يحمل العدد الجديد من مجلة رؤية تركية جملة من الموضوعات التي تشغل حيزا من الاهتمام إقليميا ودوليا، وما يرتبط بسياسات تركيا الخارجية والتي تشتبك مع الإقليم بشكل أو بآخر، في ظل المتغيرات والتحولات التي تشهدها المنطقة في خضم واقع متجدد ومتقلب من آن لآخر .
ونستهل مقالات العدد بمقالة كل من كمال انات وبرهان الدين ضوران والمعنونة بـ"العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران وتداعياتها الإقليمية والعالمية".
ويتناولان الباحثان التركيان ما تشهده العلاقات الأمريكية الإيرانية من اضطراب وإرباك كبيرين منذ وصول ترامب إلى السلطة، إذ مثل وصوله في أواخر عام 2016 م مرحلة فارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين والتي تجسدت في هدم ما سطرته إدارة أوباما من خلال رفع العقوبات عقب توقيع الاتفاق النووي عام 2015، ما كان له عميق الأثر على العلاقات البينية الأمريكية الإيرانية، وصلت إلى حد التلويح بالحرب العسكرية جسدته حجم العقوبات المتصاعدة والتي لم تهدأ من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على إيران حتى اللحظة .
في موازاة ذلك، لم تكن الدولة التركية بمنأى عن هذه التطورات، إذ عبرت في أكثر من موقف عن قلقها من تداعيات العقوبات الأمريكية على إيران خاصة بعد التأثيرات الكبيرة التي أحدثتها على الواقع الاقتصادي الداخلي لديها .
ومن إيران إلى لبنان حيث شهدت مؤخرا احتجاجات شعبية واسعة على خلفية فرض ضريبة على استخدام تطبيق التواصل الاجتماعي "الواتس" وعلى إثرها اندلعت شرارة التظاهرات التي لم تهدأ إلى اللحظة، فيما استقالت حكومة سعد الحريري تلبية لمطالب المحتجين الذين اتسعت دائرة مطالبهم وتمدت تطلعاتهم إلى تغيير النظام اللبناني ككل تحت شعار "كلن يعني كلن" والتي تعني اقتلاع السلطة والتنويعات الحزبية المتقاسمة معها المشهد بأكمله حتى أضحت دائرة واحدة يتهمها المتظاهرون بالفساد .
ويقدم الباحث على باكير في مقالته المعنونة بـ"الثورة اللبنانية الثانية: تحديات التغيير الجذري في لبنان" صورة شاملة حول الانتفاضة اللبنانية القائمة من خلال تناول الظروف والأسباب والمطالب التي شملت الاحتجاجات بالداخل اللبناني.
ولم يكن المشهد بالعراق مغايرا لما يحدث في لبنان إذ تعايش هي الأخرى موجة من الاحتجاجات الشعبية الواسعة في بيئة مشابهة بقدر كبير وكلاهما خرجا ضد الفساد ومطالبين بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمواجهة لم تكن ضد السلطة الحالية وحسب، وإنما ضد إيران أيضا .
ففي مقالته المعنونة بـ"احتجاجات العراق طموح شعبي يهدد أسس المحاصصة وشبكات الفساد" يشرح الكاتب العراقي "عبدالله غانم" الأسباب التي أدت إلى الانفجار القائم بالدولة العراقية، من سوء الأوضاع المعيشية والتهميش والرغبة في الحصول على الحقوق الأساسية، انطلاقا من مدن وسط العراق وجنوبه. واللافت في ما يقدمه غانم هو إبرازه لحجم التفاعل الكبير الذي حدث خلال هذه الاحتجاجات من ذوبان المذهبية وانصهار المكونات الاجتماعية والدينية العراقية في بوتقة واحدة لم يعد للطائفية فيها مكان هذا من جهة.
ومن جهة أخرى قدم الحراك الذي تجانس فيه وتلاحم كل الأعمار من شباب ومراهقين وشيوخ من تنويعات طبقية مختلفة منها ما جاء من المناطق المعدمة والمحرومة، ومنهم من جاء من خلفية علمية جامعية وأكاديمية .
مع اقتراب الثورة التونسية من إتمام عامها التاسع يقدم الباحث "عبدالله جنوف" بانوراما للمشهد السياسي هناك خاصة بعد وصول الأكاديمي الحقوقي "قيس سعيد" إلى سدة السلطة، والقادم من خارج الدوائر الحزبية التقليدية إذ ينتمي للتكنوقراط .
ويسلط الباحث التونسي الضوء على الانتخابات التي جرت خلال السنوات الفائتة والتي شملت أربعة انتخابات 2011: المجلي الوطني التاسيسي، 2014 تشريعية ورئاسية و2018 بلدية وآخرها الرئاسية والتشريعية في 2019 وينطلق منها جنوف ليؤكد على أن تلك المحطات أسهمت في تأسيس تجربة ديمقراطية.
ومن السياسة إلى الثقافة يتناول الأكاديمي المصري "خيري عمر" في مقالته المعنونة بـ"سياسات الأمازيغ والاندماج الوطني في ليبيا" الأطروحات السياسية والثقافية لجماعة الأمازيغ في الداخل الليبي وحجم ارتباطها بالمسألة الوطنية وأشكال الاندماج.
وتقع أهمية البحث في إطلالته على المسألة الأمازيغية التي لطالما مثلت جدلا كبيرا في شمال أفريقيا خاصة في السنوات الأخيرة وأشكال الهوية، في ظل تصاعد لدعوت الاثنيات والقوميات وغيرها في اللحظة الراهنة .
ويشدد خيري عمر على أن انسحاب الأمازيغ من المشهد الليبي ارتبط بعاملين أولهما: زيادة الوعي الإثني بمطالبهم بصفتهم جماعة إثنية وثانيهما تزايد الانقسامات في الدولة، ما يضع الباحث يده على أزمة حقيقية حينما يحذر من كون استمرارية الوضع المضطرب للأمازيغ في تكريس الانعزالية قد يدفعهم إلى المطالبة مستقبلا بالحكم الذاتي أو الفيدرالية .
وما يلفت الانتباه في تعاطي البحث مع الحالة الأمازيغية هو الإشارة إلى تداعيات نأي الأمازيغ بأنفسهم عن عمليات بناء الدولة في ليبيا والذي تجسد بوضوح في اتفاقية الصخيرات الشهيرة .
تنظر الدولة التركية إلى العملية العسكرية "نبع السلام" على كونها تمثل مرحلة فارقة في تاريخ السياسات الخارجية لها خاصة في الخمسة عشر سنة الأخيرة، إذ كان لـ"نبع السلام" عظيم الأثر في التأكيد على الدور الجاد والطموح الذي تلعبه تركيا في المنطقة، وفي ذلك يقدم "عمار قحف" الباحث في مركز عمران دراسات الاستراتيجية في مقالته انعكاسات عملية نبع السلام على المشهد السوري، ومدى ماحققته في نهاء الكتلة الأمنية المسيطرة والمتحكمة في المشهد في ظل وجود تركي في كل من تل أبيض ورأس العين بمباركة روسية وأمريكية.
ويخلص الباحث السوري إلى أن عملية نبع السلام نجحت لحد كبير في تغيير التوازنات الإقليمية مادفعت إلى نحو تفاهمات "اضنة" التي لم تكتمل فضلا عن كونها قد فتحت المجال أمام تركيا لهيكلة المناطق الحدودية أمنيا ثم التوجه لـ"أدلب" لإيجاد صيغة للتفاهمات الروسية - التركية هناك.
تعتبر العلاقات التركية - الإيرانية من المسائل التي تحتاج إلى فهم عميق في ظل واقع متغير ويمثل تشابكهما في كثير من الملفات الإقليمية أمورا شديدة الحساسية.
ويتناول كل من "كمال انات وشريف انات" العقوبات الأمريكية على إيران وآثارها في الاقتصاد والموقف التركيين، من خلال تسليط الضوء على سير العلاقات التركية الإيرانية البينية، والتي سادها نوع من التراجع نتيجة فرض الولايات المتحدة الأمريكية جملة من العقوبات أسهمت لحد كبير في الحؤول دون تطورها على النحو الملحوظ.
ويرى الباحثان التركيان أن كل من تركيا وإيران قد أبديا خلال العامين الأخيرين مواقف مشتركة تجاه عدد من القضايا بيد أن سياسات ترامب تجاه إيران قد لعبت دورا في تعثر الكثير منها .
ومن العلاقات التركية الإيرانية إلى العلاقات التركية الصينية وخاصة في المجال الاقتصادي والتي يقدمها كل من الباحثان التركيان "شريف ديلك" و"دنيز استقبال". ويركزان على أن للعلاقات الاقتصادية المتبادلة بين تركيا والصين أهمية قصوى على مستويات عده انطلاقا من الربحية المتبادلة ممايساعد تركيا في أن تؤدي دورا أكثر فاعلية في منطقتها وستشكل مثالا تستعين به بقية البلدان.
تمثل وكالة التعاون والتنسيق التركية تيكا واحدة من أهم المعالم البارزة وذات البصمة الواضحة للسياسة التركية الخارجية والتي تجسد البعد الوطني الخدمي التي أنتجتها الدولة منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة مع بدايات الألفية، ويسعى كل من "ارمان عقلي" و"بنجو جلنك" في مقالتهما المعنونة بـ"القوة الناعمة لوكالة التعاون والتنسيق تيكا" السمة الوطنية في السياسة الخارجية التركية إلى ابراز دور الوكالة على مدار الخمسة عشر عاما الماضية في تقديم شتى الخدمات المتنوعة والمختلفة التي تلبي حاجيات اللاجئين والمتضررين في كثير من البلدان، فيما برز دور الوكالة بشدة مع أزمة اللاجئين السوريين والتي عكست بقدر كبير الدور الوطني للمؤسسة .
ونختتم مقالات العدد بمقالتين مهمتين أولهما للباحث الموريتاني الإمام محمد محمود والمعنونة بـ دور إعادة تأهيل مصادر القوة في النهضة التركية الحديثة، وثانيهما للباحث المغربي عبدالنبي الحرى في مقالته المعنونة بـ الإسلام المعياري والإمكان التاريخي قراءة تحليلية نقدية للأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية.
يقدم الباحث الإمام محمود في مقالته قراءة استراتيجية في إعادة تأهيل مصادر القوة التركية ودورها في التنمية الاقتصادية من خلال اعتماد صياغات جديدة شملت نواحي عدة منها قوانين الاستثمار وسياسات التجارة وقوانين الصفقات، فيما عرف بعادة هيكلة اقتصاد الدولة، وتقع أهمية العمل في إبراز مسألتين مهمتين تمثلتا في استراتيجية الدولة التركية لقطاع الطاقة والمنظومة العسكرية وحجم الاهتمام بها وماشملته من تحديث المنظومات الدفاعية والاستخباراتية.
فيما قدم الباحث المغربي عبدالنبي الحرى قراءة تحليلية نقدية بالأساس الأول لكتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية" للمفكر محمد مختار الشنقيطي والذي يقدم رؤية نظرية منهجية تتمحور حول قراءة المدونة التراثية الإسلامية قراءة جديدة.