في حين أنَّ العقائد والأديان والأفكار تتجاوز الحدود، المكانيَّة والزمانيَّة والسياسيَّة، وتخترقها، فإنَّ الجماعات المنتسبة إليها ترتبط عادة مع أطراف خارجية تنتمي إلى العقائد أو الأديان أو الأفكار ذاتها. وقد سهَّلت طبيعة الحياة المعاصرة، بما منحته للمجتمعات مِن إمكانية للنفاذ والاتِّصال بالعالم الخارجي بشكل سهل وميسَّر، للجماعات المنتمية إلى ديانات أو عقائد أو أفكار متَّحدة للاتِّصال والارتباط المستمرِّ مع بعضها. وبين الارتباطات الداخلية والخارجية لهذه الجماعات هناك مساحة تنازع تنشأ بين المسؤوليَّات والالتزامات، وهذا يؤثِّر في تجاوبها الشعوري والسلوكي مع قضايا السيادة والاستقلال في أوطانها، خصوصًا إذا غلب عليها الانحياز للارتباطات الخارجية على حساب الارتباطات الداخلية.
وقد باتت الجماعات الدينية في اليمن ظاهرة اجتماعية حاضرة ومؤثِّرة على صعيد الساحة العامَّة والميدان السياسي؛ وبالأخصِّ منذ عام 1990م، حيث منح دستور الوحدة اليمنية القوى السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية كافَّة حقوقًا وحرِّيات عامَّة، وهذا أتاح لها الإعلان عن كياناتها وتنظيماتها؛ كما أتاح لها الحركة والاتِّصال والانتشار والتأثير، وبناء علاقات وروابط خارجية.
وإذا كانت الجماعات الدينية، أو الجماعات الفكرية والسياسية عمومًا، ترتبط بالخارج فهذا يتطلَّب إثارة سؤال حول مدى تأثير هذا الارتباط بالخارج في ولاءاتها الوطنية، ومواقفها إزاء قضايا السيادة والاستقلال الوطني، وعن كيفية الجمع بين الالتزام بين المسؤوليات والارتباطات الداخلية والمسؤوليات والارتباطات الخارجية.
هذه الورقة تتناول مدى تأثُّر الجماعات الدينية في اليمن بارتباطاتها الخارجية، وتأثير ذلك على صعيد قراراتها ومواقفها وسياساتها في البعد الوطني، ومِن ثمَّ في قضايا الوطن والسيادة والاستقلال بشكل أو بآخر.
وهي تهدف إلى بيان المحاذير التي تقع فيها الجماعات الدينية، وتشتِّت ولاءاتها بين الداخل والخارج، وتؤثِّر بأدوارها الدينية في مستوى تماسك المجتمع المحلِّي ووحدة صفِّه. كما تهدف الورقة إلى توضيح الإشكالات التي فرضتها الدولة الوطنية الحديثة على الجماعات الدينية وأهدافها وأجنداتها الخاصَّة، ومسؤوليَّاتها المحلِّية وتلك المرتبطة بالأمَّة أو الطائفة أو المذهب أو التيَّار.
وتعتمد الورقة على المنهج الوصفي والتحليلي في عرض حالة تلك الجماعات الدينية، استنادًا إلى تاريخها الحركي وسجل مواقفها في القضايا العامَّة؛ مع إجراء قدر مِن المقارنات والمقاربات بين أدوارها الاجتماعية والسياسية في الشأن اليمني بما يظهر مدى تجاوبها للارتباطات الخارجية.
وتلتزم الورقة بالمحدِّدات التالية:
- المحدِّد الموضوعي: تلتزم الورقة مناقشة أفكار ورؤى الجماعات الدينية في اليمن، بمختلف توجُّهاتها، تجاه الولاء الوطني والارتباطات الخارجية، ومدى تأثير ذلك في مسؤولياتها الداخلية، وبالأخصِّ في قضايا السيادة والاستقلال الوطني، باعتبار تلك الجماعات الدينية حاضرة في المشهد العام والميدان السياسي.
- المحدِّد الزماني: تلتزم الورقة تغطية موضوعها خلال الفترة (1962- 2024م)، حيث بدأت الجماعات الدينية في اليمن بالبروز سياسيًّا واجتماعيًّا ومدنيًّا، وإن تطرَّقت للبعد التاريخي بوصفه عاملًا مفسِّرًا للمسار الذي تتحرَّك فيه.
- المحدِّد المكاني: تلتزم الورقة تغطية موضوعها في جغرافيا الجمهورية اليمنية، التي تشكَّلت إثر قيام الوحدة بين شطري البلاد في 22 مايو 1990م.