رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

حزب العدالة والتنمية في فترة التحول الديمقراطي  

يتناول هذا البحث سياسات التغيير التي تبناها حزب العدالة والتنمية، وهي تتبلور في ثلاثة مجالات: أوّلها تحوّل الدولة الديمقراطي، وتخليص الدولة من هيمنة المثقفين/ البيروقراطيين/ العسكريين، وتعزيز مفهوم الشرعية التي تستند إلى إرادة الشعب. أمّا سياسة التغيير الثانية فهي في العلاقات بين تركيا والنظام العالمي، إذ غُيِّرت علاقات التبعية القائمة مع مؤسسات النظام الغربي من علاقات تبعية إلى علاقات متبادلة، . وثالث هذه السياسات هو أن النموذج التراكمي الذي يستند إلى الشركات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة صبح نموذجًا ديناميكيًّا للنمو.

حزب العدالة والتنمية  في فترة التحول الديمقراطي   

 

ملخّص:  يتناول هذا البحث سياسات التغيير التي تبناها حزب العدالة والتنمية، وهي تتبلور في ثلاثة مجالات: أوّلها تحوّل الدولة الديمقراطي، وتخليص الدولة من هيمنة المثقفين/ البيروقراطيين/ العسكريين، وتعزيز مفهوم الشرعية التي تستند إلى إرادة الشعب. أمّا سياسة التغيير الثانية فهي في العلاقات بين تركيا والنظام العالمي، إذ غُيِّرت علاقات التبعية القائمة مع مؤسسات النظام الغربي من علاقات تبعية إلى علاقات متبادلة، ولوحظ هذا التغيير بشكلٍ أوضح بعد 15 تموز. وثالث هذه السياسات هو أن النموذج التراكمي الذي يستند إلى الشركات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة أصبح نموذجًا ديناميكيًّا للنمو ومفتوحًا على المنافسة العالمية.

تمتدّ جذور التحزّب في تاريخ السياسة التركي إلى حقبة الدولة العثمانية، ويمكن تناول ظهور الأحزاب في حقبة الإمبراطورية بلا شكٍّ بعد المشروطية وما أحدثته من تغييرٍ في البنية السياسية. ورغم أن تناول المسألة من هذا المنظور مهمٌّ من جانب تاريخ الأحزاب فإنه يُعَدّ مقاربةً ناقصةً من حيث تحليل المرحلة السياسية، وبدلًا من اختزال قضايا التحزّب والكفاح السياسي في تواريخ تأسيسها أو وقوعها وشرحها بهذه الصورة؛ ينبغي تقييمها على أنها أحداث ذات أبعادٍ متعددةٍ، ومن ثَمّ فإن تناول تاريخ تأسيس الأحزاب وقصصه انطلاقًا من قاعدةٍ أوسعٍ سيكون منهاجًا أكثر صوابًا، والانطلاق من تحليل البينة السياسية التركية أوّلًا يمكن أن يمنحنا أدلةً أكثر أهميةً في إدراك تشكّل هويات الأحزاب، والأرضية الاجتماعية التي تستند إليها، والعلاقات الاجتماعية والتقاليد والأيديولوجيات التي تنبعث منها[1].

عند ظهور الأحزاب السياسية على مسرح التاريخ باعتبارها عناصر أساسيةٍ في الديمقراطية؛ يقع على عاتقها قبل كلّ شيءٍ حملُ الدولة على الاعتراف بوجودها، ولهذا تشهد مراحل تشكيل الأحزاب على تباينها صراعاتٍ عصيبةً. وفي هذه النقطة ينبغي أن نستثني (أحزاب الدولة) التي تؤسّسها الدولة بصورةٍ مباشرةٍ؛ لأنها تُعدّ خارج نطاق النضال الديمقراطي. فمن الواضح أن الأحزاب التي تعتمد على الدولة أو التي تتبنى أساس اندماج الدولة والحزب ليست نتاج عمليةٍ ديمقراطيةٍ، بل هي أحزابٌ تُؤسَّس بصورة منظماتٍ مناهضةٍ لهذه العملية[2].

ومن المهمّ جدًّا هنا تأكيد وجود التمايز بين الدولة والمجتمع في أساس العملية السياسية، فكل تطور مجتمعي في كل دولةٍ وبنيةٍ تاريخيةٍ يشير إلى مرحلة ما قبل الدولة، وهناك شروطٌ مختلفةٌ في ظهور الدولة، وعند تعميم هذه الشروط ينبغي بيانُ أن الدولة بنيةٌ ظهرت في مرحلة الحضارة، ويمكن للدولة أن تتطور عقب تأسيسها بصورةٍ مؤسساتيةٍ، وأن تمتلك القدرة على التدخل في كل مجالات السلطة بصورةٍ يشمل المجتمع كذلك. ومن السهل إثبات أن الدول في مجتمعات ما قبل الديمقراطية كانت تعتمد هذا التوجه. ولا يمكن لعلاقة الدولة والمجتمع أن تتطابق في مجتمعاتٍ ذات خبراتٍ تاريخيةٍ مختلفةٍ، وتملك تقاليد دينية وسياسية متفاوتة. فهناك اختلافاتٌ في علاقة الدولة والمجتمع حتى في المجتمعات التي تتغذى من تقاليد تاريخيةٍ مماثلةٍ في مراحل تاريخيةٍ مختلفة.

ومن المهمّ بمكان عند النظر إلى تقاليد الدولة التركية أن نرى أن للدولة مكانًا مميزًا جدًّا عند الأتراك الوافدين إلى الأناضول على وجه الخصوص، لأنّ الخصائص والبنى المختلفة للعديد من المؤسسات بما فيها الدين في الدولة البيزنطية التي كانت تستوطن هذه الأراضي قبل الأتراك كانت لها انعكاساتها على التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في هذه الأراضي، وقد أدّى هذا الأمر إلى أن تكون (المجموعات التركية الفاتحة) الوافدة إلى الأناضول بحاجةٍ إلى مؤسساتٍ قويةٍ للحفاظ على وجودها، والدولة بطبيعتها ترأست هذه المؤسسات[3].

فالدولة في أراضي الأناضول كانت تؤدّي دور المؤسسة التي تخلق بيئةً معيشيةً أمام إرثٍ حضاريّ مختلفٍ، إضافة إلى دور الآلية التي تلبّي احتياجات المجتمع وتنظّمها، وكان لطابعِ الفتوحات التي اعتمدتها الدولة أثرٌ في منع نشوب التوتر بينها وبين المجتمع، وأسهم كذلك في إعداد أرضيةٍ لبناء علاقاتٍ أكثر أفقيّةً، وتعزيز مصطلح العدالة حتى أُطلِق عليها اسم (الدولة الكريمة) كما يقول الكاتب كمال طاهر[4]. وبذلك تبنّى الشعبُ الأناضولي هذه الدولةَ وقبِلها بسهولةٍ، ولاسيّما في العهد العثماني، وأدّى ذلك إلى ترسيخ مفهومٍ أيديولوجيّ (يقدّس الدولة).

تكمن وراء هذا النقاش التاريخي، الفروقات التاريخية القديمة التي تمتدّ إلى الاختلافات بين التطبيقات التي تعود جذورها إلى التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعتمد على القيم السياسية في الحقبة البيزنطية، والتي تتشكل في نطاق العلاقات الاقطاعية والنّبالة، وبين التنظيم الاقتصادي للدولة العثمانية الذي يتشكل حول القرويين الأحرار والإنتاج الحضري، وبين البنية المجتمعية التي تعتمد نظام الزُّمر البيروقراطية والمدنية.

ينبغي هنا تّأكيد نقطةٍ واحدةٍ فقط من دون إطالة ونقاش كثير؛ وهي أن بنية الدولة التي أُسِّست في الأناضول تحمل منذ العهد العثماني فهمًا لا يعطي مكانًا لعناصر الطرد المركزي مقارنةً مع الدول المعاصرة لها، ويعمل على تصفيتها، وتملك في تنظيماتها تقليد دولةٍ ذات صفاتٍ بيروقراطيةٍ قلّ مثيلها في مجتمعات ما قبل الحداثة.

ويمكن الحديث عن هذا الأمر من حيث بعده الذي أنتج فائدةً اجتماعيةً في إطار علاقة الدّولة والمجتمع في عهد الإمبراطوريّة الكلاسيكي. لكن تحقيق التوازن بين العناصر البيروقراطية داخل البنية المؤسساتيّة للدّولة كان مسألةً بالغة الأهمية، وكانت (رقابة العناصر العسكريّة) التي تُعدّ جانبًا مهمًّا من البيروقراطيّة قضيّةً مهمّةً جدًّا بالنسبة للنّظام السياسيّ العثماني. وقد تحقق توازنٌ نسبيٌّ في هذه المسائل طيلة قرون (من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر) تشكّل العهد الكلاسيكيّ، ونجحت البيروقراطيّة بصورةٍ محدودةٍ في القيام بوظائفها الخاصة عن طريق مؤسّساتها المتعدّدة. لكنه في الحقبة التالية وقعت أحداث كثيرة كشفت عن حدوث مشكلات وصراعاتٍ خطيرةٍ جدًّا. فالتنظيمات[5] أدّت إلى تغيير البنية السياسية العثمانية باعتبارها الحقبة التي وضعت البيروقراطيّة خلالها ثقلها على السياسة، فكان ذلك سببًا في اختلال التوازن الكلاسيكي في مثلث (البيروقراطية، والأعيان، والسلطان) وفتح الطريق أمام تحول البيروقراطية إلى زمرة سياسية. ويمكننا القول إن البيروقراطية بعد هذه الفترة انقسمت في داخلها قسمين: البيروقراطيّة السياسيّة، والبيروقراطيّة المدنيّة[6].

ومع صعود البيروقراطية داخل الدولة باعتبارها (زمرةً سياسيّةً)، ظهرت سلطةٌ حاكمةٌ جديدةٌ لا يمكن مقايستها مع الفترات السابقة، وفُتِحَ المجال أمام الانقلابات العسكرية في تاريخ الدولة السياسي. ويمكن القول إن انقلابات 1908 و1913 كانت أحداثًا سياسيةً مختلفةً عن نمط تمرد الإنكشاريين، كما يمكن الحديث عن انتقال هذه النماذج الأولى في العهد العثماني بجوانبها الثلاثة إلى فترة الانقلابات في عهد الجمهورية: أولها؛ التحوّل التدريجيّ للفهم الذي يعتمد على قناعة أن للجيش مكانةً لا غنى عنها في السياسة إلى فكرة أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي تتمتع بأفضل المبادئ الإدارية، ومن ثم انتقال هذا الفهم إلى فكرةٍ عسكريةٍ تؤمن بأن الجيش هو خير من يدير البلاد، وهو الوحيد الذي يمكنه تحقيق الإصلاحات الكبيرة. وثانيها؛ امتلاك البيروقراطية ثقافة التضامن الزمري لتحويل قدرات الدولة إلى ساحة إدارةٍ خاصةٍ بها، وحصولها على موقعٍ يتمتع بحكمٍ ذاتيٍّ تقريبًا داخل الدولة، وتبنيها موقفًا يدفعها إلى الإيمان بحقّها في التدخل بالسياسة والتصرّف بها، وكأنها المالك الحقيقي للدولة. وثالثها؛ تأسيس العقلية الموالية الدولة (أو الدولانية) التي تبحث عن الحلول ضمن الدولة فقط، وترى ضرورة إبعاد المواطنين المدنيين عن الدولة، وعدم الوثوق بهم، ومن ثَمّ الاشتباه بكل حركةٍ يمكن أن تدخل في المجال الخاص بالدولة. ولكن هل كان بإمكان هذا الشكل من التضامن الزمري المنغلق وتقاليد السياسة (الدولانية) أن يضمن بمفرده استمرارية هذه البنية؟.

 

الأحزاب والسياسة

بقيت تركيا وجهًا لوجهٍ مع ظروفٍ جديدةٍ تمامًا عقب الحرب العالمية الثانية، فالنظام الجمهوري ابتعد برمته عن الشعب، وتحول إلى إدارةٍ تفسح المجال أمام التحكم التقليدي للنخب البيروقراطية، وذلك نتيجة التحول التدريجي للفهم السياسي الذي يدير النضال الوطني مباشرةً عن طريق البرلمان إلى نظامٍ جمهوريّ استبداديّ، وزوال الأوساط التي ستحيي التوجهات الديمقراطية اعتبارًا من المجلس الأول، وتأسيس نظام الحزب الواحد[7].

عقب الحرب العالمية الثانية خسرت الحركة النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وظهرت ردود أفعال كبيرة ضد الأنظمة الاستبدادية في الغرب، ولمواجهة هذه التطورات اضطرت الزمرة البيروقراطية المهيمنة الموالية للغرب التي بسطت سيطرتها على النظام بأكمله تقريبًا عقب فترة التنظيمات- إلى التقدم نحو الانتقال إلى نظام التعدد الحزبي، وهذا أتاح الفرصة لتغيّر نظام الحزب الواحد الاستبدادي عقب الانتخابات الحرة التي أجريت عام 1950. المثير في هذا الأمر هو أن تركيا في تلك الأيام كانت تمتلك بنية اجتماعية منغلقة، وتغيب فيها الأسس المجتمعية التي تدفع نحو التعددية الحزبية للتقدم باتجاه الديمقراطية في وجه النخب البيروقراطية المتمركزة في الدولة. وقد أدّى عدم كفاية العناصر المدنية التي تحقق تراجعًا لهذه التقاليد المتحكمة بالشعب عن طريق الدولة- إلى سحق أول تجربةٍ ديمقراطيةٍ متعددة الأحزاب في غضون فترةٍ قصيرةٍ جدًّا لا تتجاوز عشرة أعوام.

ولا شك أن تدمير مؤسسات المجتمع المدني على يد البيروقراطية الموالية للغرب كان له تأثيرٌ واضحٌ في انقطاع هذه الوتيرة على يد الانقلاب العسكري في 27 مايو/أيار عام 1960. مع هذا ينبغي البيان هنا أن مفهوم الموالاة للدولة له أسبابه النابعة من الأيديولوجيا العسكرية والموقع الذي تحتلّه الزمرة البيروقراطية داخل الدولة بصورة مباشرة؛ بمعنى آخر لم تكن أحداث عامي 1908 و1913 مجرد انقلابات عسكرية وحسب، بل ساعدت في الوقت ذاته على تأسيس مسوّغات للقيام بانقلابات جديدة، وتثبيت المفهوم العسكري في مؤسسات الدولة عن طريق الدستور.

يُلاحَظ خلال فترة التحزّب التي ظهرت عقب انقلاب عام 1960 استمرار الاختلاف الذي ظهر في الأساس الثنائي، والتوجّه الذي برز على محور (الانقسام الثقافي). ففي الطرف الأول كان حزب الشعب الجمهوري الذي يعمل على استمرار المفهوم السياسي الدولاني وتقليد هيمنة الزمرة البيروقراطية من خلال تعزيزها بأيديولوجيا عسكرية، وفي الطرف الآخر كانت الأحزاب التي هي بمثابة استمراريةٍ للحزب الديمقراطي الذي دافع عن الحقوق المدنية بدلًا من الاعتماد على أيديولوجيا محددة، ومن أهم هذه الحقوق المدنية الدفاع عن (الثقافة المحلية) التي تشكل هوية الشعب التي يسعى النظام إلى تغييرها قسرًا.[8]

تعتمد النمذجة التحليلية التي غالبًا ما يُشار إليها لفهم الأحزاب السياسية في تركيا- على فروقاتٍ ثنائية، ومزدوجات، مثل اليمين واليسار، والغرب والشرق، والرجعية والتقدمية، والمركز والمحيط، والحديث والتقليدي، ولا يمكن القول بالطبع إن النماذج التي تعتمد على هذه التصنيفات ليست مهمّةً، ولكن يجب ألا تغيب عن الأذهان المحاورُ والحالات التاريخية والفعلية التي تتمّ فيها هيكلة هذا الازدواج والتضاد بصورة مجتمعة أو متفرقة. فالأحداث التي تشهدها تركيا في بعض المراحل المتعاقبة في خصائصها التاريخية والثقافية والاجتماعية تبيّن عدم كفاية هذا النوع من التصنيفات الثنائية، بل تجعل الفروقات التي تعتمد على هذا النوع من الثنائيات غير صالحةٍ من الناحية التحليلية أحيانًا، ووفقًا للفرضية التي نريد طرحها لتجاوز هذه المشكلة إلى حدٍّ ما فإن الانقسامات التي حدثت في المراحل الثلاث المختلفة في تركيا تشكلت من قِبَلِ ديناميكياتٍ متعددةٍ تتوحد حينًا وتتفرق حينًا آخر. ومن ثَمّ فمن الصعوبة بمكانٍ إدراك ووصف الفروقات السياسية بدون تحليل الانقطاعات التي أبرزتها الأحداث الواقعة على هذه المستويات الثلاثة والانقسامات التي سببتها. وهنا يمكن تصنيف التطورات الحاصلة على هذه المحاور الثلاثة كالآتي: محور الاختلافات الثقافية، ومحور الاختلافات المجتمعية، ومحور اختلافات التقاليد السياسية، ويمكننا أن نوجز بيان الأحداث الحاصلة على صعيد المحاور الثلاثة المذكورة على النحو الآتي:

 

المحور الثقافي:

التغريب هو أهمّ مشكلةٍ تواجهها المجتمعات غير الغربية منذ ما يقارب مئتي عام، وقد واجهت المجتمعات المذكورة هذه المشكلة من خلال الاستعمار بصورةٍ مباشرةٍ، واتبع الغرب سياسة تغيير ثقافة المجتمعات التي يستهدفها، وتصفية الثقافات المحلية.

والنموذج الآخر لهذه الظاهرة هو الانقسامات الثقافية التي ظهرت نتيجة سياسات المثقّفين الموالين للغرب التي تهدف إلى تصفية ثقافة شعوبهم رغم أن بلادهم لم تكن مستعمرة. ومن ثَمّ يمكن أن نتفهم هنا تصرف الشعب واتخاذه موقفًا محافظًا مناهضًا لممارسات البيروقراطيين والمثقفين الموالين للغرب الرامية لتصفية ثقافاتهم، وتطويره منعكساتٍ لحماية هويته. ويمكن تلخيص الانقسمات الناتجة عن الاختلافات التي برزت في هذه الفترة على أنها عمليةٌ استقطابيةٌ بين الثقافة المحلية والتغريب. وقد أدّت الاختلافات بين الثقافة المحلية والتغريب في التاريخ السياسي التركي إلى انقسامات خطيرة تحولت إلى صراعات، وهنا لا يمكننا ذكر السياسات التي كانت تفرض قسرًا على الثقافة المحلية منذ العهد العثماني إلى يومنا هذا بصورةٍ منفصلةٍ عن هذا المسار، بيد أنه ينبغي تأكيد أن هذه الانقسامات لاتزال قائمةً داخل طبقات المجتمع ومؤسساته المختلفة.

 

المحور المجتمعي:

يمكن الحديث هنا عن حقبةٍ طويلةٍ في تركيا تمحورت فيها الاختلافات المجتمعية حول القيم الدينية والثقافية. وكذلك لا يُنكَر في هذه الحقبة الطويلة وجود طبقاتٍ مجتمعيةٍ تستند إلى التنوع المهني إلى جانب التنوع في الاختلافات التاريخية، مثل النخبة والشعب، والمثقفين والخواص، والحضري والقروي، والمستوطن والرحّال؛ يمتد إلى مراحل قديمة جدًّا. ويبقى ظهور الاختلافات المجتمعية التي تحدد الانقسامات السياسية في السياسة التركية حديث العهد.

بينما كانت الانقسامات الثقافية والاختلافات السياسية العامل الرئيس في السياسة لسنين طويلةٍ أخذت البنية المجتمعية بالتحوّل مع دخول البلاد مرحلة التصنيع وانتقالها من المجتمع الريفي وارتفاع نسبة التحضر ابتداءً من السبعينيات، وبات تَشكُّلُ أنواعٍ جديدةٍ من الطبقات مثل التقسيم الطبقي، وظهور زمرٍ جديدةٍ، وتكوين الجماعات من جديدٍ، والفقراء الذين يعيشون في ضواحي المدن- عاملًا مؤثرًا في الخيارات السياسية، وفي مراحل تأسيس الأحزاب وسياساتها، كما غدا التنوع المهني الجديد الذي ظهر في مرحلة تأسيس النقابات وتطور التنظيمات العمالية وانتشار التعليم من العوامل التي عززت تأثير هذه الاختلافات في السياسة.

 

محور التقاليد السياسية:

الصراعات السياسية هي بحد ذاتها عاملٌ في ظهور الانقسامات السياسية؛ لأن المجموعات والأحزاب السياسية التي تمارس الأنشطة السياسية تنتج فهمًا تناضل في سبيله، وتسعى لنقله إلى المستقبل عبر خطابٍ سياسيّ خاصٍّ يؤسّسه كل حزب. والأحزاب عادةً تنتمي إلى تقليدٍ، تعرّف به هويتها السياسية، وتجعله سبب وجودها ونضالها. واختلاف الاتحاديين والائتلافيين الذي ظهر في العهد العثماني وكان له أثرٌ بارزٌ في التاريخ السياسي التركي، تحول إلى انقسامٍ سياسيّ بين حزب الشعب وحزب الاتحاد والترقي في العهد الجمهوري، ومن بعده الصراع بين حزب الشعب الجمهوري والحزب الديمقراطي وحزب العدالة. وليس من الصعب تخمين انعكاسات هذا التقليد على حاضرنا.

يمكن القول باختصارٍ إن محاور الاختلاف الثلاثة مرتبطةٌ ببعضها ارتباطًا وثيقًا. ففي الحالات التي تتداخل فيها هذه المحاور الثلاثة مع بعضها يتحول الاختلاف إلى انقسامات بين الأحزاب المنظَّمة بصورة (الغربي والمحلي) ثقافيًّا، و(المجتمع الرسمي والمدني) اجتماعيًّا، و(المثقّفين الموالين للدولة والشعب التقليدي) تقليديًّا.

يمكن لهذه الاختلافات والانقسامات السياسية الظهور على صورة استقطابٍ مزدوجٍ أو توجّهٍ تعدديٍّ تبعًا للظروف، وعلاقة الدولة مع النظام العالمي، والتطورات الحاصلة في البنية المجتمعية. فعلى سبيل المثال مع توجه الاستقطاب (المحلي والغربي) في محور الثقافة الذي يحدد الانقسامات السياسية التقليدية نحو طبقية من نوع الفئات، وتحول البنية القروية إلى البنية الحضرية، توجهت الاختلافات التي طرأت على البنية المجتمعية التركية في السبعنيات إلى التخلص من هذا التضاد ونقله إلى مكانٍ آخر. ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى ظهرت انعكاسات هذا الأمر على الأحزاب السياسية، وحتى ذلك الوقت كان الصراع بين الأحزاب السياسية منحصرًا بين حزب الشعب الجمهوري والحزب الديمقراطي، وحزب العدالة. وعقب التغيرات المجتمعية التي أنتجتها مرحلة التصنيع ظهرت أحزابٌ معارضةٌ تتبنى الأيديولوجيا الاشتراكية التي تسعى إلى الارتباط مع مرحلة إنشاء الطبقة العاملة إضافة إلى حزب السلامة الوطني الذي يتبنى التوجه المحافظ في الثقافة والحداثة في التطور الاقتصادي، وحزب الحركة القومية الذي يتنبى التوجه القومي في الثقافة والتوجه النهضوي في الاقتصاد؛ اللذينِ ظهرا على المسرح السياسي باعتبارهما هويات سياسية جديدة، وينبغي أن نتذكر أن شروط الحرب الباردة كانت تحدد الظروف في تلك الفترة.

 

سياسة ما بعد 1980:

ترك انقلاب 12 أيلول/سبتمبر آثارًا عميقةً في الحياة السياسية التركية، فالحساسية الرئيسة التي برزت في النظرة السياسية لهذا الانقلاب الممثِّل للعقلية التي تسعى إلى قمع التوجّه التعددي في المجتمع حدّدتها أيديولوجيا عسكرية، ووفقًا لهذا الفهم أصبح الجيش قوّامًا على الدولة، وهذا يعني بتعبيرٍ رسميٍّ أنّ "الجيش هو باني الجمهورية"، والدولة ليست مؤسسةً يمكن تركها بين أيدي السياسة والأحزاب التي تحددها المراحل السياسية، وأن صاحب الدولة الحقيقي هو "الجيش النابع من داخل الشعب".

وبناءً على هذا الفهم قررت الطغمة العسكرية الانقلابية في 12 أيلول استئناف الأنشطة السياسية، وفكّرت في ضمان استمرارية الإدارة الطغمة العسكرية عن طريق الحزب الديمقراطي الشعبي الذي كلّف الجنرال المتقاعد توغوت سون ألب بتأسيسه. وبينما كان حزب الشعب الجمهوري يودّع إرثه في الحزب الشعبي؛ كان زعيم حزب العدالة سليمان دميرال يبدو واثقًا بأن حزب الوطن الأم الذي أسسه تورغوت أوزال مستشار مؤسسة تخطيط الدولة لن يكون قادرًا على الظهور في الساحة السياسية. وكانت الطغمة العسكرية واثقةً من أنها أحكمت سيطرتها على الدولة لأنها فرضت وصايتها على بنية الدولة المؤسساتية عبر تنظيماتٍ غير ديمقراطيةٍ ممثلةٍ في دستور 12 أيلول، ونجحت بتنصيب رئيس الطغمة العسكرية رئيسًا للجمهورية.

ورغم أن فوز حزب الوطن في انتخابات 1983 كان أمرًا غير متوقع بالنسبة لهم، فإن السلطة الحقيقية للدولة كانت تحت سيطرة الموظفين العسكريين البيروقراطيين، إلى درجة أنهم كانوا في تلك الأيام يتبنون موقفًا لا يعرف حدودًا في ممارسة شتى أنواع العمليات لعرقلة رئيس الوزراء أوزال.

اعتمد أوزال في خطابه حول مسألة تغيير هذه البنية العسكرية لغة النظام الليبرالي العالمي الجديد السائد في تلك الحقبة التي كانت تشهد بدايات مرحلة العولمة، وتحدّى المفهوم العسكري الذي تشكل وفق خط الحلف الأطلسي والبنتاغون عبر سياساته التي فازت بدعم النظام الليبرالي الجديد، وقام بإصلاحات غيرت الكثير من الأمور، وعلى رأسها النظام الاقتصادي الموالي للدولة، وسعى إلى تطبيق السياسات التي تسرع عملية التغير المجتمعي. أما التناقض في هذه السياسة فهو سعيه إلى الحصول على دعم الليبرالية الجديدة متجاهلًا العلاقة التي تربط هذه الليبرالية الجديدة بالهيكل السياسي التركي الذي هو تحت وصاية الغرب والمدعوم من قبل الحلف الأطلسي والبنتاغون، فكانت هذه طامة أوزال الكبرى.

وكانت الأسس المجتمعية التي ستضمن استمرارية سياسات أوزال ضعيفة جدًّا في الداخل أيضًا، وكانت الطبقة المتوسطة في تركيا ضعيفةً لم يشتد ساعدها بَعد، ولم تتقاعس النخب المنظَّمة حول الدولة، وأصحاب الأيديولوجيا العسكرية، والرأسماليون الموالون للدولة، والبنية المتمحورة حول المثقفين البيروقراطيين الذين يتبنون لغتهم- في اللجوء إلى السبل التي ستحدّ من سياسات أوزال وتشّلها.

ليست هناك حاجة لذكر أن بعض الأشخاص المحيطين بأوزال من رجال الأعمال والسياسيين كانوا يبنون مواقفهم وفق الظروف ومصالحهم الشخصية اليومية، وكانوا لا يستوعبون فحوى سياسات التغيير هذه. كما أن المعارضين لإستراتيجية التغيير هذه كانوا سياسيين غير أكْفَاء، ولم يكن يعلم بهم الناس لولا أوزال. ورغم أن خط أوزال السياسي نجح في زعزعة النظام القائم، وإحداث بعض الثغرات فيه فإنه لم يكن مستدامًا، ولا شك أن الأسباب التي تقف وراء ذلك هي الظروف والعوامل المتعلقة بالبنية المجتمعية، إضافةً إلى أسبابٍ أخرى متعددة ذات صلة بعلاقات البلاد مع النظام الدولي التي لسنا بصدد ذكرها جميعًا هنا.

ونذكر هنا أنّ تحويل مطالب الحرية إلى مطالب مدنيةٍ من أهم إصلاحات أوزال بعد الخروج من نظام الطغمة العسكرية، ومن أهم المؤشرات التي تساعد على فهم هذا الأمر تداول الجدل حول المجتمع المدني في الإعلام والأوساط الأكاديمية والرأي العام بقدرٍ لم يُشاهَد حتى ذلك اليوم. ويمكن القول: إن أهمّ أهداف التدخل العسكري في مرحلة 28 شباط كان يتمثّل في قمع مطالب التمدّن هذه وإسكاتها.

 

عملية 28 شباط والأحزاب

لم تتقيد ردود الفعل والغضب الموجّه ضد سياسات أوزال بأيّ قيودٍ، ومع أن النظام كان مسيطرًا على الوضع من خلال التحكّم الفعلي بدستور 12 أيلول، وسيطرة الأيديولوجيا العسكرية، وتحالف المثقفين والبيروقراط والعسكر والرأسماليين الموالين للدولة والذي أصفه بـ(كتلة السلطة التاريخية)- بيد أن تفعيل أوزال لآلية السوق، ودفعه الاقتصاد إلى الانفتاح على الخارج، واعتماده سياسات تصنيع جديدة تدعم أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم، والتحضّر السريع، وقيام سكان المدن الجدد ببناء فضاء مجتمعي مدني، وتشكيل هيكلٍ مهنيّ جديدٍ في البلاد الذي فتح الأبواب أمام التكنولوجيات الجديدة؛ كلّ ذلك أدّى إلى ارتفاع نسبة التوجهات التي تسعى إلى التغيرات المجتمعية، وكان سببًا في تصاعد ردود أفعال النظام القائم وتفاقم مخاوفه. والمشكلة الأساسية كانت تتمثل في أنّ أوزال أثبت إمكانية تحقيق هذا الأمر من خلال مباشرته بالتغيير، وأدّى هذا إلى هدم القناعة القائمة حول حصانة مؤسسات النظام العسكري.

عقب عهد أوزال دخلت الحياة السياسية التركية في مرحلةٍ طويلةٍ من عدم الاستقرار، ولم تنجح الحكومات التي كانت تعاني من ضغطٍ سياسيّ بسبب الأعمال الإرهابية في التعامل مع التضخم المالي الذي بات مشكلةً هيكليةً عميقةً في الاقتصاد، وتوقف نموّ البلد اقتصاديًّا، وحدث الركود التضخمي. واشتهرت التسعينيات بفترة الحكومات الائتلافية الفاشلة، واستمرت عقب انتخابات 24 كانون الأول 1995. وكانت هذه الفترات تتمثل تقريبًا في البحث الدائم عن دحر كل خطوةٍ تهدف إلى هدم حس التغيير الذي أطلقه أوزال. كما يمكن تفسير مراحل الحكومات الائتلافية التي شكّلها حزب الطريق القويم وحزب الوطن الأم، التي عُرِفت بعد ذلك بحكومة (طريق الرفاه) على أنها جهودٌ لتوحيد هيمنة كتلة السلطة التاريخية المتمركزة حول الدولة، لكن سعي نجم الدين أربكان في حكومة طريق الرفاه لإدارة الموارد العامة بنفسه، وبحثه عن بدائل عن السياسات الملتزمة بالخط الغربي تسببا في اضطراباتٍ خطيرةٍ، وطُبِّقت إستراتيجية سياسية جديدة لمواجهة هذه الظاهرة، من خلال أنشطةٍ متعددةٍ، مثل إعادة هيكلة الجيش، وإنشاء حالة روحية مجتمعية مناهضة للجو السائد في الرأي العام والذي كان من صنع معارضة الانقلابات العسكرية التي برزت عقب 12 أيلول.

لم تتوان البنية غير القانونية الموجودة في الجيش باسم مجموعة العمل الغربية عن استخدام اسم مؤسس الجمهورية وزعيم النضال الوطني الغازي مصطفى كمال أتاتورك غطاء لممارسة جميع تدخلاتها ومبادراتها وعملياتها ضد الديمقراطية. وليست هناك حاجة لذكر أن الهدف الرئيس من هذه الإستراتيجية التي استهدفت حرية التعبير وحقوق الصحافة والإعلام إلى جانب الدين أو المجموعات الدينية هو التدخل الصريح في الديمقراطية... وُضغِط على نواب الأحزاب في المجلس، وأُسِّس حزب جديد (عُرِف باسم حزب مظلة بين الشعب)، وأُسقِطت حكومة طريق الرفاه، وشُكِّلت حكومة ائتلافية جديدة بدلًا منها. ومن الضروري التذكير هنا بالمعلومة التي تؤكد أن هذه الأحداث التي عُرِفت بعملية 28 شباط في التاريخ السياسي إنما دعمها زعيم تنظيم غولن الإرهابي.

ولفهم ردود الأفعال التي أبدتها البؤر التي كانت تحت وصاية النظام الغربي في تركيا حيال إضفاء الطابع الديمقراطي على الدولة، ينبغي النظر إلى العديد من الأحداث بما فيها الأخبار التي أفادت أن تنظيم (غلاديو) المعروف بأنه أُسِّس في مقرّ الحلف الأطلسي في تركيا في ذلك الوقت- هو الذي أدار جميع العمليات القذرة، ومنها الاغتيالات، وعرقلة حل المسألة الكردية بالسياسات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، وعملية الاغتيال التي تعرض لها أشرف بتليس باشا القائد العام لقوات الدرك في ذلك الوقت. والحدث الآخر الذي وقع في هذه المرحلة هو تطور العلاقات بين تركيا وإسرائيل بصورةٍ لافتةٍ للنظر، وكما ذُكِر في الرأي العام في ذلك الوقت تعاونت القوات المسلحة التركية مع إسرائيل في تنفيذ المشروع الضخم المعروف باسم (تحديث الدبابات)، وتحديث الطائرات، ومن المعروف أنه لم يُسمَح بتنفيذ هذا المشروع ضمن شروط وتقنيات أكثر ملائمة اقترحتها بعض إدارات المصانع التي تعمل تحت إدارة المؤسسة الاقتصادية العامة.

وأُجرِيت انتخابات عام 1998 في ظل المخاوف من استمرارية الترتيبات والضغوطات التي أنتجتها عملية 28 شباط، وعقب هذه الانتخابات تشكلت حكومةٌ ائتلافيةٌ جديدةٌ تضم حزب اليسار الديمقراطي، وحزب الحركة القومية، وحزب الوطن الأم، وبلغت المشكلات التي عانتها هذه الحكومة مستوى لا يمكن الاستهانة به، وكان يترأس حزب اليسار الديمقراطي بولانت أجاويد الذي يصف نفسه يساريًّا ديمقراطيًّا رغم المسافة الشاسعة التي تفصله عن الديمقراطية عند الأخذ بعين الاعتبار الموقف الذي تبناه تجاه عملية 28 شباط. إنّ أجاويد تبنّى موقفًا يصف مطالب المجتمع المدنية بأنها عدوان على الجمهورية، في حين كان حزب الوطن الأم يتبنّى تحت إدارة زعيمه مسعود يلماز موقفًا مناهضًا لأوزال، ويقدّم سياساته في الدفاع عن المصالح الغربية تحت مسمّى (سياسات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي)، ويؤدّي دور الممثل لهذه السياسات، ولكن اتخاذ حزب الحركة القومية موقفًا مناهضًا للسياسات الغربية المعادية لتركيا، وإصراره على مكافحة الإرهاب بصورةٍ أكثر فعاليةٍ حمل التناقضات القائمة بين أحزاب الائتلاف إلى نقطةٍ لا يمكن معها الاستمرار.

في تلك الفترة تحركت الكتلة التاريخية تحت الوصاية الغربية التي كانت تسعى إلى إقصاء دولت بهجلي وأجاويد الذي بات طاعنًا في السن والسيطرة على السلطة وحدها، واُدِيرت عمليات ضد حزب اليسار الديمقراطي وحزب الحركة القومية اللذين التزما الصمت ولم يردّا حينها على رئيس الأركان الذي تحدّى المجلس بقوله: "ستبقى مجموعة العمل الغربي صامدة لألف عام، وستعيش مرحلة 28 شباط"، وعُمِل على إنشاء حكومةٍ جديدةٍ، وذهبت البلاد إلى الانتخابات عقب اعتراض بهجلي الشهير، وأتت الانتخابات التي أُجرِيت في 3 تشرين الثاني عام 2002 بنتائج مفاجئةٍ للكثيرين، حيث أخفق حزب الحركة القومية والطريق القويم والوطن الأم في اجتياز الحاجز الأدنى للانتخابات، ولم يدخل إلى المجلس سوى حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة والتنمية الذي أُسِّس قبل بضعة أشهر فقط، وكان هذا بداية مرحلة حكم حزب العدالة والتنمية الواحد.

 

ما الذي يمثّله حزب العدالة والتنمية؟

تشير نتائج انتخابات 3 تشرين الثاني إلى أن الشعب تصوّرَ الأزمة الاقتصادية التي عاشتها البلاد خلال عامَي 2000-2001 على أنّها (أزمةٌ مجتمعيةٌ) آخذةٌ في العمق، وكأنه -أي الشعب- عاقب في هذه الانتخابات الأحزاب والبنى المؤسساتية للنظام القائم الذي يتماهى مع 28 شباط. وحزب الحركة القومية الذي كان مترددًا في التقدّم في المجال الذي فُتِحَ أمامه في انتخابات عام 1999 أخفق في استخدام الرصيد الذي منحه الشعب بسبب هويته القومية والمحافظة، وتوانى عن تبنّي موقفٍ يؤكّد سيادة الشعب ضد الذين زعموا أن 28 شباط (سيدوم ألف عام)، ولم ينجح في اجتياز الحاجز الأدنى للانتخابات مثل باقي أحزاب النظام القائم نتيجة الآثار الاستنزافية للأزمة الكبيرة التي مرّت بها البلاد. من المفيد هنا أن نلقي نظرة إلى التسلسل الهرمي للقوى المجتمعية والمؤسسات التي كانت تحدّد العلاقات المجتمعية في فترة انتخابات 3 تشرين الثاني. وعند تحليل التسلسل الهرمي الذي يشكّل البنية المجتمعية لتركيا يمكننا كما ذكرنا آنفًا وصف العناصر التي نقابلها على الشكل الآتي:

 

الزمرة المثقفة البيروقراطية:

هذه الزمرة التي وجدت الحياة بفكرة التغريب، وعزّزت مكانتها كلما تبنّت الدولة أيديولوجيا التغريب؛ يمكن اعتبارها إرث آخر عهود الدولة العثمانية. وإنّ اكتساب البيروقراطية نفوذًا سياسيًّا في أثناء تحولها إلى زمرةٍ إداريةٍ مستقلةٍ إنما كان نتيجةً حتميةً لاعتماد أيديولوجيا التغريب (وغايتها التحول إلى دولة أوروبية في العهد العثماني) على الصعيد الرسمي. وبمعنى آخر، كان السلاطين الذين تبنوا سياسات التغريب يعتمدون موقفًا يحدّ من مساحتهم السياسية التي يستندون إليها، وكأنهم كانوا يعدّون نهايتهم بأيديهم. وفي هذه المرحلة التي تحوّل فيها البيروقراط إلى نُخَبٍ كان جزءٌ مهمٌّ من المثقفين يحملون هذه الأيديولوجيا، ويتبنون موقفًا يطالب بموقعٍ تحت رعاية الدولة.

في فترة الجمهورية لم يكن هناك من ينافس هذه الزمرة داخل الدولة، وكان موقع المثقفين أشد ارتباطًا بالبيروقراط حتى لو تغيرت مراكز القوة بين البيروقراط من حينٍ لآخر، إذ كان المجال مغلقًا نهائيًّا أمام ظهور حركة المثقفين المستقلّة. ولا بدّ أن نتذكر هنا الموقف غير المتسامح مع المثقّفين الذين تجمّعوا حول مجلة (كادرو)، الذين سيُذكَرون بعد الآن باسم (حركة كادرو)[9]. ووقف المثقفون عند إعادة إنتاج المستوى الفكري للبنية السلطوية التي تشرّع ما يقوم به البيروقراط من العسكريين والمدنيين[10].

 

السياسة العسكرية/ البيروقراطية العسكرية:

كانت السياسة العسكرية من أهم المصادر التي تحدد البنية الاجتماعية، ورغم أنّ موقف الجيش كان ثانويًّا في نظام التحكّم البيروقراطي الذي زادت حدته اعتبارًا من تأسيس نظام الحزب الواحد بشكلٍ خاصّ فإن مفهوم السياسة العسكرية اتخذ لنفسه مكانًا محدّدًا ضمن أيديولوجيا التغريب، ولا ينبع أهمية انقلاب 27 أيار من كونه يمثل هجومًا على أول تجربةٍ ديموقراطيةٍ، ولا أول هجومٍ على الإرادة الشعبية، ولا من كونه أول انقلابٍ أدّى إلى قتل رئيس الوزراء وبعض الوزراء، بل لأنه نجح في الوقت ذاته في خلق نظامٍ سياسيٍّ أضفى الطابع العسكري على البنية المؤسساتية للدولة برمتها، ومن خلال التشريعات التي أتى بها دستور 27 آيار الجديد تمّ إقصاء القوى الديمقراطية، واستولت المؤسسات العسكرية البيروقراطية على السلطة الحقيقية، وبمعنى آخر يمكننا القول إن المؤسسة العسكرية سيطرت على السلطة عقب انقلاب 27 أيار؛ لأن الدولة باتت تابعة لتنظيمٍ هيكليّ تمّ تحديده بالكامل من قبل مجلس الأمن القومي، وتمّ ضبط الحكومات المنتخبة من قبل هذه المؤسسة.

 

الفئة الرأسمالية الدولانية:

تحوّل الاقتصاد التركي تدريجيًّا إلى بنيةٍ تدار بالأوامر بسبب التنظيمات البيروقراطية والعسكرية، ولم تتحدد علاقات المنتجين والمستهلكين وقرارات المستثمرين وفق آليات السوق وما شابهها، ولم تُحدَّد وفق معايير اقتصاديةٍ عقلانيةٍ أو وفق الربح الذاتي والإنتاجية، بل كانت بيروقراطية الدولة تتخذ القرارات وفق الأيديولوجيا العسكرية وتدير الاقتصاد داخل بنيةٍ تتحكم بها الأوامر. ففي الممارسات الرأسمالية الدولانية تتبنى مؤسسات الدولة المعروفة باسم (المبادرة الاقتصادية العامة) وظيفة إعداد تراكم رأس المال الخاص من خلال نقل الموارد إلى المشروعات الخاصة بصورة مباشرة، والإنتاج المتوسط، أو توفير الدخل المباشر، وما شابه. ومن أجل مواصلة الفئة الرأسمالية التي تتبنى البنية المؤسساتية العسكرية وأيديولوجية التغريب (نموذج التراكم) الذي يعتمد على نقل الإيرادات المحدّدة ضمن نظام عسكري- كان عليها القيام بالأدوار المطلوبة منها داخل الآليات البنيوية التي تحدد مواقعها داخل هذه العلاقات.

يبدو أن الرأسمالية الدولانية تبنّت النموذج الذي يُسمَّى (استبدال الواردات)، بتصنيعها محليًّا بوصفها إستراتيجية لتطوير الاقتصاد، بيد أن هذا النموذج كان في حاجةٍ دائمةٍ إلى المصادر الخارجية، وتبقى القطاعات والمؤسسات التي ستقوم في القطاع الذي يقيم فيه الإنتاج المحلي محل الواردات- في حاجةٍ مستمرةٍ ومتزايدةٍ لتوريد المواد الداخلة في الإنتاج، ولهذا بات الاقتصاد التركي عرضةً للأزمات الدورية، وكان الهروب من هذه الأزمات أمرًا مستحيلًا تقريبًا.

وهكذا باختصارٍ تعمل الآلية الاقتصادية... تحاول الدولة التي تُعَدّ العامل الرئيس في الاقتصاد تحقيق النمو الاقتصادي من خلال الاستثمارات التي تنفذها عن طريق المؤسسات الاقتصادية العامة من جانب، والقطاعات الخاصة المختارة لتتلقى دعم الدولة والتي وصفتها بـ (الرأسمالية الدولانية)[11].

نُقِلَت الموارد العامة، والقيود الإلزامية، والادخارات المتراكمة عن طريق نقل الموارد بين القطاعات والفئات، والإمكانات التي وُفِّرت عن طريق السياسات الاقتصادية والمالية المتعددة بما فيها التضخم، والقروض الخارجية- نُقِلت جميعًا إلى العناصر الرأسمالية الموالية للدولة وأُسِّس نموذج تراكمي، وقد أدّى هذا النموذج الذي أخفق في تحقيق نظام إحلال الصناعات المحلية محل الواردات؛ إلى الاحتياج بصورةٍ متناميةٍ إلى الدعم الخارجي. وإنّ زيادة سيطرة الآليات الخارجية التي تمنع نمو البلاد على الاقتصاد بسبب هذا النموذج أدّت بدورها إلى دخول الاقتصاد في دوامة عقيمة. وإنّ الأزمات الاقتصادية التي مرت بها تركيا بعبارة أخرى كانت نابعةً من المشكلات البنيوية الناتجة عن نموذج النمو الخاص، ولا علاقة لها بالتطورات الاقتصادية العالمية.

عند وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم عقب انتخابات 3 تشرين الثاني 2002 وجد الحزب أمامه هذه البينة الاقتصادية الشائكة وخلفها المؤسسات السياسية العسكرية والكوادر المتحالفة معها، ويمكننا أن نقول هنا: إن حزب العدالة والتنمية نجح في الحصول على الدعم الواسع للسياسة التي طرحها واتّبعها نتيجة إخفاق الحلول التي قدمتها الأحزاب السابقة للتناقضات التي ظهرت بين النظام الذي ينتج أزماتٍ بنيويةً والفضاء الاجتماعي المدني الذي يطالب بتغيير هذا الواقع. وإنّ أساس معايير هذه السياسة هي تحريك الديناميكيات المدنية في الفضاء الاجتماعي، ووضع سياساتٍ اقتصاديةٍ وتأسيس آليات السوق، وإضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات المؤسساتية العسكرية داخل بنية الدولة.

إن تحريك حزب العدالة والتنمية الديناميكيات المدنية داخل الساحة الاجتماعية أثبت بوضوحٍ دور الحزب الحاكم حول العمل مع المجتمع في بيئةٍ شكّلت فيها وتيرة إقصاء الشعب عن الدولة مشكلةَ، وتجسيد سياساته بصورةٍ مواليةٍ لثقافة الشعب والقيم المحلية ضد أيديولوجيا التغريب، وعلى عكس ما اعتادت عليه الدولة من تصفية ثقافة الشعب خلال مراحل التغريب آمن حزب العدالة والتنمية أن التمسك بالثقافة المحلية حقٌّ من حقوق الشعب، وأبرز هذا بوضوحٍ في موقفه السياسي، وهذا الموقف من حزب العدالة والتنمية له نصيبٌ مهمٌّ في زيادة معدل مؤيديه إلى هذا الحدّ، وفوزه في انتخابات عام 2007، وانضمام أصوات فئاتٍ لم تصوّت له في انتخابات عام 2002.

ليس من السهل حمل آلية السوق إلى موضعٍ رئيس في الاقتصاد، وقد كانت التشريعات التي قام بها أوزال خطوةً في تحويل هذه البنية التي تعمل بالأوامر التسلسلية، لكنها لم تكن قويةً كافيةً أمام المقاومة التي تعرضت لها، بخلاف حزب العدالة والتنمية فإنه نجح في تطبيق هذا التغيير بتكامله حول نموذجٍ للتنمية، ونجح في أخذ آلية السوق شكلًا من أشكال العلاقة المؤسساتية إلى جانب مراحل تأسيس رأس المال الأناضولي.

مع أن حزب العدالة والتنمية واصل مبادراته العديدة باسم تطهير بقايا مرحلة 28 شباط لكن مبادراته في تحويل البينة السياسية العسكرية لم تبلغ أهم مراحلها إلا عقب الاستفتاء عام 2010، وهنا علينا التذكير بصعود الإرادة الشعبية المنتخبة وحصولها على الموضع المحدِّد في طريقة عمل مجلس الأمن القومي.

يمكن مشاهدة الدور المحدِّد في التغيرات المجتمعية التي حدثت في أساس هذه التطورات، وزيادة نسبة سكان المدن بنحو ثلاثين مليون نسمة خلال العشرين عامًا الأخيرة، وفتحت الطريق لمسائل ملحّة تحتاج إلى حلّ: أولى هذه المسائل تتعلق بتأسيس هؤلاء الناس نمط حياة جديد. والثانية شكل تحديد مواقعهم في قسم العمل المجتمعي. والثالثة شمول المؤسسات المجتمعية التي ستعمل على دمجهم داخل العلاقات المجتمعية الجديدة. والرابعة إتاحة إمكانية ارتقائهم في عمليات إعادة التقسيم الطبقي عبر القنوات الانتقالية التي ستلبّي مطالبهم الاجتماعية، والإحساس بفعاليتها. أما الخامسة فتتعلّق بصعود المدن إلى موقع المحدِّد في العلاقات المجتمعية، واحتواء المدن عوامل التحويل المجتمعي عبر بنيتها الإنتاجية، وإمكانياتها التعليمية، وتنوعها الثقافي وغناها.

فما الذي فعله حزب العدالة والتنمية لاجتياز جلِّ هذه المسائل النابعة من التحوّل المجتمعي المذكور؟ إنّ العمل الرئيس -برأيي الشخصي- الذي قام به هو تصفية المؤسسات التي تحمل النظام المجتمعي القديم والتي تتأرجح أمام البنية المتبدلة، وخوض ثورةٍ سياسيةٍ لإتمام الثورة المجتمعية بالمعنى الحقيقي، وحفاظ سكان المدن الجدد على هذه الثروة المجتمعية التي تبناها حزب العدالة والتنمية ودعمها.

لا يتعلق هذا الوضع الجديد بالمدن فحسب، بل تشمل أشكال العلاقات المجتمعية الجديدة هذه: الاقتصاد الجديد، والفئات الجديدة، وإعادة بناء الجماعات، ونظم الإنتاج الجديدة، وأقسام العمل الجديدة، والمهن الجديدة، وأشكال التدين الجديدة، والمثقّفين الجدد، وتشمل باختصارٍ صعود بنيةٍ مجتمعيِّةٍ جديدةٍ تمامًا. وإنّ خطأ الذين يعتقدون أن (تركيا الجديدة) ظاهرةٌ سياسيةٌ يكمن في عدم إدراكهم هذه الحالة المجتمعية، وينبغي البحث عن سرّ نجاح حزب العدالة والتنمية في تجاوبه سياسيًّا مع هذه العلاقات المجتمعية الجديدة، ووضع سياسات تشكّل هذه المطالب جوهرها.

وحتى نفهم حزب العدالة والتنمية ونبرز الشيء الذي يمثله؛ علينا النظر إلى المكان الذي يقف فيه في الحياة السياسية التركية، ومن أجل إدراك موضعه داخل الثقافة السياسية علينا النظر إلى كيفية تطور العلاقات بين مراحل التطور المجتمعي والمؤسسة السياسية.

ترتبط هويات الأحزاب بالكتل التي تمثّلها والأسس المجتمعية التي تستند إليها، وبقدر الدعم الذي تتلقاه هوية حزبٍ ما على الساحة المجتمعية تتوفر له إمكانية ممارسة السياسة بصورةٍ أوسع وأشد تطورًا، ولا شكّ أنّه لا يمكن قياس درجة احتضانه المجتمعي بصورةِ كيفيةِ، واستنادًا إلى المزاعم، بل هناك معايير تختص بهذا الأمر، ويُحدِّد هذه المعايير الخط التاريخي لعلاقة الدولة والمجتمع، والمشكلات المتعلقة بالعلاقة التاريخية، وردود الحزب على هذه الأسئلة.

والعمل السياسي يتجلى في الأصل في إدارة علاقات الفرد والمجتمع وما شابهها في محور البنية المدنية والسياسية في علاقات الدولة والمجتمع، والفعاليات التي تعمل على تحويل المطالب إلى إجراءات. وعند النظر إلى التطور التاريخي للحياة السياسية التركية تظهر أمامنا نقطتا انكسار مهمّتان: أُولَاهما عملية التغريب التي انقطعت فيها علاقة الدولة والمجتمع بالتقاليد.

فكما نعلم كان السلطان في التنظيم السياسي للدولة في النظام العثماني يتبوَّأ موقع الموازِن بين البيروقراطية والرعايا، وقد أُسِّس هذا التوازن عبر الارتباط الذي أسسه مع المجتمع من خلال تأسيس مؤسسات العدالة والدين والعلم وما شابهها في المجتمع، ولمنع تمتع القوى البيروقراطية السياسية والعسكرية بحكمٍ ذاتيّ ضد المجتمع، أسّس السلطان آلية رقابةٍ تضمن إنتاج الخدمات، وهكذا كانت الدولة في النظام الكلاسيكي تُعدّ مؤسسةً تدار بالعدل. وقد قطع هذا المفهوم الطريق أمام تأسيس نظامٍ إقطاعيّ وبيروقراطيّ استبداديّ في آنٍ واحد، ومن الضروري هنا تأكيد أنه لا يمكن بيان أعظم بنيةٍ إمبراطورية في العالم من خلال فرضيات الإقطاع والمجتمع الهيدروليكي. كما يُلاحَظ هنا مدى امتداد الفكر الاستشراقي بصفته مرضًا عقليًّا. وقد أفسدت فترة التغريب هذا التوازن في بنية الدولة العثمانية الكلاسيكية، وفتحت المجال أمام الهيمنة البيروقراطية، وبينما كان السلطان يفقد موقعه الموازِن نتيجة انقطاع رابط العدالة والإيمان والخدمة الذي بينه وبين رعاياه- كانت البيروقراطية تفوز بموضع الحكم الذاتي تجاه السلطان والرعايا والشعب في آنٍ واحدٍ، وهذه هي نقطة انطلاق تحوّل الدول إلى أداة تحكمٍ في يد البيروقراطية، وقد سُمِّيَت هذه الظاهرة في التاريخ الرسمي بالتغريب والحداثة[12].

ونقطة الانكسار الثانية بدأت مع اختفاء مفهوم الشرعية الذي برز في فترة النضال القومي، واختلال التوافق القائم مع الشعب نتيجة انتصار النضال القومي الذي فتح الطريق أمام بناء التحكم البيروقراطي من جديدٍ، وتأسيس إدارة الحزب الواحد، وتحوّل الدولة إلى أداةٍ للبيروقراطية السياسية من جديد.

هنا تكمن المسألة الأساسية، ويبرز الانقسام الأساسي في الحياة السياسية التركية من الناحية الأيديولوجية بين المحلي والغربي، وبين الشعب المحافظ والمدني وبين البيروقراطية السياسية التي حوّلت الدولة إلى أداة قمعٍ ضد الشعب، وسعت إلى تغيير كل ما يملكه الشعب بالاعتماد على أدوات الدولة. فالشعب محافظ، لكنّ الدولة سعت إلى تغيير نمط حياة المجتمع بأكمله بما في ذلك التاريخ والدين واللغة والمظهر الخارجي، فتبنى الشعب موقفًا محافظًا على هويته للتصدّي لهذه الممارسات.

إن اجتياز هذا التناقض الأيديولوجي والاجتماعي قضيةٌ صعبةٌ جدًّا، لأنّ تقليد التحكم البيروقراطي بسط هيمنته على الساحة السياسية باستخدام جميع عناصر الدولة الأيديولوجية وعلى رأسها التعليم، وللتمكن من الدخول إلى هذه الساحة السياسية ينبغي القبول بمقدسات البنية التي بنته هذه الهيمنة أوّلًا، ثم الإثبات وتأكيد الالتزام بإطار الثوابت الخاصة بهم.

كانت الساحة السياسية من عام 1950 حتى عام 2000 مليئة بالكوادر التي تعزّز هذه البنية، وكان واضحًا أنه لن تظهر حركةٌ سياسيَّةٌ تعارض التحكم البيروقراطي وتحطّم هيمنتها، وإن ظهرت فستُقمَع وتُحاكَم وتُسحَق بسرعةٍ في ظل اختلاف بنية المجتمع الزراعي، وابتعاد المدن كل البعد عن احتضان هذا الحراك الاجتماعي الضعيف المتمثل في المعارضة، والمستوى التعليمي والمهني المنخفض للناس، وعدم ظهور الديناميكيات الطبقية، وفي ظل البنية الاجتماعية التي تتمثل فيها الصناعة في بضع مؤسسات اقتصادية عامة وعدة ورشات عمل.

وهذا كله صحيحٌ لكنه ناقصٌ، فقد فضّلت جميع الأحزاب التي تعارض تقليد التحكم البيروقراطي اختيار الخطاب المتوافق مع هذه البنية، ولم يجرؤ أحدٌ حتى وصول أردوغان إلى الحكم أن يتحدّى بصورةٍ عمليّةٍ الهيمنة البيروقراطية التي تمثّلت في المؤسسة العسكرية عقب 27 آيار. وأيًّا كانت مسوِّغاتهم فإن هذا هو الفارق الأول الذي ميّز حزب العدالة والتنمية عن باقي الأحزاب، وهذا الأمر جعل من حزب العدالة والتنمية حركةً سياسيَّةً حملت المؤسسة العسكرية التي هي أيديولوجيا غير ديموقراطية وجميع مؤسستها إلى التغيير، وفتحت المجال أمام تغييراتٍ ثوريةٍ خلال مرحلة التحوّل الديموقراطي في تركيا.

ومن المهمّ هنا التطرق إلى الإمكانيات التي كان يتمتع بها، والتحالفات الاجتماعية التي دخل فيها لتحقيق ذلك. فشخصية زعيم الحزب وصفاته الكاريزماتية التي ارتفعت أكثر خلال هذا التحدّي تمثّل إحدى هذه الإمكانيات، والصدى الذي وجده تحدّي أردوغان زعيم الحزب ومؤسسه لهذه الهيمنة القديمة داخل المجتمع يعني ظهور إحدى نقاط التغيير والانكسار في التاريخ.

والإمكانية الثانية هي الشرائح الاجتماعية التي توافق معها حزب العدالة والتنمية، إذ لو اقتصر حزب العدالة والتنمية في خطابه على الخطاب المحافظ، ولم يسعَ إلى نقل العناصر التي تطالب بالتغيير داخل المجتمع والتي تعبّر عن المطالب الجديدة إلى السياسة- ما توسع نطاق تأثيره إلى هذا الحدّ.

وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة نقول: إن حزب العدالة والتنمية بينما كان يدافع عن التيار المحافظ، وينتصر لحرية عيش المجتمع تراكمه التاريخي في النطاق المحلي/القومي من جانبٍ؛ كان يعمل على إنتاج سياسات تحمل البلاد التي تعاني أزماتٍ مزمنة ولا تكاد تخرج من أزمةٍ حتى تقع في أخرى من الناحية الاقتصادية بسبب علاقات التبعية للغرب- إلى موضعٍ مختلفٍ تمامًا، وأطلقت مرحلة الانتقال إلى اقتصادٍ متصاعدٍ بدلًا من بلادٍ منهمكةٍ في توقيع اتفاقيات الديون مع صندوق النقد الدولي، وتسديد الديون، وصرف القروض الشحيحة التي يمنحها البنك الدولي والمؤسسات المالية الغربية في مشروعات تفرضها عليها هذه المؤسسات، فما فحوى المفهوم المستقبلي لحزب العدالة والتنمية؟

إن الأحزاب منظماتٌ سياسيَّةٌ، وفي حال حرمانها من أساس وجودها الاجتماعي تبقى مجرد اسمٍ، وهناك الكثير من الأمثلة على هذا في تركيا، فعندما تحبس الأحزاب السياسية نفسها ضمن حدود الجماعة أو الفئة أو الزمرة أو الجماعة الاجتماعية التي تستند إليها من الصعب بل ربما من المستحيل أن تتحوّل إلى حزبٍ كبيرٍ، والأحزاب السياسية الكبيرة  إنما هي الكيانات السياسية التي نجحت في الجمع بين عناصر المجتمع المتعدّدة والشرائح المختلفة، بل والتوجهات الجديدة كذلك، فما العناصر التي ساعدت هذا الحزب على النمو باستمرارٍ منذ أول يوم أُسِّس فيه، وحملته إلى السلطة، وجعلته في المرتبة الأولى قُبَيل كل انتخابات جديدة، وجعلت الجميع على يقينٍ تامٍّ بفوزه قبل كل انتخاباتٍ جديدةٍ؟

ما الشيء الذي دفع مختلف الناس من جميع الفئات الاجتماعية تقريبًا التجمع حول حزب العدالة والتنمية؟ عندما نلقي نظرة إلى خطابات الحزب المتعددة وندقّق في متونه السياسية يمكننا الحصول على أدلة تساعدنا في الإجابة على هذه الأسئلة.

وهنا ينبغي النظر إلى شخصية أردوغان بصفته زعيمًا مؤسّسًا للحزب ومميزاته القيادية على أن لها دورًا محدِّدًا في ولادة هذه الحركة وتشكيلها، وأن هذا الزعيم السياسي وتفاعل خطابه يقوم بوظيفة المتغيّر المستقلّ في السياسة، ويشكّل هذا مفهومًا سياسيًّا أو يخلق تصوّرًا كما يقال في اللغة المعاصرة. ويقابله فهم قياديّ يُعرَف منذ فيبر بـ(السلطة الكارزمية)[13]. ويكتسب مفهوم الكاريزما أهميةً أكبر بفضل زعيمٍ يحصل على رضا المجتمع، وينجح في تحريكه في العمليات الديموقراطية بفضل المميزات المقنعة التي يملكها، ولهذه المؤسسة القيادية في تشكيل هوية حزب العدالة والتنمية السياسية مكانة مهمّة جدًّا. والموقع الذي يتبوَّؤه حزب العدالة والتنمية باعتباره بنية مؤسساتية في الحياة السياسية التركية مكّنه من مدّ جذوره في شرائح المجتمع الواسعة، ولا تزال هذه الجذور قوية. وإن تمايز السياسة عن الدولة، وخلق مجال تجاه الدولة، واستعمال مطالب العناصر المدنية في التأثير في الدولة وما شابهها من المبادرات- تعدّ جديدة للغاية في تركيا.

إن تنظيم البنية التي تستند إلى تحكّم الدولة والأيديولوجيا والبيروقراطية بصورةٍ تسحق هذا النوع من المطالب المجتمعية أدّى إلى استحالة ممارسة السياسة لفترةٍ طويلةٍ، وحتى عقب الانتقال إلى حياة التعددية الحزبية استمر إنتاج التناقضات التي ترى الممارسات السياسة جريمة بحدّ ذاتها ضمن هذا السياق، وواصلت مشكلة الكوادر المتمركزة داخل الدولة في تخريب الساحة المدنية انطلاقًا من الأيديولوجيا[14].

إنّ حزب العدالة والتنمية اختار موقفًا صحيحًا باستناده إلى الساحة المدنية في مواجهة البيروقراطية السياسية، والدولة الأيديولوجية العسكرية في السياسة التركية، بخلاف جميع الأحزاب السياسية ابتداءً من الحزب الديمقراطي بزعامة مندريس التي وقفت ضد تقليد الحزب الواحد؛ فإنّها لم تنجح في تغيير هذه البنية ولم تدم؛ لأنّها كانت تحاول بيان تحدّيها ومعارضتها ضمن الخط الرسمي؛ أي السياق الأيديولوجي لبنية الدولة العسكرية المدنية البيروقراطية، وقد أدّى هذا الأمر إلى نتيجتين: الأولى أن هذه الأحزاب أسهمت بتصرفاتها هذه في إكساب الشرعية للوضع القائم، والثانية أنها أخفقت في كسب الموثوقية التي ستحوّل الساحة المدنية إلى دور الفاعل الأساسي في السياسة.

ولاشكّ أن للمسألة أبعادًا أخرى مرتبطة بالمراحل التاريخية والتطور الاجتماعي، والسياسة التي مارسها حزب العدالة والتنمية ضد قاعدة المثقفين/البروقراطيين/العسكريين/الرأسماليين الدولانيين- تعدّ ثورةً اجتماعيةً ونقطة تحولٍ سياسيةٍ، وهذا التقييم ليس نتيجة أي تقييمٍ غير موضوعيّ، فقد باشر حزب العدالة والتنمية العملية التي نقل فيها المجتمع والمطالب المجتمعية إلى السياسة، وسحب فيها الأسس الاجتماعية للسياسة من يد نخبة الدولة ونقلها إلى الشعب، وفتح المجال أمام الانتقال إلى اقتصاد السوق بدلًا من اقتصاد قيادة الرأسماليين الدولانيين والاقتصاد المتمفصل مع القطاع العام، وقام بالإصلاحات الكبيرة التي استهدفت تصفية الهرم التسلسلي للعلاقات المؤسساتية العسكرية داخل الدولة وتشكيل بنية دولةٍ ديموقراطيةٍ تابعةٍ للإرادة الشعبية.

 

سياسة حزب العدالة والتنمية

في مطلع الألفية الثالثة كانت تركيا دولةً تعيش مشكلات كبيرةً إلى جانب موجة التغيير، فانفتاح تركيا التي كانت تُدار ضمن بنى مغلقة على العالم في عهد أوزال، والتغيرات التكنولوجية المتقّدمة سريعًا في مجال الاتصالات، والحركة التي حصلت في عملية التمدّن التي تسارعت وتيرتها مع تفكّك البنية الزراعية خفيةً- كلّ ذلك خلق صورةً تراكمت فيها المشكلات والمطالب الجديدة فوق بعضها، بالقدر الذي جعل المدن الكبيرة تتحول إلى أماكن ينبض فيها قلب المجتمع.

إن بلوغ التمدن في تركيا معدلات فاقت 70% في مطالع الألفية الثالثة بعد أن كان حوالي 80% من سكانها يعيشون في القرى ويمارسون الزراعة بحسب بيانات النفوس لعام 1927- لم يكن مجرد بيانات نفوس، فبنية المجتمع الزراعي التي تقوم في مراكز القرى، لم تكن تعبّر عن نظام اقتصادي مغلق لم يتطور فيه السوق بعد فحسب- بل كانت فوق ذلك تعبّر عن طراز حياةٍ لا يعرف التنوع، وتنظمه التقاليد، وتتولى فيه علاقات الجماعة دور المحدِّد.

عملت تركيا منذ خمسينيات القرن الماضي من خلال سياستها في التحول الزراعي على فتح القرى على المدن باعتبارها المسألة الأولى من خلال تشييد الطرق البرية. كما عملت على حل مسألةٍ أساسيةٍ عن طريق إطلاق المكننة الزراعية، وزيادة الإنتاج، وإيصال المنتجات إلى المدن، على أمل أن يتمّ بناء التصنيع الزراعي في مناطق محددة، ثم تنتشر في جميع أنحاء البلاد. واستمر العمل لتحقيق هذه الآمال بدءًا من الستينيات وصولًا إلى الثمانينيات رغم جميع العراقيل وحالات عدم الاستقرار.

وكانت الثمانينيات -وبتعبيرٍ آخر سنوات أوزال- فترةً شهدت محاولات إصلاحات لتخطّي العراقيل التي ظهرت في سياسات التحول الصناعي. ورغم جميع الخطوات التي اتُّخِذت في هذا الموضوع لم يكن بالإمكان تخطّي مشكلة العلاقة الإدمانية التي بنتها الرأسمالية [التركية] مع النظام العالمي. ولكن كانت هناك خطوتان جاءت بنتائج مستدامة: المواقع الصناعية الصغيرة والمناطق الصناعية المنظمة. فكان ازياد سرعة التمدن وارتفاع معدله من أكثر الآثار الملحوظة لهذه السياسات. أما أهم آثار التحول المجتمعي لمسألة التمدن فهو بدون شكّ إنتاج نمط حياةٍ جديدٍ يشمل مهنًا وتوجهاتٍ مجتمعيةً ومبادراتٍ جديدةً، بل ووجود مدنٍ جديدةٍ أيضًا نتيجة لتغير بنى الجماعات القروية المغلقة وعملية التصنيف. 

تصدّعت بنية المجتمع الزراعي الذي يمتد لمئات السنين في تركيا، وتغيّرت جميع المنظمات والمؤسسات المجتمعية. وفي ظل ارتفاع معدّل الشباب وإقبالهم الشديد للتوجه إلى المدن ظهرت مطالب بإحداث التجديد في مجالات عديدة، وعلى رأسها العمل والتعليم.

والوصف الآخر المهمّ للتطور المدني هو أن المتروبولات بدأت تنمو بشكل أسرع من نمو المدن. فالتحوّل المتروبولي هو أبعد من أن يكون مجرد تحولٍ مكانيّ ماديّ، بل هو إلى جانب ذلك تغيرٌ اجتماعيٌّ يلفت الانتباه بقدرته على إنتاج دينامية بنيةٍ اقتصاديةٍ تقوم على قطاع التجارة والإنتاج والاستهلاك والخدمات.

والتعددية الناتجة عن كل هذه التطورات، والمدن الجديدة وبناها المجتمعية المغايرة، ودخولها تحت تأثير الديناميات العالمية، والأزمات التي عاشها نظام العلاقات السياسية والاقتصادية للتركية القديمة- أنتجت طاقة وإمكانية تغيراتٍ كبيرةٍ يمكن تسلسلها على النحو الآتي:

  1. النموّ السريع للأرضية التي تتصاعد فيها مطالب الشباب والمدن الجديدة ومجموعات المواقع الجديدة والطبقات المجتمعية.
  2. حاجة الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم إلى نموذج جديدٍ مقابل الأزمات التي خلقها نموذج النموّ القائم.
  3. رغبة شرائح المجتمع التي اتّخذت موقفًا محافظًا بدافع حماية ثقافتها وتقاليدها ضدّ الضغوطات المستمرّة من نخب الدولة التي تتبنى أيديولوجيا التغريب والسياسات التي تحمل الثقافة على التغيير- في الانتقال من النموذج السياسي المذكور إلى الديمقراطية.
  4. بحث المبادرين الجدد والمنتجين الجدد والمستهلكين في المدن عن الرفاه في بنيةٍ تنافسيةٍ يخضع لسوقٍ وآليات تنظيم عقلاني. وهو في الوقت ذاته بحث عن الانتقال من الرأسمالية الدولانية، ومن نموذج التراكم الناتج عن عمل آليات بناء الثروة الخاصة عن طريق السياسات العامة؛ إلى نموذج تراكم حقيقي قائمٍ على تنميةٍ حقيقيةٍ ناشئةٍ عن تراكم القيمة المضافة القائمة على التنافس الحقيقي.
  5. مطالب الحريات المتزايدة للكتل التي قُمِعت حرياتها، وفي مقدمتها حرية العقيدة والفكر أمام تحكّم زمرة معينة خلال عملية الخروج من قالب القروية- أصبحت تطرق أبواب تركيا المغلقة.
  6. وبينما تتشكل بنية مجتمعية تميل إلى التنوع والتصنيف والفردية في ظل النتائج التي خلقتها موجات التغيير المجتمعي مكان بنية المجتمع القروي القائم على الكتل المحرومة من المنظمات والمهن والتعليم؛ بدأت التناقضات تنمو بين كتلة السلطة التاريخية وبين تقليدها القائم على التحكم السياسي.
  7. مرّت حياة الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، في نضال سياسي صعب تناول تطبيقات لتصفية جميع هذه التناقضات، فأزال الضغوطات الثقافية الممارسة على الشعب بواسطة سياسات تحمل إلى الدولة مطالب المحافظين الذين تمّ تغريبهم ثقافيًّا عن الدولة، وبنى علاقة جديدة مع شريحة واسعة أُبعِدوا عن الدولة والسياسة. وكان إلغاء حظر الحجاب في الجامعات خطوة رمزية في هذا الموضوع، وهذا يعني أن الحزب أطلق عملية التحول الديمقراطي الشامل الذي من شأنه أن يجعل شرائح واسعة من المجتمع تنخرط في الدولة والسياسة بعد أن احتُفِظ بهم بعيدًا عن السياسة، وهمَّشتهم الدولة بأيديولوجيا رسمية زمنًا طويلًا.

ولو تطلّب الأمر أن ننظر إلى أسس التطبيقات التي نفّذها حزب العدالة والتنمية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية لأمكن القول إن أحد هذه الأسس هو تطبيق سياسة الحماية والمعونات الاجتماعية التي تشمل أدنى طبقات المجتمع الذين يعيشون عند خط الجوع. إنّ هذه السياسات التي تشمل المستضعفين وطبّقتها الدولة والإدارات المحلية حققت زيادة نسبية في تضامن حزب العدالة والتنمية مع جميع الفقراء والمساكين، وأعدّت أبناء طبقات المجتمع الدنيا للمستقبل من خلال تسليحهم بالعلم.

لا تقتصر سياسة المعونات الاجتماعية هذه على تدارك الجوع والفقر، بل تتعدّاه إلى تغيير أوضاع الذين يعيشون الجوع والفقر. فاختلاف الفئات الجديدة التي أوجدها التمدّن في أثناء العملية المعروفة بالكثافة الدينامية، وزيادة الإنتاجية المهنية، ونمو المهن الجديدة نتيجة توسع حجم التجارة، وانفتاح الشركات الصغيرة والكبيرة على التجارة الخارجية ونموها، واتساع بنى الإنتاج المتكاملة مع المناطق الصناعية- كل ذلك خلق أوضاعًا جديدة.

إن أهم نجاحٍ حقّقه حزب العدالة والتنمية على صعيد التحوّل المجتمعي هو أنه فتح الطريق أمام الطبقات المتوسطة، واستدامة السياسات التي أكسبت أفراد هذه الطبقات مواقع جديدة بناءً على تفوقهم في مجال التعليم والاقتصاد. فهذا الحزب الذي نما وهو يمكّن المحافظين من الانخراط في السياسة، حمل هذه الشرائح إلى الطبقة المتوسطة من خلال سياسات الاقتصاد والتحوّل الديمقراطي مستفيدًا من تسارع موجة التغير المجتمعي. لهذا السبب يمكننا القول -إن اعتبرنا التأثيرات الظرفية بيانات- إنه كلما أنتج حزب العدالة والتنمية سياسات تناسب ديناميكية الطبقات المتوسطة ازدادت قوته.

 

بدلًا من الخاتمة:

تتكون هوية الأحزاب على أساس الاختلافات الأيديولوجية والنضال السياسي في أثناء تشكل الأفكار التاريخية والمجتمعية. وعندما تغيب هذه الأسس ويغيب النضال السياسي لا يبقى لهذه الأحزاب وجود إلا في الأماكن التي تُعلّق فيها لافتاتها، بغضّ النظر عن المسمّيات التي تطلقها على نفسها، ولا تجد لنفسها مكانًا في الساحة السياسية[15].

 

تتبلور سياسات التغيير التي يتبعها حزب العدالة والتنمية في ثلاثة مجالات:

أوّلها تحوّل الدولة الديمقراطي، وتخليص الدولة من هيمنة المثقفين/ البيروقراطيين/ العسكريين، وانفتاحها على الشعب، وتعزيز مفهوم الشرعية التي تستند إلى إرادة الشعب، وتغيير البنى المؤسساتية التي تتغذى على الانقلابات والتدخلات، وبرنامج التغيير للخروج من النظام البرلماني الذي بات تطبيقًا شكليًّا للتقليد العسكري بواسطة تغيير نظام الحكومة.

التغير الثاني حصل في العلاقات بين تركيا والنظام العالمي. فعلاقات التبعية القائمة مع النظام الغربي تستند إلى فهم سياسي يمتد من السياسة الخارجية إلى الاقتصاد، ومنه إلى النخبة الحاكمة. وعندما نُقِّي هذا الفهم السياسي والزمر التي تستند إليه تحوّلت العلاقات المبنية مع مؤسسات النظام الغربي، مثل صندوق النقد الدولي والاتحاد الدولي من علاقات التبعية إلى علاقات متبادلة، ولوحظ هذا التغير بشكلٍ أوضح بعد تاريخ 15 تموز 2016 الذي شهد محاولة انقلابية تُمثّل مركز التدخلات العسكرية التي عاشتها تركيا في تاريخها.

وثالثها هو أن النموذج التراكمي الذي يستند إلى الشركات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة والذي يُسيَّر ضمن اقتصاد السوق- نموذجٌ ديناميكيّ للنموّ، ومفتوحٌ على المنافسة العالمية، وهذا يعني أن انفتاح الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تستخدم التكنولوجيات الجديدة في الإنتاج على الخارج زاد من قوتها التنافسية، وجعلها بنىً استهلاكية وإنتاجية تجذب مستثمرين جددًا. وإنّ مشكلة حدود التجارة الخارجية التي ظهرت في هذه العملية كانت تحمل إمكانية نقل التحوّل إلى مراحل متقدمة من خلال اتّباع سياسة تحولٍ صناعيّ جديدٍ نحو صناعاتٍ تحقق قيمة مضافة عالية.

استطاعت تركيا أن تحقق كل هذه التغيرات من دون أن تكون لديها موارد جديدة من البترول والغاز الطبيعي والذهب أو أي مورد إستراتيجي آخر، ورفعت حجم الاقتصاد من 300 مليار دولار إلى 800 مليار دولار، والفضل في ذلك كله يعود إلى السياسة التي اتبعها حزب العدالة والتنمية خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، التي تشمل جميع المجالات من دون الاقتصار على المجال الاقتصادي.

 

 

 

 

* نائب حزب العدالة والتنمية في أنقرة.

[1] أورخان تورك دوغان، بنية المجتمع التركي من العثمانية إلى اليوم / Osmanlı’dan Günümüze Türk Toplum Yapısı، منشورات جامليجه، إسطنبول 2002، ص26.

[2] توماس جانوسكي، روبرت ألفورد، ألكساندر هيكس، ميلدرد أ. سوارتز، علم الاجتماع السياسي، منشورات Phoenix، أنقرة 2010، ص281-300.

[3] سنجر ديفيتجي أوغلو، المجتمع العثماني ونمط الإنتاج الآسيوي، ألفا، إسطنبول 2015، ص65-73.

[4] كمال طاهر، ملاحظات/التغرّب، منشورات باغلام، إسطنبول 1992، ص98-99.

[5] التنظيمات التي مهّد لها عمليًّا السلطان محمود الثاني الذي قام بتصفية الإنكشاريين الذين أصبحوا يشكّلون عبئًا على الدولة العثمانية وعقبة أمام الإصلاحات، وظهرت بشكل رسميّ بالخط الهمايوني الذي عرف بمرسوم كولخانة الذي أصدره السلطان عبد المجيد عام 1839. م.

[6] برنارد لويس، ولادة تركيا المعاصرة، منشورات أرقداش، أنقرة 2011، ص135-138.

[7] أورخان تورك دوغان، بنية المجتمع التركي من العثمانية إلى اليوم / Osmanlı’dan Günümüze Türk Toplum Yapısı، منشورات جامليجه، إسطنبول 2002، ص527-551.

[8] كمال قرباط، تاريخ الديمقراطية التركية، منشورات تيماش، إسطنبول 2013، ص55-57.

[9] أي حركة الكادر والفريق. م.

[10] إلهان تكَلي وسليم إلكين، نفقات الجمهورية: ولادة الحداثة الجذرية / Cumhuriyetin Harcı: Köktenci Modernitenin Doğuşu، منشورات جامعة بلغي، إسطنبول 2003، ص450-482.

[11] وداد بلغين، ديناميات التغيير في تركيا: طرق الخروج من القروية / Türkiye’de Değişimin Dinamikleri: Köylülükten Çıkış Yolları، منشورات لوتس، أنقرة 2007، ص144-158.

[12] وداد بلغين، ما الذي يمثّله حزب العدالة والتنمية؟-2 / حزب العدالة والتنمية حزب مَن؟ / “AK Parti Neyi Temsil Ediyor?-2/AK Parti Kimin Partisi?”، أكشام، 16. 09. 2015.

[13] ماكس فيبر، البيروقراطية والسلطة، منشورات Adres، أنقرة 2011، ص90.

[14]  وداد بلغين، ما الذي يمثله حزب العدالة والتنمية؟ / “AK Parti neyi temsil ediyor?”، 14. 09. 2015.

[15] وداد بلغين، نقاش حول هوية حزب العدالة والتنمية / “AK Parti’nin Kimliğini Tartışmak”، أقشام، 09. 10. 2017.


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...