برز الاتحاد الأوروبي بوصفه مشروع سلام في أعقاب الحرب العالمية الثانية بدعم من الولايات المتحدة لعملية التكامل في القارة. كما أنه أصبح جزءًا من نظام عالمي ليبرالي دولي قائم على السياسات الاقتصادية الليبرالية والأمن التعاوني والتضامن الديمقراطي والمؤسسات متعددة الأطراف. وقد أُسِّس هذا النظام العالمي الليبرالي الدولي على مبادئ سياسية واقتصادية، مثل الأسواق المفتوحة والتجارة الحرة، والحكم الديمقراطي، وسيادة القانون، والمؤسسات متعددة الأطراف، وحل المشكلات الجماعية، والأمن التعاوني، والتغيير التدريجي. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا، استندت السياسات الخارجية والأمنية الأمريكية إلى الأفكار التي نشأت في عصر التنوير والحداثة. وتشمل الحداثة ثلاثة عناصر رئيسة: صعود النزعة الفردية على حساب الطائفية، وظهور العلمانية المستقلة عن المؤسسات الدينية في كل من السياسة والثقافة، وتقدم العقل البشري إلى ما بعد المفاهيم التراتبية الدورية والهرمية التي كانت سائدة في عصور ما قبل الحداثة.
كان الشك تجاه الدولة القومية والاعتقاد بأنها مسؤولة عن الحروب الكبرى في أوروبا مصدر إلهام لمؤسسي الاتحاد الأوروبي. لذلك، جرى تأسيس الاتحاد الأوروبي وهو هيكل فوق قومي، بالاتفاق على ضرورة تجاوز الدولة القومية لبناء السلام في أوروبا. وقد أدى التكامل الأوروبي إلى تحييد النظام الكلاسيكي القائم على الدولة القومية من خلال نقل حقوق السيادة الوطنية للدول إلى هياكل فوق وطنية في بعض القضايا. ومن وجهة النظر هذه، فإن الاتحاد الأوروبي هو هيكل ما بعد الحداثة. وبهذا الهيكل، فإن الاتحاد الأوروبي ليس دولة قومية ولا منظمة دولية. وقد أكد الاتحاد الأوروبي، الذي يُعرّف بأنّه قوة معيارية، أي قوة مدنية، ضرورةَ دعم المعايير المدنية والديمقراطية ونشرها، أي قيم الليبرالية، داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه على حد سواء؛ من أجل ضمان أن تجري العلاقات بين الدول بطريقة حضارية، وبهذه الطريقة يمكن ضمان أمن الاتحاد الأوروبي.
كما كان هناك اعتقاد بأن الولايات المتحدة مثلها مثل الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تستمر من خلال الحفاظ على القيم المشتركة للنظام العالمي الليبرالي القائم على القواعد ونشرها، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، وهو ما كان مقبولًا أيضًا من قبل رؤساء الولايات المتحدة الذين كانوا يُعدّون من الليبراليين الدوليين. على الرغم من أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي استخدما من وقت لآخر أدوات مختلفة في السياسة الخارجية، مثل الأدوات العسكرية أو المدنية؛ لحماية هذه القيم المشتركة ونشرها، إلا أن هذه القيم المشتركة كانت العنصر الذي يجمعهما أيديولوجيًّا.
وقد سهّل الارتباط بين الديمقراطية ودولة الرفاه الاقتصادي انتشار هذه القيم المشتركة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فمقولة دانكوارت روستو (1970) بأن ”جميع البلدان الغنية تقريبًا ديمقراطية، وجميع البلدان الديمقراطية تقريبًا غنية“ -وهي علاقة متبادلة بين الديمقراطية والازدهار أكدها أيضًا رونالد إنغلهارت- قادت إلى تراجع الأنظمة الاستبدادية، بخاصة في السبعينيات والثمانينيات. إذ أسهم نموذج الاتحاد الأوروبي المتمثل في السلام والاستقرار والازدهار في جعل معاييره وقيمه الليبرالية جذابة للبلدان المجاورة. وأصبح التوسع الجغرافي للاتحاد الأوروبي القائم على هذه القيم الليبرالية ممكنًا؛ بفضل انضمام أعضاء جدد إلى الاتحاد.
ومع انتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتي، الذي كان يشكل تهديدًا مشتركًا للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وانهيار أيديولوجيته الشيوعية- برزت الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي، التي تسارعت مع انتصار الليبرالية السياسية والاقتصادية؛ حيث تبنَّت دول الستار الحديدي السابقة المتأثرة بالاتحاد السوفييتي في أوروبا الوسطى والشرقية القيم الليبرالية والتحول الديمقراطي. وفي ظل غياب شكل شعبي بديل للحكومة، مكّنت القوة المعيارية والتحويلية للاتحاد الأوروبي من التحول الديمقراطي في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، ومهّدت الطريق أمام هذه البلدان لتصبح أعضاء في كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وهكذا، أصبحت هذه البلدان جزءًا من النظام العالمي الليبرالي القائم على القواعد.
ومن شأن القيم المشتركة مثل الديمقراطية وسيادة القانون وتطوير حقوق الإنسان وتعزيزها، وكذلك التركيز على التعاون الدولي القائم على هذه القيم، فضلًا عن القوة التحويلية والقوة المعيارية للاتحاد الأوروبي- أن تؤثر في الدول التي ترغب في أن تصبح أعضاء في الاتحاد لتغيير نفسها بما يتماشى مع هذه القيم خلال عملية العضوية. وقد واصل الاتحاد الأوروبي سياسة نشر هذه القيم الليبرالية ليس في إطار مشروطية العضوية فقط، بل في علاقاته مع دول الجوار ودول في مناطق جغرافية أخرى ومنظمات إقليمية أيضًا، بل وجعلها شرطًا لبعض الاتفاقيات. فمن المساعدات الاقتصادية إلى اتفاقيات التجارة الحرة، اشترط الاتحاد الأوروبي في العديد من المجالات إحراز تقدم في هذه القيم.
كما سعت الولايات المتحدة إلى نشر هذه القيم الليبرالية في مناطق جغرافية مختلفة، وقد تصرفت بما يتماشى مع هذا الهدف مستخدمًة قوتها الناعمة وأحيانًا قوتها الصلبة؛ من التدخل العسكري، كما في حرب العراق، إلى العقوبات مثل قانون ماغنيتسكي، والمساعدات المالية مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا، وأدوات القوة الناعمة مثل دعم المجتمع المدني. عملت الولايات المتحدة على تحقيق هدف نشر هذه القيم الليبرالية بطرق عديدة. وعلى الرغم من أن أدوات السياسة الخارجية والأدوات المستخدمة لنشر هذه القيم الليبرالية أدت في بعض الأحيان إلى توترات في العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلا أنه جرى التغلب على ذلك بطريقة أو بأخرى، واستمرت العلاقات الأطلنطية من خلال القيم المشتركة، وقد هدفا إلى الإسهام في أمنهما من خلال هذه القيم المشتركة.
ومع ذلك، فإن أطروحة فرانسيس فوكوياما ”نهاية التاريخ“ -التي قال فيها: إن الديمقراطية والرأسمالية ستحددان المستقبل مع نهاية الحرب الباردة، وإن العالم سيخضع للنموذج الغربي- أصبحت حجة مشكوكًا فيها نتيجة للتطورات التي حدثت في السنوات العشرين الماضية. في كتابه ”الموجة الثالثة: الدمقرطة في أواخر القرن العشرين“ يعرض صموئيل هنتنغتون عملية الدمقرطة في العالم الحديث على شكل ثلاث موجات، ويذكر أن كل موجة من موجات الدمقرطة تعقبها موجة عكسية معادية للديمقراطية. ويناقش تأثير الموجة المعادية للديمقراطية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، وتأثيرها في الحلفاء الأطلنطيين من خلال القيم المشتركة. وعلاوة على ذلك، يُنظر إلى ظهور نموذج الدول الغنية غير الديمقراطية كنموذج بديل، كما في حالة الصين، على أنه تهديد للحداثة والقيم الليبرالية التي أتت بها.