رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

  الديناميكات السياسية الاجتماعية لتنظيم غولن الإرهابي ومحاولة انقلاب 15 تموز

تتناول هذه الدراسة كيفية تحول تنظيم غولن الإرهابي الذي يملك تاريخًا طويلًا يمتد إلى أربعين عامًا- من بدايته بوصفه حركة "خدمةٍ" إلى تنظيمٍ إرهابيٍّ. ومن خلال دراسة الديناميكات السياسية الاجتماعية للتنظيم تناولت الدراسة أساليب التنظيم في هيكلة تشكيلاته، ومصادر الحوافز التي يملكه في مسيرته حتى 15 تموز. 

   الديناميكات السياسية الاجتماعية لتنظيم غولن الإرهابي  ومحاولة انقلاب 15 تموز

 

  ملخص بعد المحاولة الانقلابية في 15 تموز شهد المجتمع التركي للمرة الأولى إجماعًا حول تنظيم غولن الإرهابي،  وقد نجحت السياسة التركية والمجتمع التركي في عملية 15 تموز في تحقيق انعطافٍ كبيرٍ، مبديًا تضحياتٍ كبيرة. وعلى الرغم من كونها المحاولة الأوضح والأشد دمويةً إلا أنها لم تكن المحاولة الانقلابية الأولى التي نفّذها تنظيم غولن، إذ حاول هذا التنظيم إسقاط الحكومة مراتٍ كثيرةً، مستعملًا تكتيكاتٍ وإستراتيجياتٍ مختلفة.    

تتناول هذه الدراسة كيفية تحول تنظيم غولن الإرهابي الذي يملك تاريخًا طويلًا يمتد إلى أربعين عامًا- من بدايته بوصفه حركة "خدمةٍ" إلى تنظيمٍ إرهابيٍّ. ومن خلال دراسة الديناميكات السياسية الاجتماعية للتنظيم تناولت الدراسة أساليب التنظيم في هيكلة تشكيلاته، ومصادر الحوافز التي يملكه في مسيرته حتى 15 تموز.  كما سُلِّط الضوء على المحاولة الانقلابية في 15 تموز، ودراسة التفاعلات التي شكّلها، وتناولت على وجه الخصوص ردود أفعال الغرب والولايات المتحدة الأمريكية تجاه الأحداث. وأخيرًا،  كما تناولت الدراسة أيضًا توصيات بشأن إعادة الهيكلة التي تجري في تركيا.

 

المدخل

تركت ليلة 15 تموز أثرًا عميقًا في تركيا، سواء أكان ذلك في قدرها السياسي أم في الحياة الاجتماعية للمجتمع، فالمحاولة الانقلابية في 15 تموز 2016 التي كانت صادمة لملايين الناس دفعت عشرات الآلاف إلى النزول إلى الشوارع، وأدت إلى إصابة الآلاف بالجروح، وفقد المئات منهم حياته. وكان من نتيجتها أن حقّق الشعب انتصارًا في الدفاع عن ديمقراطيته وقيمه وصوته الانتخابي. كذلك أثبتت هذه الليلة حقيقة الكيان الموازي وخيانته، وتسليم شرائح واسعةٍ من الجماهير بواقع هذه الحقيقة للمرة الأولى.

يمكن الحديث عن هذا الكيان الذي يعمل منذ 40 عامًا من خلال شبكة العلاقات الراسخة التي أسّسها يومًا بعد يومٍ حتى غدا أكثر فاعليةً وشمولًا، وعدم تجاهل هذا الواقع التراكمي عند تحليل عملية 15 تموز يحمل أهميةً كبيرةً لإدراك جذور الموضوع؛ لذلك لابدّ من استقصاء كيفية انتشار تنظيمٍ كهذا، يملك القدرة على تنفيذ مخططٍ بهذا القدر من السرية والدموية في دولةٍ مثل تركيا، وكيفية إقامة تحالفاته، أو الكشف عن كيفية إضفاء الشرعية على نفسه خلال مسيرته الطويلة.

ولابدّ عند النظر إلى الإطار التاريخي لهذا التنظيم من الإحاطة بأساسه النظري، وأرضيته الفكرية، كما ينبغي فهم طريقته في جمع أنصاره والمتعاطفين معه. فهذا التنظيم الذي يصف نفسه بأنه حركةُ خدمةٍ، ويضع نفسه موضع الإسلام المعتدل- يُلاحَظ أنه يعتمد في نشر تأثيره على المدارس والمؤسسات التي أنشأها في البلد بشكلٍ خاصٍّ. وإقدام هذه البنية على الاستثمار في مجالٍ ذي مكاسب مستردَّةٍ على المدى البعيد، مثل التعليم- لا يمكن اعتباره حملةً غير منطقية. فبهذه الطريقة، يشكل التنظيم منظومته الخاصّة به، ويبعث برسالةٍ موجَّهةٍ إلى تركيا مفادها: "من خلال تأسيس المدارس التركية أمثل تركيا هناك تمثيلًا حسنًا"،  ويحقّق الفوائد المادية والمعنوية التي يرجوها من خلال التلاعب بالمشاعر الدينية للمتعاطفين معه.

وقد أظهرت عمليات 17-25 كانون الأول أن هذه البنية التي وجهت ضربةً قانونيةً ضد السلطة الحاكمة، وسحبت نفسها إلى الخطوط الخلفية، أو أظهرت نفسها في ثوب البراءة- هي في الحقيقة كيانٌ موازٍ تغلغل إلى معظم مؤسسات الدولة. وهذه العملية إلى جانب كونها تشكِّلُ نقطةَ تَحَوُّلٍ في السياسة التركية؛ تشير أيضًا إلى انطلاق مرحلة صراعٍ فعّالٍ بعد هذا القدر من الوضوح في الحالة الخطرة التي اتّخذها تنظيم غولن الإرهابي. وتحليل الأحداث التي جرت خلال هذه السنوات منذ عمليات (17 – 25) كانون الأول إلى 15 تموز يكشف الطرق التي استخدمها في سبيل إسقاط الحكومة.

إن هذا البحث يعكف على دراسة طبيعة التاريخ الذي اجتازه تنظيم غولن الإرهابي، أو المخطط الخفي الذي يملكه، ويتناول الأرضية الفكرية التي يقوم عليها، من خلال دراسة المراحل التي مرّ بها حتى 15 تموز، فالعمل على تحديد الموقف، إلى جانب النظر إلى الرسائل التي يتضمنها نصّ بيان الانقلاب الذي تُلِي في تلك الليلة- يرسم لنا خريطةً ندرك من خلالها فهم عقلية الذين يقفون وراء الانقلاب، فالتغيرات التي أحدثتها المحاولة الانقلابية في تاريخ 15 تموز تركت أصداءً واضحةً داخل البلاد وخارجها. ولابدّ هنا من  تحليل الأصداء المختلفة، ولاسيّما ردود الأفعال في الغرب والإعلام الغربي، من أجل الوقوف على مجموعةٍ أوسع من الآراء المختلفة. وختامًا، قدمت لنا واقعة 15 تموز أشكالًا جليةً من الوعي، كانت في مقدمتها الحاجة إلى إعادة هيكلية تركيا من جديد، والبحث في اقتراحات لبحث المتغيرات المحتملة ذات الحساسية الحرجة. 

  1. تنظيم غولن: من حركة خدمة إلى تنظيمٍ إرهابيّ

مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA القديم في منطقة تركيا غراهام أ. فوللر، باعتباره واحدًا من مهندسي مشروع "الإسلام المعتدل"، لا يزال بعد 15 تموز يرى في غولن "أحد أبرز الوجوه الواعدة في الإسلام"،  وقد رحبت الولايات المتحدة الأمريكية بحركة غولن في أواخر أعوام التسعينيات من القرن الماضي بطريقة مماثلة لتلك التنظيمات الإرهابية[1] التي تشكلت نتيجة بعض السياسات الأمريكية، كما هو ظاهر في نموذج القاعدة .

إنّ تنظيم غولن الذي عرّف نفسه بأنه "حركة خدمة معتدلة"، وحافظ على وجوده منذ ما يزيد على أربعين عامًا- تحول إلى تنظيم إرهابي، ووجد محطته الأخيرة في ترتيب انقلاب عسكري، واستطاع أن يوجه الدبابات على الناس. وإنّ قصّة هذا التنظيم الذي اتبع سياسة تحوّل راديكالي في مركزه، بمثابة حكاية امبراطوريةٍ معنويةٍ انتهت إلى تشكيل كيانٍ موازٍ تغلغل في أجهزة الحكومة في مستوياته المتعددة، وكوَّن تشكيلاتٍ متنوعة المظاهر، مثل المؤسسات التعليمية، وبيوت الطلبة. وهذا الكيان الديني المتعدد المستويات أراد أن يحتكر حكومة تكون ورقةً رابحةً في أيدي الأطراف الدولية.

ويمكن أن يكون فهم شيفرات هذا التحول في حركة غولن وسيلةً لمعرفة طبيعة التحوّل الذي سيجري في هذه الحركة بعد 15 تموز.  والأهم من كلّ شيء هو أن حكاية حركة غولن مختلفةٌ فريدةٌ، تختلف عن حركات "النور" المرتبطة ببعضها، كما يقول أعضاء التنظيم. ويُذكَر أن العناصر الأساسية لحركة غولن هي وفق الآتي: بنيةٌ هرميةٌ صارمةٌ تتمركز حول المشرفين "آبيلر" والأئمة، وتعليمٌ دينيٌّ بسيطٌ وحيدٌ يحمل توجهاتٍ تقديسيةٍ لزعيم، ومخطط ينتشر للزمن، وشبكة علاقاتٍ شموليةٍ قائمةٍ على أساس السيطرة على حياة الأتباع، وآليةُ مراقبةٍ قائمةٍ على أساسٍ استخباراتيٍّ للسيطرة، وتصورٌ غيبيٌّ يقدِّرُ النجاحات.

لقد تبوأ هذا التنظيم موقع تنظيمٍ "إسلاميٍّ معتدلٍ" نتيجة العمليات التي شارك فيها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لتحقق نجاحًا أكيدًا في تركيا. وقد أظهر التنظيم قدرته وفاعليته من خلال قضيتّي بايلوز وأرغنكون، وعمليات 17-25 كانون الأول، وكانت محاولة انقلاب 15 تموز أشدّ عملياته تطرفًا. وإنّ تعريض هذه الحركة حرية المسؤولين ووظائفهم وعائلاتهم إلى الخطر بأمرٍ صادرٍ من غولن كشف بشكلٍ جليٍّ استبداد هذه الحركة، وقسوتها، وعنصريتها، وسماتها المتطرفة[2].

ويملك هذا التنظيم إلى جانب تنظيمه العسكري بنيةً قانونيةً واقتصاديةً أيضًا، وقد تجلى تنظيمه القانوني في النظام القضائي في قضيتّي بايلوز وأرغنكون، واستطاع من خلال المجلس الأعلى للقضاة والمدّعين العامّين (HSYK) ولاسيّما بعد استفتاء 2010 السيطرة على النظام بشكلٍ تامٍّ تقريبًا، واستخدم النظام القضائي بشكلٍ مخالفٍ للدستور؛ لتأمين دخول أشخاصٍ من التنظيم إلى مؤسساتٍ كثيرةٍ، وفي مقدمتها مؤسسة القوات المسلحة التركية TSK.

ثم جاء دور استهداف الحكومة وحزب العدالة والتنمية بالذات، من خلال أزمة مؤسسة الاستخبارات الوطنية MİT في 7 شباط (2012)، ومؤامرة 17 - 25 كانون الأول (2013)، لكن الإجراءات الحكومية بداية عام 2014 وضعت حدًّا لتأثير تنظيم غولن في القضاء بشكلٍ كبيرٍ. وفي نهاية المطاف انتُزِعت السلطة الفعلية في القضاء من يد تنظيم غولن نتيجة انتخابات المجلس الأعلى للقضاة والمدّعين العامّين (HSYK) في 2014، وقد تبيّن أن التنظيم كان مسيطرًا على نظام القضاء بشكلٍ كاملٍ تقريبًا، فبادر القسم الأكبر من أعضاء النيابة العامة والقضاة الذين اطّلعوا على نشاطات هذا التنظيم إلى تجاوز خلافاتهم، ووضعوا نصب أعينهم الوقوف في وجه هذه البنية التي تتجاهل المبادئ القانونية لأغراضٍ خفيةٍ مهما كلف ذلك من ثمن، واجتمعوا في بنيةٍ باسم المنصّة الموحدة في القضاء، وفازوا في الانتخابات.

انتُخِب أعضاء قائمة هذه المجموعة من المحافظين، واليساريين، واليمينيين، والقوميين أو من عُرِفوا بالعلويين- أعضاءً في المجلس الأعلى للنيابة العامة والقضاء (HSYK)، واستطاعوا خلال العامين الماضيين أن يحقّقوا إدارة تعدّدية ناجحة[3]. وهذه البنية التي تحولت فيما بعد إلى جمعية الوحدة القضائية تشكّلُ وحدها نموذجًا مهمًّا للصراع مع تنظيم غولن. إن فهم الخلفية النظرية التي تمنح القوة لتنظيم غولن بالإضافة إلى هذه الهيكلية القانونية التي حُلَّت- ستوفر لنا مفاتيح بنية تنظيم غولن الاجتماعية السياسية.

  1. فهم الأساس الفكري للمحاولة الانقلابية

على الرغم من أنه أصبح حقيقة معروفة في وقتنا الحاضر، فإن محاولة انقلاب 15 تموز أظهرت شبكة أتباع غولن في الجيش فحسب. فمعلومٌ أن تنظيم غولن استخدم البيروقراطية المدنية، وتنظيمات المجتمع المدني، إضافة إلى القضاء من أجل زيادة نفوذه، ومع ذلك بقي تشكيل التنظيم في الجيش يحمل أهمّية خاصة في سبيل تحقيق أهدافه، ويكشف عن السبب المهمّ في وقوف فتح الله غولن إلى جانب الانقلابات والمجالس العسكرية التي لها الكلمة المهمّة في السياسة التركية رغم عملية التحول الديمقراطي التي تميز بها عهد حزب العدالة والتنمية، وقد سبق أن وقف محيّيًا الانقلابيين في انقلاب 1980، وعدّه يقظةً ونهضة.

وأثنى غولن على جَويك بير المهندس الأول لانقلاب ما بعد الحداثة في 28 شباط، وذلك في رسالة إشادةٍ أرسلها إليه في نهايات 1997[4]. ورغم ازدياد السياسة المدنية قوةً في عهد حزب العدالة والتنمية؛ استمر أتباع غولن في وضع الجيش في موقع مركزيٍّ؛ ليجعلوا من الانقلاب الذي تقوم به القوات المسلحة ورقتهم الرابحة الأخيرة في حال إخفاقهم في محاولاتهم الأخرى. وكان من إستراتيجياتهم الأساسية في الانتشار؛ إعداد الطلاب منذ مرحلة التعليم المتوسط من أجل امتحانات القبول في الثانويات العسكرية، واختيار فريقٍ خاصٍّ من الجماعة الطلابَ الأذكياء من الشرائح الضعيفة اقتصاديًّا، وفرزهم إلى شققٍ خاصةٍ بالأعضاء المرشحين للثانويات العسكرية، وقولبتهم اعتقاديًّا واجتماعيًّا بإشراف هذا الفريق. ومن المحتمل جدًّا أن التنظيم بذل في السنوات المبكّرة عناية كبيرة في التنشئة البدنية والعقلية للأولاد، لكنه مع اتساع تغلغله، وبدء استلامه مواقع مهمّة في الجيش أخذ يتراخى في معايير اختياره لهؤلاء.

وهكذا عمل تنظيم غولن على تشكيل حياة الطلاب الشخصية، وإنشاء شبكاتٍ خاصةٍ مرتبطةٍ به، وتم في هذا السياق وضع قيودٍ على أداء الطلاب عباداتهم، فلا يؤدونها إلا خفيةً، ومنح لنفسه الحق في علاقاتهم بأسرهم، وتدخل في اختيار هؤلاء الطلاب الفتيات اللواتي يرغبون في الزواج منهن. وتمكن التنظيم بهذه الخطوات من تبديد كل الشبهات في سلامة هذه الشبكات، وسلامة ارتباطها بالتنظيم. 

كما أخذ أتباع غولن من أجل السيطرة على الثانويات العسكرية -إلى جانب تسلمهم مقاليد الأمور في الجيش- ينفذون الأوامر التي يتلقونها من هذه المجموعة بعد دخولهم في تركيبة الجيش، ويبادرون إلى العمل من أجل تحويل بقية الطلاب إلى عناصر تابعة لغولن[5]. ولا شك أن محاولة 15 تموز لم تكن المحاولة الأولى التي قام بها تنظيم غولن لقلب الحكومة.

  1. المحاولات الانقلابية التي قام بها تنظيم غولن قبل 15 تموز

تعرضت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى محاولة انقلاب المذكِّرة في 27 تموز 2007، وإلى عمليات مداهمات 17-25 كانون الأول، ثم بدأت أزمة مؤسسة الاستخبارات الوطنية باستدعاء رئيس مؤسسة الاستخبارات الوطنية هاقان فيدان إلى التحقيق في 7 شباط 2012، فكانت بمثابة الخطوة الأولى في محاولة تنظيم غولن الانقلابية، لكنها كانت محاولةً لم تؤت أكلها كما يريد التنظيم، وتمكنت الحكومة من تجاوزها.

ثم تلتها مرحلة التدخل القضائي في 17-25 كانون الأول، فكانت محاولةً أخرى لقلب الحكومة من خلال مزاعم الفساد التي نسجها تنظيم غولن، ومهّدت احتجاجات منطقة تقسيم (غازي بارك) في آذار 2013 الأرضية الاجتماعية والنفسية لهذه المحاولة.

                فقد وُجِّهت اتهامات كاذبة لـ55 مركَبَةً تابعةً للاستخبارات الوطنية بتغذية داعش والإرهاب استنادًا إلى أخبارٍ ملفّقة، وكثَّف حزب العمال الكردستاني في نهاية عملية الحلّ جهوده من أجل قلب الحكومة، وازدادت كثافة هذا النوع من الأساليب بمعدل كبير في الظروف التي باتت تقف عقبة أمام المحاولات الانقلابية، حتى جاءت ليلة 15 تموز باعتبارها أكبر مثالٍ كاشفٍ لحقيقة تنظيم غولن[6].

  1. 15 تموز: الليلة الأطول في التاريخ التركي القريب

في اللحظة التي بدأت صور الدبابات تنتشر خلال وسائل التواصل الاجتماعي وهي تغلق مداخل الجسور، وتتناقل الأحاديث عن بدء العسكريين بتنفيذ المحاولة الانقلابية، بدأت الرسائل الواضحة تأتي من قبل المسؤولين، فقد اتصل كل من رئيس الوزراء بن علي يلديرم ووزير العدل بكير بوزداغ مباشرة بالقنوات التلفزيونية، وأعلنا أن مجموعة متمردة خارجة عن التسلسل العسكري تقوم بمحاولةٍ انقلابيةٍ، وأن الدولة والحكومة قائمة على رأس عملها، ووجها الدعوة إلى الشعب للدفاع عن الديمقراطية.

تلا ذلك اتصال رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بقناة CNN  التركية من خلال هاتفه الخليوي، ظهر فيه وهو يدعو الشعب للنزول إلى الشوارع، واستجاب الشعب لندائه، وتمكّن من التصدّي للمحاولة الانقلابية التي نفّذها طَغامٌ يقودهم فتح الله غولن، وباءت المحاولة بالخيبة والخسران.

هاجمت المجموعة الانقلابية من أتباع غولن التي تسللت إلى القوات المسلحة التركية ولاسيّما سلاح الطيران- مجلس الأمة التركي الكبير، ورئاسة هيئة الأركان، ومؤسسة الاستخبارات الوطنية، وقيادة شرطة العمليات الخاصة، وأكاديمية الشرطة، مستخدمة سلاح الدولة وقنابلها من أجل السيطرة على الحكومة الشرعية المنتخبة، وقطعت جسر السلطان محمد الفاتح، واستولت على مطار أتاتورك الدولي أيضًا، وأوقفت حركة الطيران، واستولت على قنوات التلفاز الرسمية TRT، وبثت منها بيانها الانقلابي بثًّا حيًّا ذكّرنا بانقلاب 12 أيلول 9801. وحاولت الهجوم على المركز الإقليمي لحزب العدالة والتنمية.  

إن التاريخ السياسي التركي تعرّض للعديد من الانقطاعات نتيجة الانقلابات العسكرية المتعاقبة، في سنوات 1960 و1970 و1998 و2007. وقد شكل عام 2007 علامة فارقة تمكّن فيه السياسيون المدنيون لأول مرةٍ من إحباط محاولة الانقلاب العسكري، وتدفق الشعب والسياسيون إلى الشوارع إيمانًا منهم بوجوب الوقوف في وجه الانقلاب. وإن قيام الطَّغامِ الانقلابيين بفتح النار على المدنيين وقوات الأمن علامة فارقة أيضًا تحدث للمرة الأولى، وقد قتل في خضمّ هذا الوضع المضطرب عدد من الانقلابيين وأضعافهم من الناس الأبرياء[7]. وينبغي التوقف هنا في هذا الإطار عند حراسة الديمقراطية التي مثّلت مظهرًا من المظاهر الشخصية القيادية لأردوغان، ومظهرًا لإيمان الشعب.

  • شخصية أردوغان القيادية وحراسة الديمقراطية

               

بعد النهاية الدموية في 15 تموز كان لابدّ من تطبيع صورة أردوغان أيضًا لدى الجناحين، فنحن نواجه أمامنا عهدًا يتطلب من الجهات الفاعلة في جناح السلطة الذين يحيلون المجازفة والصراع وبذل الجهود إلى أردوغان- أن يكونوا أكثر استعدادًا للمخاطر، وأكثر بذلًا للجهود، ويجب على كل شخص أن يؤدّي ما هو مطلوب منه في موقعه وضمن مسؤولياته بشكلٍ أفضل، وأن يكون أكثر جدية في العمل من أجل إنشاء نظام ينسجم مع متطلبات العهد الجديد، فنحن نواجه عهدًا لا يقبل الإهمال والتسويف والتململ، وعلى جناح السلطة أن يفكّر مرةً أخرى في المفهوم الذي وصلت إليه قيادة أردوغان، فالجميع بات يعرف حق المعرفة أن القيادة الحقيقية لأردوغان في تركيا لم تأت من "سلطته" فحسب، بل تتعلق قبل كل شيءٍ من "طوعيته" و" تضحيته" إلى جانب "مهارته".

كما يجب أيضًا تطبيع صورة أردوغان لدى جناح المعارضة، كما هو الحال في جناح السلطة، بل ما تحتاجه المعارضة إلى هذه الصورة أكبر. فالهجوم استهدف الشعب جميعًا، وكان المطلوب هو وضع جميع شرائح المجتمع بما فيه الأحزاب السياسية في مأزقٍ، ولو نجح الانقلاب لخسر الجميع، ولكن تجاوزنا هذا البلاء بقيادة رجب طيب أردوغان، وهذه القيادة ليست مرتبطة بالموقف الذي اتخذه أردوغان في 15 تموز فحسب، ولا شك أنه لولا هذا الموقف لكان الانقلابيون نالوا ما أرادوا، لكن هذا الموقف سبقته خطواتٌ اتخذها أردوغان من أجل إنهاء تنظيم كيان الدولة الموازية، وخطوات في سبيل نشر الوعي لدى المجتمع حول طبيعة هذا الكيان، وكونه تنظيمًا إرهابيًّا، فكان لهذه الخطوات دور كبير حاسم في إحباط محاولة الانقلاب.

إن نزول الشعب إلى الشوارع، ووقوفه أمام الدبابات والأسلحة، وإظهاره الدعم المادي والمعنوي لقوات الأمن- كانت له أهميةٌ كبيرةٌ في الصراع مع الطَّغامِ الانقلابيين، وقد أظهر الشعب التركي مرةً أخرى أنه شعبٌ واحدٌ، وسهر الليالي الكثيرة الممتدة من 15 تموز إلى منتصف آب لمواجهة أي انقلابٍ محتمل، واحتشد في الميادين، في رسالةٍ للذين تراودهم عقولهم في الانقلاب.  

وجاء اللقاء الذي عُقِد في 7 آب في ساحة يني قابي ليرسل رسالة إلى العالم كلّه، ويظهر للعالم كلّه- أن تركيا بدأت حياةً جديدةً بروحٍ جديدة، وأنها نهضت واقفة على قدميها، فالشعب أدرك أن هذا البلد يُرَاد له الاحتلال، وأن الاستعمار يعزّز المنظّمات الإرهابية، ويعمل على تسريع مبادرات الانتفاضة الشعبية، ويعمل على خلق ظروف الاقتتال الداخلي، ويتدخل بلا وجه حقٍّ في تفاصيل السياسة الداخلية، وأن هذا الاستعمار قد أشعل حربًا قذرةً ضد هذا البلد.

وقد أثبت هذا الشعب من خلال بقائه في الساحات أنه يدافع عن إرادته، وأنه سيبقى مدافعًا عن بلده ووطنه وعلَمه وأراضيه ودولته. أدّى ذلك وهو يسير نحو الدبابات بصدورٍ عاريةٍ، ويقدّم الشهداء في 15 تموز، وقف صامدًا في موقفه هذا وهو يحرس الوطن والديمقراطية ليلًا ونهارًا. وتحوّلت الساحات إلى ميادين لتنشئة اجتماعيةٍ وتفاعليةٍ جديدة. كانت الميادين للشعب بكل معنى الكلمة، وكانت تعلو على وجوه الناس فرحة القيام بدورهم في معركة الحق، وفرحة الخلاص من الاحتلال. ومن المفيد هنا تحليل البيان الذي قرأته مذيعة قناة TRT1 تحت تهديد السلاح، وما يتضمنه من رسائل، في لحظة أوج ثقة الانقلابيين بالنصر في ليلة انقلاب 15 تموز[8].

  • شيفرات بيان الانقلاب

بيان انقلاب 15 تموز كان يستهدف الإدارة السياسية بشكلٍ مباشر، وجاء على ذكر بعض المخالفات المزعومة في النظام السياسي، على أنها أسباب أساسية للانقلاب، وهي تتضمن الأمور الآتية: "انتهاك الدستور والحقوق والقانون"، و"تقييد الحقوق والحريات الأساسية"، و"إفساد واقع النظام العلماني الديمقراطي القانوني"، و"تخطيط أجهزة الدولة عقائديًّا"، و"إدارة الدولة باستبداد قائم على التخويف"، و" وزيادة الإرهاب"، و"الفساد"، و"فساد النظام القانوني". أجل، كانت كلمات البيان خاليةً من التنسيق الداخلي، ولم تلق أيّ تجاوبٍ من الشعب التركي.

ذكر البيان أن النظام السياسي فقد شرعيته نتيجة القضايا المذكورة آنفًا، وأَعلن تعطيل الحكومة، وعلى الرغم من أن البيان ذكر العلاقات الدولية وأنه سيُعاد تنظيمها؛ إلا أنه لم يرد أي إشارة إلى الاتحاد الأوربي. وبدلًا عن ذلك ورد في البيان الانقلابي مايأتي: "تطوير علاقاتٍ قويةٍ في سبيل تحقيق السلام على المستوى الدولي"، و"اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتنفيذ الالتزامات القائمة مع الأمم المتحدة وحلف الناتو والمؤسسات الدولية  الأخرى"[9].

  1. 15 تموز والتفاعلات

بعد هذا الاستعراض للقوة أمام شرائح المجتمع ظهرت بيئةٌ جديدةٌ من التفاعل في الساحة السياسية، وتكلّم قادة أحزاب المعارضة ضد الانقلاب، وكان ردهم إيجابيًّا لنداء أردوغان، ثم عقد مجلس النواب جلسةً طارئةً في البرلمان، وصدر  بيانٌ مشتركٌ وقع عليه الأطراف الأربعة[10]. لم يشهد التاريخ السياسي الحديث في تركيا مثل هذا الموقف الموحّد من قبل. علاوةً على ذلك دُعِيَ الحزب الحاكم (حزب العدالة والتنمية) ، وحزب المعارضة الرئيس (حزب الشعب الجمهوري)، وحزب اليمين المتطرف المعارض (حزب الحركة القومية)- إلى القصر الرئاسي في بش تبه. وأشارت الصورة التي جمعت أردوغان، ورئيس الوزراء بن علي يلدريم، وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال قليجدار أوغلو،  ورئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي في جلسة اللقاء- إلى أن نقطةً مهمةً تم تجاوزها في السياسة التركية. وكما يعرف المتابعون للسياسة التركية عن كثب أنّ أحزاب المعارضة نفّذت حملاتها الانتخابية في الانتخابات الأربعة الأخيرة من خلال معارضة أردوغان، ولاسيّما في الانتخابين الماضيين، وكانت الانتقادات الشديدة  تدور في إطار القصر الرئاسي وبنائه.

يمكننا أن نلاحظ أن مرحلة السلام والحوار والتطبيع بدأت تسري في السياسة التركية بعد 15 تموز، وتقلّص العداء الذي لا أساس له من صحّةٍ ولا منطق في السياسة التركية ضد أردوغان إلى حدّ كبير، على الرغم من استمرار وجوده في العالم الغربي. يعتقد الشعب التركي أن الشخصية القيادية لأردوغان كان له أثرٌ كبيرٌ في التغلب على المحاولة الانقلابية، ويسود اعتقادٌ عامٌّ لدى الناس بأن سلوك أردوغان في ليلة المحاولة الانقلابية، وكفاحه المستمر في السنوات السابقة ضد تنظيم غولن غير الشرعي- كان له الأثر الفعال في التغلّب على الانقلاب. وأنّ العامل الآخر الذي ظهر بعد 15 تموز هو التوجه السياسي الإيجابي لدى الناس، فقد شاهدنا النشاط السياسي لشرائح كبيرةٍ من المجتمع، لا من خلال الإدلاء بأصواتها في صناديق الاقتراع فحسب، بل بالنزول إلى الشوارع من أجل حماية صوتها بشكلٍ فعالٍ أيضًا، وعلى الرغم من أن الإعلام الغربي تناول التوجه السياسي المحدود الذي شهدناه بالنسبة للأحداث التي وقعت خلال احتجاجات حديقة تقسيم في عناوينه الرئيسة- إلا أنّ هذا التوجه السياسي الكبير الذي شهدناه في 15 تموز لم يجذب انتباه وسائل الإعلام الغربية للأسف، والحقيقة الأخرى التي ظهرت في الحياة السياسية الاجتماعية التركية بعد 15 تموز هي ازدياد النشاط السياسي والبيروقراطي والمجتمع المدني والإعلامي.

وعلى الرغم من الصدمة الكبيرة التي حدثت عقب محاولة طُغمة غولن الانقلابية؛ فإن الاقتصاد لم يشهد أي تراجعٍ أو وهنٍ، وفُتِحت الأبواب أمام حل المشكلات الهيكلية في السياسة التركية، واندفعت منظمات المجتمع المدني لبذل جهودها بشكلٍ مكثَّفٍ من أجل إعادة تأهيل المجتمع، وشرعت وسائل الإعلام في العمل على مواجهة إعلام العالم الغربي الذي ترك تركيا تواجه مشكلاتها بنفسها، وإصلاحِ الدمار الذي حلّ بالطريق البيروقراطي، وبذلت جهودًا مكثّفةً من أجل التكيّف مع العهد الجديد بشكلٍ أكثر مهنية[11]، ولايزال الوفد التركي الذي يبذل جهودًا كبيرة من أجل إعادة فتح الله غولن يواصل التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تسليمه.

ونحتاج في هذا الصدد إلى تحليل العلاقة بين فتح الله غولن والولايات المتحدة.

  • أ‌- فتح الله غولن و الولايات المتحدة الامريكية

عندما نطرح سؤالًا حول تحرك القيادات السياسية الأمريكية في عملية 15 تموز، لا تظهر أمامنا مع الأسف صورة إيجابية لصالح تركيا، فقد مارسوا الضغط، ونشروا الرعب في المصادر الأساسية للأخبار، وهاجموا تركيا، متجاهلين تمامًا المبادئ الأساسية للصحافة، وقد حاول مسؤولان أمريكيان بعد المحاولة الانقلابية مباشرة تصوير الوضع في تركيا على أنه صراع على السلطة بين فريقين متنافسين، (وكأن هناك قوتين شرعيتين تتجهان نحو الحرب الأهلية).  في الوقت نفسه كان رد فعل حكومة الولايات المتحدة على الأحداث التي نفّذها تنظيم فتح الله غولن الإرهابي على شكل إسكات بعض الأصوات المعارضة- وهذا تصوير خاطئ[12].

ومن حقنا هنا أن نسأل لماذا دافعت أمريكا عن الانقلاب؟ ولماذا تخلت عن مساعدة تنظيم غولن؟ ولماذا تحاول واشنطن تغطية آثار غولن؟ أيًا كان الجواب على ذلك؛ فإنها جميعًا تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد مواصلة التعاون مع تنظيم غولن حتى تضع تركيا في مسارها. ويذكر هنا أن مستوى المعلومات التي يملكها تنظيم غولن، [واتساع شبكتها في الأجهزة البيروقراطية] جعله مرشحًا لدى حكومة الولايات المتحدة على أنه ّقوة جديرة بالاهتمام.

كما يبدو  أن  تسليط التحقيقات الرسمية  الضوء على جرائم تنظيم غولن ستُخرج علاقات واشنطن مع غولن من كونها شأنًا خارجيًّا، وتجعله شأنًا داخليًّا، وعندما يظهر تورط مجموعة تعيش في أمريكا في المحاولة الانقلابية بشكلٍ جليٍّ سيكون هناك عددٌ من الأسئلة التي يجب أن تجيب عنها أمريكا، وسيجعل الأشخاص الذين يسمحون بوجود غولن في أمريكا مسؤولين أمام القانون، وأمام الشعب، وقد قدم غولن طلبًا لأمريكا التي تستضيفه من أجل السماح له بالبقاء فيها؛ لعلمه علم اليقين بما ستؤول إليه المرحلة المقبلة. ونظرةٌ عامةٌ إلى الغرب، وردود أفعاله ولاسيما بعد إعلان حالة الطوارئ- تبين سيادة لغةٍ تحذيريةٍ متزايدةٍ، تتركز على حقوق الإنسان[13].

  • ب‌- موقف الغرب من إعلان حالة الطوارئ

في أعقاب إعلان حالة الطوارئ التي تستدعيها حماية الحقوق الديمقراطية؛ سارعت وسائل الاعلام الغربية إلى تسميتها بالديكتاتورية الإسلامية، واتهام رجب طيب أردوغان بتعزيز السلطات المتطرفة، بل الزعم بأنها انتقام من قبل أردوغان. ولم يقتصر هذا الموقف على الغارديان والإيكونوميست، بل تحركت وسائل الإعلام الأمريكية والألمانية والبريطانية على الخط نفسه بتعبيرات مختلفة[14]، ومنذ الساعة الأولى أسرعت وسائل الإعلام الغربية إلى وصف عرقلة محاولة الانقلاب بـ"الشعبوية" و"الجهادية"، بل "الفاشية" أيضًا، وأبدت انزعاجها من تعزيز  قوة أردوغان، ولم يكن من المستغرب رفع أصواتهم بالاتهام بهذا الشكل في مواجهة حالة الطوارئ.

يمكن للنهج الإقصائي الموجه للديمقراطية والمدنية أن يتحول إلى حالة من الاستشراق والإسلاموفوبيا في ظل الحديث أن حقوق الإنسان أكثر أهمية من الديمقراطية، فلندع الديمقراطية الآن جانبًا؛ أليس الأمن والاستقرار على كل حال يُعدّ مكسبًا ورفاهيةً لشعوب الشرق الأوسط؟ فإن كانت هناك مبادرةٌ شعبيةٌ عامةٌ؛ فإنها لن تكون سوى قوة التكتلات المدمّرة. وهنا يتهمون أردوغان بتدمير الديمقراطية التي خاطر الشعب بحياته من أجل حمايتها. وإنّ تقييم الإعلام الغربي للانقلاب باعتباره انقلابًا تم تحريفه- ليس له علاقةٌ بجهلها أو قلة معلوماتها. وينطبق هذا على الموقف الهجومي للإعلام الغربي بامتياز. ويظهر هنا أن الرد الديمقراطي والمدني على محاولة انقلاب تنظيم غولن الإرهابي شكّل واقعًا مهمًّا لإحباط حملة "الدكتاتور" التي استهدفت أردوغان. وإنّ اتفاق الشعب التركي حول الرد على الانقلاب منح الفرصة للحدّ من الارتباك الذي حصل في السياسة الداخلية منذ احتجاجات حديقة تقسيم في عام 2013. لهذا السبب يعملون جاهدًا لتخريب التقارب الشعبي القائم حاليًّا بذريعة أن أردوغان يريد الانتقام، ويسعون إلى دفع الحكومة المنتخبة الحالية إلى أوضاعٍ خلافيةٍ حساسةٍ، ولا يريدون لغضب الأحزاب المعارضة ضد أردوغان أن يهدأ[15].

الخاتمة

لا شك أننا كنّا شهودًا على محاولة الانقلاب العسكري لتنظيم غولن الذي عمل على توسيع نفوذه من خلال التعاون مع أطرافٍ معينةٍ في مستوياتٍ معينةٍ لأكثر من 40 عامًا. وقد حاولت في هذه السطور أن أشرح  التغيرات التي خضع لها هذا التنظيم الذي يملك أبعادًا عسكرية وقانونية وأخلاقية واقتصادية مختلفة، ونقاط ضعفه التي يتمتع بها.  ويمكن أن نقول في ضوء هذه المعلومات إن انعطافًا حادًّا حدث في منحنى السياسة التركية؛ نتيجة توافق القادة السياسيين والشعب، شرعت خلالها بمحاربة هذا التنظيم بطريقةٍ فعالةٍ بعد 15 تموز. فقد تعرفت تركيا إلى الأحداث والمبادرات التي ارتبطت بتنظيم غولن خلال السنوات الأربعين الماضية، وبادرت إلى مواجهة هذه الحقائق. وهنا يجب أن نفهم ما يأتي: إن تركيا على وشك التخلص تمامًا من أمثال هذا التنظيم، وأنه ينبغي قراءة الأحداث الجارية وردود أفعال الشعب قراءةً جيدةً، وإجراء التحليلات من أجل المستقبل. فتركيا بلدٌ يستضيف عددًا كبيرًا من المجتمعات والجماعات الدينية، ومن الضرورة بمكانٍ فهم تطور هذا التنظيم، وأساليبه في جَمْع المتعاطفين والأتباع، وإستراتيجياته في التعامل مع الشعب، وأرضيته الفكرية- لحماية مستقبل تركيا من اعتماد هذا التحوّل الذي حدث في تنظيم غولن من قبل المجموعات الأخرى. وسيتبين لنا نتيجة هذا الاستعراض أن تركيا بحاجة إلى إعادة هيكلتها، وإعادة إنشاء علاقاتها القائمة.

وعندما ننظر إلى الأسباب التي تدفع باتجاه إعادة هيكلة تركيا، نجد أنه لابدّ قبل كل شيءٍ من اتخاذ خطواتٍ باتجاه تأميم الدوائر المحلية غير السياسية، مثل البيروقراطية المدنية والعسكرية. فالمشكلة الأساسية في البيروقراطية هي أن الكمالية أو الغولنية على حدٍّ سواء بعيدةٌ عن الجماهير، وأنها ليست ديمقراطيةً بما فيه الكفاية. وهم يستخدمون بيروقراطية العناصر السياسية اليعقوبية (الجاكوبية) بدلًا من استخدام البيروقراطية من أجل خدمة الجماهير- لفرض معتقداتهم، وخدمة مصالحهم الخاصّة؛ لهذا السبب يكون المطلوب عند الحديث عن البيروقراطية المذكورة هو التحول الهيكلي ثنائي الأبعاد.

البعد الأول هو التحول في العقلية، وأساس هذا التحول قائمٌ على إعادة تقييم العلاقات الاجتماعية العسكرية، ويتطلب أيضًا إعادة التقييم بشكلٍ يتمّ فيه التأكد من أن المواد المستخدمة في التدريس العسكري والقانوني تتماشى مع قيم الشعب وتقاليده. كما يجب التأكد من أن العسكريين قد اكتسبوا العقلية الديمقراطية، وأن نظرتهم إلى الجماهير والمدنيين نظرة إيجابية. والبعد الثاني هو التنظيم، إذ ينبغي أن تكون البيروقراطية شفافةً، ومفتوحةً، وقادرةً على تقديم الحساب أمام الجماهير.  ومقياس نجاح هذين البعدين هو ضمان أن تكون البيروقراطية جزءًا من السياسة، وأن تتركز مهمتها في الحفاظ على استمرارية الدولة. وفي النتيجة، يجب أن يتشكل توازن بين البيروقراطية التي تتغير وفقًا للسياسة، وبين الحفاظ على استمرارية الدولة.

وينبغي تعزيز البيروقراطية بالنظام الرئاسي، فالميزة الرئيسة للنظام الرئاسي هي أنه يعكس إرادة الأمة في السياسة، ويضمن الاستقرار، وهذه الميزة تعزّز السياسة، وتحمي إرادة الأمة من التدخلات غير السياسية، وإنّ تعديل دستور جديد، وإطار قانوني جديد في النظام القائم؛ سيعزز السياسة ضد أطراف، مثل تنظيم غولن، ويجعل النظام أكثر صمودًا. 

وأخيرًا، ينبغي على الفور اتخاذ الخطوات اللازمة من أجل تعزيز استقلال البلاد، وتعزيز دورها في الأوساط الدولية، وإضفاء الطابع المؤسسي على الوحدات المدنية غير السياسية، وينبغي أن يرافق الاستقلال السياسي الاستقلال الاقتصادي والعسكري والثقاف؛ ولذلك ينبغي اعتماد النموذج الإنتاجي والصناعي في الاقتصاد، كما ينبغي اتباع سياسةٍ أمنيةٍ ذاتيةٍ قائمةٍ على التصنيع العسكري الذاتي، وسياسةٍ تعليميةٍ وثقافيةٍ منسجمةٍ مع القيم الثقافية والعالمية. 

إن تركيا بعد 15 تموز تحتاج -باختصار- إلى تجديد طابعها المؤسساتي، لكن هذا التجديد لا يكون بالعودة إلى القيم الجمهورية، ولاسيما الهوية العلمانية كما يزعم الكماليّون. فالأساس الأيديولوجي لتركيا عام 1930 لا يتوافق مع الظروف الوطنية والدولية لتركيا الحالية؛ لذلك تجب مراجعة وجهات نظر الأطراف الكمالية، مع الأخذ بعين الاعتبار التغييرات الجذرية التي حصلت في المجتمع التركي والعالم، وإجراء التغييرات اللازمة. ولا تتحقق نظرية تركية المستقلة القوية بالمفاهيم العلمانية الغربية التي لا أساس لها، ولا يالمفاهيم الجيوسياسية الروسية، بل من خلال اعتماد مفهوم جيوسياسيٍّ قائمٍ على أساس القيم المحلية والوطنية، ونظرة واقعية للعلاقات الدولية الحالية، بحيث تكون تركيا في مركزها. 

الهوامش والمراجع:  

 

*  عضو الهيئة التدريسية في جامعة "مدنيات" في إسطنبول، قسم العلوم الاجتماعية، والمنسق العام لمركز وقف الأبحاث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (SETA) في إسطنبول.

 

[1]Fuller, Graham E. The Gulen Movement Is Not a Cult — It’s One of the Most Encouraging Faces of Islam Today. Temmuz 22, 2016. (accessed Eylül 23, 2016).

[2] Duran, Burhanettin. "The Emergence of FETÖ: From the Service To a Terrorist Organization." In The Triumph of Turkish Democracy, by Fahrettin Altun and Burhanettin Duran, 63-74. İstanbul: SETA Vakfı, 2016.

[3] Göçler, Kemal. Milliyet Websitesi. Ekim 13, 2014. http://www.milliyet.com.tr/hsyk-da-8-asil-uye-yargida-gundem-1953614/ (accessed Eylül 23, 2016).

[4] Barlas, Mehmet. Gülen'den Çevik Bir'e mektup. 2016. http://www.yenisafak.com/arsiv/2000/ekim/16/dizi.html (accessed Eylül 23, 2016).

[5] Ulutaş, Ufuk. "Understanding the Ideational Sources of the Terrorist Coup Attempt." In The Triumph of Turkish Democracy, by Fahrettin Altun and Burhanettin Duran, 44. İstanbul: SETA Vakfı, 2016.

[6] Köse, Talha. "From a Hybrid Coup to Military One: The Path Leading to July 15 and Beyond." In The Triumph of Turkish Democracy, by Fahrettin Altun and Burhanettin Duran, 53-56. İstanbul: SETA Vakfı, 2016.

[7] Altun, Fahrettin. "Gülenist Coup Failed, Democracy Won." In The Triumph of Turkish Democracy, by Fahrettin Altun and Burhanettin Duran, 13-16. İstanbul: SETA Vakfı, 2016.

[8] Altun, Fahrettin. Erdoğan'ın Liderliğini Yeniden Düşünmek. Temmuz 21, 2016. http://www.sabah.com.tr/yazarlar/fahrettinaltun/2016/07/21/erdoganin-liderligini-yeniden-dusunmek (accessed Eylül 23, 2016).

[9] Tuğsuz, Nigar. "The Codes of the Coup Declaration." In The Triumph of Turkish Democracy, by Fahrettin Altun and Burhanettin Duran, 57-59. İstanbul: SETA Vakfı, 2016.

[10] Çelik, Kubilay. Anadolu Ajansı Web Sitesi. Temmuz 16, 2016. http://aa.com.tr/tr/15-temmuz-darbe-girisimi/tbmm-darbe-girisimine-karsi-ortak-bildiri-yayinladi/609173 (accessed Eylül 23, 2016).

[11] Altun, Fahrettin. Daily Sabah Website. Temmuz 29, 2016. http://www.dailysabah.com/columns/fahrettin-altun/2016/07/29/side-effects-of-the-july-15-coup-attempt (accessed Eylül 23, 2016 ).

[12] Hauslohner, Abigail , Karen DeYoung , and Valerie Strauss. Washington Post Websitesi. Ağustos 3, 2016. https://www.washingtonpost.com/national/hes-frail-77-and-lives-in-pennsylvania-turkey-says-hes-a-coup-mastermind/2016/08/03/6b1b2226-526f-11e6-bbf5-957ad17b4385_story.html (accessed Eylül 23, 2016).

[13] Kanat, Kılıç Buğra. "The Coup, FETÖ, and USA." In The Triumph of Turkish Democracy, by Fahrettin Altun and Burhanettin Duran, 132-135. İstanbul: SETA Vakfı, 2016.

[14] Economist. Economist websitesi. Ağustos 20, 2016. http://www.economist.com/news/europe/21705362-turkeys-global-dragnet-anyone-it-links-coup-extradition-quest (accessed Eylül 23, 2016).

[15] Duran, Burhanettin. "Declaration of State of Emergency and West's Hipocracy." In The Triumph of Turkish Democracy, by Fahrettin Altun and Burhanettin Duran, 136-138. İstanbul: SETA Vakfı, 2016.


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...