شكّلت أحداث السابع من أكتوبر 2023، أو ما اصطُلِح على تسميته بـ"معركة طوفان الأقصى"، نقطة انعطاف جوهرية في بنية النظامين الإقليمي والدولي، إذ بلغت دلالتها العسكرية فضاءات أوسع تتصل بإعادة توزيع القوى، وتبدّل طبيعة الخطاب السياسي، وتغيّر أنماط الاستقرار التقليدي في الشرق الأوسط. وقد مثّل هذا الحدث لحظة كاشفة لتصدّعات الترتيبات الأمنية والسياسية التي سادت المنطقة منذ مرحلة ما بعد الثورات العربية (2011) حتى توقيع اتفاقات أبراهام (2020) وما تلاها، ودفع نحو مراجعة أعمق لمعادلات القوة والتحالفات، سواء في البعد الدولي المتعلق بتوازن النفوذ بين القوى الكبرى، أم في البعد الإقليمي المرتبط بأدوار الفاعلين المحليين والإقليميين. في الوقت ذاته، أطلق السابع من أكتوبر موجات جديدة من التفاعل الشعبي والحقوقي، من خلال تصاعد الحركات الاحتجاجية في الغرب والعالم العربي، وتنامي الملاحقات القانونية المرتبطة بجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وتفاقم الانقسامات الدولية، إلى جانب استمرار الانقسامات داخل الساحة الوطنية الفلسطينية.
في ضوء هذه التحولات يسعى البحث للإجابة عن السؤالين الآتيين: كيف أثّرت أحداث السابع من أكتوبر 2023 وما بعدها في توازن القوى والفاعلين في الإقليم؟ وكيف أثّرت الحركات الاحتجاجية في السياسات الإقليمية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؟
تفترض الدراسة أن أحداث السابع من أكتوبر 2023 مثّلت منعطفًا حرجًا أدى إلى تراجع القيود المؤسسية التي قيّدت سلوك الفاعلين في المرحلة السابقة، وهذا أتاح لهم خيارات جديدة في التعامل مع البيئة الإقليمية.
يستند هذا البحث إلى إطارين نظريين متكاملين لفهم التحولات الإقليمية في الشرق الأوسط لما بعد السابع من أكتوبر:
أولًا: نظرية توازن القوى الإقليمي (Regional Balance of Power)، التي تنطلق من فرضية أن استقرار النظام الإقليمي يتحقق عبر موازنة النفوذ بين القوى المتنافسة للحيلولة دون هيمنة طرف واحد. ووفقًا لهذه النظرية، فإن الأزمات المفصلية كعملية السابع من أكتوبر وما تلاها من حرب إبادة، تُحدث خللًا في التوازن، يدفع الدول والفاعلين الإقليميين إلى إعادة تعريف مصالحهم، وبناء تحالفات مرنة تتناسب مع التحولات الجديدة في موازين القوة.
ثانيًّا: نظرية المنعطفات الحرجة (Critical Junctures Theory): ففي مقالتهما "دراسة المنعطفات الحرجة: النظرية، والسرد، والافتراضات المقابلة في المؤسسية التاريخية". يقدّم جيوفاني كابوتشيا ودانييل كيلمن تحليلًا لمفهوم "المنعطفات الحرجة" بوصفها تلك اللحظات التاريخية القصيرة التي تحدث فيها أزمات أو تغيّرات كبيرة تجعل الأنظمة السياسية والاجتماعية في حالة مرونة أو سيولة مؤقتة. في مثل هذه اللحظات، تضعف القواعد والمؤسسات التي كانت تفرض قيودًا صارمة على قرارات القادة أو الفاعلين السياسيين، فيصبح بإمكانهم اختيار مسارات جديدة قد تغيّر شكل النظام أو توجهه لسنوات طويلة لاحقة.
انطلاقًا من هذا الدمج النظري، يسعى البحث إلى مناقشة ثلاثة محاور مترابطة تعبّر عن مسارات التأثير بعد السابع من أكتوبر:
- التحولات الدولية والإقليمية: من خلال تحليل إعادة تشكّل علاقات القوة بين الفاعلين الإقليميين (إيران، تركيا، الخليج، مصر، الأردن) في ظل اعتماد الردع الإسرائيلي على الإبادة والعنف والنفوذ والتفوق العسكري بدعم أمريكي.
- التفاعلات الشعبية والحقوقية: عبر رصد صعود التضامن الشعبي العابر للحدود مع فلسطين، واتساع نطاق التحركات القانونية ضد "إسرائيل" أمام المحاكم الدولية، وما ترتب على ذلك من إعادة صياغة للسرديات الحقوقية والسياسية عالميًّا.
- الوضع الداخلي الفلسطيني: في ظل حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، تتعمق أزمة الانقسام السياسي وتتآكل الشرعية المؤسسية الفلسطينية، فيما تتصاعد الجدلية بين المسارات السياسية والنضالية المتاحة أمام الفلسطينيين.
من خلال هذه المقاربة، يُطرَح كلٌّ من إطار توازن القوى الإقليمي والمنعطفات الحرجة على شكل عدستين تحليليتين توفران فهمًا مركبًا لتداعيات السابع من أكتوبر؛ إذ يُفسّر الإطار الأول التحولات في توزيع القوى، فيما يوضح الثاني الكيفية التي تُضعِف بها اللحظة الحرجة القيود المؤسسية لمصلحة الفاعلين. وبناءً عليه، لا يُتعامَل مع عملية السابع من أكتوبر بوصفها حدثًا طارئًا، بل بوصفه منعطفًا تاريخيًّا يُعيد تشكيل موازين القوة وأولويات الفعل السياسي في الشرق الأوسط، ويفتح آفاقًا جديدة لتحليل النظامين الإقليمي والدولي، فضلًا عن استشراف مآلات القضية الفلسطينية في أبعادها السياسية والقانونية والاجتماعية الراهنة.
