تتبوَّأ جمهورية العراق مركزًا مهمًّا في الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، خصوصًا منذ الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين وانعكاسات الغزو الأمريكي على العراق عام 2003م.
إنّ هذه البقعة تمثّل نقطة اللهب التي امتدت شيئًا فشيئًا لتشمل مناطق وبلدانًا أخرى في الإقليم، حتى أضحت معضلة رئيسة لكلّ الملفات الأمنية والسياسية في قلب العالمَين العربي والإسلامي؛ نظرًا لحجم التنوع القائم داخل العراق من إثنيات وأعراق، وبعد التدخل القائم من أكثر من جهة شرقًا وغربًا على حدودها المختلفة، لكنه برز أكثر في أعقاب التدخل الإيراني الذي تلا التدخل الأمريكي، وهو ما أضاف جملة من الإشكالات والتحديات التي لاتزال عالقة، وتصل ارتداداتها إلى دول الجوار بشكل قوي ومؤثّر إلى درجة كبيرة.
وعلى مدار العقدين الأخيرين وجرّاء التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية وما نتج عنها من هزات سياسية واجتماعية واقتصادية كبيرة- أضحت العراق دولة حبيسة التنظيمات الراديكالية الشيعية والسُّنّية، على حدّ سواء، ومع افتقاد العراق لنظام حوكمة قائم على أسس تقليدية ومؤسساتية أضحت النُّظُم المليشياوية جزءًا لا يتجزأ من البنى المجتمعية والسياسية للدولة العراقية، فانتعشت، ثمّ تمدّدت كل المليشيات الراديكالية المسلحة، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني، وتنظيمات إسلامية متطرفة، مثل القاعدة وداعش، فضلًا عن تشكيلات عراقية شيعية راديكالية أخرى، أبرزها الحشد العراقي.
وعلى تخوم الإشكالات السياسية برزت قضايا أخرى بوصفها انعكاسًا واضحًا على السياسات المتذبذبة والطائفية التي انتهجتها السلطة السياسية في العراق على مراحل متقطعة منذ الإطاحة بنظام صدام حسين، كان أهمها التغيّر الديموغرافي الذي وقع نتيجة التهجير القسري الذي تعرضت له العوائل السُّنية في الداخل العراقي، وهو ما نتج عنه تغيّر في خريطة التركيبة المجتمعية هناك، إضافة إلى الفقر المائي نتيجة تراجع المؤسساتية، وتصاعد الفساد في صلب الدولة المترهلة، ناهيك عن الوضع الاقتصادي المتأزّم، والتراجع الواضح للمراقب عن كثب للمسألة العراقية في شتى المجالات. وعلى الرغم من ذلك تبقى هناك جهود مضنية لإعادة رسم طريق آخر غير الذي انتهجته الحكومات العراقية المختلفة نتيجة الضغط الشعبي والنخب السياسية الوطنية التي تسعى بشكل حثيث إلى الوقوف ضد الفساد، ورسم شبكة من العلاقات الإقليمية؛ بهدف النهوض بدولة أنهكتها الحروب المتعاقبة منذ حرب إيران في ثمانينيات القرن الماضي، مرورًا بالغزو الأمريكي، وانتهاءً بحرب الميليشيات الراديكالية القائمة.
أمّا إقليم كردستان العراق فقد مثّل مسألة دقيقة تعدّت إشكالاتها الواقع المحلّي العراقي إلى دول الجوار، وبخاصة تركيا، التي شخصت بأبصارها نحو التحولات التي شهدها الإقليم ولا يزال يشهدها حتى اللحظة، خصوصًا بعد أن نصب حزب العمال الكردستاني شباكه، وأقام جسور التواصل إقليميًّا بتغذية غربية وأمريكية، ليمثّل تهديدًا واضحًا لا للدولة العراقية فحسب، بل لدول الجوار أيضًا، ولاسيّما تركيا التي يناصبها التنظيم العداء، ويهدّد أمنها القومي من الخاصرة الجنوبية الشرقية، وعلى الرغم من حجم التباين الكردي- الكردي البيني فإنّ قسمًا كبيرًا جدًّا منه لا يقبل مثل هذا التنظيم المارق على السيادة الوطنية لكل دول الإقليم، وبخاصة تركيا والعراق.
في العدد الجديد من مجلة رؤية تركية نضع بين أيديكم الملف العراقي برؤى ثابتة وتحليلات عميقة، لملفات بدت أهميتها في اللحظة الراهنة، وتعدّت إطارها الوضع المحلي العراقي إلى ما هو أبعد، حتى أضحت إشكالًا إقليميًّا ينبغي الالتفات إليه ومناقشته، والبحث عن خريطة طريق واضحة وثابتة للحدّ من تدهورها وتراجعها بالشكل القائم، ولاسيّما أنّ جمهورية العراق تُعَدّ من أهم دول الجوار التركي، وتجمعها خريطة جيوسياسية ليست بالهينة، وتتقاسمان الملفات الأمنية الدقيقة، وتَتَّحدان من حيث مواجهة الأخطار الأمنية والسياسية بشتى تنويعاتها، وبخاصة الإرهاب العابر للحدود الباحث عن زعزعة الاستقرار إقليميًّا ودوليًّا.
افتتحنا هذا العدد بأكثر البحوث أهمية؛ وهو الذي كتبه متخصّص تركي له تجربته المهمّة في التفاعل مع الدولة العراقية دولاتيًّا، بصفته كان مبعوثًا خاصًّا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولكونه كان وزيرًا للري آنذاك، وعنوان البحث هو: (الوضع المائي في تركيا والشرق الأوسط والعالم: النظرة التركية والعراقية إلى الماء)، لكاتبه ويسل أر أوغلو.
إنّ قضية المياه تُعَدّ من المسائل الأكثر تعقيدًا على خريطة الملفات البيئية والأمنية والسياسية على حدّ سواء، محليًّا ودوليًّا، وأضحت مثار اهتمام كبير لدى الأوساط الدولية نتيجة عوامل عدة، أنتجت ما أُطلِقت عليه ظاهرة (الفقر المائي)؛ لذا ذهب الوزير التركي في بحثه إلى تناول الوضع المائي المشترك بين تركيا من جهة والعراق من جهة أخرى، بصفتهما دولتان متجاورتان، وباعتباره مصدرًا إستراتيجيًّا في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وهو ما نجده بشكل جليّ في مصر وإيران والعراق والأردن والكويت وليبيا والسعودية وتونس والإمارات واليمن والبحرين، باعتبار مسألة المياه همًّا مشتركًا في الإقليم، ومعضلة تبحث عن حل لتجاوز إشكالاتها، إذ إن مسألة تأمين المياه أصبحت واجبًا وطنيًّا، وضرورة يجب الاعتناء بها، والسعي إلى حلحلتها في ظل واقع إقليمي شرق أوسطي مضطرب.
بادرت تركيا انطلاقًا من قاعدة الحفاظ على أمنها الإقليمي لمواجهة التهديدات الإرهابية الصاعدة في الإقليم إلى تدشين عدد من القواعد العسكرية التي تهدف إلى الحؤول دون المساس بأمنها الداخلي، وهو ما يسلّط الضوء عليه الكاتب التركي فاتح موصلو في بحثه: (إستراتيجية القواعد العسكرية التركية في العراق) الذي تناول الأسباب والمسببات التي دفعت تركيا إلى المضي قدمًا نحو ذلك وإستراتيجيتها في إقامتها لهذه القواعد العسكرية المهمّة، وانعكاساتها على الأمن الإقليمي التركي والعراقي على حدّ سواء.
ويقف حزب العمال الكردستاني على رأس الأهداف التي تسعى تركيا إلى الحدّ من نشاطاته، لما يمثّله من تهديدات عابرة للحدود، وبذلك تمثّل القواعد العسكرية حائط صدّ لوقف نشاطات الحزب بعد أن وجد في العراق أرضًا خصبة لنمو ميليشياته وتكاثرها، حتى أضحت تهديدًا واضحًا للخاصرة الجنوبية التركية، فيما تُعدّ (قاعدة بعشيقة) من أهمّ النقاط العسكرية التركية في العراق.
وبهذا انتقلت تركيا في محاربتها ميليشيات حزب العمال الكردستاني من الداخل إلى الخارج، ولم تقتصر على المواجهة القديمة باستهدافها من داخل تمركزاتها الجبلية في الداخل التركي فحسب، وهو ما عزّز الوجود التركي العسكري خارج حدوده.
تمثّل الحكومة العراقية الجديدة بقيادة عادل عبد المهدي خطوة مهمّة في مشهد سياسي مضطرب يبحث عن حلول، وهو ما يضع على عاتقها مهمّة صعبة في ظلّ الأجواء السياسية المضطربة منذ سنوات، التي تؤدّي الطائفية دورًا كبيرًا في زلزلته وعدم استقراره.
يقدّم لنا الباحث العراقي عثمان رياض الصباغ في بحثه: (العملية السياسية العراقية في ظل حكومة عادل عبد المهدي) أهمّ الملفّات الشائكة على طاولة الحكومة العراقية، ومنها الصراع الأمريكي الإيراني وتداعياته على الشأن العراقي، وملفّات أخرى تمثّل تحدّيًا كبيرًا للرجل وحكومته، فضلًا عن عرض الأسباب التي دفعت إلى تشكّلها في ظل الواقع العراقي القائم، ويخلص منها إلى استنتاجات مهمّة في خاتمة مقالته.
وعطفًا على ما سبق تظلّ مسألة إقليم كردستان من أشدّ الملفات والأكثر حساسية في تمظهرات التركيبة المجتمعية والسياسية في الدولة العراقية، ويطلّ علينا من نافذة الإقليم الكاتب العراقي صدام مرير الجميلي ببحثه: (مستقبل العلاقة بين الحكومة الاتّحادية وحكومة إقليم كردستان العراق) لسبر أغوار التحولات التي شهدها الإقليم على مدار أكثر من عقدين ويزيد.
ويذكر الكاتب العراقي أنه على الرغم من إسهام الولايات المتحدة الأمريكية في رسم قواعد خطة بناء الدولة العراقية وتحديد مسار التعامل السياسي المفترض بين مؤسساتها- إلا أن القوى والأطراف السياسية لم تتمكن بعد من تثبيت قواعد هذا البناء ونظامه السياسي، فلا تزال حالة الفوضى السياسية والتجاوزات تنخر في جسد هذا النظام، ونتيجة لذلك لا يزال إقليم كردستان حاضرًا على رأس الإشكالات الداخلية، وبخاصة في مسألة الفيدرالية والحوكمة الذاتية.
ويمكن القول إن مستقبل العراق في جزء كبير منه مرهون بالتأثير السياسي الإيراني المتحكم في مفاصله بشكل لا ينفكّ عنه، وهو ما يقدّمه الباحث العراقي فراس إلياس في بحثه: (مستقبل الدور السياسي الإيراني في العراق بين النجاح والإخفاق).
مثّل ظهور التنظيمات الإسلامية المتطرّفة حجر عثرة في توثّب الدولة العراقية بخطوات جادة للخروج من تداعيات الغزو الأمريكي لها ومحاولاتها الرامية نحو الاستقرار، وهو ما أسهم بدوره في زعزعة استقرارها ولا تزال.
ومع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية ابتداء في العراق ثم بامتداداته في الشام ما بين 2014 و2017 ظهر جليًّا وبكل وضوح أمام أعين العالم أجمع افتقاد العراق لمنظومة أمنية قوية قادرة على الوقوف بشدّة أمام التطورات السريعة للتنظيمات الإرهابية المستنسخة من سابقاتها، حتى أضحت أشدّ تطرفًا وأكثر تكيّفًا مع واقع سياسي ومجتمعي أنهكته الطائفية؛ نتيجة سياسات لم تعِ التنوع الإثني والعرقي لبلد كبير مثل العراق.
وعقب اندحار التنظيم لا تزال هناك أسئلة ملحة حول الأسباب والتداعيات التي أوصلت العراق إلى أن تكون أرضًا خصبة لنموّ مثل هذه التنظيمات المتطرفة، وهو ما عرّج عليه الكاتب العراقي سيف نصرت الهرمزي في بحثه: (السياسيات الأمنية في العراق بعد تنظيم داعش).
يتناول الباحث السياسات الأمنية في العراق بعد تنظيم داعش، ويقف على مقوماتها، ويحلّل نقاط الضعف في المراحل المختلفة من الأحداث الكبرى التي أدخلت البلاد في فوضى بحسب وصفه، وجعلتها على حافة الهاوية، ولاسيما بعد الأعوام: 2003 و2006 و2014.
وينطلق الهرمزي إلى تحليل وتفكيك أشكال ما أطلق عليه (العسكرة والأمننة) وينطلق منها نحو تقييم الإستراتيجية الأمنية العراقية في مكافحة الإرهاب، وهل أتت أكلها أم لاتزال لديها نواقص وتحتاج إلى الخبرات الكبيرة التي تدفعها إلى أن تعيد رسم سياساتها الداخلية مجدّدًا، وبخاصة الأمنية منها؟!
ومن العراق إلى سوريا، ونظرًا لحجم امتداد رقعة الارتدادات والتقاطعات الكبيرة في خاصرة تركيا الجنوبية الممتدة من سوريا إلى العراق- فإنّنا نتناول هذا في ثلاثة بحوث مهمّة: أولها بحث الكاتب حسين ألب تكين، وعنوانه: (المنطقة الآمنة المزمع إنشاؤها في سوريا: الأطراف والمواقف) وثانيها: (معادلة إس 400 وإف 35 وانعكاساتها على العلاقات التركية الأمريكية) للكاتب ويسل كورت، ثم بحث كل من محمد جاغطاي غولر وجان أجون: (حروب المصادر الطبيعية في سوريا).
ونختتم بحوث العدد بدراسة عن إقليم كشمير الهندي، التي تسلّط الضوء على معاناة مسلمي الإقليم ومأساتهم المتواصلة منذ عقود، ولاسيّما بعد تجدّد الأحداث مؤخرًا من خلال التصعيد الهندي القائم، الذي نشط بشكل مفاجئ، وأعاد القضية إلى الواجهة مرة أخرى، حيث ضربت الهند من خلاله قرارات الأمم المتحدة عرض الحائط، بعد أن أكّدت في وقت مضى حقّ تقرير المصير للكشميريين، واعترفت بوجودهم واستحقاقهم الحياة التي سلبتها الهند على مدار العقود الأخيرة، رغم اعتراف الأمم المتحدة بها، وهو ما ينذر بكارثة إنسانية ومأساوية خطيرة.
وتبرز القضية من خلال ما يقدّمه رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط محمد مكرم بلعاوي في بحثه: (قراءة في قرار الهند إلغاء الوضع الخاص بكشمير)، حيث قدّم جملة من التحليلات المهمّة والجادّة حيال القضية برمتها.