ملخص تحاول هذه الورقة أن تضع السياسات الروسية تجاه ليبيا بعد الربيع العربي في سياق فلسفة الاستمرارية والتغيير، وترى أن هناك ثلاث مدارس أساسية في السياسة الخارجية الروسية، تتعلق بالدولة، و(الغربنة)، وتميّز الحضارة الروسية، وكلّها استمرارية لجدلية العلاقة مع أوروبا والبحث عن الهوية الروسية. هذا المدخل جعل العلاقات الليبية الروسية بالغة الأهمية؛ نظرًا لتداخل العلاقات الليبية الأوروبية، وتأثير ساحل البحر المتوسط وليبيا في أوروبا. تَتتبَّع الورقة المواقف الروسية المختلفة في أثناء الثورة الليبية وبعدها، وتضع عدة نماذج لتفسير السلوك الروسي، سواء ذلك المتعلق بمحاولة روسيا إبراز نفوذها وقدرتها على المشاركة في الأزمات الدولية أم بمفهوم الحرب الهجينة، أم بمحاولة روسيا التأثير في أوروبا من خلال التدخل في الأزمة الليبية.مقدمة
المفاجأةُ التي أحدثتها الانتفاضاتُ الشعبيةُ في الدول العربية التي اصطُلِح على تسميتِها بالربيعِ العربي- شكّلت صدمةً لكثيرٍ من الدول التي تربطها علاقاتٌ تاريخيه بالمنطقة، لأنّ تغيّر السياسات التي استقرّت لعقود يصعب معها التكيُّف والوصول إلى سياسات جديدة مستقرة؛ لذا فلا يمكن أن تُدرَس هذه السياسات في سياق منعزل عن تاريخها. وهكذا فإن البحث عن سياسات بعض الدول تجاه الثورات أو الانتفاضات الاجتماعية عادة ما تتغيرُ مع الزمن، ربما لتعود لسيرتِها الأولى، أو أن تَحدُثَ تغيرات كبيرة، تصبح هي النمط أو النموذج الذي يحكم العلاقة بين الدول لعقود أخرى من الزمن.
بحثنا هذا ينحى هذا المنحى، إذ إنّ التمييز بين المتغيّر والمستمرّ في فهم التاريخِ الروسي قد يكونُ هو الإطارُ المعرفي الذي تُمكِن معه مراقبة السياسة الخارجية الروسية، كما أن هذا الإطار هو الذي سيمكنّنا من فهم الموقف الروسي تجاه الربيع العربي، وتجاه الدولة الليبية بوصفها حليفًا سابقًا للاتحاد السوفياتي المنحلّ؛ كما أن ارتباط السياسة الخارجية الروسية بالتغيرات السياسية في ليبيا، كتلك التي صحبت الحرب العالمية الثانية أو العلاقات الليبية الروسية بعد الاستقلال، وخلال انقلاب سبتمبر عام 1969؛ كلها مراحل تمثّل نمطًا يمكن من خلاله التمييز بين ما هو متغير وما هو مستمر في السلوك الروسي تجاه ليبيا بعد الربيع العربي.
إنَّ تتبُّع أهم المتغيرات في الموقف الروسي من ليبيا خصوصًا بعد الانقسام السياسي والاحتراب الداخلي في ليبيا عام 2014- قد يعطينا القدرة على تصوّر الموقف الروسي تجاه ليبيا في المرحلة القادمة؛ وتجيب عن أسئلة كثيرة مهمّة للوضع في المنطقة والمتغيّرات التي يشهدها العالم بصفة عامة. فهل ستصبح الأزمة الليبية منطلقًا لأزمة كتلك التي تشهدها منطقة الشام؟ هل التدخل الروسي في منطقة شمال إفريقيا يعني إمكانية أن يحدث هذا الخرق التاريخي الذي ظل حلف الناتو يمنعه منذ الحرب العالمية الثانية؟ كيف سيؤثر ذلك في سيناريوهات الأزمة الليبية؟ هل الأطراف الليبية تعي خطورة هذه المتغيرات؟ وهل هناك حرب باردة جديدة عالمية تشهدها المنطقة؟ كيف يمكن للقوات الروسية وما يعرف بالحرب الهجينة أن تكون هي السيناريو المتوقع في ليبيا (كما سيأتي)؟
كل هذه الأسئلة نحاول الإجابة عنها، لكن ذلك لن يكون في صورة عرض توثيقي لطبيعة تلك العلاقة، بل بتتبّع نمط (Pattern) محدّد يمكن من خلاله التمييز بين المستمرّ والمتغيّر، وأن نميّز بين المتغيّر الذي يمكن أن يصبح عادة ويستمر بعد ذلك، والمتغيرات التي لا يمكنها خلال العقود القادمة أن تُحدث فرقًا مهمًّا في الأحداث. عادة ما يلهينا كثير من المشاهد المتناثرة عن فهم المتغيرات الحقيقية التي قد تؤثر في مستقبل العلاقات الدولية والأحداث القادمة، ولاسيّما عند تتبع السلوك الروسي المرتبط -وبقوة- بفلسفة الفصل والوصل أو الاستمرارية والتغيير.
لكي نصل إلى الإجابة عن تلك الأسئلة، سنبدأ بالحديث عن الإطار المعرفي الذي يمكن من خلاله فهم السياسية الخارجية الروسية كما هو في كثير من الأدبيات التي أسهبت في ذلك؛ ثم نتتبّع وبسرعة العلاقات الليبية الروسية في أهم مراحلها، سواء قبل استقلال ليبيا عام 1951 أم بعد الاستقلال وخلال حكم القذافي. بعد ذلك نفصّل في مراحل التفاعل الروسي مع ثورة السابع عشر من فبراير والمرحلة الانتقالية التي لاتزال ليبيا تعيش في طياتها، لنصل بعد ذلك إلى بعض السيناريوهات الممكنة لموقف روسيا من الأزمة الليبية وتأثيرها في مستقبل ليبيا وثورتها.
السياسة الخارجية الروسية: إطار معرفي
كان ونستون تشرشل يرى أن مفتاح فهم اللغز الروسي هو المصلحة الوطنية،[1] لكن كيف يمكن تفسير هذه المصلحة؟ هذا هو المتغيّر في السياسة الروسية، لكنه متغيّر مرتبط بنمط عام هو العلاقة بالغرب وأوروبا، فكل المتغيرات التي حدثت في التاريخ الروسي كانت انعكاسًا لهذه العلاقة، في جدلية واضحة بين الانعزال والتوسع، الانقباض والانبساط، وبينهما تكمن منحنيات كثيرة لكنها تعبر عن نهج واحد، هو تحديد الهوية الروسية بوصفها إمبراطورية لها ثقافتها وقدراتها التي لا تريد أن تعزلَها أوروبا بقصد أو بغير قصد عن بقية العالم.
هذا النمط هو السائد في عديد من الأدبيات التي تحدّثت عن السياسة الخارجية الروسية[2]، وهو أداة مفيدة -مؤقّتًا- لفهم السلوك الروسي بعد الربيع العربي.[3] والعجيب أن روسيا وهي تبحث عن هويتها في إطار المتغيرات التي تحدث في أوروبا، ولاسيّما بعد القرن السابع عشر واندلاع الثورات التي آمنت بفكرة التقدّم والعلمنة والليبرالية- كانت القوى الأوروبية ومن بعدها الولايات المتحدة الأمريكية تعدّ هذا البحث (الروسي) جزءًا من الصراع بين روسيا ومحيطها، وهذا ما يجعل الحرب الباردة أحد تمظهرات هذه السياسة الخارجية لا استثناء عنها.
هناك ثلاث مدارس أساسية في السياسة الخارجية الروسية كلها تتَّبِعُ هذا النمط، وهو كيفية تحديد العلاقة بأوروبا: الأولى وتشمل المتغرِّبين Westerenizer، وهي ترى أن روسيا جزءٌ من أوروبا وأن الحضارةَ الغربيةَ هي أفضل منتج حضاري عرفه التاريخ. وتعود هذه المدرسة لبطرس الأكبر (1682-1725) حين طاف أوروبا لمعرفة سر الحضارة والتقدّم الغربي، واستمرت هذه المدرسة حتى القرن العشرين، وكان وزير الخارجية الروسي باڤل ميليكوفPavel Milyukov إبان الحرب العالمية الأولى من هذه المدرسة، وكان يرى بضرورة الاندماج مع أوروبا؛ لكونهم الأقرب إلى الحضارة الروسية. هذه المدرسة هي التي استمرت إبان الحقبة السوفياتية، وبدأت في اليأس من النظام السوفياتي منذ زمن بريجينيف الذي ترأس الاتحاد في السبعينيات (1977-1982)، ولم تكن هذه المجموعة على وفاق مع التيار التقليدي في الحزب الشيوعي، ومنها وصل ميخائيل غورباتشوف لرئاسة الاتحاد السوفياتي (1988-1991)، وبعدها بدأ العالم في التغير وانتهت الحرب الباردة. [4]
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي استمرت هذه المدرسة ومنها الرئيس بوريس يلتسن الذي طرح فكرة الاندماج الروسي الأوروبي، وعلى نفس الخطى كان الرئيس ديميتر ميدفيدف (2009-2012).
المدرسة الثانية وهي الدولاتية Statists، فبعد عقود من العداء والعزلة السوفياتية عن العالم الغربي بدأت روسيا في حالة من التحديثات الدفاعية، كتلك التي قام بها بطرس الأكبر في محاولةٍ لتحديثِ روسيا من دونَ أن تفقدَ الحكومة والحزبُ الحاكمُ السيطرةَ، بانفتاح اقتصادي على القارة الأوروبية؛ وفي موازاة ذلك، تقويةِ الأجهزة الأمنية للدولة، لذا كانت هذه المدرسة التي ترى أن الحفاظَ على الدولة وقوتِها هو الذي يعطيها القدرةَ على الاستمرار، وأن قوة الدولة مقدّمة على القيم الغربية وحقوق الإنسان والديمقراطية. وهذه المدرسة يمثّلها الرئيس فلاديمير بوتين حين وجد فيه الرئيس يلتسن الرجل القادر على المحافظة على النظام الذي شهد حالة من الفساد والصراعات التي انتشرت بين مجموعة من الأجنحة داخل الدولة في نهاية حكمه، حيث تولى بوتين رئاسة الوزراء لمدة شهرين قبل أن يُنتخَب رئيسًا لروسيا في أغسطس عام 1999؛ لذا كان فلاديمير بوتين (1952-....) الذي جاء من خلفية، وأظهر قدرة هائلة على السيطرة على مقاليد الحكم يمثّل هذه المدرسة وقد لخّص الرئيس بوتين نظرته للدولة وللحكم حين قال: "نريد أن نبني بيتنا ونجعله قويًّا من الداخل... الثعلب يعرف كيف يأكل... لا أن يستمع لكل أحد... كيف يمكنك وبسرعة أن تلقي كل مرثيات الديمقراطية وحقوق الإنسان جانبًا، وأن تسعى لأن تضع مصالحك نصب عينيك؟" كما أن بوتين عدّ سقوط الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة حلّت بالنظام العالمي في القرن العشرين. تكاد تكون هذه الكلمات ملخّصًا لفكرة الرجل القوي والدولة القوية التي يسعى إليها بوتين، وهي سياسة يمكنها أن تفسّر كثيرًا من سلوك روسيا بوتين، كما ظهرت بعد ذلك في الرغبة في عودة قوية لروسيا إلى المشهد الدولي.
في مقابل هذه المدرسة توجد مدرسة أخرى حضارية، وهي التي ترى بتميّز روسيا بحضارة أوروأسيوية لها قدرة على موازاة الحضارة الأوروبية؛ وتمتد تاريخيًّا إلى عهد إيفان الرهيب (1530-1554)، ويمثل ذلك فلاديمير أوليانوف المعروف بلينين (1870-1924) وليون تروتسكي (1879-1940) حول الثورة العالمية في مواجهة الحضارة الغربية.
هذه المدارس الثلاث تمثّل متغيّرات لمسار مستمرّ تشكّلت فيه هوية الدولة الروسية، ومن ثم سياستها الخارجية عبر تفاعل المجتمع والحزب الحاكم مع المتغيرات الدولية، وانعكاسات تاريخ العلاقات الروسية الأوروبية، ومسارات الحرب الباردة. فبعد فترة رئاسة الرئيس يلتسن وسياسته الداعية إلى الاندماج مع أوروبا، بدأ الحديث عن ضرورة حماية الدولة وتقوية قدراتها العسكرية والمؤسسية، وأن انتصار الغرب في الحرب الباردة لا يعني أن تكون سوريا مثلًا جزءًا من المعسكر الغربي، ومثّلت هذه النظرة مجموعة من الشركات المصنّعة، وجهات أمنية مثّلت بداية لسياسة انتهجها الرئيس بوتين، كل ذلك يؤكّد حقيقة أن النظر إلى السياسة الروسية يرتبط بِبِنيةِ هوياتية تَتَحدّد من خلال التعامل مع الغرب، وتنعكس في سياسات خارجية تتغير من خلال المدارس الثلاث المذكورة.
العلاقات الليبية الروسية:
كما فكّر الدبّ الروسي بالصعود إلى جبال أفغانستان، فإن شهيته للمياه الدافئة في البحر المتوسط لها تاريخ قد يعزز فكرة استمرارية تمحور العلاقات الخارجية لروسيا حول أوروبا، فمنذ الحرب العالمية بدأت أطماع جوزيف ستالين المنتصر في الحرب العالمية الثانية، والذي وضع روسيا ضمن القوى العظمى التي لها الحق في مناقشة المستعمرات الإيطالية في ليبيا وأريتريا والصومال، أو في ساحل المتوسط والقرن الإفريقي.
هذه الرغبة ستتعزّز بعد انقلاب القذافي على حكم الملك إدريس السنوسي عام 1969؛ كان القذافي ضمن الحرب العالمية الباردة (كما سيأتي)، لذا فإنه امتلك حرية الحركة في سياسته الخارجية، خصوصًا بعد ضعف الاتحاد السوفياتي، حيث بدا للروس حلم العودة إلى المتوسط بعيد المنال. هذا المسار هو الذي يمكن أن يبيّن تلك العلاقة بين روسيا وليبيا، وهي علاقة في الأساس تتنافس فيها روسيا مع الاتحاد الأوروبي حول النفوذ في البحر المتوسط، سواء للسيطرة على تلك المنطقة أم من خلال البحث عن النفوذ أم للسيطرة على طرق الغاز والنفط واليورانيوم في تشاد والنيجر ونيجيريا وجنوب السودان.
لذا يمكن تقسيم العلاقات الليبية الروسية إلى أربع مراحل أساسية: الأولى تتعلّق بما عُرِف بمسألة المستعمرات الإيطالية، والثانية في فترة الحرب الباردة، والثالثة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتوجّه القذافي نحو الغرب وأوروبا، وأخيرًا سياسات روسيا تجاه ليبيا بعد الربيع العربي، وهي التي سنفرد لها الحديث بعد عرض مختصر لهذه المراحل. نتعرض لهذه المراحل؛ لأنّها ستضعنا في سياق واحد نراه لا يخرج عن تلك الاستمرارية لمحاولات روسيا منافسة أوروبا، أو الوجود في البحر المتوسط، ومن ثم إمكانية العبور نحو المحيط الأطلسي لتهديد الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
- جغرافيا الاستقلال
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بفوز الحلفاء بدأ الحديث عن اقتسام المستعمرات الإيطالية في ليبيا والقرن الإفريقي، وتشير عدة وثائق تاريخية مهمّة إلى تطلع روسيا الدائم إلى الوصاية على إقليم طرابلس، ويمكن تتبع ذلك من خلال مؤتمر الكوبيك وواشنطن في مايو 1943، ومؤتمر موسكو عام 1944، حيث طرحت روسيا علنًا رغبتها في الوصايا على إقليم طرابلس، وفي مؤتمر بوتسدام عام 1945 طرح الرئيس الأمريكي هاري ترومان (1884-1972) عدة حلول تتعلق إما بالوصاية الدولية على ليبيا، أو بإعطاء حكم مستقل للحركة السنوسية على برقه، أو بتقسيمها بين بريطانيا وإيطاليا؛ لكن اتفق الجميع تقريبًا على تقسيم البلد بين دول المحور؛ ثم جاء ما عرف بمجلس وزراء الخارجية (1945-1948)، وفيه دار نقاش بين وزير الخارجية البريطاني جيمس ف بايرنس ونظيره الروسي حيث أكّد الأخير رغبة بلاده في الوصايا على طرابلس، وفي مؤتمر باريس جرى تأكيد ضرورة تقسيم ليبيا بين فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، والتدخل الروسي هو الذي جعل بريطانيا تصرّ ومعها الولايات المتحدة الأمريكية على استقلال ليبيا.[5]
- انقلاب 1969
بعد الاستقلال في العقد السادس من القرن العشرين توجّهت ليبيا نحو الغرب، وأبرمت عدة معاهدات لإرساء قواعد عسكرية لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ولم تستطع روسيا أن تخترق الحلف الأطلسي للحفاظ على مياه المتوسط، ومنع أي قوى من العبور نحو المحيط الأطلسي، لكنَّ الحرب الباردة أخذت منطقًا آخر، حيث توجّه القذافي نحو روسيا بعد انقلابه على الملك إدريس ونهاية المعاهدة بين ليبيا من جانب وبريطانيا وأمريكا من جانب آخر بشأن القواعد العسكرية في الأراضي الليبية. استمرّ القذافي في سياسته الموالية للاتحاد السوفياتي، وأخذ نهجًا اشتراكيًّا فوضويًّا Anarchy استطاع من خلاله أن يظهر أمام الليبيين بأنّه صاحب نمط فريد وسياسة خاصة ليس لهما علاقة بالحرب الباردة.
هذا النمط لم يمنع القذافي من التحالف مع الاتحاد السوفياتي، ويمكن أن نعدّ الحربَ العالمية الثانية جزءًا من التدخل الروسي غير المباشر في الشمال الإفريقي، كما بيّن ذلك المؤرخ النرويجي أود أرني (Odd Arne Westad) في كتابه الحرب الباردة العالمية، إذ يُعدّ تدخل الاتحاد السوفياتي في شأن كثير من دول العالم الثالث جزءًا من صراع القوى العظمى حول مناطق إستراتيجية منها شمال إفريقيا والشرق الأوسط،[6] وقد أحصت بعض المصادر أن القذافي أنفق بين عامَي 1973-1983 ما قَدْرة 28 مليار دولار لشراء أسلحة جديدة؛ وذهب جزءٌ كبير من هذه الأموال (20 مليار) إلى الاتحاد السوفياتي؛[7] كما أن الأطماع الروسية في الضغط على أوروبا من خلال العقود المبرمة في قطاع النفط والتوجّه الاشتراكي للقذافي حفزا الولايات المتحدة الأمريكية للشعور بإمكانية الوجود الروسي المباشر في شمال إفريقيا، لذا كان هجوم الرئيس ريغان على القذافي في عام 1986 رسالة موجهه للاتحاد السوفياتي، بأنّه لن يسمح لروسيا بالوجود في شمال إفريقيا.
- ما بعد الحرب الباردة
كان سقوط الاتحاد السوفياتي صدمة لنظام القذافي، فقد كتب كتابه (تحيا دولة الحقراء) بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وأنكر إمكانية سقوط الشيوعية؛ لأنها لم تقم أصلًا، وهكذا فتح لنفسه الباب للاستمرار في النهج الاشتراكي بغية الوصول إلى نهاية التاريخ، وهي قيام الجماهيرية. استطاع من خلال هذا النهج الفكري أن يحدث تغيُّرًا في بنية النظام، وسياسته الخارجية، فهو لم يعد بحاجة إلى معادلة الحرب الباردة، بل فتح أبواب ليبيا لكثير من القوى الدولية، وفي نفس الوقت حافظ على سردية تمكنه من استمرار لعب دور القائد في الداخل؛ ومن الخطأ الاعتقاد بأنّ العلاقات الليبية الروسية ساءت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بل إن تدفقَ الرساميل من النفط الذي ارتفع سعره في نهاية التسعينيات ومطلع القرن الحادي والعشرين جعل القذافي يحاول أن يغلقَ الملفات العالقة كافةَ مع المجتمعِ الدولي والغرب عمومًا، وأن يقيم علاقات اقتصادية مع الحليف السابق روسيا. الرئيس بوتين كان من أول الزائرين للقذافي عام 2008، هذه الزيارة جاءت بينما شركة غاز بروم (نيفت وتانت نيفت) كانت توقع عقدًا يقدر بالمليارات مع القذافي بعد الحرب الباردة (10 مليارات دولار)،[8] كما وقّع عقدًا لبناء سكة حديد بين مدينة بنغازي وسرت الليبية يقدر بأكثر من مليارَي يورو قبيل ثورة السابع عشر من فبراير.[9]
هذا المعادلة التي حاول القذافي صناعتها لم تكن صحيحة، فإن شمال إفريقيا لا يحتمل وجود روسيا والغرب معًا، إذ كانت موافقة القذافي على بناء فرنسا مصنعًا للطاقة النووية في الجنوب الليبي في الفترة نفسها تقريبًا- إيذانًا بتغيرات كبيرة في المعادلة الدولية، ظهرت جلية في موقف الدول المختلفة من نظام القذافي بعد قيام ثورة السابع عشر من فبراير.
روسيا وثورة السابع عشر من فبراير
هذا السياق الذي رسمناه لتوِّنا للعلاقات الليبية الروسية، في ظل فهمنا للإطار العام للسياسة الخارجية الروسية، قد يمكّننا من تفسير السلوك الروسي بعد ظهور أمارات واضحة بإمكانية سقوط القذافي والمعادلة الدولية التي اعتادت وجود نظام القذافي في ليبيا البلد الذي يملك ساحلًا طويلًا يقترب من مليونَي كيلومتر، وبمساحة تعادل مساحة فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا (1,760,100 كم2) شكّلت حلقة وصل بين المشرق والمغرب العربي وبين أوروبا وإفريقيا.
ويمكننا بسهولة إدراك أهمية البحر المتوسط من خلال معرفة أن:
- 30٪ من تجارة الطاقة تمرّ عبر البحر المتوسط.
- تشكّل تلك المنطقة ثلث قطاع السياحة في العالم.
- 500 مليون من المستهلكين.
- 44٪ من نمو الناتج المحلي في العشرين سنة الأخيرة.
- 450 من الموانئ والمحطات.[10]
احتوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على كل إشكالات القرن الحادي والعشرين بصورة جنينية تعبّر عن العالم الأكبر؛ فيها تغيرات ديمغرافية هائلة، وفيها مجتمعات فتية قد تقارع تسونامي الشيخوخة الذي يهدّد أوروبا، كما أن فيها تغيرات في مجال الطاقة نحو الغاز واليورانيوم، وفيها صراعات تمثّل تحدّيات العالم في مستوى الفكر بين الدولة والمجتمع، والفرد والمجتمع، والدين والسياسة، والإرهاب والأوتوقراطية، والتطلعات والآمال الممكنة والفكر الإمبراطوري الذي يسعى إلى السيطرة وإمكانية التوقع، في هذا العالم الأصغر تتصارع مصالح أكبر بعضها يحمل معه رؤى قديمة من مخلّفات الحرب الباردة والبعض الآخر يسعى إلى إيجاد معادلات جديدة على الأرض يمكنها أن تؤسّس لبحر متوسط أكثر استقرارًا. السؤال الآن كيف يمكن تقييم السلوك الروسي تجاه المنطقة وليبيا بعد الربيع العربي؟ وهل اختارت روسيا تلك الرؤى التي تناسب أهمية المنطقة في القرن الحادي والعشرين أو أن التغيّر في سلوكها لا يغيّر من النمط السائد الذي عرفته عبر علاقتها التاريخية بالمنطقة؟
بعد اندلاع الثورة في السابع عشر من فبراير عام 2011، وتهديدِ القذافي بقصف المدنيين واجتياح بنغازي، بدأ الجدل في الدوائر الدولية حول الكيفية التي يمكن من خلالها حماية المدنيين؛ هذا الجدل ظهرَ جليًّا في جلسة مجلس الأمن التي أُقِّر فيها قرار الحظر الجوي على ليبيا (19 مارس 2011). في تلك الجلسة بدأ الانقسام حول الأزمة الليبية، فبينما امتنعت روسيا والصين والبرازيل والهند (تقريبًا كل الدول الصاعدة المعروفة اختصارًا بالبريكس) عن التصويت كانت القوى الغربية تتجهز للحظر والقضاء على القذافي، روسيا من جانبها كانت ترى أنّ القذافي سينتهي على كل حال -ولم يكن السيناريو السوري واردًا بعد- وأنه من الممكن أن تعود روسيا إلى المشهد الليبي عبر الدعم أو على أقل تقدير الانتظارَ حتى يتجلّى المشهد الليبي بعد الثورة. فُسِّر الموقفُ الروسي كذلك بأنه محاولةٌ منها تثبيت علاقتها بالجامعة العربية التي دعت هي الأخرى إلى الحظر الجوي على ليبيا، أو أن تكون روسيا تحاول أن تعيد بناء علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو أنها قد أعطت فرنسا فرصة إستراتيجية لتحسين العلاقة معها؛ لأن فرنسا كانت في مقدمة الدول الداعمة لإسقاط نظام القذافي.
لكن في خلفية المشهد كان هناك خلاف شديد بين الرئيس دميتري ميدفيدف (2008-2012) من المدرسة الليبرالية التي تحاول أن تعيد العلاقة مع الغرب وفلاديمير بوتين رئيس الوزراء في فترة حكم ميدفيدف. الخلاف حول التدخل الغربي في الأزمة الليبية ظهر للعلن أكثر من مرة، فقد صرح بوتين بأن هذا القرار الذي امتنعت روسيا عن التصويت حوله يذكر العالم بالعصور الوسطى والحروب الصليبية[11]، الأمر الذي رفضه الرئيس ميدفيدف وتساءل الرئيس ميدفيدف: هل استعمال هذه المصطلحات مناسب في مثل هذه الظروف التي قد تؤول إلى صدام بين الحضارات[12]. السياق الروسي الذي يعبّر عن مصلحة روسيا حيال المسألة الليبية قد يعبر عن خلاف جوهري حول التعامل مع أوروبا والعلاقة بفرنسا، ففي حين كان ميدفيدف يرى في شراكة إستراتيجية مع فرنسا حيال الشرق الأوسط، فإن بوتين الذي كان قد اتّفق مع القذافي وبيرلسكوني قُبَيل الثورة على مشروع لنقل الغاز الروسي لأوروبا عبر الجنوب مرورًا ببلغاريا، والذي سيكون لشركة إيني الإيطالية نصيب كبير منه- هو الذي حفز فرنسا للقضاء على القذافي، وهو الذي خلق الخلاف بين ميدفيدف وبوتين حليف القذافي السابق والعلاقة بفرنسا والسماح لها بالتوغل في الجنوب الليبي والحصول على اليورانيوم الذي يشكّل 60٪ من الطاقة التي تستهلكها فرنسا، وهي الأعلى على مستوى العالم.[13]
بعد وصول الرئيس بوتين إلى سدّة الحكم ثانية عام 2012، والتدخّل الروسي في سوريا بدت ملامح السياسة الروسية تجاه ليبيا تتضح، فإن دخول روسيا عبر البحر الأسود جعل إمكانية التواجد في المياه الدافئة في البحر المتوسط مسألة ممكنة في ظل التراجع الأمريكي وسياسة القيادة من الخلف التي تبعها الرئيس الأمريكي باراك أوباما. فروسيا في سياساتها العامة ترى أنّ تنامي التنظيمات الإرهابية وفشل الدولة الوطنية هو السبب في تنامي الإرهاب الذي لم تعش روسيا في معزل منه، كما أن روسيا بوتين تحاول أن تبين أنّ النموذج الغربي والتدخلات التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي كانت بغياب التوازن في المجتمع الدولي، وهذا ما عبّر عنه الرئيس بوتين حين قال: إن سقوط الاتحاد السوفياتية أكبر كارثة أصابت العالم بعد الحرب العالمية![14]
لكن روسيا في تعاملها مع الشأن الليبي كانت تتخذ سياسة واقعية، فهي تدرك أن ليبيا بلدٌ منقسم على نفسه، وأنَّ الاحتراب الداخلي لم يهدأْ، وإن كان بمستويات تأخذ شكلًا متعرجًا، من الارتفاع والانخفاض (شكل سِينِيّ) وأن غياب السلطة المركزية ومؤسسات الدولة معضلة حقيقية في ليبيا؛ لذا حاولت روسيا التعامل مع الأطراف كافة في ليبيا، فهي تقدّم الدعم العسكري والسياسي إلى المنطقة الشرقية حيث يوجد معسكر حركة الجيش الوطني الليبي التي يقودها خليفة حفتر، وعُيِّن بعد ذلك قائدًا للجيش الليبي في المنطقة الشرقية؛ بينما تقوم بالتعامل مع المجلس الرئاسي (وهو الجسم الرئاسي المنبثق عن اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 والذي حظي باعتراف دولي) في المنطقة الغربية، حيث تناقش عقودًا لاستكشاف النفط، وتبحث عن فرصٍ اقتصاديةٍ لها في العاصمة الليبية، حيث مقر المجلس الرئاسي؛ لكنها لم تفتح سفارتها بعد في طرابلس، وفي ذلك إشارة لهذه السياسة.
هذه السياسة بدت واضحة من تصريح ليڤ دينجوف رئيس المجموعة الروسية للعمل في ليبيا عندما ذكر أنهم لا يرغبون في الانخراط مع أيّ من طرفي الصراع [15]، وهذا يعني أن روسيا بوتين رغم أنّها تدعم النموذج الأوتوقراطي الذي يمكن أن يحافظ على الدولة بوصفها فاعلًا في المعادلة الدولية بحسب طرح المدرسة الدولاتية، إلا أنها لا ترى إمكانية الحسم من أحد هذه الأطراف في الأزمة الليبية، لذا فإنّها رغم دعمها الواضح لقائد حركة الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر فإنه لم يصدر عنها أي اعتراض على قرارات مجلس الأمن بشأن التسوية السياسية، كما أنّها لم تمانع في استمرار حظر استيراد السلاح للأطراف الليبية[16].
هذه السياسة لا تعني الحياد بحال من ، فإستراتيجية النفاذ إلى البحر المتوسط ودعم النموذج الروسي في المنطقة، ومحاولة إعادة وضع روسيا على أنها قوة دولية كما يرى الرئيس بوتين، تجعلان روسيا تحاول دائما أن تنخرط مع الأطراف كافة بالشكل الذي لا يمنع عنها أي فرصة للاستفادة من مآلات الأوضاع في ليبيا، فالتيار الإسلامي في ليبيا ضعيف، وبالكاد يكون له تأثير كبير في المشهد السياسي في المجلس الرئاسي، أو مجلس النواب في طبرق الليبية، وبمتابعة السلوك الروسي يتبين أنّها ترى ضرورة تصميم النظام الليبي بما يضمن المصالح الروسية في ليبيا من خلال دعم خليفة حفتر بوصفه ذا خلفية عسكرية ودرس في روسيا، وهو قريب من النموذج العسكري الأوتوقراطي الذي تراه يحقق مصالحها بغض النظر عن اعتبارات قيمية تتعلق بحقوق المشاركة السياسية والاقتصادية وتحقيق أهداف ما عرف بالربيع العربي.
في مايو عام 2016 طبعَ المصرف المركزي في الشرق الليبي الذي يرأسه السيد علي حبري ما يعادل 4 مليارات دينار ليبي (د.ل)؛ أي ما يقابل (2.8 مليار دولار) عبر شركة روسية،[17] كان ذلك بعد أيام من اجتماع فينا (17 مايو 2016) الذي عقدته مجموعة أصدقاء ليبيا لحث الأطراف الليبية على دعم المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، وإقناع قائد حركة الجيش الوطني خليفة حفتر بالاتساق في العملية السياسية بحضور وزراء خارجية مصر والإمارات أحد أهم الداعمين لحفتر. هذا السلوك الروسي في دعم مؤسسة موازية غير معترف بها دوليًّا، وهي المصرف المركزي في البيضاء، ودعم حكومة انتقالية ليس لها أي شرعيةٍ أمميةٍ، وهي الحكومةُ الانتقالية في طبرق شوّه الاقتصاد الليبي، حيث انتشرت أسواق المضاربة من الشرق إلى الغرب الليبي في ظلّ نقص حادٍّ في السيولة النقدية للدينار الليبي؛ الأمر الذي أثّر في المستوى العامّ للأسعار وسعر الدولار في الأسواق الموازية، وعدّ ذلك محاولة من روسيا لاستمرار حالة من عدم الاستقرار في الأزمة لحين انقشاع الغبار.[18]
وفي نفس السياق زار خليفة حفتر روسيا مرتين في النصف الثاني من عام 2016، وفي يناير من عام 2017 كانت زيارته لحاملة الطائرات الروسية (الأدميرال كوزنيتسوف)، وذلك خلال عبورها المياه الإقليمية الليبية في طريق عودتها من سوريا إلى روسيا. وقالت وزارة الدفاع الروسية إن حفتر أجرى جولة على متن حاملة الطائرات، وسلّمه الجانب الروسي خلالها دفعة من الأدوية الضرورية للجيش الليبي والسكان المحليين، بحسب الوزارة. وبعد إنهاء جولته على متن حاملة الطائرات (الأدميرال كوزنيتسوف)، أجرى حفتر مباحثات مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، تناولا خلالها جملة من القضايا الملحة المتعلقة بمكافحة الإرهاب الدولي في منطقة الشرق الأوسط.[19]
لم يتوقف الأمر عند الدعم السياسي، أو الدعم الاقتصادي بل نُشِرت صور في مواقع التواصل الاجتماعي نقلتها بعض المواقع المتخصصة في القضايا العسكرية (في فبراير عام 2017) عن وجود طائرة روسية نوع ميغ 23 وعليها العلَم الروسي في قاعدة الأبرق الجوية، ونشرت رويترز في مارس عام 2017 عن عزم روسيا بناء قاعدة عسكرية في غرب مصر، بمسافة حوالي 60 ميلًا من الحدود الليبية، ووردت معلومات نقلتها وكالة رويترز عن 22 عضوًا من القوى الخاصة الروسية في مصر.[20] هذا الأمر أثار حفيظة قائد قوات الأفريكوم ويليام ويلدهاوزر ليحذر من الوجود الروسي في منطقة شمال إفريقيا، كما نشرت صحيفة الديلي تيليغراف.[21]
في المقابل كانت روسيا والمسؤولون الروس يكرّرون دعمهم للحلّ السياسي والمسار الذي قدّمه غسّان سلامة إلى مجلس الأمن في أكثر من جلسة له، واستقبلت روسيا وفودًا من مصراتة والمجلس الرئاسي، ويكفي أنها لم تستخدم الفيتو لنقض إجماع المجتمع الدولي حول الحل السياسي في ليبيا، فهل يمكننا الآن أن نضع إطارًا عامًّا للسياسة الروسية تجاه ليبيا؟ هذا ما سنناقشه في بقية هذا البحث، والذي سيضعنا في سياق فهم روسيا بوتين والمدرسة الدولاتية التي يبّنّاها وأثرها في التوجه نحو شمال إفريقيا؛ ويمكننا هنا أن نضع ثلاثة نماذج يمكن من خلال تحليل هذه السياسة، الأول يتعلق بمسألة النفوذ الروسي الدولي، والثاني مفهوم الحرب الهجينة، والثالث يتعلق بمنافسة أوروبا في المنطقة، والشأن الجيوستراتيجي والجيوقتصادي.
معركة النفوذ
لقاءُ قائدِ عمليةِ الكرامةِ أو الحديثُ عن وجود بعض القوات الخاصة الروسية في مصر، أو الحديث عن بعض الدعم بالسلاح للجنرال حفتر كما يتضح من بيان الجمرك التونسي الذي صدر في 16 فبراير 2018 وذكر أنه على إثر اقتراب باخرة تحمل الراية البنمية لمنطقة الانتظار المقابلة لميناء صفاقس تولت مصالح الحرس الديوانى البحري القيام بإجراءات التفتيش والمراقبة، وتبين احتواؤها على تجهيزات نقل عسكرية من شاحنات وسيارات مصفحة وناقلات جنود مدرّعة مع تجهيزات معسكر غير مسجلة كلّها بوثيقة الشحن المرافقة للباخرة مع وجود 24 حاوية غير مصرح بمحتواها، الأمر الذي تبرأت منه الحكومة الروسية،[22] هل يمكن اعتبار كلّ هذه الأحداث كافية للقول بإمكانية التدخل الروسي في ليبيا، أو وجود سياسة روسية لتجاوز البحر الأسود نحو البحر المتوسط عبر الشرق الليبي.
بعض التقارير تميل للقول إن ذلك لا يعدو كونه محاولة لإظهار روسيا لاعبًا أساسيًّا في الشرق الأوسط [23]، والسبب في ذلك أن تركيا وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمحا للتمدّد الروسي في البحر المتوسط، فليس هناك أي مصلحة لتركيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أن تعطي لروسيا هذا الاختراق بعد وجودها في سوريا. الاقتصاد الروسي بالطبع أحد الحجج التي يقدمها البعض لاستبعاد إمكانية دخول روسيا في مغامرة أخرى في ليبيا، وهذا ظاهر من خلال عدة مؤشرات يمكن اختصارها في: استمرار الأجور المستحقة للعاملين على الدولة الروسية، والضغط المستمر على البنوك الروسية، والتوترات الاجتماعية في كثير من الولايات في ظلّ خروج سعر النفط عن نقاط التوازن التي تناسب السياسات الحكومية الداخلية، ويمكن قراءة ذلك بإسهاب في بعض التقارير.[24]
الحرب الهجينة
بعد انفصال القرم انتشرت سردية الحرب الهجينة نموذجًا تحليليًّا للحرب التي تقودها روسيا تجاه الغرب، وسرعان ما تحولت إلى أداة لتفسير السياسة الخارجية الروسية، وبمراجعة المقالات والتقارير والتغطيات الإعلامية باللغة الروسية نجد أن المراجع عادة تكون غربية من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبعض القنوات (CNN,CNBC)، لذا فالحرب الهجينة (gibridnaya voina)، التي تعني استخدام روسيا أدوات عسكرية وغير عسكرية: (حرب نفسية، إلكترونية، الصدمة، التأثير في صناعة القرار، تكوين شبكات مجتمعية...) لمحاربة الغرب؛ وأنها قد تستخدم أدوات غير تقليدية في سبيل ذلك. ويمكن الرجوع إلى مقالة لرئيس الأركان العامة الروسي ڤاليري جرايماسوف Valerii Gerasimov ذكر فيها أن الغرب يستخدم أدوات تقليدية وغير تقليدية للسيطرة، ويشير هنا إلى حرب العراق وأفغانستان والسيطرة على العقول والقلوب عبر ماكينة الإعلام الضخمة، ونشر السرديات، والتحالفات، والانقلابات، والانتفاضات عبر العالم. [25]
لكن غرايماسوف لم يتحدث عن إستراتيجية جديدة للحرب الروسية، لكن النجاح الروسي في القرم، ثم التدخل الروسي في سوريا، جعلا المصطلح يظهر وكأنَّما يعبر عن السياسة الخارجية الروسية، وهذا ما جعل بعضهم يقارن ما حدث في القرم وسوريا بليبيا، حيث تستعمل روسيا-بحسب هذا النموذج- أدوات عسكرية: (نقل عتاد، ونشر قوات خاصة)، وأخرى غير عسكرية: (نشر سردية الرجل القوي لحفتر في الإعلام الروسي، وطباعة الأموال، والدعم السياسي كزيارات حفتر إلى روسيا بطريقة تظهره حليفًا قويًّا، وتدريب قوات محلية، ونشر القوات الخاصة، وعمل المخابرات، والتحالفات مع بعض القوى العسكرية والسياسية) للتأثير في المشهد الليبي، وبذا تصبح ليبيا الخطوة القادمة لروسيا. استخدمت روسيا في أوكرانيا وسوريا شركة واغنر Wagner الخاصة لنشر قوات عسكرية على الأرض، وقد تتّبع نفس المسار في ليبيا.
لكن استخدام هذا النموذج بهذا التعميم لحالات مختلفة كأوكرانيا التي تربطها بروسيا روابط تاريخية؛ لم يكن هناك حرب في القرم بالمعنى التقليدي، بل كان هناك قبول شعبي للوجود الروسي، كما أن سوريا لا يمكن أن نعُدّ ما جرى فيها حربًا جديدة تعبّر عن أدوات غير تقليدية، بل إننا نجد إستراتيجيات قديمة تعود إلى الحرب العالمية الثانية، كإلقاء القنابل، وإحداث صدمات نفسية داخل ما يُصنَّف بالعدوّ (بغض النظر إن كان هذا العدوّ طفلًا أو مقاتلًا)، وهذا ما جعل كثيرين يرون أن الحربَ الهجينة مفهوم قديم منذ أن كتب سان تزو كتابه فن الحرب قبل آلاف السنين.
روسيا الدولة
لا يمكن تصوّر السلوك الروسي في ليبيا مجرّد محاولة لإظهار النفوذ، أو أنها تحارب في ليبيا وفق مفهوم الحرب الهجينة، لأنّ السياسات الروسية تجاه ليبيا بعد ثورة فبراير تطور عبر الأحداث منذ قرار الحظر الجوي، مرورًا بإهمال واضح للعملية السياسية في ليبيا عام 2012 وعام 2013، إلى أن تطور الوضع في سوريا ووجدت روسيا نفسها في البحر الأسود، وعلى مقربة من البحر المتوسط. وفي تصاعد القوى الإقليمية في ظل التراجع الأمريكي، شكّل ذلك فرصة لبوتين أن يرى الدولة الروسية قوية عبر حضور دولي قوي، لذا فإن روسيا تسعى أن تحقّق الكثير من المصالح الواقعية بالتدخل في الأزمة الليبية.
نظريًّا الوجود الروسي في سوريا قد يشكّل خطرًا على أوروبا، من خلال وجودها في البحر الأدرياتيكي والبحر الأبيض المتوسط، وهذا يجعل الدبّ الروسي يمسك أوروبا من تلابيبها! كما أنّه من الممكن تصور أن روسيا قد تمنع أوروبا من الاستغناء عن الغاز الروسي. إنّ البحر الأبيض المتوسط منطقة مهمّة في التجارة والسياحة والمستهلكين والشبكات الإلكترونية والصفقات عبر الانترنت، وإن وجود روسيا في البحر الأبيض المتوسط سيعطي روسيا بوصفها دولة كثيرًا من الفرص والقوة في ظل التغيرات التي يشهدها النظام الدولي، ولاسيّما في سياق العلاقة بأوروبا، والأمر الأهم في تحديد هوية وقوة الدولة الروسية، كما عبّر عن ذلك بعض المحلّلين الروس بشكل واضح هو: (أنّ روسيا ترى نفسها في مفترق طرق، وأن حالتها بوصفها قوة عظمى تعني استمرارها بوصفها دولة).[26]
في ظل المتغيرات التي يشهدها العالم لا يمكن تصوّر انعزال دولة كروسيا لها سرديتها التاريخية كحضارة تعيش في الأطراف تسعى لمنافسة أوروبا، أو تحقيق هويتها بوصفها دولة قوية عبر وجودها في الساحة الدولية كشريك أو قوة يمكن الاعتماد عليها، كما حدث في الثورة الفرنسية وحرب نابليون، أو في الحرب العالمية الثانية؛ لذا فإن روسيا بوتين تعي جيدًا الفراغات التي يمكن أن تمتد فيها، ومنطقة شمال إفريقيا مهمّة لروسيا، ويمكن أن يشكل التصاعد الإقليمي للنموذج الأوتوقراطي وحكم العسكر بديلًا عن النموذج الديمقراطي فرصة للتوافق مع روسيا لدعم هذا النموذج، كما أن لروسيا علاقات واسعة مع دول مهمّة في الشأن الليبي كالمغرب والجزائر.
في مقال نشرته مجلة وال ستريت مؤخرًا عن القوى الدولية لروسيا نقرأ كيف أن روسيا استطاعت أن تجري تحالفات مع الجنرال حفتر، وأن تعيد مصالحها للواجهة، سواء من خلال تعاقدات السلاح أم من خلال عقود النفط والغاز، وكيف أن بوتين استطاع أن يشكّل تحالفًا مع الرئيس السياسي، وأن تعيد الحديث عن صفقات السلاح مع مصر، وأن يفرض حلولًا إقليمية في سوريا مع تركيا وإيران، وأن يتدخل في الانتخابات الأمريكية وهو ما جعل الرئيس دونالد ترامب يعاني مسلسل التحقيقات حول التدخل الروسي في الانتخابات، كما أن تصاعد التيار اليميني مؤخرًا في إيطاليا قد يجعل لروسيا قوة حقيقية في تشكيل تحالفات مع قوى أوروبية قد تؤثّر تأثيرًا كبيرًا في مستقبل شمال إفريقيا. [27]
خاتمة
في هذه السياق يمكن تصور مستقبل العلاقات الروسية الليبية، وإمكانية التدخل الروسي في ليبيا، فلا شك في أهمية الوجود في البحر المتوسط بالنسبة لروسيا، لكن ذلك لا يعني أنه أولوية لها، بل إن عوائقَ لوجستية وإستراتيجية فضلًا عن وجود قوات أوروبية وأمريكية في المنطقة قد يجعل التدخلَ الروسي المباشرِ أمرًا مستبعدًا. لكن استخدام أدوات مختلفة، والتحالف مع قوات محلية وأطراف سياسية، ونشر سرديات أوتوقراطية بدعم إقليمي- قد يشكّل تدخلًا يؤثر في المشهد الكلّي في ليبيا.
ويعني فهم ذلك أن وجود إستراتيجية للشبكات في السلوك الروسي بمعنى رغبتها في إقامة تحالفات مع الدول، ومع رجال أعمال، وشركات خاصة، وشبكات إلكترونية- يمكّنها من التأثير في سلوك الدول الأخرى؛ يعني أن فهم تلك الشبكات هو الذي يفسّر قوة روسيا، لا المقارنة الكلاسيكية بالقوى العسكرية والقدرات الاقتصادية فقط، ويعمل بوتين على استخدام كافة الوسائل التي تتجاوز المؤسسات الدولية، بقدر ما تستفيد منها دولته لتحقيق المصلحة الوطنية وهذا هو الذي يميز بوتين ويجعله قادرًا على التدخل في الشأن الدولي.
وقد انتبه تقرير الإستراتيجية الأمريكية الأخير[28] الذي أصدره البنتاغون إلى هذه الحقيقة حين جعل مواجهة صعود روسيا والصين أولوية تسبق محاربة الإرهاب؛ لأن هذه القوى تصعد اقتصاديًّا ومعها نموذجها السياسي، نموذج الرجل القوي، والاستقرار على حساب القيم التي بُنِي عليها النظام الدولي، وحكم بها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. في المقابل فإن روسيا ترى أنّ تصاعد قوى العولمة في ظل ثورة الاتصالات قد يمكّنها من التخلص من العزلة الأوروبية، وترى أنّ ضعف أوروبا قد يمكّنها من الوجود بصفة قوة دولية تحفظ روسيا وتضمن استمرارها قوةً مسيطرة على صادرات الغاز الأوروبي، ولها إمكانية تجاوز العقوبات الاقتصادية التي ينذر ويعاقب الغربُ بها روسيا. إنّ ليبيا ليست استثناء، بل إذا ما استمر التناحر الليبي الليبي، وفي ظل التراخي الأوروبي في تحقيق الاستقرار في ليبيا فإن سيناريوهات كثيرة قد تُفْتَح وتجعل لروسيا الفرصة للتدخل بشكل أكبر في الأزمة الليبية.
الهوامش والمراجع:
[1] Russia Foreign Policy: Change and continuity in national identity, Andrei P. Tsygankov, Rowman & little field;2016
[2] Putin & Putinism, Ronald J.Hill, Routledge; 2013.
[3] The Return,Daniel Terism, Free Press,2011.
[4] Putin and Oligarch,Richard Sakwa,I.b Tauris & Co.LTD,2014.
[5] .Libya and the United State Two Centuries of Strife,Ronald Bruce St.John,University of Pennsylvania Press,2002; 4:68-102.
[6] 6.Global Cold wWar, Odd Arnest,cambridge University, 3d ed.,2008.
[7] Libya:History of gaddafi’s Pariah State,John Oakes,The History Press;2011.
[8] Russia and the Arab Spring,Alexey Malashenko, Carnegie Moscow centre;2013.
[9] Russia and libya: A brief History of an on-again-off again friendship: https://www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2016/09/01/russia-and-libya-a-brief-history-of-an-on-again-off-again-friendship/.
[10] The Italian Strategy in Meditrainian: https://www.esteri.it/mae/resource/doc/2017/12/rapporto-med-maeci-eng.pdf
[11] Russia on the military intervention in libya,Marcin kaczmarski, OSW,2011: https://www.osw.waw.pl/en/publikacje/analyses/2011-03-23/russia-military-intervention-libya.
[12] New york Times, 21 March 2011: http://www.nytimes.com/2011/03/22/world/europe/22russia.html.
[13] The war for Oil in libya, Iakovos Alhadef; 2016.
[14] Foreign Actors in Libya Crisis, Karem Mezran,Artoll Varvelli, Atlantic council,2017; 5:77
[15] Inside Putin’s libyan Power play, Foreign Policy,September 2017.
[16] security council :https://www.un.org/sc/suborg/en/search/content/libya.
[17] Vienn Meeting back libya national Accord Govt., 17.5.2016: https://aa.com.tr/en/politics/vienna-meeting-backs-libyas-national-accord-govt/573399
[18] .After syria, Putin’s Next Move Could Be Libya,The Hill;2017:http://thehill.com/blogs/pundits-blog/international/319272-after-syria-libya-could-be-putins-next-move.
[19] Rule of Russia in Libya, Laurenze Gaherke, from Geopolitics :https://geopoliticalfutures.com/russias-role-libya.
[20] Russia appear to deploy forces in Egypt eye on libya: https://www.reuters.com/article/us-usa-russia-libya-exclusive/exclusive-russia-appears-to-deploy-forces-in-egypt-eyes-on-libya-role-sources-idUSKBN16K2RY.See also for photograph of russia air plane: https://warisboring.com/it-looks-like-russia-gave-a-fighter-jet-to-libyas-warlord.
[21] Russian links with Libya general 'undeniable,' US general claims: https://www.telegraph.co.uk/news/2017/03/24/russian-troops-ground-libya-us-general-claims
[22] http://www.youm7.com/story/2018/2/25/روسيا تتبرأ-من-سفينة-الأسلحة-المحتجزة-في تونس:
[23] Russia role’s in libya, Laurenze Gehrke, Geopolitics Future, 15 March 2017: https://geopoliticalfutures.com/russias-role-libya.
[24] Something is rotten in Russian State: https://geopoliticalfutures.com.
[25] Russia And Hybrid Warfare – Going Beyond The Label,Bettina Renzi and Hanna Smith, Kikimora; 2016 :https://www.stratcomcoe.org/download/file/fid.
[26] Valdai Club article by Alexander Prokhanov, Editor-in-Chief, Zavtra newspaper, 2013,
.Foundations of Russia’s national idea, 2013.
[27] Vladimir Putin’s Russia Goes Global;2017:https://www.wsj.com/articles/vladimir-putins-russia-goes-global-1501877673.
[28] National Defense Strategy of USA 2018: https://www.defense.gov/Portals/1/Documents/pubs/2018-National-Defense-Strategy-Summary.pdf.