رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

من القول إلى الفعل العلاقات التركية– الإفريقية وتحليلها 1998– 2015م

من القول إلى الفعل العلاقات التركية– الإفريقية وتحليلها 1998– 2015م

من القول إلى الفعل  العلاقات التركية– الإفريقية وتحليلها 1998– 2015م

ملخص: يحاول هذا البحث دراسة العلاقات التركية الإفريقية دراسة تحليلية في الفترة الممتدة بين عامَي 1998 و2015... ويرى الباحث فيه أن السياسة الخارجية التركية الحالية تجاه إفريقيا أكثر مبادرة من ذي قبل، ولاسيّما في مجال المساعدات الإنسانية والعلاقات الاقتصادية، وتحديدًا منذ عام 2002 الذي شهد قدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وقد توسّعت دوائر العلاقات بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، بمشاركة وإسهام من منظمات المجتمع المدني التركية في هذا الإطار، ويضرب الباحث مثلًا بالعلاقات التركية الصومالية على أنها نموذج لعلاقات مبنية على تحقيق السلام والتنمية، لا على المصالح الاقتصادية فقط، وهذا من شأنه تعميق العلاقات، والمحافظة على قوة السياسة الخارجية التركية في المستقبل.

  

إن السياسة الخارجية التركية الحالية أكثر استباقية من سياسات باقي عهود التاريخ الجمهوري، إذ لم تكن إفريقيا تتصدر جدول أعمال السياسة التركية، خلافًا للأهمية التي توليها تركيا لإفريقيا في السنوات الأخيرة... إذ أعلنت تركيا أن عام 2005 هو "العام الإفريقي"، واستضافت خلال الفترة الواقعة بين 18 و21 من شهر آب 2008 قمة التعاون التركي الإفريقي التي حضر خلالها ممثلون عن خمسين دولة إفريقية، وأعلن وزير الخارجية التركي آنذاك علي باباجان خلال شهر حزيران من العام نفسه 2008 أن إفريقيا ستتبوّأ بعد الآن مكانة خاصة في السياسة الخارجية التركية، وأنه سيتم خلال الأعوام القادمة افتتاح 15 سفارة تركية في الدول الإفريقية.[1] ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا بدأت السياسة الخارجية تجاه إفريقيا تأخذ منحى بارزًا وتزداد وضوحًا.

على الرغم من أن العلاقات التركية الإفريقية تمتد لماض طويل، إلا أن العلاقات الجديدة كانت من الناحية الاقتصادية خلال فترة قصيرة بمثابة مؤشر وتحول جذري في العلاقات الثنائية، فبالرغم من الامتداد التاريخي للاهتمام التركي بالعلاقات الإفريقية الذي يعود إلى عام 1998 إلا أن هذه العلاقات بدأت تظهر بشكل أوضح منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2002، حيث بدأ رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان يبذل جهده سعيًا إلى تطوير العلاقات مع البلدان التي أُهمِلت من قبل، فإفريقيا التي كانت تُصوَّر قبل عشر سنوات في قنوات التلفاز التركية بصور الفقر والجوع أصبحت اليوم -بالإضافة إلى كونها بديلًا سياسيًّا واقتصاديًّا- مظهرًا للأمل بدلًا من تلك الصورة القاتمة.[2]

ولا نبالغ إذا قلنا إن تتبُّع السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية يُظهر أن إفريقيا صارت خلال فترة قصيرة من أكثر مناطق هذه السياسة نجاحًا، ويمكن ترشيح العلاقات التركية مع إفريقيا إلى صدارة السياسات التركية الخارجية، وأكثرها نجاحًا وبقاءً من ناحية شمولها ومضمونها والتأثيرات المحتملة التي ستشكلها... وبدأ الاهتمام الذي توليه أنقرة لإفريقيا في الآونة الأخيرة يأخذ شكلًا خاصًّا في الوقت الذي بدأت المساعدات الاقتصادية والإنسانية تُكسبها حجمًا أبرز من ذي قبل، وبخاصة أن اهتمام تركيا الفعال جعلها محط الأنظار على أنها ممثل سياسي جديد في القارة، وهذا أسهم في تعزيز الوجود التركي هناك، وأصبحت المساعدات الإنسانية والمشروعات التجارية المتطورة تُشكّل حجر أساس هذه السياسة الجديدة، كما أدّت منظمات المجتمع المدني إلى جانب مؤسسات الدولة المختلفة دورًا فعالًا في تعزيز العلاقات بين تركيا وإفريقيا، وتُظهر سياسة أنقرة تجاه الصومال وبلدان إفريقيا الأخرى أن القارة لن تكون قوة اقتصادية لتركيا فحسب، بل ستُشكّل قوة سياسية مستقبلية أيضًا.

 

الإرث التاريخي: أهو ثروة أم عبء؟

من أجل تحليل العلاقات التركية الإفريقية على مدى التاريخ بشكل أفضل يجب تحليل الموضوع من الناحية الجغرافية- الاصطلاحية. إذ يمكننا في تركيا الحديثُ عن مصطلحين بارزين بالاستناد إلى المناطق الجغرافية: الأول إفريقيا الشمالية، والثاني الصحراء الجنوبية الكبرى، وكلا المصطلحين يخطران في ذهن المواطن التركي على أنهما يشكّلان جزءًا من تاريخ الدولة العثمانية، وقد أُفصِحَ عن هذا الأمر في سياسات تركيا الخارجية تجاه إفريقيا... ومن الناحية التاريخية كانت إفريقيا الشمالية جزءًا من الدولة العثمانية خلال القرنين الخامس والسادس عشر، لذا بينها وبين تركيا علاقات قوية ومتينة، خلافًا للصحراء الكبرى الجنوبية التي تُعدّ علاقاتها بتركيا أقل متانة وقوة، لأن هذه العلاقات ليست قديمة، إذ يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر الميلادي.

وبحسب المجتمع التركي لا تُعَدّ إفريقيا الشمالية منطقة جغرافية بعيدة، ويُفسَّرُ هذا الأمر بسببين: الأول هو الحضور الإسلامي في هذه المنطقة، وكونها ضمن صلات قريبة بالتاريخ العثماني، وهذا ولّد شعورًا بأن شمال إفريقيا جزء من المحيط التركي وامتداد له، ولم تكن مسألة تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية مع الشمال الإفريقي محط خلاف، بل على العكس لاقت قبولًا واسعًا على طول تاريخ السياسات الخارجية المختلفة، أما السبب الثاني فهو تقبّل شمال إفريقيا للمجتمع التركي على أنه أحد أقرب مجتمعات الشرق الأوسط إليه.[3]

أما الصحراء الكبرى الجنوبية فكانت على مر الزمان مصدرًا للجوع والفقر والأمراض والحروب الداخلية، وهذه الأسباب كانت بمثابة العناصر الأساسية التي شكّلت صورة الصحراء الكبرى الجنوبية لدى الأتراك، ومهما كانت العلاقات والصلات التي تربط هذه المنطقة بالتاريخ العثماني إلا أنها لم تكن يومًا محط أنظار السياسيين أو الأكاديميين الأتراك.

 فمنذ الذكرى الــ700 لقيام الدولة العثمانية عام 1999 إلى يومنا هذا جذبت المناطق المهملة من التاريخ العثماني، مثل إفريقيا، أنظار الباحثين والأكاديميين الأتراك، إلا أن مواقف الباحثين الأتراك وآراءهم لم تتغير تجاه الصحراء الكبرى الجنوبية، بل حتى مواقف حكومة حزب العدالة والتنمية لم تتقدم تجاهها، على الرغم من كل الجهود المبذولة في هذا الخصوص.[4]

ونذكر في هذا السياق أن جمعًا من الصحفيين والدبلوماسيين المتقاعسين وممثلي الإعلام والمشاهير انتقد زيارة رئيس الوزراء التركي حينئذ رجب طيب أردوغان إثيوبيا ودول جنوب إفريقيا في شهر آذار من عام 2005 (وكان أردوغان أول رئيس وزراء تركي في العهد الجمهوري يزور رسميًّا دولة تقع جنوب خط الاستواء)، ووصفوها بأنها عقيمة.[5] إلا أن هذا الرأي تغير في السنوات الأخيرة حتى في أذهان أشد المنتقدين.

عندما نضع صوب أعيننا الرأيين المختلفين المذكورين تجاه هاتين المنطقتين المختلفتين في إفريقيا- فإننا نستطيع تصنيف العلاقات التركية الإفريقية إلى ثلاث فترات: العهد الأول: ويتضمن العلاقات العثمانية الممتدة من بداية العلاقات العثمانية الإفريقية ذات الاعتبار حتى أوائل قيام الجمهورية عام 1923[6]، العهد الثاني: وهو الفترة الممتدة بين تاريخي 1923– 1998، وشهدت هذه الفترة أدنى العلاقات الثنائية بين الطرفين، العهد الثالث: وهو الذي أعقب عام 1998 حيث أصبحت إفريقيا محط أنظار تركيا إلى أن شهدت الذروة عام 2005.

وإذا علمنا أن مصر، وليبيا، وتونس والجزائر كانت تحت الحكم الكلي العثماني فإننا نستطيع فهم العلاقات التركية الإفريقية بشكل أوضح، وفي الوقت نفسه ينبغي أن نعلم أن الدولة العثمانية كانت ترسل ممثليها إلى الشمال الإفريقي بين الفينة والأخرى لتعرقل التقدم الإسباني في تلك المنطقة. أما بالنسبة لمنطقة الصحراء الكبرى الجنوبية فكانت دول منها تحت حكم الدول العثمانية، مثل: السودان، وإرتيريا، وإثيوبيا، وجيبوتي، والصومال، والنيجر، وتشاد. وفي سعي لتحجيم الاستعمار البرتغالي في القارة الإفريقية كانت الدولة العثمانية تظهر بشكل فعال في شرق إفريقيا. أما بالنسبة للصحراء الكبرى الشمالية فكان العثمانيون جزءًا من نظام القوى آنذاك، وفي هذا المضمار أقامت علاقات ودّ وصداقة مع إمبراطوريات الكانم– بورنو الحاكمة في تشاد والنيجر. ومما يُذكر هنا أنّ إمبراطوريات الكانم– بورنو وقّعت اتفاقية دفاع مع الدولة العثمانية في عهد السلطان مراد الثالث 1575، وبحسب الاتفاقية أرسل السلطان للكانم بورنو تجهيزات وعربات عسكرية.[7]

بعد إنشاء أول مسجد في لاغوس عام 1894، منحت الدولة العثمانية زعيم المجتمع الإسلامي هناك شتاي بيك صلاحيات عسكرية، بالإضافة إلى وسام الدولة، ولقب البيك الذي يُعدّ من الألقاب المدنية المهمّة لدى الدولة العثمانية، كما أرسلت ممثلًا خاصًّا إلى نيجيريا الجنوبية، وفي الوقت الحاضر إضافة إلى كبر عائلة الزعيم شتاي هناك أفراد من عائلته يؤدّون دورًا كبيرًا في إدارة نيجيريا.[8]

وأصبح لدى العثمانيين بدءًا من عام 1861 ممثلون دبلوماسيون في إفريقية الجنوبية، وشكّل تعيين ري دي روبيكس دبلوماسيًّا فخريًّا بتاريخ 18 شباط  1861 بكيب تاون بداية لسلسلة تعيينات فيما بعد. واستمر الأمر كذلك حتى وفاة أول دبلوماسي تركي واسمه محمد رمزي بيك (كان قد عُيّن بتاريخ 21 نيسان 1914 في جنوب إفريقيا) بتاريخ 14 شباط 1916.[9]

ومع إضافة الجانب الديني لهذا الأمر وبناء على طلب السكان قامت الدولة العثمانية بإرسال الأئمة إلى رأس الرجاء الصالح التي تقع الآن في إفريقيا الجنوبية، عن طريق القنصل الفخري روبيكس عام 1836. ولأن هذه المنطقة كانت تحت الحماية الإنكليزية فقد أرسل والي المنطقة رسالة إلى الملكة يبيّن فيها وضع المسلمين هناك، حتى إن هذا الأمر سِيقَ إلى سفير الدولة العثمانية في لندن هـ.أ. مزورس، الذي نقل هذا الأمر إلى الخليفة (الخليفة العثماني في ذلك الوقت)، وعندها أمر الخليفة بإرسال رجل دين من القصر إلى إفريقيا الجنوبية.

بعد مجيء أبو بكر أفندي إلى المنطقة وبفضل جهوده وسعيه تكوّنت صلات وارتباطات قوية بين مسلمي رأس الرجاء الصالح والدولة العثمانية، وخير دليل على ذلك مشاركة مسلمي رأس الرجاء الصالح في حملات الدعم لإنشاء خط الحجاز الحديدي عن طريق جمع الأموال والمساعدات، فقد جُمِع بين عامي 1900 و1907 ما لا يقل عن 366.551 باوندًا من التبرعات[10]، ووزعت الدولة العثمانية فيما بعد 200 قطعة من الذهب والفضة على كل من أسهم في هذه الحملة... وفي الوقت الحاضر يُطلق لقب أفندي على عائلة بارزة في إفريقيا الجنوبية، وقد عاد قسم من أحفاد هذه العائلة إلى تركيا، فيما هاجر الباقون إلى كلّ من كندا، ونيوزلندا وأستراليا.[11]

بعد قيام الجمهورية التركية عام 1923 تدنّت العلاقات التركية الإفريقية إلى أدنى مستوياتها، والسبب هو الأمور الداخلية، ونشوء دولة جديدة، ومحاولة ضمان استقلالها، إلا أن خلال تركيا بدأت في سنوات الحرب الباردة بتنمية علاقاتها السياسية والاقتصادية مع دول إفريقيا الشمالية، لكن للأسف كانت هذه العلاقات تتشكّل وفق سياسات القطبين آنذاك، مما أدّى إلى وقوع سوء تفاهم بين الشعبين بين الفينة والأخرى.

على سبيل المثال إن تصويت تركيا في مجلس الأمم المتحدة  عام 1956 ضد استقلال الجزائر لايزال يخطر في الأذهان على أنه "خطأ" تاريخي لتركيا. ومهما كانت العلاقات التركية الإفريقية ضعيفة اعتبارًا من عام 1970 إلا أنها تطورت إلى حد ما بفضل جهود تغيير العلاقات السياسية والاقتصادية.

وإلى جانب هذه التطورات لم تنل الصحراء الكبرى الجنوبية حظها من تطور السياسات التركية الخارجية، كما أن تركيا لم يكن لها دور بارز في حصول دول مثل ناميبيا وزمبابوي على استقلالها. ولكن عندما حصلت غانا على استقلالها سنة 1957 اعترفت تركيا بها دولة مستقلة، وعينت فيها سفراء دائمين.

وفي أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات ومع بدء فترة انتهاء الاستعمار (الانسحاب من المستعمرات) اعترفت تركيا بجميع الدول التي حصلت على استقلالها، وسعت إلى إنشاء علاقات دبلوماسية معها، كما أنها فتحت سفارات دائمة في تلك البلدان... وتّعد القنصلية العامة التركية التي فتحتها تركيا في لاغوس سنة 1956 أول ممثل رسمي لتركيا في تلك المنطقة.[12] وقد سعت أنقرة بكل جهودها إلى إنشاء علاقات سياسية واقتصادية مع جميع الدول الإفريقية، وعلى رأسها دول إفريقيا السوداء، وبذلت جهودًا حثيثة في هذا السياق بين الأعوام 1960 و1970، لكن للأسف كل هذه العلاقات لم تستمر لفترات طويلة، ولم تكن تركيا ضمن سياق علاقات متينة وقوية مع إفريقيا.

على الرغم من إجراء تركيا إصلاحات في سياساتها الخارجية خلال فترات انتهاء الاستعمار عام 1970، إلا أنها أضاعت فرصة إنشاء علاقات سياسية واقتصادية دائمة مع دول إفريقيا، وقد تسببت المشكلة التي عاشتها تركيا مع الدول الأوروبية بسبب الأزمة القبرصية في تأخر السعي الجاد في هذا المجال، ويكمن سبب  تأخر الإجراءات تجاه تطوير العلاقات مع إفريقيا إلى النقص التنفيذي، والأزمات التي حالت دون الاهتمام بها، إلا أن السبب الرئيس هو قلة وندرة المعلومات والإجراءات الإستراتيجية التركية تجاه إفريقيا.

وقد تأخر الانفتاح التركي على دول إفريقيا حتى قبول إجراءات الانفتاح عليها سنة 1990، وازداد بريق هذا الانفتاح بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، ولوحظت جهود تركية حثيثة وجبّارة في إقامة العلاقات مع إفريقيا وتطويرها، كما أسهمت منظمات المجتمع المدني كلها في دعم هذه الخطوات، وما يميز السياسة التركية الخارجية الحالية عن سابقاتها يكمن في الجهود المبذولة داخل المجتمع التركي بهدف تغيير الصورة النمطية السابقة عن إفريقيا.

وإذا تأمّلنا هذا الموضوع نجد أن تركيا الجديدة في بحثها عن إفريقيا لم تَعُدْ تتبع سياسة مزدوجة، فتُولي اهتمامًا خاصًّا بإفريقيا الشمالية، وتتعامل مع الصحراء الكبرى الجنوبية وفق صورتها القديمة، بل أضحى التعامل مع المناطق كلها على السواء، على أنها إفريقيا واحدة، ويُخيَّل إلى المتمعّن في انشغال رجال الأعمال الأتراك بتطوير علاقاتهم مع إفريقيا- أن الأتراك يكتشفون قارة إفريقيا من جديد.[13]

لماذا إفريقيا؟ محاولة لفهم السياسة التركية الخارجية "الجديدة"

نستطيع في ظلّ عدم إمكانية فصل الانفتاح التركي على إفريقيا عن السياسة الخارجية التركية- تقييم الأسس الفكرية والسياسية والاقتصادية لهذه السياسة من خلال ثلاث نقاط.

إن تحليل البنية التحتية الفكرية لهذه السياسة تحليلًا جيدًا يساعدنا في الإجابة عن التساؤل الذي يدور حول سر اهتمام تركيا البالغ بمناطق كانت مهملة في السياسات الخارجية السابقة.

ولعل السمة الفكرية البارزة التي تتصدر السياسة التركية الخارجية بعد حكم حزب العدالة والتنمية تكمن في تخيّل جغرافية جديدة للعالم من وجهة نظر تركية، فلم تعد تركيا تقرأ العالم كما كانت تقرأه خلال الحرب الباردة، بل بدأت تنظر إلى العالم من منظور مختلف، في ظل توازنات مختلفة، وضمن إطار مختلف أيضًا. ويُعدّ هذا التغير الفكري نتاجًا للسياسة الخارجية، إضافة إلى كونه نتاجًا للإصلاحات الداخلية. فمهما كانت الأسباب والنتائج فإن تركيا الحالية تنظر إلى إقليمها وإلى العالم من وجهة نظر مختلفة عما سبق، ومن البديهي أن هذا سينعكس على وجهة النظر التركية تجاه إفريقيا أيضًا، وستُحدِث تغيرًا جذريًّا في ذلك، فبحسب وجهة النظر التركية الجديدة لم تعد دول إفريقيا وآسيا مناطق نائية ومصدرًا للمشكلات، بل دول يجب إنشاء علاقات سياسية واقتصادية معها وتطويرها، بل يتعدّى الأمر هذا، إذ ينبغي التحرك سويًّا، والدخول في شراكة إن تطلب الأمر.

إن التغير الأساسي الذي يشكل البنية التحتية للانفتاح التركي يكمن في الجهود المبذولة لإعادة تموضع تركيا بين الاقتصاديات العالمية، وبالرغم من أن جذور التغيير الاقتصادي تعود إلى سنوات الثمانينيات في عهد تورغوت أوزال،[14] إلا أن التغيير البارز والمنظّم تحقق عام 2002، بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. وقد بدأ أوزال يغيّر نظرته إلى العالم من كونه ساحة للتهديدات والأزمات إلى كونه مكانًا لتقييم الفرص، لكن  جهود تعريف العالَم الاقتصادي بدأت من جديد في عهد العدالة والتنمية، وأصبح يشكل البنية التحتية لتوجيه سياسات الإقليم. ويمكن بمقارنة سهلة بين عهد أوزال وعهد العدالة والتنمية التوصل إلى الفوارق البارزة بينهما؛ إذ تميزت نظرة أوزال بكونها بناءة، ومنتهزة للفرص، واتخذت من الاقتصاد عنصرًا أساسيًّا لها. وتبنّت تركيا في عهده سياسة المصالح مبدأ رئيسًا لها، أما في عهد العدالة والتنمية فقد اتخذت تركيا من الإرث التاريخي والثقافي منطلقًا لها، وأصبحت تُكوِّن وجهة نظر إقليمية وعالمية خاصة بها، وأثرت سياساتها الديناميكية في المنطقة في علاقاتها مع الغرب؛ إذ خرجت من كونها دولة عادية إلى كونها دولة تقرر مصيرها وسياستها بنفسها، وبشكل مستقل.[15] وفي هذا السياق فإن انتقال تركيا من تصور نفسها "جسر تواصل" إلى كونها "دولة مركزية" له قيمة كبيرة، بالإضافة إلى أنها تشكل مؤشرًا لرؤيتها المستقبلية. من هذه الناحية بدأت تركيا ترغب في إظهار سياساتها الخارجية وعلاقاتها مع آسيا وإفريقيا بعد أن أصبحت دولة مؤسسات، تسعى إلى أداء دور رئيس في المنطقة وفي السياسة الدولية.[16] ومن ثَمّ فإن السياسة الخارجية في عهد حزب العدالة والتنمية مختلفة عنها في عهد أوزال من حيث الفائدة والشكل، ومن حيث الاحتواء والعمق، لصالح الأول، ومن المحتمل أن يكون لسياسة حزب العدالة والتنمية تأثيرات إيجابية على المدى الطويل.

بالإضافة إلى ما ذكرناه آنفًا فإن الأساس السياسي للانفتاح التركي تجاه إفريقيا هو رغبة أنقرة في الإسهام في السلام العالمي عن طريق زيادة علاقاتها وتأثيراتها في المنطقة والعالم. فتركيا اليوم لم تعد مركز أزمات، بل دولة ذات رؤية وسياسة واضحة بحسب هذه الرؤية، كما أن العلاقات مع إفريقيا ليست بديلًا عن العلاقات مع أوروبا، ولا تتضمن تضادًّا أو تعارضًا فيما بينها.

فتركيا ترغب في أن تكون -في العالم الذي لم يعد قطبين فقط- صاحبة علاقات واسعة مع دول المنطقة والعالم، وأن تحدّد سياستها الخارجية في هذا السياق.

ما الذي جرى خلال ثلاثة عشر عامًا؟

يمكننا القول إن نجاح تركيا في القارة الإفريقية كان ذا تأثير كبير، ففي الوقت الذي كان الشرق الأوسط محط أنظار المجتمع الدولي من وجهة نظر السياسة التركية- استطاعت تركيا من خلال علاقاتها السياسية والاقتصادية، وضمن إطار الثقافة الاجتماعية من التعمق داخل القارة الإفريقية، وجعلت من نفسها ممثلًا سياسيًّا دائمًا، ولاحظنا أن تركيا تزيد من وجودها الدبلوماسي هناك بشكل متسارع.

ففي السنوات الثماني الأخيرة افتُتِحت تسع وعشرون سفارة تركية جديدة، وبهذا وصل عدد السفارات التركية في إفريقيا إلى إحدى وأربعين سفارة. وفي المقابل ارتفع عدد البعثات الدبلوماسية الإفريقية في أنقرة من ستة عشر إلى ثلاثين. كما أن الزيارات المتبادلة على المستوى الرفيع تزداد من عام إلى آخر.

وفي السياق الاقتصادي ارتفع حجم التجارة التركية الإفريقية من 5.5 مليار دولار إلى 20 مليار دولار في السنوات الثلاث الأخيرة، ووصل حجم الاستثمارات التركية في إفريقيا إلى 6 مليارات دولار، وفي مجال التعاون التجاري والاقتصادي شُكّلت مجالس عمل، ووُقِّع عدد من الاتفاقيات، كما أن الرحلات الجوية بين الطرفين تزداد بشكل خيالي، حيث تنظّم الخطوط الجوية التركية في الوقت الحالي رحلات مباشرة إلى 46 مدينة مختلفة في 28 دولة إفريقية.

وفي ظل العلاقات المتبادلة لم تغفل أنقرة موضوع المساعدات الإنسانية، فقد فتحت وكالة التعاون والتنسيق التركية (TİKA) مقرات لها في أكثر من 11 دولة إفريقية؛ لتقديم المساعدات والهبات لأكثر الدول حاجة وفقرًا، وتكفلت آلاف الطلاب الأفارقة الذين درسوا ولايزالون يدرسون في تركيا، سواء في الجامعات أم المدارس، حتى إن المسؤولين الأتراك يرون أن إفريقيا وجهة تحمل في جعبتها النجاح في الأيام القادمة.

كما أن القمة التركية الإفريقية الثانية التي عقدت في عاصمة غينيا الاستوائية مالابو، بين تاريخي 19–20 من عام 2014 تُعَدّ مؤشرًا لمكانة إفريقيا في سياسة تركيا الخارجية، كما أنها أشارت إلى طبيعة العلاقات بين الطرفين، وأزالت الشكوك التي كانت تسود العلاقات، فقد وافق الطرفان في هذا الاجتماع على استمرار خطط العمل التنفيذية حتى نهاية عام 2019، ورفع مستوى العلاقات الإستراتيجية.[17]

إذن تُعَدّ إفريقيا من أبرز الساحات التي يظهر فيها نجاح السياسة التركية الخارجية خلال مدة قصيرة. ولا نبالغ إن قلنا أن إفريقيا كانت الساحة الأكثر نجاحًا في سياسة حزب العدالة والتنمية الخارجية، باستثناء حادثة الاعتداء على السفارة التركية في الصومال عام 2013، التي قُتل فيها شرطي تركي، وحادثة مقتل أحد طيارِي الخطوط الجوية التركية.

يُضاف إلى كل ما سبق أن سياسة تركيا تجاه إفريقيا من حيث نتائجها أسهمت في توسيع علاقات أنقرة وزيادة تأثيرها في الساحتين الدولية والإقليمية.[18]

إن خطة الانفتاح التركي تجاه إفريقيا التي بدأت سنة 1998 توقفت في عهد الحزب الواحد؛ لأسباب سياسية واقتصادية حتى عام 2002، ولكن استُأنِف الانفتاح بعد عام 2002؛ أي عقب مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، ونستطيع تقسيم الانفتاح التركي تجاه إفريقيا إلى خمس مراحل.

المراحل الخمس للانفتاح التركي على إفريقيا

المرحلة الأولى، وهي المرحلة التحضيرية التي تبدأ من عام 2002 وتمتد حتى عام 2005 الذي أُطلق عليه اسم "العام الإفريقي"، وتُعدّ هذه المرحلة فترة تخطيط لما سيُحقق في المستقبل، وقد تضمنت زيارات على الصعيد المدني، واختُتِمت بإعلان عام 2005 العام الإفريقي، وبسبب المحادثات السابقة لم يتفاجأ زعماء الدول الإفريقية بهذا الأمر، كما أنها كانت مؤشرًا للإرادة التركية تجاههم.

المرحلة الثانية، التي امتدت بين عامَي 2005 و2008، وهي من أكثر المراحل تنوعًا من حيث العلاقات السياسية والاقتصادية، إذ انعقدت خلالها القمة التركية الإفريقية الأولى، ووصلت العلاقات في هذه المرحلة إلى مستوى أكثر مما كان متوقعًا ومخططًا لها قبل عام 2005.

المرحلة الثالثة، وقد امتدت من عام 2008 إلى شهر آب من عام 2011، وشكلت زيارة رجب طيب أردوغان إلى مقديشو خلال هذه المرحلة آفاقًا واسعة وعميقة للعلاقات بين الطرفين، وافتتحت تركيا في هذه المرحلة عددًا من السفارات الجديدة في الدول الإفريقية، ورفعت من حجم تبادلاتها التجارية الذي  زاد أربعة أضعاف مما كان عليه، فارتفع من 4 مليارات دولار إلى 18 مليار دولار، لذلك تشكل الفترة بين عامي 2005–2011 حجر الأساس في العلاقات التركية الإفريقية.

المرحلة الرابعة، وهي المرحلة التي تلت زيارة أردوغان إلى الصومال التي نقلت العلاقات إلى آفاق أكثر توسعًا، إذ لم تعد تركيا بعد الانفتاح التركي الصومالي عام 2011 الدولة التي تقتصر علاقاتها في القارة على مستوى المساعدات الإنسانية والعلاقات الاقتصادية فحسب؛ بل أصبحت تسلك منهج السياسة ذات المستوى العالي، كما أصبحت تهتم بالموضوعات الأمنية أيضًا.

بل نستطيع أن نَعُدّ الانفتاح التركي تجاه إفريقيا من خلال الصومال في المرحلة الثانية بعد الجمهورية التركية القبرصية من حيث الأهمية، إذ إن الاستقرار الإضافي التي هيأته تركيا للصومال، وسعيها إلى نقل مشكلات الصومال إلى العالم جعلت من تركيا دولة لها كلمتها في القارة، وذات استشارة عند بدء تنقيذ عدد من المشروعات، وفي هذا المضمار فقد استشيرت تركيا من قبل عدد من دول الاتحاد الأوروبي، مثل إنكلترا وإسبانيا والنرويج والولايات المتحدة في موضوعات تخص القارة الإفريقية.[19]

حان وقت الشراكة مع دول أخرى

بدءًا من عام 2014 تدخل العلاقات التركية الإفريقية مرحلتها الخامسة، وهذه مرحلة مهمّة من ناحية ضمان جودة العلاقات، ونجاح السياسات الماضية، ووضعها ضمن سياق أكثر تنظيمًا... ولهذه المرحلة ركيزتان أساسيتان:

 الأولى: كسب العلاقات التركية الإفريقية طبيعة مريحة خلال القمة المنعقدة في مالابو بغينيا الاستوائية.

أما في القمة التي انعقدت  عام 2008 في إسطنبول فكان لدى العديد من القادة الأفارقة تساؤلات مهمّة، نحو: "هل تركيا جادة في المسألة الإفريقية؟" أو "ما النية الحقيقية لتركيا في هذا الشأن؟"، أما الآن فقد حلّ محلّ هذه التساؤلات أسئلة أخرى مختلفة، مثل: "في أي مجال نستطيع التعاون بشكل أفضل مع تركيا؟" أو "كيف يستطيع الطرفان في هذا التعاون الحصول على مرابح أكثر؟". إذن، في القمة الثانية كان البحث عن أجوبة لهذه الأسئلة.

أما الركيزة الأساسية الثانية لهذه المرحلة فهي محاولة تركيا إقامة علاقات تعاون جديدة مع دول أخرى في القارة الإفريقية، وبالرغم من أن وكالة التعاون والتنسيق التركية (TİKA)، ورئاسة المجتمعات التركية (YTB)، ورئاسة الشؤون الدينية- كانت من بين مؤسسات الدولة التي تعارض الانفتاح، لكنها دعمت هذه الخطوة فيما بعد.[20] وهذه الخطوة كانت ناجحة، ولاسيّما أنها صدرت من دولة ليس في تاريخها استعمار لدول أخرى.

ومع هذه الإستراتيجية أصبحت تركيا تنمّي نفسها من خلال المشروعات هناك، كما أنها أنهت الشكوك التي كانت تدور حولها، ومن ثَمّ فقد حان الوقت لترسيخ الوجود التركي هناك، والدخول في تعاونات مختلفة، والخروج من دائرة تصويرها على أنها "دولة كبرى مستعمرة". ولاسيّما أن العديد من الأطراف المنزعجة من هذه العلاقات حاولت إضعاف سياسة أنقرة تجاه الصومال، وهذا أدى إلى انتهاج تركيا سياسة أكثر دقة وحذرًا مما سبق.

النقطة الحساسة وساحات التحدي

نستطيع تحديد مشكلتين رئيستين تكمنان في علاقات تركيا تجاه إفريقيا:

 الأولى، "التعب الإفريقي" الذي بدأ يظهر بشكل ضمني، ويبرز هذا التعب خاصة في الفترة التي يغيب عنها التوجيه والرؤية الإستراتيجية الواضحة، فإذا لم يُجَب عن الأسئلة المهمّة من نحو: "ما المكانة التي تشغلها إفريقيا في السياسة الخارجية التركية؟" إجابات شافية ومقنعة- فإن الانفتاح التركي تجاه إفريقيا لن يحقق أهدافه بشكل كامل ضمن السياسات والاقتصاديات العالمية الكبرى.

النقطة الثانية في العلاقات التركية الإفريقية هي كيفية تأثر هذه العلاقات بالسياسة الداخلية التركية، إذ من المعلوم أن جماعة فتح الله غولن من خلال جمعيتها جمعية رجال الأعمال والصناعيين (TUSKON) من أبرز الممثلين الأتراك، والأكثر انتشارًا في القارة، وقد بدأت الجماعة بعد أحداث 17 كانون الأول 2013 بحملات تشويه ضد أردوغان وتركيا من جهة، وبتحويل وجودها المتأزم داخل تركيا إلى القارة الإفريقية من جهة أخرى... وبسبب غياب حلّ مرتقب لهذه الأزمة الداخلية ينصح بتطوير العلاقات التركية الإفريقية، ورفعها إلى مستوى أعلى من المستوى الحالي... كما أن على الدولة انتهاج سياسة مواجهة نشاط الجماعة وحملاتها التشويشية في القارة من جهة، والعمل على تعميق العلاقات والشراكات من جهة أخرى. وهذه الأحداث تشير إلى أن العلاقات بين تركيا وإفريقيا ستظل موضوع بحث في الفترة القادمة.

 

"الرؤية الإفريقية" لتركيا بعد عام 2015

لا يمكن القول إن هناك مشكلة جدية في سياسة تركيا الإفريقية؛ لأننا نلاحظ أن تركيا تشغل منزلة إيجابية لدى القارة، وتُستقبل بصدر رحب... لكن بإمكاننا القول إن هناك ما يمكن تسميته نقائص بدلًا من مشكلات... وتأتي على رأس هذه النقائص كيفية جعل تأثير تركيا في القارة يحمل أهمية على المستوى الإقليمي والعالمي، فحتى عام 2011 كان بعض الدول المهمّة تحمل قناعة أن تركيا بتركيزها على العامل الاقتصادي تغامر في سياستها تجاه جنوب إفريقيا.

لذلك كانت فكرة "بدل الإسهامات التركية طويلة الأمد في إفريقيا كيف نستطيع الاستفادة من وجودها المؤقت؟"- هي الفكرة المنتشرة بين المَعنيين، لكن سياسة تركيا الجريئة تجاه الصومال سنة 2011 فتحت الطريق لتغيير هذه القناعات لدى الكثير من دول العالم والمنطقة. ولاسيّما أن زيارات رئيس الوزراء آنذاك أردوغان ووزير الخارجية داوود أوغلو أسهمتا في تعزيز هذه العلاقات وترسيخها، وفي تغيير هذه القناعات... ولأن مكانة تركيا في القارة أصبحت كبيرة  كمكانة دول مثل إنكلترا وفرنسا، وهذه مسألة ذات أهمية كبيرة؛ لذا سيكون هذا الأمر بمثابة امتحان لتركيا في هذا الأمر في السنوات القادمة.

ويُعدّ الجانب الآخر لهذا الأمر هو العلاقات الثنائية مع الدول ذات الأهمية الكبرى، وتأثير هذه العلاقات في السياسات العالمية. إن إنشاء علاقات راسخة، وتحضير البنية التحتية السليمة للمشروعات التي ستقام مع أعضاء دول قمة العشرين الإفريقية- ستُسهم بنسبة كبيرة في تعزيز الوجود التركي في القارة من جهة، وستؤدي إلى كون مشروعية تركيا في القارة أمر لا يُناقش كما ذكرنا آنفًا من جهة أخرى... ومن النقائص المهمّة التي تُذكَر منذ بداية الانفتاح التركي الإفريقي نقص الخبراء في هذا المجال.

على الرغم من افتتاح عدد من مراكز البحث الخاصة بالشأن الإفريقي إلا أن هذه المراكز تعاني من نقص في الأجهزة والمعدات، إضافة إلى أن الأشخاص الذين يشغلون هذه المراكز من العقلية الاستشراقية التي تشرع في تلميع المشروعات الغربية في القارة، والتقليل من شأن الوجود التركي هناك. لذلك على الدولة الإسراع وبشكل فوري إلى إنشاء مراكز بحوث، وإرسال طلاب الدراسات العليا إلى القارة، لإعداد البحوث هناك، للوصول إلى الغاية المنشودة، كما يجب إنشاء مراكز تهتمّ بالشأن الإفريقي في الجامعات التركية، ودعوة أكاديميين بارزين من إفريقيا، وإقامة صلات وروابط معهم.

وعلينا أيضًا الإشارة إلى أربعة عناصر رئيسة: أولًا، يجب على تركيا أن تفصح وبشكل أوضح عن نياتها الحقيقية في الانفتاح على إفريقيا، وبيان أنها تريد أن تكون ممثلًا سياسيًّا، وتشارك في حلّ الأزمات، ولاسيّما أن هذا الأمر صار يُناقش كثيرًا في الأوساط الغربية بعد حادثة الصومال، وأصبح من البدهي طرح أسئلة محددة، مثل: "ماذا تريد تركيا أن تفعل؟".

 إن كون دولة ما ممثلًا حقيقيًّا يعني أن تكون لها كلمة مسموعة في كل قضية من القضايا، وأن تكون لديها حلول للمشكلات والأزمات، فعلى تركيا أن ترسخ هذا الأمر وتُشعِر بها الجميع.

عندما نلقي نظرة على الممثلين السياسيين في القارة السمراء في المدى القصير نجد أن روسيا من المحتمل أن تكون شريكا جديا لتركيا هناك؛ فروسيا تحاول الدخول إلى القارة من جديد، وبخاصة أنها تملك علاقات هناك منذ أيام الحرب الباردة، و ثمّة نقاط مشتركة ومتممة بين تركيا وروسيا، وهو ما قد يجعل التعاون بينهما مستمرا مقارنة بالحلفاء السابقين، أمثال فرنسا وإنكلترا وأمريكا  الذين بدأوا يشعرون بالتعب، ولديهم تاريخ سيّئ من الاستعمار، أما الممثلون الجدد، أمثال الصين والهند والبرازيل فإنهم ذوو طبيعة انتهازية وتجارية، ولاتزال مقولات إسهاماتهم السياسية والتجارية تتردد هناك، أما تركيا فإنها نقطة الوسط بين كلّ هذه القوى، ونقطة تلاقي الجميع.

النقطة الثانية، أن تركيا لاتزال تُشعِر مَن حولها بأنها تجهل التوازنات أو تتجاهلها، فعلى سبيل المثال، لن تستطيع حلّ الأزمة الصومالية: لا الكياناتُ السياسية التي ستتولد داخلها، ولا مساعداتُ الدول الأخرى ستساهم في تغيير اللعبة.

إن وصول الصومال إلى الاستقرار يتطلب انتشار الاستقرار في دول القرن الإفريقي، وفي هذا السياق فإن أزمة النيل، والدعم الغربي لكينيا، وتقسيم السودان- من الأزمات التي تؤثر في الصومال بشكل مباشر، ولذلك تجب على تركيا قبل إقدامها على حل أزمة من الأزمات معاينة التوازنات المتعلقة بتلك الأزمة، والسير وفق ذلك؛ لأن ذلك سيفتح لها الطريق لتقديم خدمات دائمة وباقية للسلام العالمي، لذلك فإن هذا الوضع يتطلب إنتاج سياسات وفق ما تتطلبه الظروف المحيطة.

النقطة الثالثة هي الوقوف على عنصر الدِّين بشكل جدي، إذ مهما نفت تركيا بشكل رسمي تقديمها العنصر الديني في سياساتها الخارجية فإنها لن تستطيع أن تُخفي أن الدين أصبح جزءًا أساسيًّا من سياستها الخارجية، وعلى الأغلب ستبقى كذلك، لأن تركيا تقدّم العنصر الديني في سياساتها الخارجية تجاه إفريقيا بشكل ضمني فقط، وتتيح التطورات القائمة في القارة والمجتمع الدولي لتركيا أن تستخدم الدين بوصفه عنصرًا أقوى في القارة الإفريقية، كما يتيح لها هذا الأمر إيجاد الحلول للعديد من الأزمات في الشمال الإفريقي، فعلى سبيل المثال تقيم الزوايا الصوفية في النيجر وما حولها سنويًّا اجتماعات كبيرة على مستوى الجماعات الصوفية، وتُعَدُّ زيارة هذه الاجتماعات ضمن إحدى الزيارات الرسمية شيئًا كبيرًا لدى كل الزوايا والمجموعات الدينية في إفريقيا الغربية، وإذا كانت خطوة سياسية  كهذه ستُكلّف تركيا إغضاب فرنسا إلا أنها في الوقت نفسه ستفتح الطريق أمامها للاشتراك في حلّ أزمات دول عديدة، بما فيها مالي، وربما يغيّر الشعب الإفريقي ذو الأغلبية المسلمة بسبب هذه السياسات وجهته من فرنسا إلى تركيا، وقد لاحظ هذا الأمرَ من يزورون المنطقة.

النقطة الرابعة، تكمن في استمرار الترتيب والتنسيق بين السياسات التركية والمتطلبات الإفريقية، وتتجسد متطلبات الأفارقة من تركيا في إشراكها باستمرار في تجاربها في التنمية والنهوض، وإشراكها في التكنولوجيا التي تملكها، وإرشادها في ذلك... ويشعر الأفارقة بالامتنان إزاء إقامة علاقات مشتركة بينهم وبين تركيا التي تمتلك التكنولوجيا، وهم يمتلكون المصادر الباطنية لهذه التكنولوجيا وغيرها، فالعلاقات تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وإذا أمعنا النظر في هذا الأمر نجد أن إفريقيا من أغنى مناطق العالم بالثروات الباطنية، وتمتلك أراضي زراعية تستطيع من خلالها إشباع كل العالم... ولا تتمثل حاجة إفريقيا هنا في المساعدات؛ بل تتمثل في التوجيه الصحيح لهذه الثروات، وسيكون من المفيد توجيه هذه الثروات بشكل يستفيد منه الطرفان.

 ونريد أن نذكّر هنا بأمر مهمّ، وهو أن ذكر كلمة إفريقيا دائمًا بجانب كلمات مثل الفقر والجوع- غير مناسب، ولو تجنبنا ذلك لكان أمرًا جيدًا، كما أن تغيير صورة إفريقيا الفقيرة هذه في الأذهان سيُسهم في نيل ثقة الأفارقة واحترامهم. حتى إن استخدام مصطلحات، مثل إفريقيا التكنولوجية، والناشئة، والمتطورة والحديثة- سيكون بمثابة نشر للثقافة الإفريقية، وإسهامًا في تغيير وضعها الحالي إلى الأحسن... بالإضافة إلى هذا فإن استغلال المصادر المحلية في النهضة والتنمية المحلية، وتوجيه استخدام الثروات بشكل مستمر وسليم، وإقامة دراسات حول اللغة والثقافة، وأخذ الحساسيات المذهبية والدينية والعرقية لتلك الدول بالاعتبار سيكون أمرًا في غاية الأهمية.

إذا استجابت تركيا لهذه الأمور بشكل جدّي عند مبادرتها لتنفيذ مشروعات أو إجراءات في هذا السياق- فإنّ النتائج ستكون أكثر جدوى، كما أن اعتمادها نظريات الحوار والتبادل الثقافي بدلًا من نظريات الاصطدام والحروب ستحمل في طياتها أهمية بالغة... إن التعاون والعلاقات التي تقيمها تركيا في زمن انتشر فيه الاستعمار والاستغلال لابد أنها ستكون أمرًا في غاية الأهمية.

الخلاصة

إن انفتاح تركيا نحو إفريقيا نتج عن التغيير السياسي الداخلي لتركيا، والتغيير الذي حدث في السياسة الاقتصادية العالمية. ويهدف التغيير الداخلي التركي إلى تحدّي قوى تحالف الاقتصاد التركي الكلاسيكي، من خلال إيجاد بدائل تجارية في الاقتصاد العالمي؛ فالتغيير الذي يحدث في النظام العالمي يفتح الطريق أمام اختيار الدول التي هي قيد التطور لمصالحها بنفسها، أما تركيا فترفض مثل هذه التغييرات، وتسعى لإقامة علاقات ذات وجهات عديدة، ليس مع دول الجوار فحسب، بل حتى مع البلدان البعيدة، والتي تتفق معها في العلاقات السياسية والاقتصادية، لذلك فإن الانفتاح التركي نحو إفريقيا جزء لا يتجزأ من السياسة التركية الخارجية.

يُتوقع استمرار العلاقات السياسية والاقتصادية بين تركيا وإفريقيا خلال السنوات القادمة بشكل متسارع، ما لم تحدث فيها أزمات اقتصادية أو سياسية جادة، كما يجب ذكر أن العلاقات اكتسبت طابعًا نهائيًّا بسبب اشتراك منظمات المجتمع المدني في هذه العلاقات.

إن العلاقات الاجتماعية الثقافية لتركيا في إفريقيا لا تستند إلى العلاقات التجارية فحسب، بل ترتبط بإيجادها الحلول، مثل الذي رأيناه في الأزمة الصومالية، وإذا أحسنت تركيا تحويل اهتمامها بالصومال إلى جهود من أجل السلام والنجاح، فإنها ستخرج من مجموعة الصين والهند التي ترى في إفريقيا قارة اقتصاد فحسب، إلى مجموعة الولايات المتحدة وفرنسا وإنكلترا التي تنظر إلى القارة السمراء من وجهة النظر السياسية والاقتصادية، وسيؤدي هذا الأمر إلى تعميق العلاقات التركية الإفريقية بشكل أكثر، وسيحافظ على أهمية السياسة الخارجية التركية خلال السنوات العشر القادمة.

الهوامش والمراجع:

 

[1]  علي باباجان، حديثه في اجتماع الدول الإفريقية، نيوورك، 24تموز 2008 ، http:// africa.mfa.gov.tr/speech-by-h_e_-babaca-to-the-group-of-african-countries-at-the-un_-24- july-2008.en.mfa..

[2]  Mehmet Ozkan and Birol Akgun, “Turkey’s opening to Africa”, The Journal of Modern African Studies، جلد48، رقم4، 2010. صفحة 525– 546.

[3]  انظر داود دورسن، أين الشرق الأوسط؟ إنسان، إسطنبول، 1995.

[4]  محمد أوزكان وبيرول آق غون، Turkey’s opening to Africa”, The Journal of Modern African Studies" جلد48. رقم4. 2010. صفحة 525– 546.

[5]  انظر أوزدم سنبرك، السياسة الخارجية في عهد الرفاه، راديكال، 21آب 2007.

[6]  أحمد قاواس، تقرير إفريقيا، التقرير الإستراتيجي، رقم4. TASAM، إسطنبول، 2005. العلاقات العثمانية الإفريقية، TASAM. إسطنبول 2006.

 

[7]  انظر محمد أوزكان، Discovers Africa: Implications and Prospects, SETA Policy Brief رقم22. 2008، نعمان هزار The future of Turkish–African relations’، السياسة الخارجية، 25(3/4)، 2000، صفحة 109- 110.

[8]  Tom Wheeler, Turkey and South Africa: Development of Relations 1860–2005, SAIIA Report رقم47. 2005. صفحة 3- 5 .

[9]  سرحات أوراكتشي، The emerging links between the Ottoman Empire and South Africa’, International Journal of Turkish Studies, 14(1/2), 2008 صفحة 47 – 60.

[10]  أورهان كول أوغلو ، الخط الحديدي الحجازي، (1900 – 1908) آماجي، Finansmani, Sonucu, Cagini Yakalayan Osmanli, IRCICA,، إسطنبول، 1995، صفحة 220 – 222.

[11]  سليم أرغون، The life and contribution of the Osmanli scholar, Abu Bakr Effendi: towards Islamic thought and culture in South Africa’, unpublished MA thesis, Rand Afrikaans University, Johannesburg, 2005.

[12]  صالح قراجا، ,‘Turkish foreign policy in the year 2000 and beyond: her opening up policy to Africa’، السياسة الخارجية،  (3/4) ، 2000، صفحة 116.

[13] من أجل فعاليات 2009 و2010 انظر محمد أوزكان، سياسة تركيا الإفريقية 2009، برهان الدين دوران Kemal Inat and Muhittin Ataman (eds)، سنوية السياسة التركية الخارجية 2009، أنقرة، 2011 صفحة 571-601، محمد أوزكان سياسة تركيا الإفريقية 2010، Burhanettin Duran, Kemal Inat and Muhittin Ataman (eds),، سنوية السياسة التركية الخارجية 2011، صفحة 501- 527.

[14]  محي الدين أطمان Leadership change: Özal’s leadership and restructuring in Turkish foreign policy’, Alternatives: Turkish Journal of International Relations, 7(1),، 2008 صفحة 120 – 153.

[15]  أحمد داود أوغلو 2008" Turkey’s new foreign policy vision: an assessment of 2007’, Insight Turkey, 10(1)," صفحة 77 - 69

[16]  مليح ألطون أشق، “Worldviews and Turkish Foreign Policy in the Middle East”, New Perspectives on Turkey, 40, 2009,، صفحة 171 – 194.

[17]http://www.tccb.gov.tr/ozeldosyalar/turkiye-afrika/zirve/

[18]  محمد أوزكان وسرحات أوراكتشي " Turkey as a “political” actor in Africa – an assessment of Turkish involvement in Somalia” Journal of Eastern African Studies," جلد9، رقم2. 2015. صفحة 343 – 352.

[19] محمد أوزكان، "A Post-2014 Vision for Turkey-Africa Relations", Insight Turke," جلد 16.رقم4. 2014. صفحة 23- 31.

 

[20] للتوسع انظر محمد أوزكان " Turkey’s Religious Diplomacy" The Arab World Geographer / Le Géographe du monde arabe" جلد17 رقم 3، 2014، صفحة 223-237


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...