رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| كلمة رئيس التحرير < رؤية تركية

الدور الإقليمي الإيراني وحسابات التنافس

تناول هذا الملفَّ المهمَّ والساخنَ في هذا العدد جملةٌ من الباحثين والخبراء المعنيين بالمسألة الإيرانية وتشعباتها في الإقليم، منهم الكاتبة والباحثة الأردنية فاطمة الصمادي، والباحثون الجزائريون: خالد يايموت، ومراد شحماط، ويحيى بوزيدي، وجلال خشيب، والكاتبان المصريان محمد الزواوي، ومحمد محسن أبو النور، إضافة إلى الكاتبين التركيين حسن بصري يالتشن، وعبدالله يغين، واختُتِم العدد بطائفة من عروض الكتب العربية والاجنبية المهمّة.

الدور الإقليمي الإيراني وحسابات التنافس

كلمة رئيس التحرير

 

عاشت الدولة التركية مؤخرًا لحظات مؤلمة وساعات قاسية تخللتها مشاهد مرعبة في أثناء الانقلاب العسكري الفاشل، الذي هدف منفذوه إلى تقويض التجربة الديمقراطية الصاعدة في البلاد وزعزعة استقرارها، فضلًا عن إثارة الفتن والقلاقل، والإطاحة بآمال الشعب التركي الحر، وقطع مساره المدني بقصد عرقلة نهضة تركيا الجديدة، وصعودها إقليميًّا وعالميًّا، بعد عقود من الوصاية العسكرية السلطوية على هذا الشعب، فتكت بمقدراته وأهدرت طاقاته.

لم تكن ليلة الجمعة الموافقة للخامس عشر من تموز 2016 ليلة عادية كسابقاتها، بل أضحت شاهدًا على تاريخ أمة سطّر شعبها أسمى معاني التضحية والفداء، حينما وقف أمام مجنزرات فئة باغية خانت العهد والأمانة، وأرادت سوءًا بالوطن، فاصطف الجميع رجالًا ونساء وأطفالًا وشيوخًا في مواجهة الانقلاب العسكري لا يعبؤون بشيء سوى الحفاظ على وطنهم، وسلطتهم الشرعية، وتلبية نداء رئيسهم رجب طيب أردوغان الذي أطل على شعبه ليلة الانقلاب الآثم من هاتف نقّال، داعيًا شعبه إلى التصدي لمؤامرة الكيان الموازي، ورأس الفتنة فتح الله غولن القابع في الولايات المتحدة الأمريكية.

 ولكن في ساعات قليلة تبدلت بوصلة الأحداث، عندما وقف المواطنون أمام الدبابات والمدرعات العسكرية، وأبطأوا حركتها، وتصدوا لرصاصات الانقلابيين بصدورهم، لا يخشون إلا الله الذي ضلّل أعداءهم الخونة، وأدخل الوهن في قلوبهم، فارتبكوا رغم انقضاضهم على المرافق الحيوية كالتلفزيون التركي الرسمي "تي آر تي" الذي شهد اقتحامًا سافرًا من قبل زمرة إرهابية من الجيش، وأعلنت منه قسرًا نبأ الانقلاب، ووضعِ الدولة التركية بكل مصالحها وطاقاتها تحت الوصاية والحكم الجبري مجددًا، إلا أن صمود رئيس أركان الجيش التركي خلوصي آكار وموقفه الصلب الرافض للانقلاب رغم إغراءات الانقلابيين وضغوطهم عليه- أقلقهم، ودفعهم إلى مساومته على روحه لوضع بصمة الموافقة النهائية على الانقلاب، حتى تكتمل أركان محور الشر- إلا أنه أبى ورفض خيانة واجبه العسكري ومهمته في حماية بلده ووطنه؛ رغم محاولة رأس الشر فتح الله غولن التواصل معه استجابة لدعوة محتجزيه الانقلابيين بهدف إقناعه، وظل صامدًا حتى نجّاه الله، وأخرجه من بين أيديهم سالمًا، فرجعت الأمور إلى نصابها شيئًا فشيئًا بخروج الملايين من الشعب التركي إلى الميادين، مطالبين بالحفاظ على الجيش التركي ووحدته، وتطهيره من الخونة والمرتزقة بحزم واقتدار .

وكان على رأس أهداف ملايين المواطنين الذين احتشدوا في الميادين استجابةً لدعوة الرئيس التركي أردوغان- تطهير الدولة التركية من الانقلابيين وأذنابهم، ومن الجيوب النائمة التي تسعى للنهوض مجددًا ومعاودة الانقلاب في المستقبل؛ وذلك للحفاظ على الشرعية التي حققت لمواطنيها إنجازات عجز عنها الآخرون، من أمن ورخاء اقتصادي وتموضع إقليمي وعالمي- رفعت شأن الجمهورية التركية سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، وحققت مستويات متقدمة باتت تنافس بها دولًا عظمى، وكان من أثار هذه الإنجازات في الشعب التركي أنّها ولّدت لديه الإحساس الأصيل والشعور الصادق بأداء واجبه والتضحية بروحه؛ لأجل تركيا الحديثة، واستمرارها في الحفاظ على مكانها الطبيعي، بحيث تظلّ منافسًا قويًّا، وواحة للمظلومين والمضطهدين في العالم؛ بخلاف تركيا القديمة التي عانت الجمود والعسكرة سنوات طويلة وقاست العزلة والانزواء.

وإن الأحزاب السياسية التركية قدّمت مشهدًا تاريخيًّا مشرِّفًا يضاف إلى إنجازات الشعب التركي؛ بدعمها السلطة السياسية في البلاد، ومساندتها القوية لها، وتناسيها المساجلات السياسية، والمصالح الذاتية الضيقة، والتعارضات الحزبية، ووضعها مصلحة الوطن ووحدته فوق كل اعتبار، فقد رسم رؤساء الأحزاب السياسية التركية بهذا المشهد لوحة فنية جميلة قلما نجدها في العالم من حولنا، ولاسيّما في ظل وجود تجارب انقلابية مماثلة قريبة من تركيا، خشي بعض المراقبين أن تمتدّ آثارها إلى الداخل التركي، وأن ينقلب الساسة المعارضون في هذا المشهد الصعب على السلطة السياسية، إلا أن وعي تلك النخبة، ونضج تصوراتها لذاتها، والفضاء السياسي من حولها، ويقينها بأن الخصومات السياسية لا يمكن أن تكون سببًا في غياب اللحمة ومفارقة الحق والتخلي عن الدولة والوطن والواجب- جعلتها تبدو بهذه الصورة النبيلة التي تستحق عليها هذه الأحزاب الشكر والتقدير.

ونرى أن الدولة التركية محظوظة بهذه النخبة السياسية التركية التي عانقت سلطتها في وقت المحنة، وتجاوزت خلافاتها وخصوماتها في سبيل الذود عن أمتها ودولتها، وبخاصة عقب استهداف الانقلابيين مجلس النواب التركي للمرة الأولى في تاريخه، وهو ما دفع الجميع إلى الشعور بأنهم في خندق واحد في مواجهة الانقلابيين وداعميهم في الداخل والخارج، إذ إن المعركة واحدة والمصير مشترك.

وإن كلمات رئيس الحكومة السابق أحمد داود أوغلو التي رافقت ظهور الرئيس التركي السابق عبدالله غول ودعمه للسلطة ورفضه للانقلاب، جنبًا إلى جنب مع رئيس الحكومة الحالي بن علي يلدرم وكلمة الرئيس رجب طيب أردوغان- أعطت دلالة كبيرة وإشارة واضحة أن اختراق الدولة التركية من الخارج بالسعي إلى إثارة الفتن داخلها عسير أو مُحال، وهو ما عكسته الخطابات القوية التي أبداها الوجه الجديد على الحكومة يلدرم خلفًا لزميله داود أوغلو اللذين أثرا تأثيرًا كبيرًا في الجمهور التركي باقتلاع جذور الانقلابيين الخونة من الأرض التركية.

ولاشك أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية قد أبدت موقفًا مضطربًا وضبابيًّا في الساعات الأولى من الانقلاب، مقابل دعم عربي وإسلامي للحكومة الشرعية، ظهر جليًّا في القلق الذي أبداه الشارع العربي والإسلامي من محاولات الانقلاب الرامية للإجهاز على الدولة التركية، حتى أضحت مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت فضاء ثوريًّا لتأييد إخوتهم وأهليهم المستنفرين في مواجهة آليات الانقلابيين.

وعلى الرغم من تباين المواقف الرسمية لبعض الدول العربية إزاء ما حدث في تركيا، إلا أن هذه المحنة التي تعرضت لها الدولة التركية كانت بمثابة منحة أهداها الله إياها لمعرفة العدو من الصديق، ولإدراكها أنه بات واجبًا عليها من هذا التاريخ الدقيق واللحظة الحاسمة أن يكون لها وجود مغاير لسابقه في المنطقة العربية والإسلامية، بحيث لا تنفصل عن عمقها التاريخي العربي والإسلامي، وذلك لحجم العلاقات التاريخية والإرث المشترك، وهو ما عزّزه وشدد عليه حرصُ الشارع العربي والإسلامي على نجاح مساعي تركيا في إحباط الانقلاب.

ونرى من الواجب علينا في هذا العدد الجديد من مجلة "رؤية تركية" أن نقدّم التعازي الحارة لأسر الشهداء الذين قضوا نحبهم على أيدي الانقلابيين الخونة، الذين ادعوا زورًا انتماءهم إلى هذا الشعب الأبيّ، وأن نحيِّيَ أسرهم وذويهم، ونؤكد لهم أن هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بأرواحهم الغالية في سبيل الوطن والأمة هم فخر لنا، بل فخر لكل إنسان شريف، كما أننا نقف تقديرًا واحترامًا لجرحانا على أيدي مدبّري الانقلاب الغاشم، ونشدّ على أيدي الملايين من أبناء هذا الشعب المخلصين، الذين وقفوا صفًّا واحدًا خلف قادتهم، محافظين على مكتسباتهم الديمقراطية، رافضين أي محاولة للتقليل من شأنهم أو النيل من رغبتهم في الاستمرار، أو التغيير ولكن ضمن الآليات الديمقراطية لا عن طريق سلطة العسكر والدبابات والدمار والدماء.

وسوف نعدّ بحول الله في العدد القادم من مجلة رؤية تركية ملفًّا شاملًا وتحليلًا وافيًا عن مشاهد الانقلاب منذ ساعاته الأولى إلى تلاشي غمامته وتبدد حلمه في قتل آمال هذا الشعب الذي أصر على أن يصون كرامته ويحفظ وطنه.

أما العدد الذي بين أيديكم -قرّاءنا الأعزّاء- فيتناول قضية تُعدّ من أهم الملفات الساخنة في الوقت الحاضر، ولاسيّما في الشرق الأوسط الذي يعج بجملة من المتناقضات والتباينات والارتدادات العكسية لهزات الربيع العربي- وهي التي تتمثّل في الدور الإيراني في الإقليم، والأدوات والآليات التي توظفها إيران لخدمة هذا الدور، والتطلع إلى الهيمنة والنفوذ، وبخاصة عقب الأحداث السريعة في المشهد السوري، التي كانت بمثابة تموضع إيراني بامتياز، وهو ما لاقى استهجانًا وتنديدًا كبيرين، بالتزامن مع الصلاحيات التي حصلت عليها إيران في اتفاقها التاريخي مع الغرب حول ملفها النووي، وهو ما يستدعي مزيدًا من الوقوف عليه بالتحليل والنقد والتفكيك.

تناول هذا الملفَّ المهمَّ والساخنَ في هذا العدد جملةٌ من الباحثين والخبراء المعنيين بالمسألة الإيرانية وتشعباتها في الإقليم، منهم الكاتبة والباحثة الأردنية فاطمة الصمادي، والباحثون الجزائريون: خالد يايموت، ومراد شحماط، ويحيى بوزيدي، وجلال خشيب، والكاتبان المصريان محمد الزواوي، ومحمد محسن أبو النور، إضافة إلى الكاتبين التركيين حسن بصري يالتشن، وعبدالله يغين، واختُتِم العدد بطائفة من عروض الكتب العربية والاجنبية المهمّة.


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...