انتقلت الفصائل التي جمعتها "إدارة العمليات العسكرية" إلى الحكم والسلطة، ودعت شركاءها من الفصائل المناهضة للنظام المخلوع لتشاركها في إعادة بناء الدولة وتشكيل الحكومة الجديدة ومؤسساتها، وسط عدد كبير من الأولويات التي يقتضيها الوصول إلى الاستقرار الأمني والسياسي، في مقابل عدد هائل من التحديات على مختلف المستويات، وأخطرها التحديات الأمنية.
وقد ورثت الإدارة الجديدة بلدًا مدمرًا ومفككًا ومقيدًا بالعقوبات، وغارقًا في الترهل الإداري والفساد في مختلف قطاعات الدولة ومؤسساتها، وهذا يحتاج إلى جهد كبير في الإدارة والحوكمة لا يقلّ أهمية عن الجهد في معالجة التحديات الأمنية؛ لتستطيع الوصول إلى الاستقرار، ومنه إلى ما تطمح إليه الإدارة الجديدة وداعموها من التنمية والازدهار.
كان تسارع سقوط نظام الأسد في سوريا مفاجئًا، فالفصائل التي انطلقت من إدلب نهاية نوفمبر 2024 كان هدفها المخطط له تحرير مدينة حلب، وربما كان ذلك يحتاج بتقديراتهم إلى أكثر من شهرين قُبَيل عودة ترامب لاستلام مهامه الرئاسية في البيت الأبيض، وكانت الفصائل قد أعدت نفسها لإدارة محافظة حلب كاملة إلى جانب محافظة إدلب، مع الاستعداد التام لذلك على المستوى الأمني والعسكري والخدمي والاقتصادي، لكن هذه الفصائل لم تكن تتوقع أن تصل في 8 ديسمبر 2024 إلى دمشق العاصمة، وتنتقل من فصائل معارضة مسلحة إلى السلطة المركزية التي تحكم البلاد.
لا يتوقف الأمر على المفاجأة فحسب، وإنما هناك تعقيدات كثيرة وجدت قيادة العمليات العسكرية نفسها أمامها، فتسارع سقوط نظام الأسد خلق ساحات من الفوضى في مختلف المناطق، فضلًا عن استمرار وجود فاعلين محليين مختلفين في المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة النظام المخلوع، مثل مناطق شمال شرق سوريا، أو مثل درعا والسويداء في الجنوب.
مع كثرة الحديث عن تجربة إدلب في الحكم والإدارة بما لها وما عليها وجّه القائد العام للإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع رسالة طمأنة في أن سوريا لا يمكن أن تُحكَم وتُدار بالطريقة نفسها التي أدارت فيها حكومة الإنقاذ إدلب، مع تأكيد الشرع أن تلك التجربة في إدلب كانت تجربة مهمّة جدًّا لهذه الإدارة في الانطلاق منها لإدارة سوريا كاملة.
قد يُنظَر إلى وجود تجربة حكم وإدارة سابقة في ظروف استثنائية (تجربة الحكم والإدارة في إدلب) على أنها مؤشر إيجابي على قدرة الإدارة الجديدة على ترتيب الأمور في البلاد، بمخلف مناحيها السياسية والإدارية وحتى المالية، بل إن تجربة إدلب تتضمن على طول سنواتها محطات معقدة في التعامل مع الفرقاء العسكريين في حالة فصائلية تتسم عمومًا بفوضى الشعبوية بعيدًا عن التنظيم المؤسساتي للجيوش والوحدات العسكرية كما يجب أن يكون في الدول المستقرّة.
لكن من جانب آخر فإن اعتماد أحمد الشرع خلال الفترة الانتقالية على الفريق ذاته الذي كان يدير إدلب، وعدم الانفتاح الفعلي على الشركاء الآخرين كان مثار قلق، ينبع من الخشية في أن تنغلق الإدارة الجديدة على تكرار تجربة إدلب في إدارة دمشق، وأن تسحب التجربة على سوريا جميعًا بحكم مقاومة التغيير الذي قد تعانيه إدارة الشرع، والتردد في الثقة بالتغيير أو بالشركاء المحليين.
على مستوى العلاقات الخارجية يبدو المشهد أقل تعقيدًا في ظاهره، إلا أنه في الحقيقة يخضع في واقعه لأن يكون كذلك تجربة معقدة في التعامل مع مختلف توجهات الفاعلين الخارجيين، على تباين نسبي في المصالح والمواقف من الحكم الجديد في سوريا وأطرافه الحاليين، أو التي ترغب الدول في إشراكهم.
اعتمد الشكل الجديد للسلطة بعد سقوط نظام الأسد على التدرج في تسلم الإدارة الجديدة لمفاصل الحكم، وقد أعلنت الإدارة الجديدة حكومة تسيير أعمال مدتها 3 أشهر فقط تنتهي مطلع مارس 2025، مع احتمال أن يُمدّد لهذه الحكومة التي سيخلفها حكومة انتقالية بحسب ما أعلنت الإدارة، على أن المرحلة الانتقالية قد بدأت فعليًّا منذ ساعة سقوط نظام الأسد، ومع وجود عوامل القوة والكثير من الفرص إلا أن عنوان هذا المرحلة الانتقالية سيكون وجود الكثير من التحديات أمام الإدارة الجديدة في دمشق، وأمام استقرار سوريا بشكل عام.