رؤية تركية
دورية محكّمة في
الشؤون التركية والدولية
ISSN 2458-8458
E-ISSN 2458-8466

| المقالات والدراسات < رؤية تركية

الاعتراف بـ"دولة فلسطينية" بين الرمزية السياسية وواقع الاحتلال

ملخّص: تتناول هذه الورقة موجة الاعترافات الأخيرة "بدولة فلسطينية" التي أعلنتها عدد من الدول الغربية على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2025، وبعد سنتين من حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، التي مثّلت منعطفًا في الموقف الدولي من القضية الفلسطينية. تحلّل الورقة الدوافع الكامنة وراء هذه الاعترافات، بدءًا من الضغوط الشعبية وتراجع شرعية الدعم الغربي لـ"إسرائيل"، إلى الرغبة في امتصاص الغضب الداخلي دون إحداث تحول حقيقي في السياسات. وتستعرض الورقة أيضًا التداعيات الدبلوماسية والسياسية لهذه الخطوة بوصفها "الموجة الثالثة" من الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتناقش حدود تأثيرها العملي في ظل غياب السيادة الفعلية والرافعة السياسية الفلسطينية. ABSTRACT: This paper examines the recent wave of recognitions of a “Palestinian state” announced by several Western countries on the sidelines of the United Nations General Assembly meetings in September 2025. These recognitions came two years after Israel’s ongoing war of extermination against the Gaza Strip, which began in October 2023 and marked a turning point in the international stance toward the Palestinian question. The paper analyzes the underlying motivations behind these recognitions—from popular pressure and the declining legitimacy of Western support for “Israel” to the desire to absorb domestic outrage without enacting real policy change. It also explores the diplomatic and political implications of this step as the “third wave” of recognition of the Palestinian state, discussing its practical limitations in the absence of genuine sovereignty and an effective Palestinian political lever.

الاعتراف بـدولة فلسطينية بين الرمزية السياسية وواقع الاحتلال

على هامش الجمعية العمومية الأخيرة للأمم المتحدة التي عُقِدت في نيويورك في سبتمبر الماضي 2025 أعلنت طائفة من الدول الغربية -على رأسها المملكة المتحدة وكندا وأستراليا وفرنسا، بالإضافة إلى بلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وأندورا وموناكو والبرتغال- اعترافها بالدولة الفلسطينية، وبذلك يكون عدد الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية 156 من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة. تمثل هذه الموجة من الاعترافات ما يمكن أن نسميه الموجة الثالثة بعد الموجة الأولى التي تلت إعلان المجلس الوطني الفلسطيني إعلان قيام دولة فلسطين 1988 وصولًا لاتفاق أوسلو، والموجة الثانية التي رافقت الحملة الدبلوماسية للسلطة الفلسطينية في 2011. وقد جاءت هذه الخطوة الدبلوماسية في ظل حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة لما يقارب العامين بدعم غربي واضح، وبالتوازي مع تصاعد العزلة الدبلوماسية لـ"إسرائيل" وردّات الفعل الشعبية على جرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة تحديدًا. يحلّل هذا البحث حملة الاعترافات الأخيرة من خلال محاولة الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما الدوافع لموجة الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية؟ وما التداعيات المتوقعة للموجة الثالثة من الاعتراف بالدولة الفلسطينية؟ وماذا يعني هذا الاعتراف لمشروع التحرر الوطني الفلسطيني؟

دوافع حملة الاعترافات بدولة فلسطينية

جاءت حملة الاعترافات الأخيرة "بدولة فلسطينية" بعد قرابة عامين من الحرب الهمجية التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، التي وصفتها منظمات حقوقية منها تقرير صادر عن الأمم المتحدة بحرب الإبادة. إذ أدّت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة إلى مقتل أكثر من 65 ألف فلسطيني، وتشريد مئات الآلاف، وتدمير كل سبل العيش في قطاع غزة، مع تقديرات بأن يصل حجم الأنقاض في القطاع إلى ما يقارب 70 مليون طن، بينما لا يزال الآلاف من الفلسطينيين تحت الأنقاض. وفي الوقت ذاته، استمرت "إسرائيل" بانتهاك كل القوانين والأعراف الدولية ذات الصلة، مستخدمة التجويع سلاح حرب، ومستهدفة المدنيين والأطفال. وترافق ذلك مع استخدامها أدوات الذكاء الصناعي، مستعينة بكبريات شركات التكنولوجيا العالمية، منها: غوغل ومايكروسوفت.

هذه الانتهاكات غير المسبوقة والجرائم البشعة التي قامت بها "إسرائيل" أدت إلى تصاعد موجة غضب شعبية في مدن العالم المختلفة، والغربية منها على وجه التحديد. وقد تقاطعت هذه الاحتجاجات في معظم الدول مع مطالب شعبية محلية متعلقة بالعدالة الاجتماعية والفساد السياسي والاقتصادي للنخب الحاكمة، وهو ما وضع هذه النخب تحت ضغط شعبي متزايد. إذ ولّد استمرار الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة حركة تضامن عالمية مع فلسطين، حشدت حشودًا من أستراليا إلى كندا، حثّت الحكومات على التحرك بشكل عاجل لمواجهة الكارثة الإنسانية المتفاقمة. وانتشرت حركة التضامن مع فلسطين عبر مختلف القطاعات من الموسيقى والسينما إلى الأوساط الأكاديمية والرياضة. إذ دعا تحالف من منظمات المناصرة ومجموعات المشجعين اتحادات كرة القدم الأوروبية إلى مقاطعة "إسرائيل"، مُطلقًا حملة GameOverIsrael#، قبل أشهر من انطلاق كأس العالم لكرة القدم 2026. بينما قدّم عشرات الموسيقيين، بمن فيهم جيمس بليك، وبينك بانثيريس، وسانت ليفانت، عروضهم في قاعة لندن المكتظة بالنجوم في حفل "معًا من أجل فلسطين" بمشاركة نشطاء فلسطينيين وممثلين من هوليوود. واختتمت الممثلة هانا أينبيندر خطابها عند تسلّمها جوائز إيمي للإنتاج التلفزيوني بالهتاف: "حرّروا فلسطين!"، فيما سار الممثل الإسباني خافيير باردم على السجادة الحمراء لحفل توزيع جوائز إيمي مرتديًا الكوفية الفلسطينية.

وبشكلٍ موازٍ تصاعدت الملاحقة القانونية لـ"إسرائيل" وقادتها المتورطين في دعم جرائم الإبادة في قطاع غزة. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بالإجماع أمرين بالقبض على بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ويوآف غالانت وزير الدفاع، بالاستناد إلى الجرائم التي ارتكبوها منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، فيما رفضت المحكمة الطعنيـن المقدميـن من دولة "إسرائيل" بموجب المادتين 18 و19 من نظام روما الأساسي. وفي 16 سبتمبر/أيلول 2025، نشرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الأرض الفلسطينية المحتلة ومنها القدس الشرقية و"إسرائيل" تقريرها الذي جاء فيه أن "إسرائيل" ارتكبت إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. وقد حثّت اللجنة في تقريرها "إسرائيل" وجميع الدول على "الوفاء بالتزاماتها القانونية بموجب القانون الدولي لإنهاء الإبادة الجماعية ومعاقبة المسؤولين عنها". هذه الإجراءات القانونية وغيرها وضعت مسؤولية سياسية وقانونية أكبر (من دون التطرق حتى للمسؤولية الأخلاقية) على عاتق قادة الدول الغربية، وبخاصة الذين أبدوا دعمًا مفتوحًا ومستمرًّا لـ"إسرائيل" في ظل ارتكابها انتهاكات وجرائم حرب.

ومع تجاهل الحكومة الإسرائيلية حتى الدعوات بالسماح بوصول المساعدات الإنسانية، وقصفها دولة ذات سيادة مثل قطر، في محاولة لاستهداف فريق التفاوض- كان رد الفعل حتميًّا. وبناءً عليه، اختارت العواصم الغربية خطوة دبلوماسية رمزية تمثلت بالاعتراف بدولة فلسطينية، بدلًا من ممارسة ضغط حقيقي على "إسرائيل" لوقف الإبادة الجماعية المستمرة، أو محاسبة مرتكبي الجرائم من قادة الاحتلال الإسرائيلي أمام محاكم العدل الدولية.

وعلى هذا يمكن عدّ الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية خيارًا دبلوماسيًّا من الدول الغربية بأقل الكلف السياسية؛ لامتصاص الغضب المتصاعد محليًّا ودوليًّا. خاصة أن هذه الاعترافات جاءت بالتوازي مع سلسلة من الفعاليات الدبلوماسية التي نُظِّمت في إطار تحالف عالمي بقيادة السعودية والاتحاد الأوروبي أُطلِق في سبتمبر/أيلول 2024 بهدف الدفع بحل سياسي، وهو ما تمثل بالمبادرة التي قادتها فرنسا والمملكة العربية السعودية في أواخر يوليو/تموز لإعادة إحياء حل الدولتين، وذلك من خلال "المؤتمر الدولي للتسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين"، وصولًا إلى "إعلان نيويورك" الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 سبتمبر/أيلول 2025، الذي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح جميع المختطفين، وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة. ويدعو كذلك إلى نزع سلاح حماس وإبعادها عن الحكم في غزة، والتطبيع بين "إسرائيل" والدول العربية.


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...