رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

تقاطع العلاقات التركية الروسية: المواءمة الذكية والتنافس المرن

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الجوانب المشتركة للإستراتيجيات الكبرى بين تركيا وروسيا، في إطار تقييم سياسة البلدين تجاه سوريا وليبيا والإمارات وجنوب القوقاز، حيث تتقاطع مصالح البلدين بين الحين والآخر. ويمكن تعريف العلاقات التركية الروسية بشكل أفضل من خلال مفهومين رئيسين، هما "المواءمة الذكية" و"التنافس المرن"؛ إذ لا يمكن عدّهما دولتين صديقتين ولا عدوتين، حيث يقفان في منطقة الوسط، التي نرمز إليها بالمنطقة الرمادية، وتجمعهما مصالح مشتركة. يطرح الباحثان في نهاية هذا البحث بعض السيناريوهات المقترحة لشكل العلاقات الثنائية التركية الروسية المستقبلية.

تقاطع العلاقات التركية الروسية: المواءمة الذكية والتنافس المرن

مقدمة

تتكون منهجية هذه الدراسة من إطارين نظريين، حيث يستعرض الإطار الأول من الدراسة مفهوم الإستراتيجية الكبرى من خلال مراجعة الدراسات السابقة المتعلقة بالأمن القومي التركي والأمن القومي الروسي وديناميكية الرؤية المستقبلية للبلدين.

وبدلًا من شرح الإستراتيجيات الكبرى لتركيا وروسيا بشكلٍ منفصل تقدم الدراسة نموذجًا لديناميكية الدولتين: تتكون الديناميكية الأولى من انعدام الأمن الجيوسياسي الذي يحيط بمفهوم الأمن القومي وظاهرة مساعدة الذات، بينما تتكون الديناميكية الثانية من تشارك الطرفين في الفرص والمخاطر التي يخلقها النظام العالمي الحالي، حيث يؤثر التغيير الهيكلي للنظام العالمي في كلا الطرفين.

يستعرض الإطار الثاني من الدراسة مفهوم الإستراتيجية الكبرى، الذي ذُكِر سابقًا؛ لتوضيح العلاقات التركية الروسية من خلال مفهومي المواءمة الذكية والمنافسة المرنة. أولًا: سيجري تحديد هذه المفاهيم وفقًا للافتراضات النظرية للواقعية الهجومية والدفاعية، ثم سيجري تقييم العلاقات التركية الروسية في ضوء الأحداث الإقليمية ذات الصلة بالبلدين، وأخيرًا سيكون هناك تحليل مستقبل العلاقات التركية الروسية من خلال استعراض سيناريوهاتٍ بديلة.

شرح مفهوم الإستراتيجية الكبرى

 تُعَدّ الإستراتيجية الكبرى أعلى شكل من أشكال إدارة الدولة، وهي البنية التي تشكل هيكل السياسة الخارجية للدولة؛ بهدف تمكين الدول والمجتمعات من البقاء والإزدهار في بيئة غير آمنة للنظام الدولي. لذلك فإن إنشاء إستراتيجية كبرى أمرٌ صعب للغاية، حتى بالنسبة للقادة الأذكياء، بالإضافة إلى التهديدات التي تواجه الأمن القومي والمصالح الوطنية والموارد؛ لذلك تُعَدّ الإستراتيجية الكبرى إطارًا للعلاقات النزيهة التي يجب أن تُفهَم على أنها جزء من القوة الطبيعية التعددية. ولمواجهة هذه التحديات يجب على الدول تطوير قدراتها العسكرية والدبلوماسية وإنشاء بنية تحتية حديثة وآمنة قادرة على التطور والتوسع.[1]

إنَ أهم ما يميز الإستراتيجية الكبرى هو قدرتها على حشد جميع وسائل القوة المتاحة: الدبلوماسية، والعسكرية، والمعلوماتية، والاقتصادية بما يتماشى مع أهدافها.[2] في هذا الصدد، من الضروري مواءمة الغايات غير المحدودة مع الوسائل المحدودة، وتحديد مصادر القوة الحالية والمحتملة على أنّها عوامل تابعة. ولوضعها بشكل دراماتيكي[3]، فإنه لا يمكن عَدّ التمنّي إستراتيجية، فلو وضعت دولة أهدافًا تفوق قدراتها وموارد قوتها فلن يكون بوسعها إنجاح إستراتيجيتها الكبرى[4]، لذلك يجب تحديد دور الدولة الحقيقي في النظام الدولي، وأخذ الأهداف العامة التي تريد الدولة تحقيقها بعين الاعتبار من قبل صانعي القرار السياسي عند وضع إستراتيجياتها الكبرى، وفي هذا السياق فإن طبيعة الإستراتيجية الكبرى تتطلب تغييرها وتطويرها بما يتوافق مع التغيرات الهيكلية لنظام الدولة، إذن عدم وجود إستراتيجية كبرى موحدة وشاملة للدولة يعني سياسة خارجية معقدة وفوضوية/ ومن ثَمّ ستواجه الدولة مشكلات كثيرة.[5]

يُعرّف باري بوزين "الإستراتيجية الكبرى" بأنها نظرية لسلسلة الوسائل السياسية العسكرية، وهي نظرية الدولة التي تمكّنها من تحقيق أمنها واستتبابها.[6] من هذا المنطلق تركز الإستراتيجية الكبرى على التهديدات العسكرية؛ إذ تشكل خطرًا وتهديدًا لأمن الدولة، ويؤكد بوزين أهمية الأساليب العسكرية رغم تكلفتها الباهظة في القضاء على هذه التهديدات، ومع ذلك يرى أنّ حل النزاعات الدولية بالوسائل العسكرية لوحدها أمر أشبهُ بالمستحيل[7]، ومن وجهة نظر العلاقات الدولية، فإن مدى نجاعة استخدام القوة العسكرية في تحقيق غاياتها أمرٌ نسبي، هذا وغالبًا ما تتضمن التهديدات الأمنية العسكرية وغير العسكرية التي تصدر من جهاتٍ مختلفة.

لذلك تشكل الإستراتيجية الكبرى أعلى مستوى، وجسرًا يربط بين المؤسسة العسكرية وأدوات القوة غير العسكرية في الدولة.[8] أمّا بول كيندي فهو يعرّف الإستراتيجية الكبرى بشكلٍ أوسع، حيث يضع القدرة الاقتصادية في الصدارةِ ومقدمةِ الأهداف، ووفقًا لكيندي فإنّ الإستراتيجية الكبرى لا تتعلق بالحرب فقط بل بالسلام أيضًا، ويضيف بأن الإستراتيجية الكبرى تتمحور حول تطور وتكامل السياسات التي يجب العمل بها لعقود، أو حتى قرون، وبعباراتٍ أكثر واقعية، ينبغي أن لا يقتصر تفكير رجال الدولة على كيفية كسب حرب فحسب، بل عليهم التفكير بتكلفة الحرب، ولاسيما من الناحية الاقتصادية[9]، لذلك لا تتضمن الإستراتيجية الكبرى رؤية مستقبلية فقط، بل إشاراتٍ وحقائق من الماضي أيضًا، من خلال تقييم عناصر القوة الحالية والمحتملة في الميدان، وهيكلية النظام الدولي.

ترتبط الرؤية التي تضعها الدولة ارتباطًا وثيقًا بدورها في النظام الدولي، ومن المهم إنشاء دور مستقل ومتكامل فيما يتعلق بعناصر القوة الحالية والمحتملة للنظام، وعلى الأقل إذا لم تحاول الدولة وضع أهدافها بنفسها فهناك قُوى أٌخرى ستضع لها أهدافها بدلًا عنها.[10] هذا ويعتمد نشاط الدولة على قدرتها في إحداث التغيير اللازم للحفاظ على مكانتها في النظام الدولي، حيث يعتمد تحسين أي دولة لمكانتها في النظام الدولي بمدى انسجامها مع هذا النظام. إنّ ضمان الأمن القومي جزء لا يتجزأ من تنفيذ الإستراتيجية الكبرى، حيث تشكل التهديدات التي تواجه الأمن القومي أكبر عقبة أمام هذه الرؤية، ومن هنا فإنَ تقييم التهديدات الأمنية بشكل صحيح يُعَدّ أمرًا بالغ الأهمية من منظور الإستراتيجية الكبرى.

الديناميكية الأولى: انعدام الأمن الجيوسياسي والمساعدة الذاتية

تُعَدّ الجغرافيا الجوهر الأساسي للجغرافيا السياسية، حيث يشكل كل من الهيكل الطبوغرافي للدولة والمنطقة التي تقع فيها، وخصائص جيرانها- العناصر الأبرز للتصور الجيوسياسي للدولة. وتؤثر هذه العوامل الهيكلية بشكلٍ مباشر ومستمر في عملية صنع القرار السياسي، ولاسيّما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، لذلك يمكن القول إنّ الجغرافيا السياسية توجّه الدراسات السياسية من خلال القواعد والأحكام التقديرية التي تحددها، من خلال إقامة علاقة سببية بين الجغرافيا والسياسة.[11]

 تؤدّي العوامل الجغرافية السياسية دورًا مهمًّا في تشكيل السياسة الوطنية والإستراتيجية الكبرى، حيث تؤثر في عملية صنع القرار السياسي من خلال استغلال الفرص ومواجهة التهديدات، على سبيل المثال وجود دولة محاطة بالبحار أو دولة لها حدود مشتركة مع منطقة نزاع، أو تفتقر إلى المرتفعات الطبيعية- يعني أنّها ستتأثّر بهذه العوامل في أمنها القومي حتمًا.[12]

تتبوّأ مشكلات الأمن الجيوسياسي المحور الرئيس الموجّه نحو الأمن في الإستراتيجية الكبرى لروسيا وتركيا، بعبارةٍ أخرى تصدر تهديدات الأمن القومي لروسيا وتركيا من الطبيعة المعقدة للجغرافيا السياسية للبلدين، لذلك كرّست تركيا وروسيا جهودهما للحفاظ على أمنهما الخاص، ووضعتاه في سلّم أولوياتهما بعد الحرب الباردة. إنّ دفاع كل دولة عن نفسها[13] يذكّرنا بمبدأ المساعدة الذاتية، حيث لا يوجد قانون يمنع دولة من استخدام القوة العسكرية ضد دولةٍ أخرى، ومن هنا تكافح الدولة التي تتعرض لهجوم من أجل البقاء[14] عبر التصدي للتهديدات المحدقة بها والعمل من أجل البقاء ومعالجة التهديدات الأمنية الناتجة عن النظام الفوضوي، واتخاذ إجراءات مثل زيادة قوتها وأنظمتها الخاصة وقدراتها العسكرية.[15]

روسيا: وقف الاحتواء

من وجهةِ نظرٍ جيوسياسية، تؤثر الأراضِي الروسية الشاسعة ومعالمها الجغرافية الفريدة في تصورها الأمني وعلاقاتها مع الدول الأخرى على مدى التاريخ، ويحيط سهل أوروبا الشرقي بالحدود الغربية لروسيا، وهي أرضٌ منبسطة خالية من العوائق الطبيعية.[16] وهذا عرّض روسيا للاعتداءات من الغرب لعدة قرون، وذلك بسبب طبيعتها الجغرافيا. وما تزال تشكل إستراتيجية احتواء الاتحاد السوفييتي التي طرحتها الولايات المتحدة في خطتها الإستراتيجية الكبرى خلال الحرب الباردة عاملًًا أساسيًّا في انعدام الأمن الجيوسياسي الحالي في روسيا.[17]

يُعَدّ الأمن الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها النظام الروسي الذي عمد إلى استخدام السياسة التوسعية الدفاعية، إذ واصلت روسيا إقامة مناطق عازلة بين حدودها والدول المحيطة التي تُشكل تهديدًا لها.[18] فقد أقامت روسيا السوفيتية علاقات جيدة مع الغرب بعد عشرِ سنوات من الحرب الباردة تحت مظلة أمن الغرب والولايات المتحدة، بينما كانت تواجه صراعًا من أجل البقاء بسبب التهديدات الداخلية[19]، وعلى النقيض أدّت سياسات الناتو التوسعية التي امتدت إلى أوروبا الشرقية ودول البلطيق عام 1999 وعام 2004 إلى إثارة المخاوف الروسية من تجديد سياسة الاحتواء.[20]

 كذلك تسبب انضمام جورجيا لحلف الناتو بخلق مشكلةٍ حقيقة عام 2008 وهو ما دفع روسيا لشنّ هجومٍ عسكريّ واجتياح جورجيا. وفي عام 2014 تكرّر الموقف نفسه عندما قامت روسيا باجتياح شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. في الواقع، إنّ جميع المؤشرات الدالة على نية روسيا لاستخدام القوة العسكرية في المنطقة جرت الإشارة إليها بوضوح في إستراتيجية الأمن القومي للاتحاد الروسي حتى 2020 الذي نُشر عام 2009. وفي وثيقة تنصّ على إنشاء مجمعات حدودية متعددة الوظائف، وزيادة فعاليات الدفاع عن حدود الدولة تحت شعار حل مشكلات أمن الحدود (وبخاصةً على الحدود مع كازخستان وأوكرانيا وجورجيا وأذربيجان)[21] حيث كشفت هذه الوثيقة حقيقة انعدام الأمن الجيوسياسي على الحدود الروسية. تنص وثيقة إستراتيجية صادرة عن الأمن القومي الروسي التي نشرت عام 2015 على تشكيل الغرب والولايات المتحدة جبهة معارضة ضد تعزيز قوة روسيا الدفاعية، وهذا يشير إلى أنّ سياسة الحرب الباردة والاحتواء ما تزال قائمة.[22]

بدأ التهديد الروسي ضد الناتو والاتحاد الاوروبي يأخذ أبعاده بعد التدخلات الغربية في جورجيا وأوكرانيا، لكنّ سياسة روسيا تجاه جنوب القوقاز (وسنحلّل ذلك في القسم الثاني من هذه الدراسة) وهذه التهديدات ليست مرتبطة بشكل مباشر مع بعضها بعضًا، إلا أنّ التدخلات الروسية في مناطق الصراع الثلاث كلّها تجتمع على أرضية مشتركة؛ للحفاظ على الاستقرار على حدودها؛ بعبارة أخرى تعتمد روسيا على الاستخدام النشط للقوات العسكرية لضمان أمنها القومي.

 تركيا: تدمير طرق الإرهاب

تُولي تركيا اهتمامًا بالغًا بعلاقاتها مع النظام الدولي، الذي يستلزم أحيانًا استخدام القوة العسكرية خارج نطاق حدودها من أجل مصلحة الأمن القومي.[23] يُعَدّ موقع تركيا الجيوسياسي سلاحًا ذا حدين؛ وذلك لقرب تركيا من شرق البحر الأبيض المتوسط وبحر قزوين، وقربها أيضًا من مصادر الطاقة في الشرق الأوسط؛ إذ تقع تركيا في مكان ذي أهمية حيوية؛ لنقل الموارد الى أوروبا خاصة، وهذا يضع تركيا في موقع مركزي قوي، ومن جهة أخرى فإنها تقع أيضًا بالقرب من مناطق النزاع الساخنة على الساحة الدولية التي تجعل البلاد تواجه تجربة جيوسياسية صعبة،[24] وهناك سبب آخر لانعدام الأمن الجيوسياسي في تركيا يتمثل في أن جيرانها لديهم مجموعة متنوعة من الخصائص من حيث نوع النظام والأيديولوجيا والعديد من النواحي الأخرى، بمعنى أن الدولة لا تزال واقعة في منطقة أمنيّة مجزّأة ومتقلبة[25]، ومن ناحية أخرى فإنها تقع بين أوروبا وأنظمة الشرق الأوسط المختلفة[26]، التي تتعارض مع بعضها بعضًا من النواحي الجغرافية والسياسية، وهذه هي أهم العوامل التي تقود لانعدام أمنها الجيوسياسي، لكنّ العناصر الهيكلية ووجهات النظر العالمية الثابتة متباينة تجاه كلا الطرفين المختلفين.

تواجه تركيا مشكلة في تحقيق توازن بين الاتجاهين، بينما تبقى سياستها شاملة ومتماسكة، وبالإضافة إلى ذلك فإن الأمن التركي يتأثّر بشكل مباشر بأوضاع الدول المجاورة،[27] مثل: اكتساب أو خسارة قوى، أو تعرضها للغزو، أو فقدان السلطة المركزية، ولهذا السبب فإنه من البدهيّ توضيح التوجهات الإستراتيجية، ورؤية تركيا الجيوسياسية. [28]

 ومن أجل أن تتغلب تركيا على انعدام الأمن الجيوسياسي، من الضروري أولًا تحديد وضعها الجيوسياسي وتحديد حلفائها وأعدائها المحتملين، بعبارات أكثر واقعية، يجب إعداد خارطة طريق وتحديد التوجهات والعَدّات كيف وأين قد تنشأ النزاعات الجيوسياسية وكيف يمكن التغلب عليها، ولاسيّما فيما يتعلق بجيرانها. وفي هذا الصدد فإن أفضل إستراتيجية متاحة لتركيا هي أن تكون فعَالة ورادعة عسكريًّا، وأن تتخذ موقفًا واضحًا من الأحداث الجارية في جغرافيتها الحالية، وأن تتبع خطة تمنع أي تحدٍّ يواجهها لمعالجة المشكلات الناشئة عن انعدام الأمن الجيوسياسي على حدودها، وهذا يُعَدّ عنصرًا مهمًّا في الإستراتيجية الكبرى. [29]

 كانت روسيا مصدر التهديد الأكبر الذي واجهته تركيا عبر التاريخ. وكان هذا صحيحًا خلال فترة الإمبراطورية العثمانية وروسيا الإمبراطورية، حيث انضمت تركيا إلى الولايات المتحدة والكتلة الغربية في مواجهة الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، وبالرغم من ذلك فقد حاولت الحفاظ على العلاقات الثنائية مع روسيا. وعندما جرى تنفيذ سياسات بيريسترويكا وجلاسنوست في السنوات الأخيرة من الاتحاد السوفيتي، أصبح البلدان أكثر قربًا وحاولا منذ ذلك الحين الحفاظ على علاقاتٍ ثنائية متينة. لقد ظلّت تركيا مع الجانب الغربي من النظام العالمي أحاديّ القطب عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. [30]كما تنافست مع روسيا حتى منتصف التسعينيات على الفجوات الجيوسياسية (وبخاصة في القوقاز وآسيا الوسطى) التي ظهرت بعد الحرب الباردة.

وسرعان ما عادت العلاقات إلى طبيعتها عقب التغيرات التي طرأت على القوى في كلا البلدين في أوائل القرن الحادي والعشرين بإسهام قادة البلدين، ومع ذلك فقد كان يُنظَر إلى التدخل الروسي في جورجيا عام 2008 وغزو شبه جزيرة القرم وأوكرانيا الشرقية في عام 2014 على أنهما مصدر تهديدٍ للأمن القومي لتركيا؛ لهذا يمكن قراءة العلاقات بين البلدين من خلال عدسة "المعضلة الأمنية" والتوصل إلى استنتاجات منطقية.[31]

لم تتلقَّ تركيا الدعم اللازم من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والغرب في الأزمة التي اندلعت في سوريا عام 2011، ولا من شركائها التقليديين في القتال ضد كلّ من حزب الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب؛ الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وتنظيم داعش الإرهابي الراديكالي. وفي ظل غياب هذا الدعم تدخلت تركيا عسكريًّا لتفكيك ثكنات الإرهاب الموجودة على حدودها الجنوبية عام 2016.[32] شكلت محادثات أستانا الجارية بقيادة تركيا وروسيا وإيران عاملًا مهمًّا في عملية إيجاد حلّ دبلوماسي لتحقيق سلام دائم في سوريا، أو على الأقل وقف الصراع.[33] إنّ "انعدام الأمن الجيوسياسي" على الحدود التركية السورية حفز تلك الجهود، حيث تطورت إستراتيجية تركيا الكبرى لتشمل الاستعداد لنشر القوة العسكرية على أساس استغلال الفرص، وتوظيف القدرات الخاصة بها؛ لضمان أمنها القومي.  

الديناميكية الثانية: تراجع الولايات المتحدة وفجوات القوة الجيوسياسية

دخل النظام الدولي في فترة كان من الصعب التنبؤ فيها بالمستقبل، ولا يمكن التمييز فيها بين الصديق والعدو، وتزايدت الصراعات، وأصبحت المؤسسات الأمنية التقليدية تفقد نفوذها[34]. في الوقت الحالي تكثر النقاشات حول فقدان الولايات المتحدة النسبي للسلطة، وضعف النظام الليبرالي؛ لذلك بدأت الدول في التصرف بشكل أكثر استقلالية، وبرزت بعض الدول والمؤسسات في النظام الدولي للحصول على التوازن في العلاقات الدولية؛ بوصف ذلك نتيجة لتراجع هيمنة الولايات المتحدة [35].

 هناك كثير من الدول سريعة التطور، كالهند وروسيا والصين على وجه الخصوص، لها تجارب ثقافية وسياسية واقتصادية مختلفة عن تلك الموجودة في الغرب، حيث لا تشارك المجتمعات الرأسمالية المتقدمة اهتماماتها، على الرغم من أنها لا تزال تصارع مشكلات التنمية الأساسية،[36] لذلك سيكون من الخطأ القول: إنّ هذه الدول تعمل على المستوى نفسه الذي تعمل به الأنظمة القديمة. ومع ذلك، فإنها تتمتع بمستوى معين من الشراكة. تعمل الصين وروسيا تحديدًا على توفير بيئة من شأنها تقويض معايير النظام العالمي الليبرالي، وقد أصبحت الصين شريكًا مربحًا للعديد من الدول، ولاسيما في "عالم يُنظر فيه إلى الولايات المتحدة على أنها طاغية"، من خلال تبنيها "إستراتيجية غير متكافئة" تتضمن الدبلوماسية القائمة على الذكاء والعمل الاقتصادي،[37] وتتبع نموذجها الخاص في السياسة والتنمية الاقتصادية. روسيا من جانبها، أضرت بالمفاهيم المشتركة مع الغرب، مثل "الأمن المشترك و"المؤسسات الأمنية المشتركة" و"الأعراف الدولية" إلى حد ما بعودتها لممارسة القوة الصارمة مع الغرب.

لم تكن كل هذه التطورات كافية لإعلان نهاية النظام العالمي بعد الحرب الباردة وولادة نظام جديد، ويبدو أن النظام القائم حاليًّا لن يستمر طويلًا على شكله الحالي.[38] إنَ التأثير المتزايد للعناصر الإقليمية في السياسة الاقتصادية العالمية هو العامل الرئيس الذي يقود الفترة الانتقالية الحالية غير المؤكدة والمعقدة الذي أعطى المستوى الأخير من العولمة معنى مختلفًا في كل مناطق العالم، وذها أدى إلى تشكيل وحدات أمنية إقليمية مستقلة. بالإضافة إلى ذلك، فإن العملية المستمرة لصعود القوى الإقليمية، وتوسيع مجال مناورة القوى العظمى[39] جلبا معهما نوعًا من الفوضى الناشئة عن فجوات القوة الناشئة. ونتيجة لذلك فإنّ إضعاف القوة المركزية للنظام الدولي أو انهيارها، أو عدم رغبته في الوفاء بمسؤولياته في هذا الموقف سيخلق فجوات وظروفًا فوضوية في السلطة.[40] تتأثر الإستراتيجيات الكبرى لتركيا وروسيا بشدة بالديناميكيات الهيكلية للنظام الدولي، كما اتضّح آنفًا؛ لذلك يمكن فهم إستراتيجياتهما الكبرى بشكل أفضل من خلال شرح التمييز بين الإستراتيجية المتوازنة والإستراتيجية الناشئة، مع الميل نحو الأخيرة. تشير الإستراتيجية المتوازنة إلى تعبئة الموارد والأدوات الوطنية لغرض محدد مسبقًا ومحدّد بدقة؛ بينما تشير الإستراتيجية الناشئة إلى فهم يجري بموجبه مراجعة الأهداف والأدوات المحددة أصلًا باستمرار وفقًا للتطورات الدولية، وبهذا الصدد يمكننا القول: إنّ كلا البلدين لديهما توازن في الإستراتيجيات المتوازنة والناشئة التي تؤثر في إستراتيجيتهما الكبرى ضمن هيكل يفضل الإستراتيجية الناشئة.[41]

 مساعي تركيا نحو الاستقلال الذاتي الإستراتيجي

إن الاستقلال الإستراتيجي هو زيادة قدرة الدولة على إنتاج سياسة مستقلة بدلًا من التكيف مع ضغوط النظام الدولي. بعبارة أخرى، إن مقاومة النظام الدولي قد ترهق الدولة، حيث توجد فجوات في القوة الجيوسياسية، ويمكن القول: إنّ مساعي الدول إلى الاستقلال الذاتي الإستراتيجي تتضاعف. وتظهر الاستقلالية الإستراتيجية بشكل أساسي في مجالات الصناعات الدفاعية والأمن القومي لدولة ما، ومن ثم يمكن إنتاج سياسات مستقلة في المجال الاقتصادي والسياسي.

تركز تركيا في إستراتيجيتها الكبرى وسياساتها الحالية على التخلص من فجوات القوة الجيوسياسية الناتجة عن المتغيرات الهيكلية في النظام الدولي، وتواصل انتهاز الفرص في زيادة قوتها الدفاعية بحسب القدرات المتاحة لها، وبالاطلاع على الفجوات الجيوسياسية المذكورة هنا فإنه ليس من الضروري قراءتها بالمعنى العسكري فقط، ولكن لا بد من قراءتها من خلال التفاعلات السياسية القائمة على الانضباط الشديد في اتخاذ القرارات، ومن ثَمّ توفير قدر أكبر من الاستقلالية بمختلف المجالات الفاعلة.

 عندما تُناقَش السياسة الخارجية التركية الحالية، يمكن ملاحظة حدوث تحول جذري في سياسة تركيا من خلال ملاحظة الدبلوماسية التي أجرتها في أعقاب عملياتها العسكرية عبر الحدود، وانخراطها في "النظام العالمي الحالي"، وخطاب سياسة القوة الصادر عنها، وأنشطتها في المناطق الإقليمية غير المستقرة التي تُعَدّ علامات على إستراتيجيتها الكبرى.[42] على الرغم من مناقشة هذا التحول الجذري إلا أن تركيا لم تقطع علاقاتها مع الغرب، ولم تتجه إلى العالم الإسلامي، ولا إلى روسيا، آخذةً بالاعتبار المحافظة على أمنها القومي ومصالحها الوطنية أولًا؛ أي أن تركيا وضعت تعريفها الجيوسياسي بنفسها، من خلال الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الدولية الحالية، والتحول المستمر في النظام الدولي الحالي.

كان أول مؤشر على توجه تركيا الجديد اتجاه محيطها الخارجي بحثها عن الاستقلال الذاتي، ولاسيّما في السياسة الإقليمية.[43] بعبارات أكثر دقة: تتمثل رؤية تركيا الحالية والمتطورة على المدى المتوسط في إستراتيجيتها الكبرى- في سعيها للحصول على الاستقلال الإستراتيجي.[44]

تنبثق مساعي تركيا للحصول على استقلال إستراتيجي ذاتي من خلال تفاعل ثلاثة عناصر؛ أوّلها استخدام القوة العسكرية للتدخل في المناطق غير المستقرة في بيئتها الجيوسياسية المباشرة، والسعي لتحقيق أهداف سياسية من خلال الأدوات الدبلوماسية. كما أوضحنا آنفًا، فإن أسباب تدخل تركيا في الأزمة السورية تستند إلى الأمن القومي. وتُعَدّ منصة أستانا، بقيادة تركيا وروسيا وإيران مثالًا على الجهود الدبلوماسية، وإنّ "البيان المشترك" الذي صدر بعد مفاوضات عديدة لم يقضِ على النزاعات فحسب، بل أرسى أيضًا أسس الكيان المستقر الذي يمكن أن تحققه سوريا في المستقبل.[45] من جهةٍ أخرى يكشف النجاح الدبلوماسي لثلاثي أستانا بشأن الأزمة السورية التي لا تزال موضوعًا ساخنًا على جدول الأعمال الدولي، (على الرغم من اختلاف آراء الأطراف)- عن نقاط اختلاف مهمة للغاية بين كل من تركيا والساحة الدولية؛ لأن تركيا أصبحت إحدى الدول الفاعلة الرئيسة لحل الأزمة في محيطها القريب. بالإضافة إلى ذلك، يمكن عَدّ عدم مشاركة القوى الغربية في عملية المفاوضات لحل الأزمة نتيجة دليلًا على وجود الأقلمة في النظام الدولي.

تختلف دوافع تركيا في ليبيا وصراعها المستمر في شرق البحر الأبيض المتوسط عن قضية تورطها في الأزمة السّورية، فعلى الرغم من أن عواقب تدخلها العسكري في الأزمة السورية لها تداعيات دوليّة إلا أنّ مساعي تركيا لتحقيق الأمن القوميّ هو مركز اهتمامها، في حين أنّ صراعها في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​يمثل ردًّا مبكرًا؛ لحماية مصالحها الوطنيّة المستقبليّة. إنّ اعتماد تركيا على مصادر الطاقة والمصادر الغنية بالغاز الطبيعي وموارد النفط التي اكتُشِفت والكميات المحتمل اكتشافها- لكل ذلك أهمية قصوى بالنسبة لتركيا، مثل البلدان الأخرى في المنطقة.

هذا وتقوم تركيا بأنشطة استكشاف الطاقة في المناطق البحرية الواقعة داخل رصيفها القاري.[46] إلا أنها لم تتلقّ الدعم الكافي التي كانت تتوقعه من شركائها الغربيين التقليديين وقوات حلف شمال الأطلسي في الوقوف إلى جانب حكومة الوفاق الوطني الليبية[47]، بل ربما تواجههم في هذه المنطقة (على سبيل المثال فرنسا)، ونشير الى تصاعد الأحداث خلال كتابة هذا التقرير، وجدير بالذكر أن تركيا مختلفة مع روسيا في هذا المجال.

 وفي هذا الصدد، عزّزت سياسة تركيا الناجحة في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​مساعيها للحصول على الاستقلال الذاتي الإستراتيجي، وعززت مكانتها بوصفها قوة إقليمية فاعلة في حل المشكلات. أخيرًا، يُعَدّ انخراط تركيا بالوسائل الدبلوماسية في أثناء حرب ناغورني قره باغ الثانية وبعدها ذا أهمية كبيرة من حيث إستراتيجيتها الكبرى. وذلك على الرغم من عدم ذكر تركيا في بنود الاتفاقية الموقعة بين أذربيجان وأرمينيا بوساطة روسية، وبناءً على طلب باكو، يوجد جنود أتراك في المنطقة جنبًا إلى جنب مع القوات الروسية، وحققت تركيا من هذه القضية بُعدين اثنين: أوّلهما أنّ تركيا أثبتت نفسها بأنّها قوة إقليمية مع نهاية الوضع الراهن الذي نشأ في منطقة قره باغ في التسعينيات، وثانيهما أنّ تركيا أظهرت أنها لن تبقى متجاهلة الأحداث التي تدور في محيطها المباشر، وذلك تماشيًا مع إستراتيجيتها الكبرى. كما قلّلت تركيا من تأثير كل من الغرب ومجموعة مينسك في المنطقة، وأوجدت توازنًا مع النفوذ الروسي فيها. وشملت مكاسبها أيضًا الممرّ التجاري الذي سجري إنشاؤه بين أذربيجان وناختشفان، الذي سيعود بالفائدة على تركيا وشعبها. 

يتضمن العنصر الثاني في مساعي تركيا إلى الاستقلال الإستراتيجي استثماراتها في الصناعات الدفاعية، والزيادة في قدرة الأسلحة الإستراتيجية لتركيا التي تسير في خطين: أولهما خطّ الشراء إذا كانت الدولة غير قادرة على إنتاج الأسلحة الضرورية،[48] وأفضل مثال على ذلك شراء تركيا نظام الدفاع الجوي S400 من روسيا.[49] وثانيهما خطّ الإنتاج المحلي الصادر عن الصناعة الدفاعية الوطنية التركية، من خلال توسيع قدراتها وفرصها. وقد جرى بالفعل استخدام بعض أنظمة الأسلحة التي طورتها تركيا مؤخرًا بشكل فعال، في حين أن بعضها الآخر جاهز للإنتاج بالجملة. وتشمل هذه الأسلحة: كورفيت ميل-غم، ومروحية هجوميةT129 ATAK ؛ ودبابة قتاليةALTAY ؛ وبندقية المشاة MPT-76 ؛ وطائرة مقاتلةTF-X، ومروحيةT625، وطائرات التدريب الأساسية المسلحةHURKUS. ، وصواريخ (CIRIT ، كابلان، ميزراك، حصار، سوم، بورا، و) الطائرات بدون طيار (Bayraktar TB2 وANKA وKarayel) ؛ والقمر الصناعي GOKTURK-1 ومختلف المركبات القتالية المدرعة.[50] ويُشار هنا إلى أن أنشطة الطائرات بدون طيار التركية في سوريا وليبيا لا تمثل انعكاسًا للقوة العسكرية فقط، بل تمثل قوة الردع التركية أيضًا. [51]

يتجسد العنصر الثالث في مساعي تركيا نحو الاستقلال الإستراتيجي، في توجيهها الانتقاد لهيكل النظام الدولي، وقد تجّلى ذلك في شعار الرئيس أردوغان: "العالم أكبر من خمسة" في خطاب ألقاه في الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 2014، حيث أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بهذه الملاحظة في أثناء تناوله أزمات دولية، مثل التي حدثت في العراق وسوريا وفلسطين واليمن وليبيا وأفغانستان وأوكرانيا. وقال: إن الحل الذي تقترحه تركيا لأزمة التمثيل داخل الأمم المتحدة هو أن "عدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (مجلس الأمن الدولي) يجب أن يكون عشرين بدلًا من خمسة، ويجب تحديدهم من خلال مراعاة القارة والعقيدة والأصل وعوامل أخرى[52]، وقد جاء النقد والاقتراح المقدم لمجلس الأمن الدولي مبنيًّا على تقييم عمل الهيكل الأمني ​​للأمم المتحدة على أساس ظروف فترة الحرب الباردة، حيث إنه لا يتوافق مع النظام العالمي الحالي، ويمكن عَدّ الانتقادات والاقتراحات التي طرحتها تركيا على أنها انعكاس لسعيها إلى الاستقلال الذاتي الإستراتيجي على الساحة الدولية.

تتضمن رؤية روسيا للمستقبل في إستراتيجيتها الكبرى مجموعةً من السياسات التي تسلّط الضوء على الهيكل المتعدد الأقطاب للنظام الدولي، والرغبة في أن تصبح قوة عظمى. إن تركيز روسيا على النظام المتعدّد الأقطاب ليس من العناصر التي يمكن تقييمها بمعزل عن العناصر الأخرى، لذلك يتشابك كلا العنصرين مع كل من السبب والنتائج المترتبة على بعضهما بعضًا. بعبارات أكثر واقعية، يُعَدّ النظام الدولي المتعدد الأقطاب أحد أهم الاعتبارات التي تزيد من مساحة روسيا للمناورة على المستوى العالمي، وهو أيضًا نتيجة لتفعيل عملياتها التي رسخت مكانتها بوصفها أحد أقطاب هذا النظام. وفي خطاب ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن الثالث والأربعين[53]، قدّم بوتين بيانات مهمّة للغاية من حيث التعبير عن العناصر التي نوقشت آنفًا فيما يتعلق بالنظام الدولي. وشدّد بوتين في هذا الخطاب على أن النظام العالمي أُحادي القطب، الذي كان من المتوقع ظهوره بعد الحرب الباردة، يجب ألا يكون بديلًا عن التعددية القطبية، فقد ظهرت قوى جديدة على الساحة، وبخاصة اقتصاديًّا، تحت تأثير العولمة. ووفقًا لبوتين، فإن القطبية الأحادية هي في الواقع مستحيلة وغير مقبولة. في الوقت نفسه، قال: إنه من الخطأ الكبير أن تهتم الأمم المتحدة بمصالح الناتو والاتحاد الأوروبي بدلًا من الأمن العالمي، وأن هذا الاتجاه أدّى إلى تراجع وظائف الأمم المتحدة. وقد ينشأ نظام عالمي تصادمي في المستقبل (إذا استمر هذا). بالإضافة إلى انتقاده للممارسات الأحادية الجانب للولايات المتحدة، فقد أشار إلى أن تعددية الأقطاب أكثر واقعية ومقبولية للنظام العالمي .

تلفت معظم الوثائق الإستراتيجية التابعة للأمن القومي المنشورة في روسيا الانتباه إلى التعددية القطبية. وتؤكد وثيقة إستراتيجية من وثائق الأمن القومي الروسي لعام 1997 أن تشكيل نظام متعدد الأقطاب سيستمر خلال فترة طويلة من الزمن.[54] وتشير نسخة عام 2000 إلى أن النظام الدولي قد تحول إلى عملية ديناميكية، وتؤكد "التمكين الاقتصادي والسياسي لعدد كبير من الدول، وظهور آليات متماسكة للحكم المتعدد الأطراف والمتعدد الأقطاب"[55]. وفي الوقت نفسه، يتضمن انتقادات للممارسات الأحادية الجانب للولايات المتحدة. وفي وثيقة إستراتيجية للأمن القومي حتى عام 2020 صدرت (في عام 2009)، تشير إلى "انتقال النظام الدولي من نظام ثنائي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب يسمح للاتحاد الروسي بزيادة تأثيره على المسرح العالمي من خلال سياسة خارجية نشطة وعملية، و"يؤكد الادعاء المذكور سابقًا أن "التغيير الهيكلي[56] أو التحول في النظام الدولي يمنح روسيا مجالًا للمناورة". وفي وثيقة الأمن القومي لعام 2015، هناك إشارة إلى استمرار الانتقادات حول الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وأن النظام المتعدد الأقطاب مقبول دوليًّا بشكل قاطع.[57] إن تأكيد روسيا التعددية القطبية في وثائقها الخاصة بالأمن القومي له أهمية كبيرة من حيث تصور الدور الذي تحدّده لنفسها في النظام الدولي. وقد أدى تأثيرها العالمي بوصفها قوة عظمى إلى تنفيذ سياسات متنوعة في مناطق النزاع المختلفة .

 لذلك فإن التدخل العسكري الروسي في جورجيا وأوكرانيا يلفت الانتباه إلى العمليات الفعالة للأهداف السياسية التي تتجاوز الأمن القومي. لتوضيح ذلك، يمكننا القول: إن روسيا نجحت في مواجهة الهياكل التي تشكل تهديدًا لأمنها القومي من خلال هذه التدخلات، بينما لم تردعها الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، على الرغم من أنها تعرضت للعقوبات. بعد تقليص انعدام الأمن الجيوسياسي، أظهرت روسيا رغبتها كي تصبح قوة عظمى، وهذه الرغبة أصبحت حقيقة واقعية.

وفي هذا السياق، من الضروري تصنيف التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية في فئة منفصلة. فقد استمرت روسيا في دعم نظام الأسد بينما كانت الأحداث في سوريا تتصاعد، واختارت التدخل عسكريًّا عندما أدركت أن النظام لم يعد بإمكانه البقاء على قدميه، وذلك على عكس من تدخلاتها العسكرية الأخرى، إذ تدخلت روسيا في سوريا لتحقيق مصالحها الوطنية على المدى البعيد، بينما كان تدخلها في جورجيا وأوكرانيا للسيطرة على انعدام أمنها الجيوسياسي، ومن ثَمّ ضمان أمنها القومي. ونشير هنا إلى نجاح منصة أستانا، التي تم إنشاؤها بمشاركة تركيا وإيران بقيادة روسية لمعالجة الأزمة السورية عبر خطوات دبلوماسية مختلفة (لا تزال موضوعًا ساخنًا في الأوساط الدولية)، لوقف الصراعات القائمة. إن حقيقة أن الولايات المتحدة والغرب خارج العملية هي أوضح مثال على وجود فجوات بين القوة الجيوسياسية الناجمة عن التغيير الهيكلي في النظام الدولي وهو ما أدّى الى توسّع مجال روسيا للمناورة بوصفها قوة عظمى وهذا ما تحاول إثباته من خلال تأثيرها في نطاق عالمي.

لم تكن روسيا قادرة على تحقيق القدر نفسه من التأثير الكبير في ليبيا كما فعلت في سوريا، ومع ذلك فإن تورطها في ليبيا ليس له مغزى. وهناك بعد تاريخي أدّى الى دعم روسيا للقوى المعارضة للحكومة الشرعية ووجودها العسكري. فقد تصرفت روسيا تجاه ليبيا بهذا الشكل لإحياء إرث بدأ خلال الحقبة القيصرية، وانتهى بتدخلات في شمال إفريقيا خلال الحقبة السوفيتية، وهذا وفّر لروسيا أنشطة في مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبخاصة حماية شركات النفط الروسية على الأراضي الليبية وتوسيع حقولها، وهو ما أدى إلى فتح الطريق أمام مكاسب مختلفة.[58] وفي هذا الصدد، زادت روسيا القدرة التنافسية ضد الولايات المتحدة والغرب دوليًّا، ووسعت مجال المناورة، والقدرة على إحداث تأثير عالمي من خلال إظهار وجودها وراء البحر الأسود.

وقد عززت سياسة روسيا المستندة إلى التطورات الأخيرة في جنوب القوقاز مكانتها بوصفها دولة فاعلة في حل المشكلات في محيطها المباشر بعد سوريا. علاوة على ذلك، قبلت روسيا على مضض تدخل تركيا في منطقة القوقاز، وتمكنت من إبعاد القوى الغربية وحلف شمال الأطلسي عن النزاع، ويُعَدّ موقف روسيا في جنوب القوقاز مثالًا مهمًّا للغاية على البراغماتية من خلال تطوير وجودها العسكري في جنوب القوقاز، وأثبتت أنها لا تزال القوة المهيمنة في محيطها المباشر، وقد قامت روسيا بسلسلة من التحركات التكتيكية التي تجنبت فيها تقديم التزامات للأطراف في حالة نشوب صراع في محيطها المباشر. ويعكس هذا إحساسًا بالبراغماتية في سياسة روسيا تجاه الدول المجاورة من خلال الاعتراف ضمنيًّا بالحقائق في المنطقة، والعمل ضد بقايا الحنين الإمبريالي الجديد، والتمسك بهيكل يتضمن المطالبات المشروعة بناءً على الاتفاقيات القائمة، مع دعم سياسة التدخل تجاه الدول في منطقة الاتحاد السوفيتي السابق.[59]

 

الإطار النظري: المواءمة الذكية والمنافسة المرنة

" يشير مفهوم المواءمة الذكية" إلى تبنّي الدولة علاقات مع دولة أخرى أو مجموعة دول أخرى من أجل ضمان أمنها القومي وتعزيز مصالحها الوطنية. بدلًا من التورط في تحالفات سرية، تشير المواءمة الذكية أيضًا إلى المواقف التي يمكن للدولة أن تشكل فيها ائتلافًا قائمًا على تغيير أو تحول أساسي في النظام الدولي، من أجل مواجهة التهديدات التي يتعرض لها أمنها القومي، والسعي إلى تحقيق مصالحها الوطنية. بينما قد تفضل بعض الدول إستراتيجية متوازنة ضد التهديدات المشتركة على أساس تحالف تعطي فيه الدولة الأولوية لأمنها القومي. وأحيانًا تدعي الدولة تعديل ميولها عندما تكون الأولوية لمصالحها الوطنية. بينما تبرز شكوك وقضايا غامضة في هذا النوع من العلاقات، وفي هذه الحالة تكون الدولة ملزمة بتبني إستراتيجيات قصيرة المدى أكثر من توجهها نحو الإستراتيجيات طويلة المدى.

تعبّر "المنافسة المرنة" عن العلاقة بين الدول في المجالات التي تلتقي فيها المصالح الوطنية ودوافع الأمن القومي، وقد تتعارض أحيانًا معها، حيث يجري التركيز على العلاقات الائتلافية القائمة على مجريات الأحداث، وتأجيل استخدام القوة العسكرية، واتخاذ الدول نهجًا دفاعيًّا أكثر لردع بعضها بعضًا. تقوم الدول بتوسيع مجالات علاقاتها لتشمل مناطق مختلفة، وتفضل هذه الدول الانسجام في كل مجال ممكن، بدلًا من المنافسة المتزايدة. على سبيل المثال إذا كانت المنافسة الشرسة بين دولتين تحرمهما من التقدم في النظام الدولي وكانت تكلفتها غير مفيدة من حيث الربح والخسارة، فقد تتجهان نحو نموذج منافسة أكثر مرونة.

إن أفضل تفسير لهذا المفهوم هو"معضلة التحالف الأمني" حيث إن علاقات التحالف غير مضمونة، ولاسيّما في سياق تأمين المصالح الوطنية وتعزيزها في الأنظمة المتعددة الأقطاب؛ إذ يمكن لشركاء التحالف التخلي عن بعضهم أو الانجرار إلى حرب لا تُحمَد عقباها. أحيانا تنشأ المعضلة الأمنية للتحالف عند تقديم حماية لدولة ما من خطر معين، وهذا قد يزيد من ضعف دولة أخرى.[60] إذا كان الهجوم مجديًا أو هناك حالة توان بين الهجوم والدفاع، تبقى التحالفات متينة، ولكن إذا كانت حالة الدفاع غير مجدية، فإن الدول تزيد من مشاركتها، وتتجاوز مجال مسؤولياتها، ومن ثَمّ تُخفق الإستراتيجية المتوازنة.[61]

العلاقات التركية الروسية: المواءمة الذكية والمنافسة المرنة في الساحة الدولية

عند إمعان النظر في الإستراتيجيات الكبرى لتركيا وروسيا، نرى أن كلا البلدين غير راضيين عن النظام الدولي الحالي، ومن هنا، فهما يواجهان مشكلات في الأمن القومي. وفي هذا الصدد، يمكننا القول: إن كلا البلدين يبحثان عن نظام عالمي جديد؛ نتيجة للدور الذي صمّماه لأنفسهما. وقد يقودهما المنطق السليم إلى تقليص الأزمات الأمنية التي يواجهها البلدان فيما يتعلق ببعضهما بعضًا. ويشير هذا المنظور إلى أن خيارات الدول قد تكون عبارة عن مباراة نتيجتها صفر؛ على سبيل المثال، إذا اتخذت دولتان خيارات لإنشاء نظام دولي جديد تواجهان مشكلات أمنية؛ لذلك فإن التفاهم المتبادل بين صانعي القرار قد يخفّف من المشكلات الأمنية.[62]

ومن المنطقي أن توجد منافسة وتحالف مع تركيا، التي تُعَدّ قوة إقليمية[63]، من أجل ضمان استبعاد الولايات المتحدة من مناطق الصراع في الساحة الدولية (وهذا مهمّ للغاية بالنسبة لروسيا)، فإن من مصالح تركيا الوطنية الخاصة وطريقتها البراغماتية أن تحقق الاستقلال الإستراتيجي على الساحة الدولية، وهذا ما يمكن تحقيقه من خلال التعاون مع روسيا. في هذا الصدد، كل خطوة نحو إنشاء نظام جديد هي جزء من التقارب الذكي الذي نتحدث عنه، والمنافسة المرنة التي تتماشى معه. بعبارة أخرى، في عملية التغيير الأساسي أو تحول النظام الدولي، ترى روسيا أن تركيا أداة مفيدة لزيادة فعاليتها على الساحة الدولية، بينما ترى تركيا روسيا عنصر توازن يمكنها استخدامه لتعزيز استقلالها الإستراتيجي.

إذا نظرنا معًا الى تركيا نجد أنها أخفقت في الحصول على الدعم الذي كانت تتوقعه من الناتو وحلفائها الغربيين ضد التهديدات لأمنها القومي المنبثقة من سوريا، وقد جعلت جهود روسيا لحماية مصالحها القومية في البحر الأبيض المتوسط ​، وفتح مجال للمناورة من خلال الجهود المبذولة لتحقيق التوازن مع النفوذ الأمريكي في المنطقة- العلاقات بين تركيا وروسيا على شكل وحدة طبيعية في المصالح والتفاهم. بالإضافة إلى ذلك، عزّز كلا البلدين صورتهما في النظام الدولي بوصفهما "فاعلين في حلّ المشكلات بالطرق الدبلوماسية، وذلك بفضل مفاوضات أستانا. وفي هذا السياق، يمكن فهم العلاقات بين تركيا وروسيا على أنها مواءمة ذكية تنبع من عوامل أخرى ذات ضرورة، وتنطوي على منافسة مرنة بين الدولتين، بعد أن تعلّما اتخاذ خطوات مشتركة بشأن القضية السورية، وأعلن البلدان نفسيهما على أنهما وسيطان. ومن جهة أخرى فعلى الرغم من التناقض بينهما في دعم الأطراف المتصارعة في ليبيا، فقد لجأتا إلى المنافسة المرنة والمواجهة الذكية، واختارتا مسارًا أكثر منطقية من الذي قد يؤدي إلى الصراع بينهما.

كما أن التقارب والمواءمة الذكية والمنافسة المرنة التي قدمها كلا البلدين خلال تدخلهما في سوريا وليبيا، وفي جنوب القوقاز، الذي تعدّه روسيا جارًا لها- كلّ ذلك سد الفجوة التي نشأت في النظام الدولي بسبب عدم تدخل الولايات المتحدة، وذلك تحت قيادة روسيا وتركيا، جنبًا إلى جنب مع التحوّل من التعددية إلى الإقليمية. إن هاتين الدوليتين: روسيا وتركيا عزلتا الولايات المتحدة والمؤسسات الغربية غير الفاعلة في منطقة الصراع الأكثر أهمية على مدار الثلاثين عامًا الماضية، وتمكن كلا البلدين: تركيا وروسيا من وقف الصراع. في هذا الصدد، يمكننا القول: إن المواءمة الذكية والمنافسة المرنة اللتين ندعي وجودهما بين البلدين قد ثبّتتا نتيجة الوضع الحالي في جنوب القوقاز.

إن العلاقات التركية الروسية ليست بين طرفين متساويين، فبالنظر إلى أدوات القوة العسكرية والدبلوماسية والمعلوماتية والاقتصادية التي تمتلكها روسيا، يمكننا فهم تفوق روسيا على تركيا. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أيضًا أن نأخذ اعتماد تركيا على موارد الطاقة الروسية في الاعتبار. ومع ذلك، فإن قدرة المعدات العسكرية التركية المذكورة وتطورها يمكن أن يصنعا توازنًا ضد التفوق الكمي.

يرتبط أحد العوامل المهمة التي تحوّل عدم التناسق في العلاقات التركية الروسية إلى مواءمة ذكية ومنافسة مرنة- بقدرة تركيا على زيادة قدرتها العسكرية[64] إن نجاح تكنولوجيا الطائرات بدون طيار التركية في سوريا وليبيا، بأنّها أداة مهمة للقوة-[65] أظهر التفوق على أنظمة الدفاع الجوي الروسية الصنع،[66] ومن هنا عزّزت يدَ تركيا في الحصول على مكاسب، بينما تحاول روسيا بشكل عملي استخدام المواقف والمشكلات التي تواجهها تركيا مع شركائها التقليديين، في حلف شمال الأطلسي، والولايات المتحدة- من أجل تحويل ميزان القوى في علاقاتهما الثنائية لمصلحتها.

ونتيجة لذلك، فإن عدم وضوح العلاقات التركية الروسية بوصفها شراكة إستراتيجية مع وجود تعاون رفيع المستوى بينهما وفي ظل المعضلات الأمنية والتخوف من المجهول- كل هذا ممكن أن يقود الطرفين في نهاية الأمر إلى نفق مظلم، وحالة من عدم التفاهم.

 وقد لوحظ أن التغيير من "الشريك الإستراتيجي" إلى "العدو التاريخي" (أو العكس) يمكن أن يحدث في أيّ وقت، ومع هذا استمرت العلاقات التركية الروسية الحالية في وسط الطريق؛ لذلك يجب على تركيا المحافظة على حالة التوازن. خاتمة: سيناريوهات بديلة لمستقبل العلاقات التركية الروسية

قد يكون من المفيد أن نختم بتقييم العلاقات المستقبلية بين البلدين في المنطقة الرمادية المذكورة آنفًا. من الناحية الجيوسياسية والأمنية، تتكون هذه المنطقة الرمادية من نقاط التقاطع بين البلدين، وبخاصة في جنوب القوقاز وحوض البحر الأسود في شرق أوروبا، وفي الجنوب والشرق الأوسط ومنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. في هذه المناطق، يقف البلدان على جوانب مختلفة، فأحيانًا يتجهان نحو المنافسة الشرسة، وأحيانًا أخرى يميلان نحو التعاون المرن والمواءمة الذكية، حيث تأخذ كل دولة مصالحها الوطنية وأمنها القومي في الاعتبار. فمثلًا عملية أستانا، واتفاق قره باغ، يُظهران حقيقة أن البلدين على طرفي نقيض في سوريا وليبيا وأوكرانيا، وهذه أهم مخرجات "المنطقة الرمادية"؛ المواءمة الذكية والمنافسة المرنة بناءً على مصالحهما القومية.

بناءً على هذا التحليل، يمكننا التحدث عن سيناريوهات مختلفة للقضايا التي يواجهها البلدان بشكل متبادل في المستقبل. يتعلق السيناريو الأول بتوسيع "المنطقة الرمادية"؛ حيث إن نمو هذه المنطقة غير المؤكدة، التي لا يمكن تقييمها من حيث المنافسة الشديدة أو الشراكة الإستراتيجية- قد يؤثر سلبًا في مستقبل العلاقات الثنائية؛ إذ يمكننا القول: إنه في بيئة تجري فيها مراعاة المصالح الوطنية والأمن القومي بدقة، قد تختفي المجالات المشتركة التي تتمحور حول الموضوع. على سبيل المثال، في حين أنه من الممكن أن تتحول خلافات الرأي بين تركيا وروسيا فيما يتعلق بمنطقة إدلب السورية إلى صراع ساخن، في مثل هذه الحالة، يمكن توقع ظهور مناطق صراع أخرى في ليبيا والبحر الأسود وجنوب القوقاز. كما أن الاعتماد على الجهود الأصلية للقادة بدل الهيكل المؤسسي والعلاقات الثنائية  يمكن أن يخلق مرة أخرى مخاوف مستقبلية. وفيما يتّصل بالعلاقات يمكننا القول: إن "المنطقة الرمادية" هي أرضية مناسبة وفقًا للمخرجات الحالية للنظام الدولي، وإن أي انحياز أو تحول إلى دولة ما بدل ما هو عليه الأمر الآن يمكن أن يؤثر بشكل جذري في العلاقات التركية الروسية.

يقوم السيناريو الثاني على احتمالية أن تصبح العلاقات الثنائية بين تركيا وروسيا مترابطة وشاملة. إن مشاركة التكنولوجيا النووية، واتخاذ خطوات مشتركة في صناعات الدفاع العسكري بما في ذلك الأسلحة التقليدية، والزيادة الملحوظة في حجم التجارة- كل ذلك خطوات أساسية لتحقيق هذا السيناريو. كما يمكن للاهتمام بالمجالات المشتركة بين البلدين من حيث الثقافة والجغرافيا السياسية للشراكة الحالية والمستقبلية في المنظمات المتعددة الجنسيات في آسيا الوسطى والقوقاز وحوض البحر الأسود- أن يوسع العلاقات بينهما بشكل كبير.

ويتناول السيناريو الثالث عملية رفع المنظمات الدولية لكفاءتها التي تُعَدّ تركيا عضوًا فيها أو لها مصلحة في العضوية فيها، مثل الناتو والاتحاد الأوروبي، وهذا سيزيد من فعاليتها، ويعيد علاقاتها مع تركيا إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية. وإذا نجح هذا السيناريو، فمن المتوقع أن تتطور العلاقات بين تركيا وروسيا إلى مرحلة جديدة، وقد تنشأ أيضًا مشكلات جديدة، على الأقل في الصراع المستمر في أوروبا الشرقية، وبخاصة فيما يتعلق بمسألة أوكرانيا وبيلاروسيا، وقد يتعين تغيير الموقف التركي. ونتيجة لذلك، فإن موقعها في منطقة القوقاز وبحر قزوين وآسيا الوسطى قد ينمو من الركود، ويدخل مجال المنافسة. ومع ذلك، وكما هو مذكور آنفًا، في إطار موقف روسيا تجاه الناتو والاتحاد الأوروبي وفقًا لوثائق الأمن القومي الخاصة- ينبغي توقع تحوّل سياسة روسيا، واعتبار تركيا تشكل تهديدًا لها في أي سيناريوهات محتملة تنطوي على زيادة تعاون تركيا مع بعض المؤسسات الدولية.

 

 

[1] Hal Brands, “The Promise and Pitfalls of Grand Strategy,” Strategic Studies Institute, (U.S. Army War College: 2012), retrieved from https://pubs-repository.s3-us-gov-west-1.amazonaws.com/2194.pdf, p. 10.

[2] Peter Layton, “Grand Strategy? What Does That Do for Me?” The Strategist, (July 2012), retrieved from https://www.aspistrategist.org.au/grand-strategy-what-does-that-do-for-me/.

[3] John L. Gaddis, On Grand Strategy, (New York: Penguin Press, 2018), p. 21.

[4] Layton, “Grand Strategy?”

[5] William Martel, Grand Strategy in Theory and Practice: The Need for an Effective American Foreign Policy, (Cambridge: Cambridge University Press, 2015) p. 5.

[6] Barry R. Posen, The Sources of Military Doctrine: France, Britain, and Germany between the World Wars, (New York: Cornell University Press, 1984), p. 13.

[7] Barry R. Posen, Restraint: A New Foundation for U.S. Grand Strategy, (London: Cornell University Press, 2014), p. 1.

[8] Dennis M. Drew and Donald M. Snow, Making Twenty-First Century Strategy: A Introduction to Modern National Security Processes and Problems, (Alabama: Air University Press, 2006) pp. 17-18.

[9] Paul Kennedy, Grand Strategies in War and Peace, (New Haven: Yale University Press, 1991), pp. 1-10.

[10] Layton, “Grand Strategy?”

[11] Güngör Şahin and Cem Oğultürk, Jeopolitik Düşünce: Büyük Güçler ve Türkiye, (İstanbul: Yeditepe, 2020), p. 62.

 

[12] Colin S. Gray, “Geography and Grand Strategy,” Comparative Strategy, Vol. 10, No. 4 (September 2007), p. 311.

[13] Each state emphasis here can be understood as a demonstration of its military power, in particular.

[14] Kenneth Waltz, Theory of International Politics, (California: Addison-Wesley Publishing Co., 1979), pp. 105-109.

[15] Mustafa Aydın, “Uluslararası İlişkilerin ‘Gerçekçi’ Teorisi: Kökeni, Kapsamı, Kritiği,” Uluslararası İlişkiler, Vol. 1, No.1 (Spring 2004), p. 38.

[16] Geoffrey Hosking, Rusya ve Ruslar: Erken Dönemden 21. Yüzyıla, translated by Kezban Acar, (İstanbul: İletişim Yayınları, 2015), p. 13.

[17] For the opinion that Russian expansionism is more about geopolitics than ideological and intellectual elements, see, Benn Steil, “Russia’s Clash with the West Is about Geography, not Ideology,” Foreign Policy, (February 12, 2018), retrieved November 24, 2020, from https://foreignpolicy.com/2018/02/12/russias-clash-with-the-west-is-about-geography-not-ideology/.

[18] Alperen Kürşad Zengin, “Rusya Federasyonu’nun Ulusal Güvenlik Politikalarına Yön Veren Belgeler ve Etki Eden Güvenlik Yaklaşımları,” Unpublished Master Thesis, Kahramanmaraş Sürçü İmam University, 2019, p. 42.

[19] “The Basic Provisions of the Military Doctrine of the Russian Federation” Military Doctrine, No. 2.1 (November 2, 1993), retrieved from https://nuke.fas.org/guide/russia/doctrine/russia-mil-doc.html.

[20] “What Is NATO,” NATO, retrieved November 24, 2020, from https://www.nato.int/nato-welcome/index.html.

[21] President of Russia, “National Security Strategy of the Russian Federation to 2020, Approved by Decree of the President of the Russian Federation,” No. 537 (May 12, 2009), retrieved November 25, 2020, from https://www.prlib.ru/en/node/353849.

[22] “National Security Strategy of the Russian Federation,” The Spanish Institute of Strategic Studies, (December 31, 2015), retrieved from http://www.ieee.es/Galerias/fichero/OtrasPublicaciones/Internacional/2016/Russian-National-Security-Strategy-31Dec2015.pdf.

[23] Mustafa Aydın, “Türkiye’de Güvenlik Kavramsallaştırması,” in Mustafa Aydın et al., (eds.) Uluslararası İlişkilerde Çatışmadan Güvenliğe, (İstanbul: Bilgi Üniversitesi Yayınları, 2015), p. 492.

[24] Şahin and Oğultürk, “Jeopolitik Düşünce,” p. 289.

[25] Murat Yeşiltaş and Ferhat Pirinççi, Küresel Dönüşüm Sürecinde Türkiye’nin Büyük Stratejisi, (İstanbul: SETA, 2020), p. 63.

[26] Haluk Özdemir, “Türkiye’nin ‘Sınır-Ülke Niteliği’: Farklı Stratejik Kültürler Arasında Türk Dış Politikası,” Avrasya Etüdleri, Vol. 33, No. 1 (2008), p. 22.

[27] Aydın, “Türkiye’de Güvenlik Kavramsallaştırması,” p. 498.

[28] Haluk Özdemir, “Tasarlanmış ve Beliren Üst Stratejiler: Türkiye ve Diğer Orta Büyüklükteki Devletler için Alternatifler,” in Ali Karaosmanoğlu and Ersel Aydınlı (eds.), Strateji Düşüncesi: Kuram, Paradoks, Uygulama, (İstanbul: Bilgi Üniversitesi Yayınları, 2020), p. 43.

[29] Yeşiltaş and Pirinççi, Küresel Dönüşüm Sürecinde Türkiye’nin Büyük Stratejisi, pp. 61-62.

[30] İlyas Topsakal, “Tarihi Süreçte Türkiye Rusya İlişkileri,” Marmara Türkiyat Araştırmaları Dergisi, Vol. 3, No. 2 (2020), pp. 33-53.

[31] “One state knows that it will not harm another state, or at least that it will not do so intentionally, but as the other state can never be sure of your intentions, you can never be sure of the other state’s intentions regarding you.” Herbet Butterfield, History and Human Relations, (New York: Collins, 1951), pp. 20-21.

[32] İlyas Topsakal, “Turkey-Russia Relations: Harmony of National Interests,” Russia and Turkey Bilateral Relations in International Context International Conference October 19-20, 2018, (İstanbul: TDBB, 2020), p. 215.

[33] Mitat Çelikpala, “Viewing Present as History: The State and Future of Turkey-Russian Relations,” EDAM, (April 2019), pp. 25-28.

[34]Mustafa Kibaroğlu, “Paradigma Yokluğunda Küresel ve Bölgesel Politikalar Belirlemek,” Stratejist, No. 23 (June/July, 2019), pp. 22-25.

[35] Alperen Kürşad Zengin, “Paradigmasız Uluslararası Sistem ABD’nin Kontrollü Geri Çekilişinin Bir Sonucu Olabilir,” Asya-Avrupa, Vol. 5, No. 50 (April 2020), p. 57.

[36] John Ikenberry, “The Future of the Liberal World Order: Internationalism after America,” Foreign Affairs, Vol. 90, No. 3 (2011), pp. 56-62.

[37] Fareed Zakaria, The Post-American World, (New York: W.W. Norton, 2008), pp. 123-129.

[38] Yeşiltaş and Pirinççi, Küresel Dönüşüm Sürecinde Türkiye’nin Büyük Stratejisi, pp. 13-14.

[39] Ziya Öniş and Mustafa Kutlay, “Rising Powers in a Changing Global Order: The Political Economy of Turkey in the Age of BRICS,” Third World Quarterly, Vol. 34, No. 8 (2013), p. 1410.

[40] Henry Kissenger, Dünya Düzeni, (İstanbul: Boyner Yayınları, 2016) pp. 398-399.

[41] Özdemir, “Tasarlanmış ve Beliren Üst Stratejiler,” p. 45.

 

[42] Ali Karaosmanoğlu, “Büyük Stratejinin Anlamı ve İşleyişi,” in Karaosmanoğlu and Aydınlı (eds.), Strateji Düşüncesi: Kuram, Paradoks, Uygulama, p. 39.

[43] Şaban Kardaş, “Quest for Strategic Autonomy Continues, or How to Make Sense of Turkey’s ‘New Wave,’” GMF, (November 2011), retrieved from https://www.academia.edu/1121561/Quest_for_Strategic_Autonomy_Continues_or_How_to_Make_Sense_of_Turkey_s_New_Wave_, p. 2.

[44] Yeşiltaş and Pirinççi, Küresel Dönüşüm Sürecinde Türkiye’nin Büyük Stratejisi, p. 83.

[45] For the articles see, “Joint Statement by the Foreign Ministers of the Islamic Republic of Iran, the Russian Federation and the Republic of Turkey on Agreed Steps to Revitalize the Political Process to End the Syrian Conflict,” Turkey Ministry of Foreign Affairs, (December 20, 2016), retrieved December 8, 2020, from http://www.mfa.gov.tr/joint-statement-by-the-foreign-ministers-of-the-islamic-republic-of-iran_-the-russian-federation-and-the-republic-of-turkey-on-agreed-steps-to-revitalize-the-political-process-to-end-the-syrian-conflict_-20-december-2016_-moscow.en.mfa.

[46] Kemal İnat, “Türkiye’nin Doğu Akdeniz Politikası: Hedefler, Araçlar, Yöntemler,” Kriter, Vol. 5, No. 49, (September 2020), pp. 26-27.

[47] “Bilateral Relations between Turkey and Libya,” The Ministry of Foreign Affairs of the Republic of Turkey, retrieved November 27, 2020, from http://www.mfa.gov.tr/bilateral-relations-between-turkey-and-libya.en.mfa

[48] Hasan Basri Yalçın, “Stratejik Silah Kapasitesi,” in Abdullah Erboğa (ed.), Türkiye’nin Stratejik Silah Kapasitesi, (İstanbul: SETA, 2019), p. 24.

[49] For an important study in which Turkey’s purchase of S-400s from Russia is evaluated in detail, see: Mustafa Kibaroğlu, “On Turkey’s Missile Defense Strategy: The Four Faces of the S-400 Deal between Turkey and Russia,” Perceptions: Journal of International Affairs, Vol. 24, No. 2 (December 2019), pp. 159-175.

[50] Abdullah Erboğa, “Türkiye’nin Stratejik Silah Kapasitesi ve Silahlanma Stratejisi,” in Erboğa (ed.), Türkiye’nin Stratejik Silah Kapasitesi, p. 75

[51] For sources that integrate with the work of Arda Mevlutoğlu and contain important analyses related to the Turkish defense industry, including Turkey’s UAV technology, retrieved from: https://www.siyahgribeyaz.com/.

[52] Recep Tayyip Erdoğan, Yeni Türkiye Vizyonu: Dünya 5’ten Büyüktür, (Ankara: Cumhurbaşkanlığı Yayınları 2017), p. 13.

[53] President of Russia, “Speech and the Following Discussion at the Munich Conference on Security Policy,” Kremlin, (February 10, 2007), retrieved December 11, 2020, fromhttp://en.kremlin.ru/events/president/transcripts/24034.

[54] “Russian National Security Blueprint,” Rossiiskaya Gazeta, (December 26, 1997), retrieved December 11, 2020, from https://fas.org/nuke/guide/russia/doctrine/blueprint.html, pp. 4-5.

[55] “National Security Concept of the Russian Federation,” The Ministry of Foreign Affairs of the Russian Federation, (January 10, 2000), retrieved December 11, 2020 from https://www.mid.ru/en/foreign_policy/official_documents/-/asset_publisher/CptICkB6BZ29/content/id/589768.

[56] National Security Strategy of the Russian Federation to 2020.

[57] “National Security Strategy of the Russian Federation.”

[58] H. Andrew Schwartz and Caleb Diamond, “Exploiting Chaos: Russia in Libya,” CSIS, (September 23, 2020), retrieved December 22, 2020, from https://www.csis.org/blogs/post-soviet-post/exploiting-chaos-russia-libya

[59] Laurence Broers, “Perspectives: Did Russia Win the Karabakh War,” Eurasianet, (November 17, 2020), retrieved December 31, 2020 from https://eurasianet.org/perspectives-did-russia-win-the-karabakh-war.

[60] Glenn H. Snyder, The Security Dilemma in Alliance Politics, World Politics, Vol. 36, No. 3 (July 1984), pp. 466-468.

[61] Thomas J. Christensen and Jack L. Snyder, “Chain Gangs and Passed Bucks: Predicting Alliance Patterns in Multipolarity,” International Organization, Vol. 44, No. 2 (Spring 1990), pp. 140-143.

[62] Ali Bilgiç, “Güvenlik İkilemi’ni Yeniden Düşünmek Güvenlik Çalışmalarında Yeni Bir Perspektif,” Uluslararası İlişkiler, Vol. 8, No. 29 (2011), p. 132.

[63] Alexander Baunov, “Why Russia Is Biding Its Time on Nagorno-Karabakh,” Carnegie Moscow Center, (October 9, 2020), retrieved December 31, 2020, from https://carnegie.ru/commentary/82933.

[64] Şener Aktürk, “A Realist Reassessment of Turkish-Russian Relations, 2002-2012: From the Peak to the Dip?” Caspian Strategy Institute, (January 2013), retrieved December 25, 2020, from http://home.ku.edu.tr/~sakturk/Akturk_2013_Turk_Rus_Relations.pdf.

[65] David Axe, “Turkey Has a Drone Air Force and It Just Went to War in Syria,” National Interest, (March 2, 2020), retrieved December 25, 2020, from https://nationalinterest.org/blog/buzz/turkey-has-drone-air-force-and-it-just-went-war-syria-128752.

[66] Seth Frantzman, “Russian Air Defense Systems Outmatched by Turkish Drones in Syria and Libya,” Long War Journal, (June 10, 2020), retrieved December 25, 2020, from https://www.longwarjournal.org/archives/2020/06/russian-air-defense-systems-outmatched-by-turkish-drones-in-syria-and-libya.php.


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...