عندما فاز الرئيس ترامب في الانتخابات الرئاسية في عام 2016، ساد شعور عميق بالصدمة، ودرجة كبيرة من عدم اليقين، بشأن نهجه في السياسة الخارجية. وتكهن الكثيرون بأن هذه الحقبة قد تمثل عودة إلى النزعات الانعزالية التي ميزت السياسة الخارجية الأمريكية قبل الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة إلى مؤيدي هذا الرأي، كان فوز ترامب في الانتخابات يرمز إلى إغلاق فصل طويل من المشاركة العالمية النشطة على مدى عقود، ولاسيما من خلال التحالفات والتعددية. فخلال الحملة الانتخابية، لم يكتفِ ترامب بالإشارة إلى تزايد المشاعر الانعزالية فحسب، بل عبّر أيضًا عن عدم رضاه عن التحالفات والشراكات الأمريكية في مختلف أنحاء العالم. وأصبح شعاره ”أمريكا أولًا“ رمزًا لهذا المنظور، وفُسِّر على نطاق واسع على أنه دعوة إلى إعطاء الأولوية للمصالح المحلية على الالتزامات الدولية. وبالنسبة للكثيرين، فقد أوحى هذا الشعار بالعودة إلى ”إعدادات المصنع“ للسياسة الخارجية الأمريكية، حيث الأحادية والمصلحة الذاتية الوطنية لها الأسبقية على أطر التعاون.
غير أن هذا القلق الأولي بدأ ينحسر إلى حدّ ما عندما بدأ الرئيس المنتخب ترامب في تشكيل حكومته. وقد وفرت تعييناته المبكرة، بما في ذلك تعيين جيمس ماتيس وزيرًا للدفاع وريكس تيلرسون وزيرًا للخارجية، درجة من الطمأنينة للمراقبين المحليين والدوليين على حد سواء. فقد أشارت هذه التعيينات إلى أن إدارة ترامب قد توازن بين خطاباته الانتخابية وبين مقاربات أكثر تقليدية وبراغماتية في السياسة الخارجية الأمريكية. وأشار إدراج شخصيات من ذوي الخبرة إلى إمكانية وجود منافسة داخلية بين مختلف الجهات الفاعلة والوكالات داخل الإدارة، وهذا قد يخفف من العناصر الأكثر تطرفًا في وعود ترامب الانتخابية.
وخلال السنوات الأربع من رئاسة ترامب، كان هناك تغيير مستمر في فريق السياسة الخارجية في إدارته، وهذا أدى إلى سيادة شعور بعدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ بقراراته في السياسة الخارجية. وقد تفاقم هذا التقلب بسبب عدم رغبة إدارته الواضحة في الانخراط بشكل تعاوني في المحافل المتعددة الأطراف، وهذا أثار قلق الحلفاء والمؤسسات العالمية على حد سواء. وأثار انسحاب ترامب من معاهدات بالغة الأهمية، مثل اتفاق باريس للمناخ وخطة العمل الشاملة المشتركة- قلقًا كبيرًا بشأن تآكل المعايير الدولية، والتزام الولايات المتحدة بالقيادة العالمية. وكانت مواقف ترامب بشأن تقاسم أعباء حلف شمال الأطلسي والعلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي مقلقة بشكل خاص للحلفاء الأوروبيين؛ إذ أثار إصراره على فرض زيادة الإسهامات المالية على الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، إلى جانب فرضه للرسوم الجمركية وخطابه القتالي بشأن التجارة- تساؤلات جدية حول موثوقية الشراكة مع الولايات المتحدة. وقد تسببت هذه التوترات في توتر العلاقات عبر الأطلسي، وهو ما جعل الحلفاء الأوروبيين يواجهون شكوكًا حول مستقبل شراكاتهم الإستراتيجية مع واشنطن.
من ناحية أخرى، شهدت سياسة ترامب الخارجية نتائج متباينة في معالجة الأزمات العالمية. فقد أخفقت جهود إدارته لحلّ القضية النووية الكورية الشمالية، ومن ذلك القمم غير المسبوقة مع كيم جونغ أون، في نهاية المطاف في التوصل إلى أي اتفاقات ملموسة. وبالمثل، لم تحقّق أهدافَها حملةُ "الضغط الأقصى" ضد إيران، التي كانت تهدف إلى إجبار طهران على إعادة التفاوض بشأن برنامجها النووي، حيث واصلت إيران توسيع أنشطتها النووية في تحدٍّ للعقوبات الأمريكية. كما شكّل نهج ترامب تجاه الصين تحوّلًا كبيرًا في السياسة الخارجية الأمريكية، حيث تبنت إدارته موقفًا عدوانيّا كان له صدى لدى العديد من المؤسسات المحلية. وقد حظيت حربه التجارية مع بكين بردود فعل متباينة داخل الولايات المتحدة، وهذا يعكس انقسامات عميقة حول تأثيرها الاقتصادي. ومع ذلك، اكتسب تأطير ترامب للصين كمنافس إستراتيجي دعمًا من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومهّد الطريق لعلاقة أكثر صدامية امتدت إلى ما بعد رئاسته.
في فترة رئاسته الثانية، بعد أربع سنوات من رئاسة بايدن، أُثِيرت تساؤلات كبيرة بشأن الاستمرارية والانشقاقات المحتملة في السياسة الخارجية الأمريكية؛ إذ أشارت رسائل المرشح ترامب في حملته الانتخابية إلى مزيج من التراجع عن سياسات رئاسته الأولى، وتبني سياسة أكثر حزمًا في مبدأ ”أمريكا أولًا“. وقد ترك هذا التركيز المزدوج المراقبين يتكهنون حول كيفية تطور نهجه في السياسة الخارجية خلال فترة ولايته المتجددة في البيت الأبيض. ركزت حملة ترامب الانتخابية على التغييرات المحتملة في سياسات التجارة الخارجية أكثر بكثير من تناول المقاربات الإستراتيجية للتحديات الجيوسياسية الأوسع نطاقًا أو القضايا العالمية التي هيمنت على الخطاب الدولي في العقود الأخيرة، مثل تغير المناخ والتهديد المستمر للأوبئة العالمية. وفي حين صاغت إدارة بايدن سياستها الخارجية من منظور إفادة ”الطبقة الوسطى“، تجنب ترامب إلى حدّ كبير صياغة رؤية سياسية مفصلة. بدلًا من ذلك، ركّز على تقديم موقف في الشؤون الخارجية ”للأمريكيين العاديين“، واعدًا بنتائج من شأنها أن تجلب ظاهريًّا فوائد ملموسة لمجتمعات الطبقة العاملة والطبقة الوسطى.
وبعد ضمان الفوز في الانتخابات، تحركت إدارة ترامب بسرعة لتكوين فريق للسياسة الخارجية والأمن القومي. وقد فاجأت سرعة هذه التعيينات وحسمها الكثيرين على الصعيدين المحلي والدولي، وهذا يشير إلى عزمه على تشكيل مسار السياسة الخارجية الأمريكية في وقت مبكر من ولايته الثانية. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الخطوات السريعة، لم يكشف ترامب بعد عن خريطة طريق شاملة توضّح بالتفصيل أجندة السياسة الخارجية الأوسع نطاقًا لإدارته. وبدلًا من ذلك، تمّ استخلاص رؤى حول أولوياته المحتملة من تصريحاته العلنية ومنشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الأخص من الأفراد الذين عيّنهم في مناصب رئيسة في جهاز السياسة الخارجية والأمن القومي. وقد أثارت هذه التعيينات والتصريحات تكهنات ونقاشات واسعة النطاق، حيث يحاول المحللون معرفة ما إذا كان ترامب سيضاعف من توجهاته الأحادية التي اتبعها في ولايته الأولى أو سيتبع نهجًا أكثر تكيفًا استجابةً للمشهد العالمي المتطور.
في بعض المجالات، استندت التوقعات حول سياسة ترامب الخارجية إلى حقائق ملموسة وأدلة سردية أكثر من غيرها. على سبيل المثال، بعد ثلاثة أسابيع فقط من الانتخابات، أعلن الرئيس المنتخب ترامب عن خطط لفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة على الواردات من كندا والمكسيك ما لم تتخذا خطوات للحد من تدفق المخدرات غير المشروعة -وخاصة الفنتانيل- والمهاجرين غير الشرعيين إلى أمريكا. وبالمثل، اقترح فرض تعريفة جمركية بنسبة 10 في المئة على الواردات من الصين، رابطًا هذه السياسة صراحةً بدور الصين في أزمة الفنتانيل. عكست هذه الإعلانات استمرارًا لاعتماد ترامب على التعريفات الجمركية أداةً مركزية في ترسانة سياسته الخارجية. لم تكن سياسة الرئيس المنتخب ترامب هذه غير متوقعة في أوساط المراقبين للسياسة الخارجية الأمريكية. فخلال حملته الانتخابية، صاغ ترامب مرارًا وتكرارًا التعريفات الجمركية بوصفها أداة رئيسة للضغط على الشركاء التجاريين وإعادة التفاوض على الاتفاقات التجارية بشروط أكثر ملاءمة للولايات المتحدة. وقد وضع خطابه التعريفات الجمركية بوصفها إجراءً عقابيًّا وورقة مساومة في آن معًا، في إشارة إلى الحلفاء والخصوم على حد سواء بأن الأدوات الاقتصادية ستبقى حجر الزاوية في إستراتيجيته الدولية.
ومع ذلك، حتى بعد الإعلان، تساءل العديد من المحللين عما إذا كانت هذه التهديدات الجمركية تمثل مبادرة سياسية جادة أم أنها مجرد تكتيك تفاوضي يهدف إلى جلب كندا والمكسيك والصين إلى طاولة المفاوضات.[v] نبعت الشكوك من العواقب الاقتصادية المحتملة لمثل هذه التدابير. فقد كان من المتوقع أن يؤدي الارتفاع الكبير في مستويات التعريفة الجمركية إلى زيادة أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة، وهذا أثار مخاوف بشأن رد الفعل المحلي العنيف الذي قد يتبع ذلك. بالإضافة إلى ذلك، فإن تنفيذ مثل هذه السياسات التجارية العدوانية قد يؤدي إلى تصعيد التوترات مع الشركاء الاقتصاديين الرئيسين وخلق اضطرابات أوسع في سلاسل التوريد العالمية. وقد سلّط هذا الغموض الضوء على سمة متكررة في مقاربة ترامب للسياسة الخارجية: مزيج من عدم القدرة على التنبؤ والصفقات التي تركت أصحاب المصلحة المحليين والدوليين على حدّ سواء يخمّنون نواياه الحقيقية.
وفي مجالات أخرى، نشأت التكهنات حول اتجاه سياسة ترامب الخارجية من المواقف والتصريحات السابقة للأفراد المرشحين لمناصب رئيسة في السياسة الخارجية والأمن القومي. وقد وفّر العديد من الأشخاص في الإدارة الجديدة، إلى جانب سجلاتهم وتصريحاتهم العلنية حول القضايا الجيوسياسية الحرجة، مثل الحربين في أوكرانيا وغزة- قرائن وتوقعات مبكرة حول موقف الإدارة المحتمل من هذه الأزمات. ومع ذلك، فإن تنوع وجهات النظر داخل فريق ترامب أدخل أيضًا عنصرًا من عدم اليقين.
وبشكل ملحوظ، يبدو أن هناك إجماعًا ضئيلًا بين بعض الشخصيات الرئيسة المرشحة لهذه المناصب الحاسمة فيما يتعلق بالتحديات الإستراتيجية والأمنية الأكثر إلحاحًا التي تواجه الولايات المتحدة اليوم. وقد دفع اختلاف آرائهم حول قضايا تتراوح بين التنافس بين القوى العظمى والصراعات الإقليمية المحللين إلى توقع احتكاك محتمل داخل الإدارة. ويمكن أن يؤدي هذا الانقسام الداخلي إلى نقاشات ساخنة وصراعات سياسية بين مختلف الوكالات والجهات الفاعلة المكلفة بتشكيل السياسة الخارجية الأمريكية.
غير أن هذه التكهنات تعترف أيضًا بالواقع المهم المتمثل في أن الرئيس ترامب -لا فريقه من المستشارين والمسؤولين- قادر بمفرده على تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية في هذه المجالات الحساسة. فخلال فترة ولايته الأولى، أظهر ترامب استعدادًا لإحداث تغييرات سريعة داخل فريقه للسياسة الخارجية والأمن القومي. وكثيرًا ما كان تجري إقالة المسؤولين الذين اختلفوا معه أو أخفقوا في التوافق مع رؤيته، وهذا يؤكد ميله إلى إعطاء الأولوية للولاء والتوافق على الاستمرارية المؤسسية. ويشير هذا النمط إلى أن سياسة ترامب الخارجية قد تعكس تفضيلاته وغرائزه الشخصية أكثر مما تعكس التأثير الجماعي لفريق متماسك. ونتيجة لذلك، يمكن أن تكون هناك ”سياسة خارجية لترامب“ في الممارسة العملية، بدلًا من ”فريق ترامب للسياسة الخارجية“ الذي يقوم بصياغة الإستراتيجيات وتنفيذها بفعالية. وقد تعود مقاربة الصفقات والمركزية الشديدة التي اتسمت بها فترة ولايته الأولى إلى الظهور، حيث تنبثق القرارات الرئيسة مباشرة من الرئيس لا من خلال التعاون مع مستشاريه.
في ظل هذه الظروف، يجب أن تأخذ التوقعات الأكثر استنارة حول مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية في إدارة ترامب الثانية بعين الاعتبار عدة عوامل رئيسة؛ تشمل هذه العوامل أولويات السياسة الداخلية للرئيس ترامب، ووعوده الانتخابية الأكثر اتساقًا، ونفوره الواضح من بعض الارتباطات الدولية، واستعداده لإعادة التفاوض على الاتفاقيات التي توسطت فيها الإدارات السابقة أو تفكيكها، ونهجه المميز في صنع القرار في السياسة الخارجية. توفر هذه العناصر مجتمعةً إطارًا لتحليل المسارات المحتملة، على الرغم من أن النتائج لا تزال غير مؤكدة، وتتوقف على الديناميكيات المتغيرة. بالنسبة لبعض تحديات السياسة الخارجية الرئيسة، يمكن لتحليل هذه المتغيرات أن يقدم خارطة طريق تقريبية مع سيناريوهات متعددة.