ملخص تُعدّ القارة الإفريقية سوق المستقبل، وقد سبق أن ترك الأمريكيون الأسواق الإفريقية لزمن طويل للمنافسين القادمين من أوروبا وآسيا. أما الصين فقد اتبعت سياسة تقوم على مبدأ الصداقة والمساواة مع الدول الإفريقية لخدمة أهدافها الاقتصادية حتى أصبحت الشريك الأكبر للقارة. وهناك قلق أمريكي من ظهور دور سياسي/عسكري صيني يعوق أدوار الجيش الأمريكي في القارة السوداء بسبب مشاركة الجيش الشعبي الصيني في عمليات حفظ السلام في القارة الإفريقية. وقد بات واضحًا أن الولايات المتحدة تسعى من خلال المنتديات الاقتصادية المشتركة مع الدولة الإفريقية القائمة إلى استحداث آليات لكي تلحق بالقوى الصناعية الأخرى التي ضاعفت حجم تجارتها واستثماراتها في القارة الإفريقية، وعلى رأسها الصين. وتعتقد الولايات المتحدة أن تشجيع القطاع الخاص الأمريكي للاستثمار في إفريقيا يحفز الصين على الالتزام بقيم الشفافية والحكم الرشيد في إفريقيا، وخدمة العلاقات الاقتصادية المشتركة بين الولايات المتحدة والصين في القارة.
مع نهايات تسعينيات القرن العشرين أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أن الصين بدأت تتمدد في الفراغ الذي تركته في القارة الإفريقية جنوب الصحراء، وقال وزير التجارة الأمريكي عقب جولة إفريقية في أواسط عام 1998: "إن إفريقيا تمثل الحدود الأخيرة للمصدّرين والمستثمرين الأمريكيين، وفيها إمكانيات كبيرة وواعدة، وقد سبق أن ترك رجال الأعمال والمال الأمريكيون الأسواق الإفريقية لزمن طويل للمنافسين القادمين من أوربا وآسيا"، وتعدّ المقاربة الصينية للقارة الإفريقية وأسواقها البكر مقاربة مباينة للمقاربات الأوربية والأمريكية في التعاطي مع الشأن الاقتصادي والسياسي الإفريقي، مما مكّن الصين من أن تكون صاحبة أكبر حجم للتبادل التجاري مع القارة الإفريقية، يليها الاتحاد الأوربي ثم الولايات المتحدة.
يَتّهم بعض الدول الصين بأنها تمارس نوعًا من "الاستعمار الجديد" للقارة الإفريقية، مما استدعى رئيس مجلس الدولة الصيني أن يقول نافيًا الاتهام الموجه للعلاقة الصينية الإفريقية: إن ذلك "لا يخصّ الصين إطلاقًا، وابتداء من حرب الأفيون عام 1840، عانت الصين الحكم الاستعماري لمدة (110) سنوات؛ لذلك تعرف الأمة الصينية جيدًا العذاب الذي يسببه الحكم الاستعماري للشعوب، كما تعرف جيدًا ضرورة النضال ضد الاستعمار، وهذا هو السبب الرئيس الذي دفعنا لتأييد التحرر الوطني الإفريقي ونهضة إفريقية منذ مدة طويلة"، أما بخصوص رغبتها في النفط الإفريقي والسوق الإفريقية، فقد أعلنت بكين بصراحة على لسان (تشانغ يو تشينغ) نائب مدير مكتب الطاقة باللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، قبيل عقد منتدى التعاون الصيني– الإفريقي الأول أنه: "إذا لم يُسمح لنا بالذهاب هنا أو هناك، فأين يتعين علينا أن نذهب؟".
في المقابل، فإن الإدارة الأمريكية تنظر بقلق بالغ إلى التمدد الصيني في إفريقيا، وقد سلّط تقرير صدر هذا العام عن مؤسسة راند الأمريكية بتكليف من الجيش الأمريكي الضوء على هذا الملف، وحمل عنوان: "توسع العلاقات الصينية مع إفريقيا، وانعكاساته على الأمن القومي للولايات المتحدة"، حيث ترصد مفردات هذا التقرير اتجاهات القلق الأمريكي من ظهور دور سياسي/عسكري صيني يعوق أدوار الجيش الأمريكي في القارة بأثرٍ من التمدد الاقتصادي والتجاري الصيني في القارة السوداء، وبسبب مشاركة الجيش الشعبي الصيني (PLA) في عمليات حفظ السلام في القارة الإفريقية، وتوافد مليون مواطن صيني إلى إفريقيا؛ وربما تفسر "الجملة الحكيمة" لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مبعث التوجس الأمريكي، حيث تقول مادلين أولبرايت: "إن التحالفات الاقتصادية مع دول أخرى ستكون من أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وإن التجمعات الاقتصادية الجديدة ستكون هي التحالفات العسكرية للقرن القادم"، وهي حكمة تعلمتها بعد زيارة ماراثونية لعدد من الدول الإفريقية في الفترة من 17 إلى 23 أكتوبر 1999م. وكانت تلك الفترة هي البدايات الأولى للنفوذ الاقتصادي الصيني في إفريقيا، فقد تضاعف التبادل التجاري بين القارة السمراء والصين منذ انطلاق منتدى التعاون الصيني الإفريقي سنة 2000م وحتى اليوم أضعافًا كثيرة، إذ ارتفع حجم التبادل خلال هذه السنوات الـ«15»، من 10 مليارات دولار إلى 220 مليار دولار، وارتفعت نسبة حجم التبادل التجاري الصيني الإفريقي في الحجم الكلي للتجارة الخارجية الإفريقية من 3.82% إلى 20.5%، وزاد إجمالي حجم الاستثمارات الصينية في إفريقيا من 500 مليون دولار إلى 30 مليار دولار.
في المقابل، في 6 فبراير/شباط 2007 أعلنت الإدارة الأمريكية في عهد بوش (الابن) عن إنشاء قيادة عسكرية موحدة جديدة هي «قيادة إفريقيا» ، أو كما تُسمَّى اختصارًا (أفريكوم)، لدعم الأهداف الأمنية الأمريكية في إفريقيا والمياه المحيطة بها قبل أن تستدرك إدارة الرئيس أوباما في أواخر عام 2014م بإنشاء قمة أمريكية إفريقية تُعنى بالشأن الاقتصادي في إفريقيا على غرار منتدى التعاون الصيني الإفريقي والمنتدى الهندي الإفريقي.
بمقارنة الاستثمارات الأمريكية في إفريقيا بالاستثمارات الصينية نجد أن الشركات الأمريكية ستستثمر في مشروعات إفريقية حوالي 14 مليار دولار، بحسب تصريحات الرئيس باراك أوباما في قمة واشنطن الإفريقية في أغسطس 2014م، وهذا مبلغ بسيط جدًّا حتى بالمقارنة مع المساعدات التي منحتها الصين لإفريقيا، والتي تقدر بحوالي 75 مليار دولار.
فالدور الاستثماري والاقتصادي والتجاري الذي أدّته الصين خلال العقد الأخير في إفريقيا يعدّ دورًا كبيرًا، مقارنة بالدور الأمريكي، ولكن يجب أن نضع في الاعتبار أن الدور الأمريكي آخذ في الازدياد، وقد بات واضحًا أن الولايات المتحدة تسعى من خلال استحداث آلية القمة أن تلحق بالقوى الصناعية الأخرى التي ضاعفت حجم تجارتها واستثماراتها في القارة الإفريقية، وعلى رأسها الصين.
وهذا يفتح التساؤل حول المسار الذي سيؤول إليه التسابق الأمريكي الصيني على إفريقيا وأسواقها ومواقعها الجيوبولتيكية، والمسارات الإستراتيجية التي يمكن أن تحفظ حالة التوازن في القارة الإفريقية.
أهداف الصين في إفريقيا
أُسِّست رؤية إفريقيا للصين على قناعتين، الأولى: أن الصين ليس لها دوافع استعمارية ثقافية- عسكرية في إفريقيا، والقناعة الثانية: أن الصين رغم تقدمها الاقتصادي والعسكري لاتزال تُصنَّف ضمن دول العالم الثالث، مما يشعر الدول الإفريقية بأنها تتعامل مع دولة ندّ، وقدوة في النهوض.
وإجمالًا يمكن وصف طبيعة العلاقات الصينية الإفريقية، بأنها علاقات تقوم على المساواة والشراكة بلا محتوى أيديولوجي، بعد أن كانت الصين في حقبة الرئيس ماو تسي تونغ تنطلق في تعاملاتها في المجال الدولي من منطلقات إيديولوجية صارمة، عمادها مواجهة الإمبريالية الغربية، إلا أن "صين ما بعد ماو" قد تخفّفت من الأيديولوجيا، وانحازت إلى معيار المصلحة والابتعاد -في الوقت ذاته– عن خطوط الصراع في المجال الدولي، ولهذا فهي تتعاون في سبيل تحقيق مصالحها التجارية والاقتصادية والسياسية مع أنواع الأنظمة السياسية كافة في العالم من دون الاهتمام بطبيعة النظام أو سلوكه فيما يتعلق بحقوق الإنسان أو قيم الشفافية والنزاهة.
يصف الرئيس الصيني شي جين بينغ العلاقة بين بلاده وإفريقيا بأنها تتميز «بالإخلاص، والنتائج الحقيقية، والتقارب، والصدق»، ولهذا كانت عبارة: "إفريقيا- الصين تتقدمان معًا: التعاون المربح للجانبين من أجل تحقيق تنمية مشتركة" شعارًا لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي بجوهانسبرغ في ديسمبر 2015.
ويلخص خبراء في العلاقات الصينية الإفريقية الاهتمام الصيني بإفريقيا في خمس نقاط رئيسة، هي:
أولًا: الأهداف الاقتصادية، التي تتمثّل في الحصول على المواد الأولية أو المواد الخام، مثل النفط والمعادن.
ويلاحظ أن إفريقيا -التي أطلقت عليها وكالة شينخوا الصينية "أرض الأمل" قبيل زيارة رئيس الوزراء الصيني في أبريل/نيسان 2015- قارة غنية بالثروات المعدنية والمواد الخام التي تحتاج إليها الصين.
ثانيًا: الصين، التي تتمدّد صناعيًّا وتفوّقت على أمريكا في حجم الصادرات في عام 2012، بحاجة ماسّة إلى توسيع أسواقها العالمية، وبخاصة في مناطق مثل إفريقيا لا تجد فيها منافسة تذكر من البضائع الغربية. ولدى إفريقيا سوق واعدة، ولمواطنيها قوة شرائية صاعدة. وتقدّر الأمم المتحدة أن عدد سكان إفريقيا سيبلغ حوالي 2.4 مليار نسمة بحلول 2050.
كما أن حجم الاقتصاد الإفريقي يتوسّع، وتزداد القوة الشرائية مع تحسّن مستويات الدخل. وتأمل الصين أن تكون الشريك المهيمن على تجارة القارة السمراء في العقود المقبلة، ولاسيّما أن حجم الاقتصاد الإفريقي قُدّر بحوالي 1.515 تريليون دولار في نهاية 2013.
ثالثًا: ترغب الصين في الاستفادة من الكتلة التصويتية للقارة الإفريقية في المحافل الدولية، وبخاصة في قضايا مهمة، مثل قضية "الصين الموحدة" التي تشمل الصين وتايوان وهونغ كونغ، وترغب الصين كذلك في ضمّ تايوان خلال السنوات المقبلة، وتحتاج إلى سند في الأمم المتحدة لتحقيق هذا الهدف، كما أن الصين عضو دائم في مجلس الأمن، وتريد من الدول الإفريقية دعمَها في القضايا والأغراض التي تحقق أهداف سياستها الخارجية في أنحاء العالم. ولا يخفي أن الصين غير مقتنعة بالحدود الجغرافية التي أقرّها الحلفاء الغربيون في يالطا بعد الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في آسيا، وترغب الصين في إعادة رسم الحدود مع العديد من الدول الآسيوية في جنوب شرق آسيا، ويذكر أن الصين دخلت منذ مدة في نزاع حدودي مع اليابان حول حق السيادة على جزيرة سينكاكو.
رابعًا: لدى الصين مصالح أمنية في إفريقيا، ولاسيّما في المناطق المطلّة على الممرات المائية، مثل السودان وإثيوبيا وأرتيريا والصومال، وربما لاحقًا مصر. خلال السنوات القلية الماضية استطاعت الصين أن تثبت أقدامها في إفريقيا من خلال إنشاء نفوذ اقتصادي لا يستهان به، وكان لا بد لها من أن تؤمن منافذ بحرية إستراتيجية لهذا النفوذ المتنامي، وقد اتجهت الصين إلى إبرام صفقة مع دولة جيبوتي لشراء حصة من ميناء جيبوتي الإستراتيجي بمبلغ مالي يقدربـ1800 مليون دولار، نظرًا إلى أهمية موقعه الإستراتيجي المطلّ على المحيط الهندي والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، حيث مضيق باب المندب الذي يُعدّ ممرًّا مهمًّا للتجارة العالمية، ولأي تحركات عسكرية قادمة من أوربا أو الولايات المتحدة باتجاه منطقة الخليج العربي وشرق إفريقيا[1].
خامسًا: الغذاء، فمع التوسّع الصيني في الصناعة واستهلاك المياه والمساحات في التصنيع، تحتاج الصين في المستقبل إلى تأمين احتياجاتها الغذائية من خلال مشروعات غذائية عملاقة في إفريقيا.
ويضيف الخبير الصيني، يون صن، في ورقة بحثية نشرها معهد "بروكنجز إنستيتيوشن" في نهاية أبريل/نيسان 2015، إلى هذه الأهداف السياسية هدفًا آخر، هو تسويق نمط النظام السياسي القائم على الحزب الواحد، ومركزية التخطيط الاقتصادي للدول الإفريقية، على أساس أنه نمط ناجح في الحكم، وفي التقدم الاقتصادي كبديل للديمقراطية التي ينادي بها العالم الغربي. وهي دعوة تجد آذانًا صاغية في معظم الدول الإفريقية التي تُحكم ديكتاتوريًّا[2].
التمدد الصيني
تاريخيًّا، كان النفوذ البريطاني يمتد عبر محور يمتد من الشمال إلى الجنوب، يبدأ من مصر وينتهي بجنوب إفريقيا، وكان النفوذ الفرنسي يمتد من السنغال على شواطئ الأطلسي انتهاءً بجيبوتي في شاطئ المحيط الهندي، ولكن الصين عادت لتشغل المحور الإنكليزي القديم وبعضًا من المحور الفرنسي التاريخي. تمتلك الصين علاقات اقتصادية جيدة مع السودان وجنوب السودان وأوغندا وكينيا وجنوب إفريقيا وزمبابوي ومصر، وقد وقّع الجانبان الصيني والمصري اتفاقيات تعاون في مجالات النفط والغاز الطبيعي والاتصالات الإلكترونية في 2014م، وارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 14 مليار دولار، وفي 15/6/2015 وقعت مصر والصين اتفاقًا إطاريًّا بالأحرف الأولى لتنفيذ 15 مشروعًا باستثمارات تقدر بـ10 مليارات دولار، تستهدف تعزيز مجالات التعاون الصناعي والاستثماري بين الشركات في البلدين في مجالات الكهرباء والبترول والغاز والسكك الحديدية والطرق السريعة والموانئ والتعدين ومواد البناء والصناعات الكيماوية والضوئية والنسيج والأدوات الكهربائية المنزلة وغيرها من المجالات[3].
وقد استثمرت شركات النفط الصينية عشرات مليارات الدولارات في نيجيريا والسودان (14% من الاستثمارات الصينية مع إفريقية) وأنغولا لشراء حق استخراج حقول النفط، إضافة إلى التوصل إلى العديد من اتفاقيات التنقيب مع الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا. كما تستورد الصين النفط من أنغولا بما يعادل 14% من إجمالي حجم واردات النفط في الصين، وأصبحت ثاني أكبر دولة مصدرة للنفط إلى الصين بعد السعودية، كما أصبحت ثاني أكبر شريك تجاري للصين بعد جنوب إفريقيا في الدول الإفريقية اعتمادًا على تجارة النفط، وقد وقعت الصين مؤخرًا عقودًا نفطية مع تشاد بعد طرد الرئيس التشادي إدريس دبي شركة شيفرون الأمريكية من بلده.
ويقول تقرير لوكالة الأنباء الصينية (شينخوا) إن "للصين اليوم علاقات مع (45) دولة إفريقية"، وقد أقامت الشركات الصينية أكثر من (150) مركزًا تجاريًّا أو مكتبًا تمثيليًّا، وأكثر من مئتَي شركة تجارية أو مركز توزيع في إفريقية.
يرى مُعدّو تقرير راند أن الصينيين في إفريقيا معنيون بصورة مباشرة بالحصول على الموارد الطبيعية، والعمل في مجالات تطوير البنية التحتية والصناعات التحويلية، على عكس الولايات المتحدة التي تركز على التكنولوجيا العالية، والتجارة والخدمات، وكذلك دعم السياسات الرامية إلى تعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد، والتنمية البشرية[4]. فيما طرح رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ خلال زيارته إلى إفريقيا الإطار الجديد للتعاون مع إفريقيا من ضمنه بناء ثلاث شبكات في إفريقيا «شبكة السكك الحديدية الفائقة السرعة، وشبكة الطرق السريعة، وشبكة الطيران الإقليمي» وتعزيز التعاون في «6» مجالات، هي: «الصناعة، والمالية، ومكافحة الفقر، وحماية البيئة، والتبادلات الشعبية والثقافية، والسلام والأمن».
كما تشارك الصين في تجارة السلاح، حيث تنامت الصادرات الصينية من السلاح إلى إفريقيا من منتصف الثمانينات، وقد أصبحت الصين أكبر مورد منفرد للأسلحة الصغيرة والخفيفة في إفريقيا، حيث تمثل صادراتها إلى إفريقيا 25% من الواردات الإفريقية عام 2011، وتمثل أيضًا 17% من الصادرات الصينية الإجمالية للسلاح في نفس العام (طبقًا لمعهد أستوكهولم الدولي لبحوث السلام).
تجد التوجهات الاقتصادية الصينية الترحيب من الحكومات الإفريقية بوجه عام، فالإنجاز الصيني في المشروعات التنموية يمنح تلك الحكومات الشرعية السياسية، ويسهم في التنمية الاقتصادية وتوفير فرص العمل للشباب رغم بعض الانتقادات التي توجهها بعض منظمات المجتمع المدني الإفريقية للشركات الصينية فيما يتصل بظروف التشغيل وأنماط الممارسات البيئية.
الصين وقضايا إفريقيا في المجال الدولي:
على الصعيد السياسي، استعادت الصين وضعها الشرعي في الأمم المتحدة عام 1971 بدعم كبير من الدول الإفريقية، وفي قضية تايوان الصينية، تدعم الدول الإفريقية التي لها علاقات دبلوماسية قوية مع الصين سياسة بكين القائلة بـ"صين واحدة" تايوان جزء منها. بينما تتطلع الدول الإفريقية لدعم الصين التي تملك حق النقض "الفيتو" لقضاياها في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي أمام محاولات أمريكا استغلال هذه المنظمات الأممية لمصالحها الخاصة، وبدت معالم التحالف الصيني مع بلدان العالم الثالث في قضية البرنامج النووي الإيراني والكوري، وفي الموقف من مشكلة دارفور السودانية.
وبدأت الصين في تعزيز مواقفها السياسية بالمشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية في إفريقية، وقد شاركت الصين منذ عام 1990 في (12) عملية حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في إفريقية، شملت أكثر من ثلاثة آلاف جندي من قوات حفظ السلام الصينية؛ إذ أرسلت قوات حفظ سلام إلى بعثات الأمم المتحدة في جمهورية الكونغو الديموقراطية، وليبيريا، والسودان.
وفي السنوات القليلة الماضية شهدت العلاقة بين الصين وإفريقيا امتحانًا حقيقيًّا للصين وولائها للقارة الإفريقية، حيث اختبرت إرادتها في الدفاع عن مصالحها في إفريقيا وأصدقائها من دول القارة الإفريقية، في حالتَي السودان وزمبابوي.
في حالة زمبابوي – نموذجًا- لم تترك القوى الغربية للصين فرصة لممارسة دبلوماسيتها المعتادة، وهي البحث عن حلول وسطى تساعدها على تجنّب استخدام حق النقض "الفيتو" للدفاع عن رؤيتها في القضايا الدولية أمام الرؤية الغربية- الأمريكية في إفريقيا.
وتعود مشكلة زمبابوي مع الغرب إلى جذور قديمة، ترجع إلى الفترة الاستعمارية، حيث تمكنت روديسيا الجنوبية من نيل استقلالها في 1965م، ونيل عضوية الأمم المتحدة باسم زمبابوي، إلا أن البيض الذي بقوا في البلاد ظلوا مسيطرين على الثروة فيها، حيث يملكون أكثر من 80% من أراضي الدولة، وثرواتها، وظل موغابي حليفًا للغرب طوال سنوات حكمه.
وما إن اتخذ موغابي قرارًا بانتزاع الأراضي من البيض وإعادة توزيعها على الشعب حتى انقلب عليه الغرب، وأصبح صورة نمطية للدكتاتور المستبدّ المنتهك لحقوق الإنسان في الإعلام الغربي، وتولى الغرب دعم المعارضة الزمبابوية من أجل إسقاط موغابي انتخابيًّا، وهو ما تنبّه له الأخير، حيث بنى دعايته الانتخابية على شعار سياسي مفاده: "أن المعارضة تريد تسليم البلاد إلى البيض"، وقال موغابي لحشد من أنصاره: "إن المحاربين القدامى -جيل المؤسسيين- في بلاده والذين خاضوا حرب التحرير، لن يسمحوا للمعارضة بالسيطرة على البلاد، حتى لو حملوا السلاح مرة أخرى... إننا استرجعنا بلادنا من البيض بالكفاح، ولا نريد تسليمها لهم عبر صندوق الاقتراع".
لم تترك الصين رئيس زمبابوي وحزبه أمام العاصفة الغربية التي بدأت بصورة سافرة في يوليو2005، حيث قدّمت بريطانيا -بدعم من الولايات المتحدة وسبعة بلدان أخرى- إيجازًا إلى مجلس الأمن الدولي حول عمليات هدم الأحياء الفقيرة التي قامت بها زمبابوي، وذلك في محاولة منها لتنظيم مناقشات رسمية للموضوع في الجمعية العامة، وربما للخروج بقرار يشتمل على فرض عقوبات ضد زمبابوي من قبل مجلس الأمن. وفي تلك الأثناء زار روبرت موغابي بكين؛ من أجل الحصول على مساعدات مالية لاقتصاده المتداعي، وبسبب دعم بكين القوي لموغابي، واعتراضها على أي إجراء يتخذه مجلس الأمن حول هذه المسألة، لم تتمكن الأمم المتحدة من التوصل إلى إجماع لإجراء مزيد من النقاشات الرسمية حول هذا الأمر.
وأخيرًا في يوليو 2008م، استخدمت الصين الفيتو، وأحبطت مشروع قرار تقدّمت به الولايات المتحدة، يدعو لفرض عقوبات على المسؤولين عن الأزمة السياسية في زمبابوي، التي نجمت عن الانتخابات الرئاسية هناك، مما جعل السفير زلماي خليل زاد، الممثل الدائم للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة آنذاك، يصرح بأن "الولايات المتحدة تشعر بخيبة أمل عميقة؛ فقد منعت روسيا والصين مجلس الأمن من تبنّي قرار قوي يدين ويفرض عقوبات على النظام العنيف لروبرت موغابي. إن الصين وروسيا وقفتا إلى جانب موغابي ضد شعب زمبابوي" ربما يجد القادة الأفارقة نموذجًا مطلوبًا يدافع عنهم في المحافل الدولية، وأغلبهم جاء إلى السلطة من خلال الانقلابات العسكرية، واستمر فيها بانتهاك حقوق الإنسان.
الثقافة بعد السياسة
من جانب آخر، لم تهمل الصين دور الثقافة في دعم نفوذها المتمدد في إفريقيا، على الرغم من صعوبة اللغة الصينية، وانحصار الناطقين بها في بلد واحد؛ لذا اتخذت الصين أيضًا إجراءات نشطة لتجعل نفسها مقبولة إفريقيًّا؛ ففي 27 فبراير 2006، أطلق راديو الصين الدولي محطة على موجة (إف إم) في العاصمة الكينية... تبث المحطة برامج باللغة الإنكليزية، واللغة السواحلية (وهي اللغة التي يتكلم بها الأهالي على نطاق واسع في شرق إفريقية) ، واللغة الصينية على مدى (19) ساعة.
وقد أقبل الأفارقة على تعلم اللغة الصينية، في السودان وكينيا وغيرهما من الأقطار الإفريقية، ووصف (جورج ماغوها) نائب رئيس جامعة نيروبي بكينيا التعاون بين الدول الإفريقية والصين بأنه دخل عهدًا جديدًا يشمل العلوم و التكنولوجيا، والثقافة، والتعليم، والسياحة بعد أن كانت تقتصر على الاقتصاد والتجارة في الماضي.
يقول السفير الصيني (لي ليان خه) في السودان: "الصين تقدم إلى إفريقيا أكثر من 9 آلاف منحة دراسية سنويًا، وقامت بتدريب أكثر من 20 ألف كادر في شتى المجالات خلال ثلاث السنوات الماضية"[5].
الاستدراك الأمريكي
بين 4-6 أغسطس 2014م، انطلقت أعمال القمة الأمريكية– الإفريقية الأولى في العاصمة الأمريكية واشنطن بحضور رؤساء دول وحكومات نحو خمسين دولة إفريقية. وكانت تحت "الاستثمار في الجيل القادم" إلا إن الملف الاقتصادي، وتحديدًا زيادة الاستثمارات الأمريكية في إفريقيا، بجانب الملف الأمني "الإرهاب" هو عنوان السياسة الأمريكية في إفريقيا في الفترة القادمة. وقد عبّر عن ذلك بوضوح الرئيس الأمريكى باراك أوباما في كلمته الافتتاحية لمنتدى الأعمال الأمريكي-الإفريقي، حيث أشار إلى إفريقيا على أنها قارة الفرص التي تضمّ عددًا من أسرع الاقتصاديات نموًّا في العالم، ويتزايد بها حجم الطبقة الوسطى، وتجتذب استثمارات مباشرة من الاقتصاديات الصاعدة. وقد بات واضحًا أن الولايات المتحدة تسعى من خلال استحداث آلية القمة أن تلحق بالقوى الصناعية الأخرى التي ضاعفت حجم تجارتها واستثماراتها في القارة الإفريقية، وعلى رأسها الصين.
فيما يتصل بالملف الاقتصادي أعلن أوباما عن استثمارات أمريكية جديدة في القارة بقيمة 14 مليار دولار في مجالات الطاقة والبناء والنقل والقطاع المصرفي، هذا بالإضافة إلى تخصيص 7 مليارات دولار لدعم الصادرات الأمريكية إلى إفريقيا. كما أعلن الرئيس الأمريكي عن دعم إدارته لتجديد وتوسيع نطاق قانون الفرص والنمو الإفريقي (أجوا)، الذي يسمح بدخول بعض السلع الإفريقية إلى الأسواق الأمريكية معفاة من الضرائب، ولمبادرة دعم الطاقة في إفريقيا، والتي أطلقها أوباما الصيف الماضي لمضاعفة إنتاج الطاقة في بعض الدول الإفريقية. وتبدأ المبادرة بست دول إفريقية: ثلاث منها من دول حوض النيل وهى إثيوبيا، وتنزانيا، وكينيا، بالإضافة إلى غانا وليبيريا ونيجيريا في الغرب الإفريقي[6].
في الملف الأمني، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن هذه القمة غير المسبوقة ستكون فرصة "لبحث المسائل الأمنية مع إفريقيا"، كما تهدف بالنسبة إليه إلى العمل مع "شركاء أقوياء لديهم قوات أمنية فاعلة، بحيث يصبح بوسع الولايات المتحدة خفض دعمها المالي مع ضمان أمن طويل الأمد لهذه البلدان". والملف الأمني هو المشروع الذي يقلق العقل الإستراتيجي الأمريكي في القارة الإفريقية، سواء في نظرتها للقارة أم في النفوذ الصيني في إفريقيا كما رأينا في عنوان تقرير راند "توسع العلاقات الصينية مع إفريقيا وانعكاساته على الأمن القومي للولايات المتحدة"، ويبدو جليًّا أن مشروع قوات التدخل الإفريقية (أفريكوم) هو أهم المشروعات الأمريكية في إفريقيا.
على الرغم من أهمية قيمة الصفقات الأمريكية، إلا أن المبالغ التي تشملها ستكون أقل بكثير من المبالغ التي تنفقها بكين في إفريقيا، بيد أن الصفقات الأمريكية تحمل في طياتها إمكانيات أكثر أهمية من مساعدة بكين المالية المقدمة من حكومة إلى حكومة، لأنها عبارة عن تعهدات بتقديم استثمار مباشر في البنية التحتية والصناعة. يصف المحامي الأمريكي بيتر هانسون توجسات القادة الأفارقة من هذه المبادرة فيقول: "إن الخوف من نجاح الصين هو ما يدفع الأمريكيين للمبادرة"، وهانسون هو أحد مقدمي الاستشارات حول الصفقات في إفريقيا.[7]
تتباين وجهات النظر إلى إفريقيا بين الولايات المتحدة والصين، فالولايات المتحدة لاتزال تنظر إلى إفريقيا على أنها عبء أمنيّ وإنساني.
الصين وأمريكا: من يكسب الجولة؟
يعدّد تقرير مؤسسة راند المصالحَ الإستراتيجية الأمريكية في إفريقيا، وهي تندرج في: الاستقرار، والحكم المبني على الدستور والديمقراطية، وتحسين حقوق الإنسان وحق التقاضي، والنمو الاقتصادي الإفريقي، وزيادة التجارة (وتشمل الموارد الطبيعية) والنفاذ إلى الأسواق الإفريقية، والتغلب على الجماعات المتطرفة والإجرامية والإرهابية العابرة للحدود، والنفاذ إلى مواقع العمليات الحربية، وحق التحليق الجوي.
ومن خلال اتجاهات القمة الأمريكية الإفريقية 2014م وترتيب أجندتها- لا تظهر الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا بقضايا حقوق الإنسان والحوكمة والشفافية، بقدر حرصها على اللحاق بالسوق الإفريقية التي كادت تستحوذ عليها الصين ونظيراتها من آسيا: الهند وكوريا الجنوبية، ولهذا يقول التقرير إنه من غير المجدي الدخول في منافسة جيوبولتيكية صفرية (Zero – sum geopolitical competition) مع الصين في إفريقيا تدشن حربًا باردة بين الصين والولايات المتحدة، فإن المصالح الأمريكية الصينية المعاصرة، لم تصل مرحلة الخطر، فالولايات المتحدة والصين تتشاركان الرغبة في استقرار الدول الإفريقية وشروط الانتفاع الاقتصادي.
وفي المحصلة توصلت الدراسة إلى أن الصين لا تمثل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي في إفريقيا، ويدعو صانعو السياسات في الولايات المتحدة إلى الحفاظ على العلاقات الثنائية مع الصين بدلًا من زيادة حدة التنافس، ووفقًا لتقرير راند فإن هناك عدة توصيات للقيادات الأمريكية، منها:
العمل على تعديل سياسة الصين في إفريقيا بتشجيعها على توفير مزيد من فرص العمل المحلية، ونقل المزيد من التكنولوجيا، وتحسين ظروف العمل، لأن هذا مطلب الجماهير الإفريقية. ولذا، فإن أفضل طريقة لواشنطن لتعزيز التغيير في السياسة الصينية تجاه إفريقيا ليست للضغط على بكين مباشرة، وإنما من خلال تعزيز الديمقراطية، والمساءلة، والشفافية في المنطقة.
وبالمثل، ينبغي على الولايات المتحدة أن تشجع زيادة الاستثمارات الأمريكية الخاصة في إفريقيا، فالمنافسة من الصناعة الأمريكية تجبر الشركات الصينية على تقديم أفضل الصفقات للحكومات الإفريقية والشركاء المحليين من القطاع الخاص، فضلًا عن دفع الشركات الصينية إلى القيام بواجب المسؤولية الاجتماعية، وهذا يولّد منافع أكبر للمجتمعات الإفريقية.
يجب على الولايات المتحدة إقامة علاقات جيدة مع مجموعة واسعة من البلدان الإفريقية، مثلما فعلت الصين من خلال منتدى التعاون بين الصين وإفريقيا.
وكذلك عليها أن تسعى إلى استيعاب الجيش الشعبي الصيني ودفعه إلى المشاركة في عمليات قوات أفريكوم في إفريقيا[8].
وعلى الرغم من تنامي الميل لشراء المنتجات الأمريكية، لاتزال الصين أكبر مصدر للواردات للولايات المتحدة، فقد تجاوز الفائض التجاري لها مع الولايات المتحدة 237 مليار دولار أمريكي في عام 2014، في حين بلغ حجم التبادل التجاري 555 مليار دولار أمريكي وفقًا لمصلحة الدولة للجمارك في الصين.
ووفقًا للبيانات الصادرة عن وزارة التجارة الصينية، فإن معدل حجم التبادل التجاري في نهاية عام 2014م بين الولايات المتحدة والصين ازداد بنسبة 8.2%، ليبلغ 438.62 مليار دولار، حيث ارتفعت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 8.2% لتبلغ 319.4 مليارات دولار، كما ارتفعت صادرات الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين أيضا بنسبة 8.1% لتبلغ 119.2 مليار دولار[9]، وهو رقم يعادل نصف مجموع حجم التبادل بين الصين وإفريقيا، فالولايات المتحدة لن تغامر بالتفريط في السوق الصينية الضخمة من أجل السوق الإفريقية التي لن تكون خالصة لها مهما فعلت.
الهوامش والمراجع:
[1] الصراع الصيني الأمريكي على جيبوتي، مركز مقديشو للدراسات والبحوث، 23 يوليو 2015، http://mogadishucenter.com/blog/2015/07/23/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AC%D9%8A%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%8A/
[2] موسى مهدي، بكين تنتزع القارة السمراء من واشنطن، جريدة العربي الجديد، 21 نوفمبر 2014، http://www.alaraby.co.uk/economy/2014/11/21/%D8%A8%D9%83%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D9%86%D8%AA%D8%B2%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D9%86-%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86
[3] موقع هيئة الاستعلامات المصرية على شبكة الإنترنت، بتاريخ: 17 يونيو 2015، على الرابط: http://www.sis.gov.eg/Ar/Templates/Articles/tmpArticles.aspx?CatID=5374#.VnMwhhV97IU
[4] Larry Hanauer, Lyle J. Morris , Chinese Engagement in Africa Drivers, Reactions, and Implications for U.S. Policy, Rand, 2014. http://www.rand.org/pubs/research_reports/RR521.html
[5] لي ليان خه، الصين وإفريقيا... يدًا بيد نحو مستقبل أفضل، نشر بتاريخ : 22 تشرين2/نوفمبر 2015
[6] جريدة الشروق المصرية 9 أغسطس 2014م
[7] جريدة الاقتصادية السعودية، 08 أغسطس 2014
[8] التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة يتجه نحو التوازن والاستدامة، ، وكالة أنباء سينخوا، 21 سبتمبر 2015http://arabic.news.cn/2015-09/21/c_134642779.htm
[9] المرجع السابق.