مع نهاية الحرب الباردة، بدأ دور القوة العسكرية في السياسة الدولية يتضاءل مقارنة بالأدوات الاقتصادية. وقد أفرز هذا الظرف الجديد في العلاقات الدولية بيئة دولية فقد فيها المفهوم الجيوسياسي الكلاسيكي تأثيره، وحلت الأدوات الاقتصادية محل الأدوات العسكرية تدريجيًّا. وقد مهّد هذا التحول الطريق أمام بروز مقاربة الجغرافيا الاقتصادية إلى الواجهة من الناحيتين النظرية والعملية. وتعني الإستراتيجية الجيواقتصادية أساسًا الاستخدام الإستراتيجي للأدوات الاقتصادية -مثل التجارة والاستثمار والتمويل والعقوبات- بما يتماشى مع الأهداف الجيوسياسية. وفي هذا الإطار -ولاسيّما مع بداية الفترة الرئاسية الثانية لدونالد ترامب- كان هناك توقّع قوي بأن الولايات المتحدة قادرة على حماية مصالحها الجيوسياسية وتطويرها من خلال إستراتيجيا جيواقتصادية شاملة.
وقد عُدَّ اختيار ترامب بعد انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة للمرة الثانية منطقة الخليج مقصدًا لزيارته الخارجية الأولى، باستثناء زيارته القصيرة إلى الفاتيكان- خطوة لافتة ورمزية لدى الرأي العام الدولي. كما أن الرسائل التي سبقت الزيارة والاتفاقيات الاقتصادية التريليونية التي وُقِّعت بين الولايات المتحدة ودول الخليج خلال الزيارة زادت من تأثير المقاربات الجيواقتصادية في السياسة الدولية. وقد فُسِّرت تصريحات ترامب وبعض القرارات التي وقّعها خلال هذه الزيارة على أنها إشارات إلى تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل زيارة ترامب إلى الخليج في مايو/أيار 2025. ويتمثل سؤال البحث الرئيس فيما يأتي: هل هذه الزيارة تمثل تحولًا جذريًّا في السياسة الأمريكية تجاه الخليج والشرق الأوسط عمومًا؟ الادعاء الرئيس للدراسة هو أن هذه الزيارة تمثل بداية خطاب جديد في السياسة الخارجية يمكن تسميته بـ”عقيدة ترامب“. ولتسويغ هذا الادعاء، سيكون هناك تحليل خطابات صانعي القرار الأمريكي تجاه المنطقة في فترة ما قبل زيارة ترامب، وتصريحات وقرارات ترامب قبل زيارته وبعدها. وفي إطار منهج تحليل الخطاب، سيجري الكشف عن أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط خلال الفترة الرئاسية الثانية لترامب شهدت تغيرًا كبيرًا في توجهها نحو نهج جديد في السياسة الخارجية يمكن تسميته بـ”عقيدة ترامب“.
ستتألف الدراسة من ثلاثة أجزاء رئيسة. يلفت الجزء الأول الانتباه إلى الأهمية المتزايدة للنهج الجيواقتصادي في السياسة الدولية. وسيناقش على أساس نظري، كيف حولت دول الخليج "مدينة الريـاض"، بوصفها نهجًا جيواقتصاديًّا، إلى أداة إستراتيجية للتأثير في تفضيلات السياسة الخارجية للدول. وفي الجزء الثاني، سيكون ثمّة تحليل شامل لرسائل ترامب وتصريحاته وخطاباته السياسية المعلنة خلال زيارته لمنطقة الخليج في مايو 2025. وباستخدام منهج تحليل الخطاب، سيكون هناك تقييم للموضوعات التي برزت في لقاءات ترامب مع قادة المنطقة، والإطار المفاهيمي الذي استخدمه، ومدى اختلاف هذه الخطابات عن سياسات الولايات المتحدة التقليدية في الشرق الأوسط. في الجزء الثالث والأخير، ستجري مناقشة ما إذا كانت الاتفاقيات الموقعة والخطابات التي جرى التعبير عنها خلال الزيارة تشير إلى تحول هيكلي في السياسة الخارجية الأمريكية. وفي هذا السياق، سيكون هناك تحليل لرؤية السياسة الخارجية التي تشكلت خلال الفترة الرئاسية الثانية لترامب، لمعرفة مدى كونها تُشكّل نهجًا إستراتيجيا فريدًا يمكن تعريفه بـ”عقيدة ترامب“. ويهدف هذا التقييم إلى الكشف عن أنّ هذه الزيارة لم تكن لحظة فاصلة رمزية فحسب، بل كانت لحظة فاصلة إستراتيجية أيضًا.