منذ بداية احتلال "إسرائيل" فلسطين عام 1948م، والشعب الفلسطيني يواجه معاناة متواصلة جراء النزاعات المسلحة، وقيام حروب متكررة في أراضيها، في ظل هذا الصراع المستمر، شهدت المنطقة تصاعدًا في استخدام الأسلحة المتطورة من قبل قوات الاحتلال، منها الأسلحة المحرمة دوليًّا، وهذا أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين وتدمير البنية التحتية، ولاسيما مع التطورات الراهنة للحروب غير المتماثلة “Asymmetric war”، والحرب في الأراضي الفلسطينية تأتي في سياق تلك الحروب بين جيش نظامي محترف لقوات الاحتلال وبين حركة مقاومة أو فواعل ما دون الدولة، ومن ثَمّ تقوم هذه الحروب على إستراتيجيات وتكتيكات غير تقليدية قد يلجأ إليها الطرف الأضعف ليتمكن من تصدي هجمات الجيش النظامي.
وفي هذا السياق، جاءت أحدث هذه الحروب في السابع من أكتوبر 2023م، عندما اندلعت المواجهة الأشد بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال جراء اجتياح المقاومة السياج الأمني والسيطرة على بعض المواقع العسكرية، وتمكنها من أسر عدد من الضباط والجنود، بالإضافة إلى احتجازها عددًا من الرهائن المدنيين، وهذا أدى إلى دخول المقاومة في مواجهة جديدة مع قوات الاحتلال، بإعلان الحكومة الإسرائيلية قيام حرب على قطاع غزة.
نرى غيابًا لدور القوانين والأعراف الدولية التي نادى بها عدد من المفكرين، الذين أسهموا في إعادة صياغة "قانون الشعوب" ليصبح قانونًا دوليًّا واقعيًّا، وفي مقدمتهم الدبلوماسي الهولندي "هوغو دي غروسيوس– Hugo De Grotius " الذي لُقّب بـ"أب القانون الدولي"؛ حيث بيّن في كتابة الحرب والسلام “De Jure Belli ac Pacis” أهم الممارسات الدولية والقانون الطبيعي الراسخ والمشترك في مختلف الأزمنة والأمكنة، وهذا أسهم في تطور القانون على المستوى الدولي، فعلى صعيد الممارسات تبلورت الأعراف وقوانين الحروب لتضع الضوابط لمنع الانتهاكات، حتى جاء اليوم الذي مر فيه رجل الأعمال السويسري هنري دونان “Henry Donna” ببلدة سلوفرينو وقد امتلأت بالجرحى المكدّسين متروكين من دون أيّ عناية، وبدافع العاطفة تطوع هو وعدد من سكان البلدة لمساعدتهم، وهذا الأمر دعاه لعقد أول اتفاقية دولية تُعنَى بجرحى الجيوش في الميدان، وهي "اتفاقية جنيف عام 1864م". وفي هذا الإطار الأخلاقي والقانوني يقع على عاتق قوات الاحتلال الإسرائيلي التزامها بقواعد القانون الدولي الإنساني المتمثلة باتفاقيات جنيف الأربع في عام 1494م، وبروتوكوليها الإضافيينِ في عام 1977م، وتجنب استهداف المدنيين، وكل ما تحظره نصوص الاتفاقيات الدولية.
شهدت الحرب على قطاع غزة في عام 2023م، جريمة مروعة بحق الإنسانية عُرفت بـ"الإبادة الجماعية"، حيث ظهر هذا المفهوم في الفكر الإنساني والقانون الدولي عام 1944م، على يد المفكر الأمريكي رافايل لامكن “ Raphael Lemkin” (اليهودي الأصل)، الذي صاغ هذا المصطلح لوصف الأفعال التي تهدف إلى تدمير أمة أو جماعة معينة، بمعنى آخر جريمة من قبيل "جرائم قانون الشعوب"، فهي موجهة ضد الجماعات، إذ نادى رافايل بوضع اتفاقية دولية لمنع هذه الجرائم ومعاقبة مرتكبيها، تجسدت لاحقًا في "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها". وعلى ضوء ذلك، تُعَدّ الممارسات الإسرائيلية خلال الحرب، ومنها القصف المتعمّد للمدنيين والبنية التحتية- شكلًا من أشكال التطهير العرقي، كما جاء في نص المادة (2) من الاتفاقية التي تُعرِّف هذه الجرائم بأنها استهداف جماعة قومية بهدف تدميرها كليًّا أو جزئيًّا. بناءً على هذه الانتهاكات، قدمت جمهورية جنوب إفريقيا في ديسمبر 2023م، دعوى قضائية لدى محكمة العدل الدولية ضد "إسرائيل" متهمة إياها بخرق التزاماتها بموجب "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" معتمدةً بذلك على عدد من الأدلة والمصادر التي أكّدت من خلالها بيان إخفاق سلطات الاحتلال في احترام هذه الالتزامات، واختتمت دعواها بمجموعة من الطلبات التي تقود بمجملها إلى الحصول على حكم قضائي يُدين مخالفة "إسرائيل". إلى جانب ذلك، فإن هذه الممارسات الإسرائيلية لا تمثل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني فحسب، بل تنتهك أيضًا حقوق الإنسان الأساسية التي تلتزم "إسرائيل" بحمايتها بصفتها طرفًا في العديد من المعاهدات الدولية ذات الصلة، فكلا القانونين يستهدفان الجانب الإنساني وحماية الإنسان وحقوقه وحرياته الأساسية بالدرجة الأولى.
تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على أهمية القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان في النزاع المستمر في غزة، مع التركيز على الحرب الأخيرة التي بدأت في أكتوبر عام 2023م، وما شهدته من تجاوزات واسعة النطاق للقوانين والأعراف الدولية، كما تتناول هذه الدراسة الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد "إسرائيل" بشأن انتهاكات "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، فتستعرض العوائق القانونية والسياسية التي تعرقل التنفيذ الفعلي للقرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية، وتأثير تلك الدعوى في النظام الدولي، وما تتركه من تبعات على العلاقات الدولية.