الأمن من الاحتياجات الأساسية لحياة الإنسان، وقد كان موضع اهتمام منذ قيام المجتمعات البدائية التي حرصت على تنظيم حياتها وتأمين كياناتها الاجتماعية من التهديدات الخارجية والداخلية. وظل مفهومه في تطور مستمر تبعًا لتطورات حياة البشرية، حتى أصبح مفهومًا يشمل جميع مناحي حياة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها.
مصطلح الأمن القومي "National Security" ككثير من المصطلحات المتعلقة بالقومية والإرادة الوطنية ظهر بعد قيام ما يسمى بـ"الدولة القومية" في أوروبا، عندما تضافرت الإرادات القومية ووضعت حدًّا للحرب التي كانت دائرة وقتئذٍ. ومن وقتها أخذ مصطلح "الأمن القومي" يتطور مع تطورات الحياة المختلفة إلى أن أصبح يعني القدرة الشاملة والمؤثرة للدولة على حماية قيمها ومصالحها من التهديدات الداخلية والخارجية.
ظهرت فكرة الإستراتيجية أوّلًا في المجال العسكري، لكنها حاليًّا أصبحت تدخل في حيز مختلف المجالات، خاصة تلك التي تتعلق بقضايا الأمن القومي ومهدِّداته. وينبثق أصل كلمة "إستراتيجية" من كلمة "ستراتيجوس" في اللغة اليونانية، التي تعني القائد العسكري أو الجنرال. في وقت لاحق، جرى استخدامها للإشارة إلى كبار المسؤولين في الإمبراطورية البيزنطية. حاليًّا يُنظَر إلى فكرة الإستراتيجية على أنها علم أو فن يربط بين تحقيق الأهداف والغايات العظيمة، واستخدام الفرص والموارد الموجودة من أجل الانتقال ممّا هو موجود إلى ما يُراد تحقيقه.
وتُعرَف الإستراتيجية الأمنية على أنها خطّة شاملة لاستخدام الفرص والقوى الاقتصادية والدبلوماسية والنفسية لدعم سياسة الدولة بشكل فعال من خلال الوسائل العلنية والسرية لتحقيق الغايات الأمنية. ويجري التعبير عن الصلة بين الأمن والإستراتيجية في العديد من الدراسات العلمية بـ"الإستراتيجية الأمنية". ومن ثَمّ هي رؤية موجّهة نحو الأمن، تهدف إلى منع حدوث أي ثغرات أمنية، باستخدام جميع الوسائل والإمكانيات؛ لتوفير الاستقرار الأمني المنشود.
والصلة بين الأمن والإستراتيجية من منظور الأمن القومي يمكن أن تُعرَّف بأنها: طريقة تحقيق الأهداف والغايات التي تحددها الأجهزة والمؤسسات المعنية بضمان الأمن الوطني وتحقيق الأهداف الوطنية. في الواقع، الغاية من الإستراتيجية الأمنية هي المنظور الشامل الذي يمكّن من تحديد الخُطط وتنفيذها لحل القضايا الأمنية. ومن ثَمّ ففي تقديرنا أن العلاقة بين الأمن والإستراتيجية هي علاقة الوسيلة والغاية. فإذا كان توفير الأمن والاستقرار هدفًا، فإن كل الطرق والإستراتيجيات المتبعة لتحقيق هذا الهدف هي وسائل.
السودان من الأقطار التي تتبوّأ مكانة مهمّة في محيطه الإقليمي، ومن هنا يُعَدّ ذا تأثير مهم في منظومة الأمن القومي الإفريقي، ويمتلك خصوصية تترتب عليها تحديات أمنية كبيرة ومتعددة، إذ إنه دولة مترامية الأطراف حتى بعد انشطار إقليميه الجنوبي. ويمتلك حدودًا مفتوحة على عشر دول، معظمها دول فقيرة اقتصاديًّا وغير مستقرة أمنيًّا، تعاني مشكلات مجتمعية؛ بسبب عدم قدرتها على إدارة التعدد الإثني فيها، وعدم الاستقرار السياسي، وما يترتب على هذه العوامل وغيرها من مهددات للأمن الفردي والقومي.
حاليًّا يعيش السودان تغيرات كبيرة؛ بسبب التطورات المحلية والإقليمية والدولية، وكل هذه المتغيرات بجمع مستوياتها لها تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة في الأمن القومي السوداني، وهذا يستدعي دراسة هذه التأثيرات وتحليلها وما تفرزه من تهديدات، ومن ثم تحديد المتطلبات التي ينبغي تحقيقها لمواجهة هذه التحديات والمخاطر، ثم تهيئة الظروف لبلورة إستراتيجية للأمن القومي تحقق الاستقرار الأمني السوداني الذي حتمًا سينعكس إيجابًا على تحقيق النهضة والتطور اللذين ظلا يطمح إليهما الشعب منذ الاستقلال. وانطلاقًا من هذا الصدد جاءت هذه الدراسة لتتناول مهددات الأمن القومي السوداني الداخلية والخارجية من منظور إستراتيجي.