ترتبط لبنان وسوريا بعلاقات سياسية وثقافية عميقة الجذور عبر التاريخ؛ لهذا السبب، كانت التحولات السياسية في كل بلد تؤثر بشكل كبير في الآخر. بعد أن نال لبنان استقلاله عام 1943 وسوريا عام 1946، شهد البلدان أزمات سياسية متعددة، منها الانقلابات، والحروب الأهلية، والاحتجاجات. واستمرت سوريا في المطالبة بسيادتها على لبنان حتى بعد استقلاله، كما سعت حكومة البعث السورية إلى ترسيخ هيمنتها على لبنان في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها. ومن جهة أخرى، تعاون لبنان في بعض الأحيان مع الحكومة السورية لحل المشكلات الناتجة عن نظامه السياسي الطائفي. ومع ذلك، من المعروف أن سوريا أدّت دورًا رئيسًا في تأجيج الأزمات اللبنانية. في الواقع، لم يكن للبنان منذ استقلاله سوى تعامل سياسي مع نظام البعث في سوريا، وكان يواجه المطالب القمعية التي فرضها عليه كل من حافظ الأسد وبشار الأسد. وفي هذا السياق، من الواضح أن تأثير تغيير النظام في سوريا في نهاية عام 2024 سيكون ملموسًًا بشكل أكبر في لبنان قياسًا على بقية دول المنطقة.
تُعَدّ من بين القضايا الأكثر إثارة للجدل في العصر الحديث في الشرق الأوسط- المشكلات الناتجة عن الحدود الاصطناعية التي رُسِمت بعد الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى الأبعاد السياسية للانقسامات بين الشعوب العربية. في هذا السياق، ومع انسحاب الدولة العثمانية من الجغرافيا العربية، برزت مشكلتان رئيستان واجهتهما الدول التي نالت استقلالها: البعد الأيديولوجي والبعد الجغرافي. تعرضت الحركات السياسية العربية، التي انطلقت في البداية بفكرة إقامة "المملكة العربية الكبرى"، لضربة قوية مع فرض الانتداب البريطاني والفرنسي على المنطقة. شعر الزعماء العرب، وبخاصة الشريف حسين وابنه فيصل، بخيبة أمل كبيرة. ومع ذلك، استمرت المحاولات الرامية إلى حكم الأراضي العربية من مركز واحد أو توحيد الأراضي المختلفة ذات الأيديولوجية السياسية نفسها حتى سبعينيات القرن العشرين. ولتحقيق هذه الغاية كان الهدف الأساسي هو إحياء القومية العربية، وشهد العالم العربي توحيد مصر وسوريا عام 1958 تحت قيادة الزعيم المصري جمال عبد الناصر. وكان لهذا التوحيد، الذي تحوّل من فكرة إقامة "المملكة العربية الكبرى" إلى "الجمهورية العربية المتحدة"- تأثير كبير بين الشعوب العربية. ومع ذلك، ورغم أن العقلية الأيديولوجية لإحياء القومية العربية كانت العامل الرئيس في توحيد البلدين المهمين، إلا أن غياب الدعم من دول المنطقة والسياسات القمعية التي نفذها الجانب المصري تجاه سوريا في المجالين السياسي والاقتصادي، أدّيا إلى تفكك الوحدة، وإعلان انهيار الجمهورية العربية المتحدة عام 1961.
وقد شهدت المنطقة محاولة أخرى للوحدة الأيديولوجية بين دولتين عربيتين، هما: سوريا والعراق، ولكن ليس في إطار القومية العربية، بل في إطار أيديولوجية البعث. ولكن هذا التوحيد لم يهدف إلى حكم مركز واحد كما كان الحال في توحيد سوريا ومصر، وإنما إلى فرض سياسات البعث من قبل زعماء يتمتعون بسلطة متساوية على أراضيهم. كان أحد أهداف حزب البعث الذي أسسه ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار في سوريا عام 1947 هو إعادة إحياء القومية العربية بغضّ النظر عن الانتماءات الدينية. وبهذا المعنى، كان لحزب البعث الذي اكتسب زخمًا سريعًا في الساحة الاجتماعية في سوريا، نصيبه من صراعات السلطة الطائفية في سوريا، فغيّر تموضعه أولًا مع انقلاب عام 1963، ثم مع الانقلاب الذي نفذه حافظ الأسد. وبحلول عام 1970، وبعد استيلاء الأسد على السلطة، تحوّلت المؤسسة إلى نظام احتكاري وفقدت تدريجيًًّا وظيفتها الاجتماعية. أما في العراق، فقد بدأ حزب البعث في بناء نظامه الاستبدادي عام 1968 من خلال الانقلاب الذي قاده الجنرال حسن البكر بدعم من صدام حسين.
كما أن نظامَي البعث، المتشابهين ظاهريًّا في العراق وسوريا، أدّيا إلى تطورات غير متوقعة. على سبيل المثال، كان من المتوقّع أن تكون الانعكاسات الإقليمية لنظامي البعث في البلدين أكثر توحيدًا ومركزية، لكن التنافس على الزعامة بين حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق سبب ضررًا لأيديولوجياتهما وأنظمتهما.
ولهذا السبب لم يتمكن حزب البعث من خلق الوحدة؛ لا في بيئته السياسية الداخلية، ولا في سياساته الخارجية. بمعنى آخر، في كل من الإدارتين العراقية والسورية، كانت فكرة البعث تحتوي على فعل يتناقض مع تعريفها. وبخاصة بعد وصول صدام حسين إلى السلطة في العراق، إذ كاد البلدان البعثيان يصبحان أعداء، حيث وصل التنافس والاختلاف في السياسات الإقليمية بينهما إلى ذروته.
إن الدافع الأساسي للعلاقات السياسية بين لبنان وسوريا يرتكز على أسس مختلفة تمامًا عن المسارات التي رسمتها سوريا مع البلدان المذكورة آنفًا كأمثلة. رغم أن القومية العربية ولدت في أوائل القرن التاسع عشر، وتركزت في دمشق وبيروت، إلا أن العقلية السياسية التي أرادت توحيد البلدين بعد الحرب العالمية الأولى كان أسلوبها مختلفًا عن أيديولوجية القومية العربية. كانت الفكرة الأساسية لهذا الأسلوب هي في المقام الأول الإيمان بعدم قابلية لبنان وسوريا للتجزئة جغرافيًّا. وقد تشكل أساس هذا الاعتقاد من خلال سلسلة من الأفكار التي تشكلت حول مفهوم "سوريا الكبرى". على الرغم من أن المفهوم مثير للجدل تاريخيًّا، إلا أنه غالبًا جرى استخدامه في الماضي للإشارة إلى المنطقة "الممتدة من جبال طوروس في الشمال إلى شبه جزيرة سيناء في الجنوب، ومن البحر الأبيض المتوسط في الغرب إلى الصحراء السورية في الشرق". وبهذا المعنى، كان الشعب السوري خلال فترة الانتداب يعتقد أن حدود بلاده مع لبنان رسمتها فرنسا بشكل مصطنع بما يتناسب مع طموحاتها ومصالحها الاستعمارية. وقد رأينا التوجه نفسه بين أهل السنة في بيروت بعد ضم بيروت إلى لبنان من قبل فرنسا في عام 1920. خلال هذه العملية، وبينما كان الجدل مستمرًّا حول ما إذا كانت بيروت جزءًا من لبنان، بدأت الأصوات ترتفع لمصلحة ضم البلاد إلى سوريا بدلًا من استقلالها. وكانت الغالبية العظمى من الذين أعربوا عن رغبتهم في العيش تحت الحكم السوري مرة أخرى من المسلمين السنة في بيروت. وقد نجح المفوض الفرنسي السيد هنري بونسو في إسكات هذه الأصوات التي كانت تعلو، لا في بيروت فحسب، بل في دمشق أيضًا. ورغم ذلك، ظل السنة المقيمون في لبنان يقاومون الخروج من سوريا حتى عام 1943. وفي هذا الصدد، ورغم أن كلا البلدين نال استقلاله بشكل منفصل، إلا أن لبنان ظل يُعَدّ بالنسبة لسوريا جزءًا من أراضيها بشدة. إن فكرة كون لبنان وسوريا يعنيان الشيء نفسه، التي جرى تأكيدها بوضوح في سبعينيات القرن العشرين- سهّلت هيمنة سوريا على لبنان، الذي كان يعاني خطوطًا سياسية داخلية وخارجية غير مستقرة وضعيفة.
ومن ناحية أخرى، فإن الدافع إلى اتخاذ موقف مشترك ضد "إسرائيل"، التي تهدد سوريا ولبنان باستمرار، كان أيضًا عاملًا مهمًّا في تسهيل التدخل السوري بلبنان. وقد كشفت الهزائم التي لحقت بسوريا ولبنان أمام "إسرائيل" منذ ستينيات القرن العشرين عن حاجة البلدين إلى خط دفاع مشترك. لكن ضعف الجيش اللبناني زاد من مخاوف سوريا من احتمال وقوع غزو إسرائيلي عبر الأراضي اللبنانية؛ لذلك فإن وجود التهديد الإسرائيلي الواضح سهّل على سوريا تحقيق مصالحها في لبنان. في الواقع، كانت الحجّة الرئيسة لتورط حزب الله في الحرب الأهلية السورية في عام 2013 هي أن لبنان، بدون دعم حزب الله، سيصبح عرضة للتدمير بسهولة من قبل "إسرائيل". ومن ثَمّ، فإن استخدام الممرّ السوري لنقل الأسلحة إلى حزب الله تطلب تدخلًا مباشرًًا من بشار الأسد في السياسات الأمنية اللبنانية.
وفي إطار المعلومات المقدمة آنفًا، تركز هذه الدراسة على ثلاث أفكار رئيسة:
أولًا، من الضروري تسليط الضوء على أن البنية الهشة في لبنان، التي تعود إلى تأثير السياسة الطائفية، سببها نظام البعث في سوريا، فهو الفاعل الرئيس في هذه الهشاشة. ومن المتوقّع أن تُحدّد العلاقات المستقبلية بين سوريا ولبنان في إطار قواعد متساوية، لا كعلاقة بين قاضٍ وسجين.
ثانيًا، تهدف الدراسة إلى تحليل المسار التاريخي للعلاقات بين سوريا ولبنان، وإظهار أن عدم الاستقرار في النظام السياسي الطائفي في لبنان سيشكل تجربة مهمّة في تشكيل سياسات سوريا تجاه لبنان.
وأخيرًا، تقدم الدراسة رؤية مستقبلية للعلاقات السياسية والعسكرية والاجتماعية والدينية بين النظام السوري الجديد ولبنان، مع تسليط الضوء على العوامل التي قد تؤدّي دورًا في بناء علاقات قوية ومستدامة بين البلدين.