رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

العملات الرقمية والسياسة المالية في الحقبة الجديدة

بُنيَ الهيكل المالي القديم والنظام المالي الحديث على أساس العملات المادية، ويمثل التغيير في الأدوات حلًّا مؤسسيًّا لعدد من الألغاز الحديثة. بعد الأزمة المالية العالمية في 2008-2010 وجائحة كورونا في عام 2020 أعربت بنوك عديدة، منها بنوك مركزية، عن اهتمامها بإدخال العملات الرقمية إلى جانب إدخال العملات المشفرة الجديدة كليًّا والعملات المعدنية المستقرة. ومن ثَمّ، فإن مميزات عملات البنك المركزي الرقمية الجديدة وعيوبها- من أحدث الموضوعات التي هي محل النقاش الموسع. كما يتوقع أيضا أن تسهم تلك العملات في دعم الاستقرار المالي ورفع كفاءة السياسة المالية. فالبنوك المركزية ستزيد من سلطاتها على العرض المالي والتحكم فيه معزِّزة مكاناتها وسلطتها المركزية داخل النظام المالي.

العملات الرقمية والسياسة المالية في الحقبة الجديدة

كانت الأزمة المالية العالمية في عامَي 2008 و2009 (سنشير إليها بـ“أزمة 2008"، من الآن فصاعدًا) نقطة تحول للاقتصاد والنظام المالي العالميين؛ حيث تغيّر الهيكل المالي العالمي ومقاربات السياسات والأولويات الإستراتيجية بعد الأزمة. وتبنت البنوك المركزية اتجاهات جديدة، وشهدت عملية صنع السياسات تغيرًا دراميًّا منذ هذا الوقت في جميع أنحاء العالم. ومع التزايد في تركيز القوة تزايدت المسؤوليات أيضًا. كما تنوعت السياسة النقدية وأدوات البنوك المركزية. تحول التركيز داخل المؤسسات نحو المزيد من التنظيم، وتبني وجهة نظر تدخلية وتركيز السلطة، وتصميم السوق.

وقد رفعت الاقتصادات الرئيسة في العالم (مثل الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة واليابان) الميزانية العامة لبنوكها المركزية من أكثر بقليل من 3 تريليونات دولار في عام 2007 إلى ما يقرب من 30 تريليون دولار في عام 2022 (الرسم البياني1). وقد أصبح العرض المالي غير المسبوق وسياسات التيسير الكمي بعد أزمة 2008 وجائحة كورونا في عامَي 2020-2021 (سنشير إليها بـ“جائحة 2020" من الآن فصاعدًا) إلى الوضع الطبيعي الجديد. كما نجحت سياسات التيسير الكمي هذه في الغالب خلال العقدين الماضيين. ولكن الاقتصادات الوطنية ما تزال بحاجة إلى تأمين نفسها ضد مخاطر وقوع أزمة عملة جديدة، والجوائح الجديدة والجولات الجديدة من الصدمات السلبية للاقتصاد العالمي، والأهم من ذلك عبء الديون المتزايد أو حتى ارتفاع مخاطر التضخم أيضًا.

الأساس المنطقي الذي بُنِيَت عليه هذه الحالة التوسعية هو أن تزايد دور البنوك المركزية يمكن أن يكون في الواقع نتيجة لسياسة نقدية تقديرية وفرضيات تعتمد على منحنى سطحي من السيولة والنقد. وكما هو الحال في نظرية النقود الذاتية ما بعد الكينزية يمكن تحديد كمية المعروض النقدي داخليًّا فقط. ربما يفكر صناع السياسات المالية بصورة غير تقليدية، ويعيدون النظر في عملية التنسيق بين البنك المركزي والسلطة المالية، كما تقترح النظرية النقدية الحديثة. وفقًا لذلك، من الممكن دعم تفعيل السياسات المالية من خلال السياسات النقدية. على سبيل المثال، يمكن أن يثري الاقتراض بالعملة المحلية خيارات السياسة للحكومات بحيث لا تنعدم الأسباب للتخلف عن سداد الديون بالنسبة للاقتصادات. 

كما يمكن أن تجري مشاركة نظام التمويل بدون فوائد الذي تستفيد منه اقتصادات العالم الغني بعملاتها الاحتياطية مع نظيراتها من الدول الأخرى. ويمكن أن تستفيد هذه الدول من قائمة طويلة من الأدبيات الاقتصادية النظرية نظرية المال الداخلي إلى النظرية النقدية الحديثة، وأهمية التنسيق الزمني، والالتزامات الموثوقة المرتبطة ببعض الاتفاقات المبرمة بين البنوك المركزية والحكومة والعملاء. بالنظر إلى الرسم البياني1، نجد أن الفيدرالي الأمريكي (باللون الأزرق) والبنك المركزي الأوروبي (باللون الأحمر) وبنك إنكلترا (باللون الأرجواني) وبنك اليابان (باللون الأخضر) كلّ منها قام بتوسيع قواعده النقدية بعد أزمة عام 2008 وجائحة 2020. وفي هذا السياق تُعَدّ تدخلات بنك الاحتياطي الفيدرالي جديرة بالملاحظة.

تركز هذه الدراسة على الكيفية التي يمكن أن تؤدي بها العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC) بوصفها أداة مالية مبتكرة- إلى تطوير أنظمة الدفع الحديثة ورفع كفاءة السياسات النقدية وضمان الاستقرار المالي في المرحلة المقبلة. وذلك لأن العملات الرقمية أصبحت ضرورة حتمية خصوصًا مع التحول الرقمي الذي تشهده الاقتصادات العالمية. وكلما أصبحت عملية "الرقمنة" هي الوضع الطبيعي السائد، فإنّه ستتزايد الحاجة لدى البنوك المركزية بشكل حتمي إلى إصدار عملاتها الرقمية أو الإلكترونية بوصفها بديلًا عن العملات الورقية المطبوعة المستخدمة حاليًّا.

ولنضع في اعتبارنا أن التحولات التكنولوجية في مجالات التمويل وأنظمة الدفع وأنظمة تحويل الأموال بين الدول فتحت الباب أمام ظهور مشروعات ومبادرات خاصة لإصدار عملات مشفرة وغيرها من أنظمة الدفع. ومع ذلك فتقنيات (البلوك تشين) التي تقف وراء العملات المشفرة هي الدافع الدائم للتغيرات في النظام المالي على عكس التقليدات الضعيفة للعملات المادية الخاصة بالبنوك المركزية. على الجانب الآخر، دفعت المحافظ الرقمية الحديثة التي ظهرت فيما بعد، بالإضافة إلى تطبيقات الدفع عبر الجوالات والعملات المشفرة والعملات المستقرة (المربوطة بالعملات الاحتياطية)- البنوك المركزية في العديد من الدول إلى إعادة النظر في إمكانية إصدار عملات رقمية خاصة بها.

ففي عالمنا اليوم الذي يتسم بالتغير المستمر، هناك طلب متزايد باضطراد على العملات المشفرة وتقنيات العملات الرقمية الجديدة، وحاجة إلى أنظمة دفع أو أنظمة معاملات مالية دولية أكثر كفاءة. وفي هذا الإطار، كانت عملية (رقمنة) عملة (الرنمينبي) الصيني من أبرز الأمثلة الحديثة على تلبية هذا الطلب المتزايد على الأدوات المالية الآمنة. وقد أدت كل هذه التطورات، إلى تقلبات وعدم استقرار مالي في الأسواق المالية. 


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...