعد العالمي. وهي تشمل المنظمات الدولية، وبخاصة الأمم المتحدة، والجهات الفاعلة الرئيسة في النظام العالمي. الواجب الأساسي المترتب على تركيا في هذه الطبقة الإستراتيجيّة، كما في الطبقة الإستراتيجيّة الرابعة هو تعزيز الاستقرار النسبي بدلًا من خلق استقرار نسبي. والطبقة الإستراتيجيّة الخامسة بالنسبة لتركيا، على عكس الطبقة الإستراتيجيّة الرابعة، لها ميزتان: معيارية ووظيفية.
فمن الناحية الوظيفية يتركز مجال النشاط الأساسي لتركيا في هذه الطبقة حول إحياء المعايير الموجودة على المستوى العالمي، ولكنها فقدت وظائفها. ومن الناحية المعيارية يتركز مجال نشاطها حول الجهود المبذولة لتحديد معايير/ مبادئ جديدة للتعامل مع التطورات الحالية. في هذا السياق، قد يُنظَر إلى توجيه انتقادات تركيا لنقاط ضعف النظام العالمي في فترة ما قبل الجائحة على أنه ميزة. إذ أعرب الرئيس رجب طيب أردوغان بوضوح على سبيل المثال، عن البعد المعياري لمشكلة النظام العالمي الذي جرت مناقشته آنفًا، بشعار: "العالم أكبر من خمسة" وكتابه: "نحو عالم أكثر عدلًا".
وتبقى الانتقادات الموجهة إلى النظام في فترة ما قبل الجائحة سارية فيما يتعلق بالقضايا العالمية، مثل الظلم والفقر ومسؤولية الحماية وكراهية الأجانب وحركات الإسلاموفوبيا ومشكلة اللاجئين. ستستمر هذه المشكلات والانتقادات في الهيمنة على جدول الأعمال العالمي، ومن المرجّح أن تصبح أكثر تنوعًا وأبعد مدًى في الفترة الجديدة. في هذه النقطة، يجب دعم خطاب تركيا من خلال العمل مع الدول، ولاسيما في المستويين الثالث والرابع، في الفترة الجديدة. وفي هذا السياق تدعم تركيا المبادرات التي تقترح حلولًا عالمية للمشكلات العالمية. وبهذا المعنى، تحتاج تركيا إلى إعلان وجهة نظرها وتقديم حلولها للقضايا العالمية الأخرى، وبخاصة إصلاح الأمم المتحدة، من خلال تشكيل مجموعة عمل.
الخاتمة والاستنتاج:
إن البيئة الجيوسياسية لتركيا مرشحة لتحولاتٍ وتمزقاتٍ واسعة النطاق في السنوات العشر المقبلة. فإذا اختارت تركيا تبني إستراتيجيّة مرنةٍ في سياستها الخارجية، يمكنها تجنب آثار المشكلات التي قد تنشأ خلال الفترة الانتقالية. فالمرونة هي إستراتيجيّة السياسة الخارجية التي ستزيد من خيارات تركيا، وتوسع مجالها للمناورة، وتقلل من تكاليف دورها القيادي الإقليمي.
في هذا البحث، حددنا خمس طبقات إستراتيجيّة تغطي المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية؛ لتوفير إطار تحليلي، ولمساعدة تركيا في التحضير لهذه الفترة الانتقالية، والتنقل فيها. وهذه الطبقات الإستراتيجيّة على الرغم من كونها مترابطة، فإن المستوى الوطني يشكل الجوهر الرئيس باعتباره قاطرة السياسة الخارجية والأمنية لتركيا؛ لذلك يجب اتخاذ الاحتياطات كافة ضد عوامل الخطر وعدم الاستقرار في كل طبقة إستراتيجيّة؛ لمنع ظهور تهديداتٍ أكبر، فتركيا لا تملك رفاهية انتظار تحول المخاطر في كل طبقة إستراتيجيّة إلى تهديدات، أو الرد الضعيف غير الكافي/ أو بعد فوات الأوان على المشكلات التي يمكن أن تتراكم لتصبح قضايا أكبر. وفي هذا السياق، تُعَدّ زيادة الحكم الذاتيّ الإستراتيجي أحد أهم الخيارات التي تملكها تركيا. تتمتع تركيا بفرصة تصوّر التحول الخاص بها وتطويره وتوجيهه في آن واحد، وبشكل متزامن مع عملية التحول التي تحدث في النظام العالمي، وإمكانية تعزيز مركز قوتها في مشهدٍ جيوسياسيٍّ تنافسيٍّ في منطقتها.
الحواشي:
[1] رجب طيب أردوغان، "إنّ وصول تركيا إلى مكانةٍ نموذجية في الوقاية من الوباء هو نجاحٌ مشتركٌ لنا جميعًا"، رئاسة الجمهورية التركية، (28 مايو 2020)، (تاريخ الزيارة: 4 سبتمبر 2021):
[2] Øystein Tunsjø, The Return of Bipolarity in World Politics China, the United States, and Geostructural Realism, (Columbia University Press, 2018); Clifford Kupchan, “The New Bipolarity: Reason for Cautious Optimism”, retrieved from https://valdaiclub.com/a/highlights/the-new-bipolarity-reason-for-cautious-optimism/, 21.10.2020.
[3] محيي الدين أتامان، "فيروس كورونا والمنظمات الدولية"، ستا، (22 أبريل 2020)،
https://www.setav.org/en/coronavirus-and-international-organizations/.
[4] باريش أوزدال، هل الاتحاد الأوروبي قزم سياسي، أم حشرة عسكرية؟ (بورصة: دورا، 2013). فِلز جيجي أوغلو، "هل يمكن للاتحاد الأوروبي أن يترك أزمة الثقة وراءه؟" كريتر، المجلد 5، رقم 46 (مايو 2020).
[5] محمد خليل مصطفى بكتاش، "دراسة إمكانية النظام الدولي الشرقي"، مجلة كلية العلوم السياسية بجامعة إسطنبول، المجلد 26، عدد 2 (2017)، ص 111-130.
[6] Amitav Acharya “After Liberal Hegemony: The Advent of a Multiplex World Order,” Ethics and International Affairs, Vol. 31, No. 3 (2017), pp. 271-285.
[7] John Levis Gaddis, Strategy of Containment: A Critical Appraisal of American National Security Policy During the Cold War, (Oxford: Oxford University Press, 2005).
[8] طيار آري، العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، (إسطنبول: ألفا، 2017)، ص 156-178.
[9] آري، المرجع السابق.
[10] Nuno Monteiro, Theory of Unipolar Politics, (Cambridge University Press, 2014).
[11] Acharya, “After Liberal Hegemony,” pp. 271-285.
[12] مظفر أرجان يلماز، "صعود القومية العرقية والصراعات داخل الدولة وحل النزاعات"، TESAM Akademi، المجلد 5، رقم 1 (2018)، ص 11 – 33.
[13] Acharya, “After Liberal Hegemony,” pp. 271-285.
[14] “MİKTA,” Ministry of Foreign Affairs of the Republic of Turkey, retrieved April 10, 2020, from http://www.mfa.gov.tr/mikta-meksika_-endonezya_-kore_-avustralya_.tr.mfa.
[15] Ziya Onis and Mustafa Kutlay, “Rising Powers in a Changing Global Order: The Political Economy of Turkey in the Age of BRICs,” Third World Quarterly, Vol. 34. No. 8 (2013), pp. 1409-1426.
[16] Matthew Stephen, “States, Norms, and Power: Emerging Powers and Global Order,” Millennium: Journal of International Studies, Vol. 42, No. 3 (2014), pp. 888-896.
[17] يوجل أوزال أرتان وإينال تكين (محرران)، نموذج الحرب المتغير: الحرب الهجينة، ترجمة مليح أردا يازجي ، (إسطنبول: جامعة الدفاع الوطني ، 2018).
[18] أفق أولوطاش، حالة الهمجية: تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا (أنقرة: ستا، 2017).
[19] G. John Ikenberry, Liberal Leviathan: The Origins, Crisis, and Transformation of the American World Order, (Princeton: Princeton University Press, 2012).
[20] Murat Yeşiltaş and Tuncay Kardaş (eds.), Non-state Armed Actors in the Middle East: Ideology, Geopolitics and Strategy, (New York: Palgrave MacMillan, 2018).
[21] يستخدم ابن خلدون مفهوم العصبية مفهومًا رئيسًا لتعريف التضامن الجماعي والتضامن الطبيعي والتكافل والاجتماعي والشعور الجماعي. يتم تعريفه أيضًا على أنه "المبادئ التأسيسية". انظر، أنغين سونا، "نظرية العلاقات الدولية غير الغربية وابن خلدون"، All Azimuth، المجلد 5، رقم 1 (يناير 2016)، ص 81.
[22] مراد يشيل تاش، العقلية الجيوسياسية والجيش في تركيا، (إسطنبول: منشورات قديم، 2016). علي بالجي، تصفية الحسابات في السياسة الخارجية: حزب العدالة والتنمية والجيش والكمالية، (إسطنبول: منشورات Etkileşim ، 2015).
[23] للاطلاع على الإطار العام للسياسة الخارجية خلال فترة الرئيس الراحل تورغوت أوزال، يرجى الرجوع إلى: محيي الدين أتامان، "تغيير القيادة: قيادة أوزال في السياسة الخارجية التركية، وإعادة التأسيس"، البدائل: المجلة التركية للعلاقات الدولية، المجلد 31 (2008). محيي الدين أتامان، "قيادة أوزال وإعادة هيكلة السياسة العرقية التركية في الثمانينيات"، سياسة الشرق الأوسط، المجلد. 38، رقم 4 (2002).
[24] برهان الدين ضوران، "فهم سياسات الهوية لحزب العدالة والتنمية: الخطاب الحضاري وحدوده"، Insight Turkey، المجلد. 15، رقم 1 (2013). علي بالجي ونبي ميش، "دور تركيا في تحالف الحضارات: منظور جديد في السياسة الخارجية التركية"، الدراسات التركية، المجلد 9، رقم 3 (2008).
[25] تونجاي قرداش وعلي بالجي، "الديناميكيات المتغيرة لعلاقات تركيا مع إسرائيل: تحليل التحول الأمني"، Insight Turkey، المجلد 14، رقم 2 (2012)، الموقع:
[26] نبي ميش، النظام الرئاسي التركي: النماذج والممارسات، (أنقرة: ستا، 2018).
[27] Hasan Yükselen, Strategy and Strategic Discourse in Turkish Foreign Policy, (Pagrave McMillan, 2019).
[28] Murat Yeşiltaş and Necdet Özçelik, When Strategy Collapses: The Failure of the PKK’s Urban Terrorist Campaign, (Ankara: SETA Publishing, 2018).
[29] Kılıç Kanat and Kadir Üstün, “US-Turkey Realignment in Syria,” Middle East Policy, Vol. 22, No. 4 (2015).
[30] إسماعيل نعمان ثلجي، مصر: الثورة والثورة المضادة ، (إسطنبول: ستا ، 2017).
[31] مراد يشيل تاش، "فك رموز الإستراتيجية العسكرية والدفاعية التركية"، Insight Turkey، المجلد. 22، رقم 3 (2020).
[32] شعبان قرداش، "تحول النظام الإقليمي والجهات المسلحة غير الحكومية: مسارات التمكين". يشيل تاش وقرداش (محرران)، الفاعلون المسلحون غير الحكوميين في الشرق الأوسط
[33] بمفهوم علم الاجتماع عند ابن خلدون. المترجم.
[34] المقصود هنا هو الاستقلال الذاتي للدولة في رسم سياستها الخارجية، تمييزًا عن الحكم الذاتي اللامركزي الذي يعني النظام الإداري الذي يمنح بعض الأقاليم في الدولة صلاحية ممارسة السلطة مع بقاء تبعيتها لمركز الدولة. المترجم.
[35] كمال إنات وبرهان الدين ضوران، "السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية: النظرية والتطبيق"، Demokrasi Platformu، المجلد 1 (2006)، ص 1-39.
[36] قليج بوغرا قنَات، حكاية 4 أغسطس: سياسة أوباما تجاه سوريا، (أنقرة: منشورات ستا، 2018).
[37] انظر الحاشية 31.
[38] بول كينيدي، الإستراتيجيات الكبرى في الحرب والسلام / Grand Strategies in War and Peace، الترجمة إلى التركية: أحمد فتحي، (إسطنبول: منشورات Totem، ص (14-15).
[39] المرجع السابق.
[40] Ronja Kempin-Barbara Kunz, “France, Germany, and the Quest for European Strategic Autonomy: Franco-German Defence Cooperation in a New Era,” SWP-IFRI, (2017).
[41] Şaban Kardaş, “Quest for Strategic Autonomy Continues, or How to Make Sense of Turkey’s ‘New Wave,’” GMF on Turkey, (2011).