ملخص تناقش هذه الدراسة العلاقة بين العسكر والسياسة في فترة حزب العدالة والتنمية، وتهدف إلى تقييم التغيير والتحوّل في طبيعة العلاقة بينهما، وتقسّم الدراسة فترة الـ15 عامًا بشكل أساسي من خلال تحديد الأحداث الرئيسة التي أثّرت في العلاقات، والإصلاحات التي أدّت إلى تراجع الوصاية العسكرية، وبهذا تنقسم المدة إلى 3 فترات، هي: فترة الصراع السلبي، وتبدأ هذه الفترة من 3 نوفمبر 2002 حتى 27 أبريل 2007، وفترة الصراع النشط، وتبدأ من 27 نيسان 2007 حتى عملية 17-25 ديسمبر 2013، وفترة إنشاء التوازن الديمقراطي، وقد بدأت في ديسمبر 2013 ولم تنته بعد.
دخلت تركيا بالتوازي مع الانقلاب العسكري في 27 مايو 1960 في أحد مآزقها، وهو اعتياد التدخل غير القانوني من الجيش في السياسة، وكان أحد أبعاد هذا التعود هو التدخل المباشر في الحياة المدنية، وقد تكررت هذه العادة منذ عام 1960 مرة واحدة كلّ عشر سنوات تقريبًا؛ في بعض الأحيان نُفِّذت تدخلات عسكرية مباشرة، وفي أحيان أخرى أُرغِم السياسيون على الانسحاب من خلال إعطاء الجيش مذكّرات للمدنيين تجبرهم على ذلك. ومن الممكن القول إن الانقلابيين العسكريين ثبّتوا أنفسهم بصفتهم مركزًا قويًّا لتحديد أجندة المشهد مباشرة، أو عن طريق التحكم في وسائل الإعلام في إنتاج ضغط على المدنيين كما يريدون ومتى يريدون، من أجل إخضاع الجهات السياسية المدنية الفاعلة.
وقد تدخلت الطُّغمة العسكرية في الجيش في العملية السياسية عدة مرات في تاريخ الجمهورية التركية، من هذه التدخلات: 27 مايو 1960، و12 مارس 1971، و12 سبتمبر 1980، و28 فبراير 1997، و27 أبريل 2007 حيث تسجّل هذه الأزمنة تواريخ للتدخل العسكري المباشر وغير المباشر، وقد أدّى هذا المشهد إلى التسبب في وضع إشكالي للديمقراطية في تركيا، وأحدث اختلالًا في علاقة الجيش بالسياسة ومن خلال هذا الاختلال كان الجيش يضع في نهاية المطاف السياسات التي يريدها بعد أن أثبت وجوده وهيّأ الساحة السياسية لذلك، وكان آخر حلقات هذه السلسة ما قام به أعضاء تنظيم غولن الإرهابي المتسللون داخل الجيش في 15 يوليو 2016 وهم خاضعون لأوامر فتح الله غولن، الذي يعيش في ولاية بنسلفانيا الأمريكية.[1]
ومن المسلَّم به في هذا الإطار أن إحدى نقاط التحوّل التي يجب وضع خط تحتها هي تأسيس رجب طيب أردوغان حزب العدالة والتنمية في 14 أغسطس 2001، وفوزه في الانتخابات البرلمانية في 3 نوفمبر 2002، وقدرته على تشكيل الحكومة بمفرده، وبدون أي مبالغة كان هناك بعد هذا التاريخ تغير في العلاقات المدنية-العسكرية لمصلحة المدنيين، وأصبح هناك وجود لحكومة مدنية تقوم بتمثيل حقيقي مستمد من الدعم الاجتماعي. وقد قاومت حكومات حزب العدالة والتنمية خلال تلك الفترة تدخل القوات المسلحة التركية في الحياة المدنية مشكِّلةً مشروعية جديدة في مواجهة الوصاية العسكرية، وهذا تسبّب في حدوث توتّر مع المجلس العسكري، لكن مع ذلك لم تنقطع محاولات الانقلاب العسكرية في تركيا، أو السيطرة عبر المذكّرات من الجيش إلى المدنيين خلال فترة حزب العدالة والتنمية؛ بل على النقيض من ذلك، ازداد التوتر بين المدنيين والعسكريين مع مرور الوقت وصولًا إلى 15 يوليو/تموز 2016، حيث كانت هناك محاولة انقلابية كبيرة وغير مسبوقة.
وكما سنناقش أدناه، فإنّه منذ تدخل الجيش في 27 مايو 1960 تجاه الوضع القائم أصبح التدخل في السياسة المدنية تقليدًا اعتاد عليه الكماليون، وصولًا إلى تدخل جهة أخرى تسلّلت إلى الجيش، وهي تنظيم غولن الذي قام بالمحاولة الانقلابية في 15 يوليو 2016.
لكن حكومة حزب العدالة والتنمية أظهرت حالة مغايرة أمام الوصاية العسكرية حيث لم تستسلم مثل الحكومات السابقة، بل قاوم الحزب بقيادة أردوغان محاولات الوصاية، وفي كل مرة كان يقاوم فيها كان يحصل على المكافأة من المجتمع التركي من خلال الفوز في العمليات الانتخابية.
والدليل على ما سبق أن حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان نجح وخرج منتصرًا منذ 3 نوفمبر 2002 في 12 اختبار ديمقراطي، ومنها عمليات الاستفتاء، حيث ذهبت تركيا إلى صناديق الاقتراع بين عامَي 2002-2017 بما مجموعه 12 مرة، حيث فاز حزب العدالة والتنمية فيها كلها، كما عزّز حزب العدالة والتنمية من ثقل السياسة المدنية من خلال استخدام هذا الدعم من المجتمع لمكافحة المحاولات غير الديمقراطية للسيطرة على الأجندة السياسية.
ملاحظة سوف ارسل لك الصورة أعلاه بالعربي
ويثبت هذه الحالة ما قام به حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 3 نوفمبر 2002 من تعديلات وتحسينات في محتوى الدستور التركي، وفي قانون الخدمة الداخلية للقوات التركية المسلّحة، وفيما يأتي نستعرض هذه التغييرات والتعديلات بشكل مفصل.
1- الانقلابات في الجمهورية التركية
عند النظر تاريخيًّا إلى تدخل الجيش وفرض نفوذه على النظام السياسي التركي، نجد أنّه بدأ ذلك في أواخر العهد العثماني، وأعاد قوته من جديد بعد عام 1960.[2] وفي هذا السياق، لم تستطع الطغمة العسكرية في الجيش من الدخول إلى الإدارة المدنية بعد الانتقال إلى الديمقراطية في عام 1950، وهكذا، كان التدخل السياسي الأول للجيش في الحياة المدنية في الفترة الجمهورية، في 27 مايو 1960، ونتيجة لمحاكم الانقلاب، اُعدِم رئيس الحزب الديمقراطي ورئيس الوزراء عدنان مندريس والوزيران فطين رشدي زورلو وحسن بولاط كان، وحُكِم على وجه الخصوص على الرئيس جلال بايار والعديد من قيادات الحزب الديمقراطي، بالسجن مدى الحياة، وعلى حدّ تعبير المؤرخ التركي كمال كاربات فقد بدأت المطاردات من أجل العمل على إخراج كل منتسبي الحزب الديمقراطي من المشهد السياسي.
ولأن القيادة العسكرية التي قادت انقلاب 27 مايو 1960 أرادت حماية هيمنتها على كل مجالات الحياة- لم يقتصر دورها على التحكم في الفاعلين في المشهد السياسي؛ بل بذلت جهودًا كبيرة في التحكم في الكثير من المؤسسات والمجالات وعلى رأسها الجامعات ووسائل الإعلام، وعملت على برمجتها وإعادة هيكلتها وفقًا لأيديولوجيتها.[3] ونتيجة لتطبيقاتها المتطرفة التي نفذتها في هذا السياق، فإن العقلية التي أنتجتها الطغمة العسكرية الموجودة في الجيش بعد 27 مايو لم تكن مقتصرة على العسكريين بل انعكست على المدنيين ومؤسسات الحياة المدنية، وفي حين أن هناك بعض المؤسسات والهياكل كانت موجودة قبل 27 مايو، فقد أُضِيفت إليها بعد ذلك منظمات من المجتمع المدني وبعض الشخصيات من الأوساط الأكاديمية، ومن أذرع أجهزة الإعلام، ومن بعض المؤسسات البيروقراطية وأسماء من عالم رجال الأعمال.
وكانت هذه الهياكل تشكّل عادة بيئة داعمة للانقلاب العسكري، وكانت تعمل على إيجاد وضع يسمح بإضفاء الشرعية على الانقلاب العسكري ويساعد في تحقيقه، ولهذا فإن انقلاب 27 مايو، لم يكن الانقلاب الأول في العصر الجمهوري فحسب، بل أصبح مصدر إلهام لجميع الانقلابات التي جاءت بعده.
إسقاط حكومة الحزب الديمقراطي |
الانقلاب العسكري في 27 مايو 1960 |
إسقاط حكومة حزب العدالة |
المذكرة العسكرية في 12 مارس 1971 |
إسقاط حكومة حزب العدالة |
الانقلاب العسكري في 12 أيلول 1980 |
إسقاط حكومة ائتلاف حزبي الرفاه والطريق القويم |
الانقلاب العسكري في 28 شباط 1997 |
صدُّ حكومة حزب العدالة والتنمية المذكرة العسكرية |
المذكرة العسكرية في 27 نيسان 2007 |
مواجهة حكومة حزب العدالة والتنمية هذه المحاولة وإحباطها |
المحاولة الانقلابية عبر الشرطة والقضاء 17-25 ديسمبر 2013 |
صدّ حكومة حزب العدالة والتنمية هذه المحاولة وإحباطها |
المحاولة الانقلابية العسكرية في 15 تموز 2016 |
الجدول رقم1: الانقلابات والمذكّرات العسكرية في العهد الجمهوري
وتمثّل محاولة الانقلاب الدموية التي قام بها أعضاء تنظيم غولن في 15 يوليو 2016 مثالًا حيًّا في هذا الصدد. و يظهر في المعلومات التي تتعلق بلوائح محاكمة تنظيم غولن أن الذين خطّطوا ونفّذوا مراحل هذه المحاولة اقتدوا بأسلافهم الذين نفّذوا وخططوا انقلاب 27 مايو، وقد ظهر هذا بشكل واضح ومفصّل في لوائح الاتهام التي أعدت لـ221 من أعضاء تنظيم غولن المشتبه بإدارتهم للعملية الانقلابية في مقر رئاسة الأركان في 15 يوليو، وتشير أوجه التشابه بين الانقلابينِ إلى أن أعضاء تنظيم غولن الذين قاموا بمحاولة الانقلاب في 15 يوليو نظروا إلى انقلاب 27 مايو بوصفه نموذجًا ومصدر إلهام.[4]
إنّ الانقلابات التي وقعت في تركيا بعد انقلاب 27 مايو 1960 سواء في 12 مارس 1971، أم في 12 أيلول عام 1980، أو انقلاب ما بعد الحداثة في 28 فبراير 1997، سواء نُفِّذت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- تسبّبت في عواقب مؤلمة، وأجبرت كل هذه العمليات الانقلابية الحكومات الشرعية التي انتخبها الشعب على مغادرة الحكم، وقد عاشت تركيا انهيارًا كبير وأزمات سواء في المجال الاجتماعي أم في المجال الاقتصادي.
في 27 أبريل 2007، واجهت تركيا نمطًا انقلابيًّا جديدًا، حيث أصدرت هيئة الأركان العامة من على موقعها على شبكة الإنترنت مذكّرة إلى حكومة حزب العدالة والتنمية، وعُدَّت المذكرة التي نُشِرت على شكل بيان من العسكريين الكماليين على أنّها مذكّرة إلكترونية، وبعد هذه المذكّرة العسكرية التي واجهتها حكومة حزب العدالة والتنمية تعرّضت الحكومة لانقلاب عسكري من 17 إلى 25 ديسمبر 2013، وهذه المرة لم تكن عن طريق الجيش بل عن طريق اتفاق بين مسؤولين كبار في أجهزة الشرطة والقضاء هدفوا إلى التحكّم والهيمنة على السياسة المدنية من خلال هذه العملية التي اعتمدت على التعاون بين جهازَي القضاء والشرطة.
وبعد سنوات قليلة من إفشال حكومة حزب العدالة والتنمية هذه المحاولات نفّذت عصبة عسكرية في الجيش محاولة انقلاب عسكري دموية في 15 يوليو/تموز 2016، ويُعَدّ الاختلاف الرئيس الذي يميز محاولتي الانقلاب الأخيريتين عن المحاولات السابقة -وهو ما سنناقشه بمزيد من التفصيل فيم يأتي- هو وجود أعضاء تنظيم غولن وراء هذه المحاولات، وهكذا، لم ينقرض مرض الانقلاب، ولكن الجهة التي تركّز على تنفيذ الانقلاب انتقلت من الكماليين إلى أعضاء تنظيم غولن.
2- الأرضية الأيديولوجية للانقلابات العسكرية
ثَمّة عدد من الدراسات التي تناولت الحداثة والتحديث في تركيا، من أبرزها دراسة نيازي بيركاس (العصرية في تركيا) ودراسة شريف ماردين بعنوان (الحداثة التركية)، ودراسة برنارد لويس (ولادة تركيا الحديثة)، وأعمال إريك جان زورتشر (تاريخ تركيا الحديثة)، وهذه الدراسات تؤكّد أنّ عمليات التحديث التي بدأت في أواخر عهد الدولة العثمانية بدأت في المقام الأول في الجيش.
وكان يُعتَقد أنّه إذا قُوِّي الجيش فإنه سيحافظ على الدولة من الزوال، ومن أجل تحديث الجيش كان لزامًا أن تتّجه الدولة جهة الغرب، وبهذا المعنى، يظهر أنّ أول حملات تغريب المجتمع كانت تتمّ بواسطة الجيش، وهكذا أصبح الجيش مركز عملية التحديث.
وإذا كانت هذه الحملات قد أُبقِيت محدودة في إطار الجيش وبعض شرائحه في عهد الدولة العثمانية ومُنِعت من الانتقال إلى الشعب- إلا أنّ هذه الحال تغيرت مع تأسيس الجمهورية التركية، إذ عمل مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه في السلاح الذين أسّسوا الجمهورية في عام 1923 على إنشاء تركيا الحديثة من دون أي تمييز بين مجال ومجال آخر، فقد عملوا على تغريب كل شيء من الأعلى إلى الأسفل في مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ومن أهم التطبيقات والممارسات التي تمّت في هذا السياق تطبيق العلمانية، ومن المهمّ الإشارة أن هذه الذريعة استُخدِمت في جميع المحاولات الانقلابية التي نُفِّذت بعد ذلك، وثَمّة نقطة أخرى تمَّ تأكيدها في المحاولات الانقلابية وهي (الأتاتوركية).
وقد رُكِّز على المعاني السابقة بشكل أساسي عند إعلان جميع الانقلابات والمذكّرات العسكرية منذ حتى انقلاب 27 مايو 1960 إلى محاولة الانقلاب الدموي في 15 يوليو 2016، حيث استُخدِمت أرضيةً لاكتساب الشرعية، وقد صُنِّف من عارض العلمانية أو الأتاتوركية أنه رجعي، وكان المعارضون في العادة متدينين أو محافظين أو ليبراليين، وبحسب محمد علي بيراند، فإن المتآمرين في داخل الجيش كانوا يعتقدون أن المحافظين يريدون إحباط عملية التغريب من خلال استغلال الدِّين، ولذلك اعتقلوهم بتهمة التدين، ونتيجة لهذا الفهم كان التركيز على الرجعية في انقلاب 28 شباط 1997، يتقدّم حتى على خطر الإرهاب، وقد كانت هناك ادّعاءات مماثلة في العمليات اللاحقة في 27 نيسان 2007 و 15 تموز 2016.[5]
ولذلك، فإن شرعية (الأمر الواقع) التي استندت إليها الطغمة العسكرية في داخل الجيش من أجل التدخل في السياسة كانت تعتمد على أنها حارسة النظام والعلمانية، وفي هذا السياق، كان الذين يهدّدون السياسة في البلد ويتجاهلون إرادة المجتمع حتى عام 2013 هم ممثّلي الكمالية في الجيش (ويمكن أيضًا أن يكونوا من المدنيين من مختلف المهن ومن الجنود المتقاعدين) أو من العسكريين ذوي الأيديولوجيات الأخرى الذين تسلّلوا داخل الجيش.[6]
كانت هناك معانٍ وراء تدخل الجيش في السياسة والاقتصاد، ويمكن إذا توسّعنا في هذا الموضوع أن يتضح هذا الأمر: أوّلًا كان الجيش هو التنظيم البيروقراطي المنظّم الذي انتقل من الإمبراطورية التركية إلى الجمهورية التركية، ومع حملات التغريب التي عزّز الجيش سلطته من خلالها ظهر الجيش عند تأسيس الجمهورية التركية على أنه القوة الأكثر نفوذًا، وقد دخلت المؤسسة العسكرية منذ أوائل الفترة الجمهورية وحتى الحياة السياسية المتعددة الأحزاب في أيامنا هذه- مرّة كل عقد زمني تقريبًا؛ لإعادة ترتيب العلاقات وترتيب التوازن السياسي والاجتماعي لمصلحتها، وكان التفسير الرئيس أن العسكر يتدخلون ضد السياسة؛ لأنّهم ضدّ وجود رموز بيروقراطيين أقوياء.[7]
وفي الواقع يتّسق هذا مع تعريف ماكس ويبر، فوفقًا لويبر: "هناك صعوبة كبيرة في القضاء على نظام بيروقراطي بشكل كامل بعد تشكّله، فالبيروقراطية واحدة من البنى الاجتماعية الأكثر تعقيدًا"، ويتدخّل العسكر من خلال هذه البيروقراطية العسكرية في السياسة ليحقّقوا من وراء ذلك نجاحًا في هندسة السياسة، وفي توسيع نطاق مشروعيتهم.[8]
ولذلك، إن كان ثمّة اعتراضٌ على النموذج أو المنظومة التي يحددها أعضاء الانقلاب العسكري، أو وجودُ مقترح بديل، أو توصية تخالف مشروعهم- فإن الانقلابيين وضعوا برنامجًا للضغط وقمع القطاعات الاجتماعية الأخرى التي قد ينطلق منها مثل هذه الاعتراضات، وقد أراد الجيش أو الطغمة الانقلابية التي تسلّلت داخله فرض ما تراه هي تهديدًا للبلد، وأرادت أن تعرّف من هو الصديق ومن هو العدو، وكيفية التعامل مع هؤلاء، وفي هذا السياق طبّقت أجندات سياسية تكون منتجًا للهندسة الاجتماعية، وعلى هذا النحو، فإن الخيال الاجتماعي للمجلس العسكري وضع بطبيعة الحال (أعداء الدولة) أو (الآخرين).
هذا هو السبب في أن الجيش (الطغمة العسكرية فيه) كان يزيد من حدة الضغط السياسي على المجتمع عندما تتصاعد مطالب وتوقعات الحياة السياسية الديمقراطية، وأصبح لدينا حقيقة واضحة منذ دخول الديمقراطية إلى تركيا في عام 1950، وهي الصراع بين الأطراف السياسية المؤيدة للديمقراطية وبين العسكريين الانقلابيين، واستنادًا إلى قوة الأسلحة التي يمتلكونها، نفّذ الانقلابيون انقلابات ضد الديمقراطية كل 10 سنوات تقريبًا؛ وعندما كان يتاح للمجتمع أن يختار عبر صندوق الاقتراع، لم يكن الشعب يختار مدبّري الانقلاب، بل يختار السياسيين الذين يعتقد الشعب أنهم ممثلون للسياسة المدنية. وقد ظهر زعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان في أعقاب عملية مشابهة، فبعد عدة سنوات من انقلاب ما بعد الحداثة في 28 فبراير 1997 توجّه الشعب التركي إلى صناديق الاقتراع واختار حكومة شرعية لإدارة الحكم في البلاد.
وانعكاسًا للإرادة الوطنية، كان السياسيون المدنيون الذين يُنتَخبون يعملون في كل مرّة على الحدّ من نفوذ الجيش في السياسة والمجتمع، ويبذلون جهودًا كبيرة لرفع معايير الديمقراطية، وأحيانًا يقومون بهذا اعتمادًا على عناصر الديناميكيات الداخلية، وأحيانًا اعتمادًا على المؤثرات الخارجية، كما هو الحال في تطبيق معايير الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، وهو ما أدّى إلى إضعاف البيروقراطية العسكرية، وعمل على تحقيق التوازن لمصلحة المدنيين.
وكان موقف الإدارات المدنية من الجيش، يأتي في سياق أن الجيش ينبغي أن يركّز نشاطاته على حماية الدولة من الأخطار الخارجية، كما هو الحال في الديمقراطية العادية، وأن الجيش لابد أن يكون تحت سياسة المسؤولين المنتخَبين؛ لهذا السبب ينبغي ألا يتدخل الجيش في كيفية تشكل السياسة المدنية، وكيف سيُحكَم البلد، وكيف ستُحَلّ المشكلات الاجتماعية، وقد حُدِّدت ديناميات العلاقات المدنية والعسكرية في عهد حزب العدالة والتنمية وفقًا لهذه الخلفية.
وبطبيعة الحال، من المهمّ جدًّا لاستقلال أي دولة أن يكون لديها جيش يستطيع أن يردع أعدائه. لذلك بعد محاولة الانقلاب الدموية في 15 يوليو 2016 كانت هناك مقولة مهمّة جدًّا للرئيس رجب طيب أردوغان، هي: "لا يوجد لدينا جيش غير الجيش التركي، وسنطهره من الخونة والانقلابيين، ولكن لن نسمح بإهانة أو إضعاف جيشنا"، وعندما يكون من يتحدث بهذه المعاني هو رئيس تعرض لمحاولة انقلابية من داخل الجيش، وتعرّض شخصيًّا لمحاولة اغتيال فإن ذلك يدلّ على مدى أهمية وجود جيش ملتزم بالديمقراطية في البلاد.
وفيما يأتي سنتناول العلاقات المدنية العسكرية في عهد حزب العدالة والتنمية وفقًا للتدفق التاريخي، وسنستعرض ديناميكيات التغيير والتأثير والتمايز بين مراحل العلاقات المدنية العسكرية، وكذلك جهود وسياسات حزب العدالة والتنمية في مواجهة الوصاية العسكرية وحماية السياسة المدنية.
3 - حزب العدالة والتنمية والعلاقات المدنية- العسكرية
بدأ حزب العدالة والتنمية، الذي أُنشِئ تحت قيادة رجب طيب أردوغان في 14 آب/أغسطس 2001، وعرّف نفسه بأنه ديمقراطي محافظ- رحلته السياسية بفوز كبير في الانتخابات العامة التي أجريت في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2002.[9] ولا ينحصر هذا الأمر في الرحلة السياسية لحزب العدالة والتنمية، بل إن وجود حزب العدالة والتنمية في الساحة السياسية في حدّ ذاته يعني أيضًا أن هناك تغييرًا في العلاقة بين المؤسسات السياسية والمؤسسة العسكرية المعادية للديمقراطية في تركيا.
والسبب أنّ حزب العدالة والتنمية نجح في إجراء الإصلاحات الأكثر جدية، وفي تنفيذ أهم التحركات الديمقراطية التي حدّدت شكل العلاقات المدنية العسكرية في تركيا. وعلى الرغم من الجدل المستمر، احتفظ الجيش بمكانته في النظام وبقوّته التاريخية بشكل مستقرّ، حتى فترة حزب العدالة والتنمية ومع ذلك، ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بدأ الجيش تدريجيًّا يخسر جبروته على المؤسسة السياسية من خلال العودة إلى مهمّته المتمثلة في حماية البلاد من التهديدات الخارجية التي هي جوهر مهنته العسكرية.[10]
وكان هناك أكثر من عامل وراء هذه التغييرات، وعلى الرغم من وجود العديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، فإن أهم هذه العوامل في عهد العدالة والتنمية هو العضوية في الاتحاد الأوروبي، والإرادة القوية لتمكين الديمقراطية قبل حزب العدالة والتنمية، وقد أكّد حزب العدالة والتنمية هذه المسألة حتى في برنامجه الانتخابي المنشور عند تأسيسه، وكان حزب العدالة والتنمية يرى أن العضوية الكاملة لتركيا في الاتحاد الأوروبي هي نتيجة طبيعية لعملية التحديث، وقد استخدم للتعبير عن ذلك هذه الجملة: "إن تحديث الدولة والمجتمع خطوة مهمّة يجب اتخاذها للوصول إلى معايير الاتحاد الأوروبي الاقتصادية والسياسية".[11] لذلك، بمجرد إنشاء حزب العدالة والتنمية بدأ الحزب باتخاذ خطوات جادة نحو تكريس الديمقراطية في تركيا عن طريق إجراء سلسلة من الإصلاحات لإنشاء محتوى سياسي مناسب لمعايير الاتحاد الأوروبي. ولهذا استطاع الحزب قطع مسافات جديدة في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقد تقرّر وفقًا لهذا افتتاح فصول جديدة للتفاوض.
إن عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أسهمت بطريقة مباشرة في السياسة الداخلية حيث قلَّلت من شكوك النخب العلمانية في حزب العدالة والتنمية، وفي الوقت نفسه سهّلت جهود حزب العدالة والتنمية في تنفيذ الإصلاحات وبروزه بصفة حزب إصلاحي، وعلى وجه الخصوص، جلبت الفترة الأولى من عهد حزب العدالة والتنمية الاستقرار في المجال الاقتصادي بتأثير من عملية مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي، كما كانت أحد أسباب نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات.
وقد أدّى اكتساب قوة الدفع في مفاوضات عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وضمان الاستقرار الاقتصادي إلى زيادة دور حزب العدالة والتنمية في كل فترة، ومن هنا استفاد الحزب من تعزيز وجوده السياسي في السلطة في طرح قضايا مثل القضية الكردية، ومشكلات العلويين والوصاية العسكرية في تركيا، وعمِل على حلّ هذه المشكلات المزمنة من خلال إرادة قوية.[12] ومن المؤكد أن من بين هذه المشكلات المزمنة أيضًا استبعاد المتدينين من المجال العام، وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية، مثل تكافؤ الفرص في التعليم. وعلى وجه الخصوص، حظر ارتداء الفتيات الحجاب في المؤسسات التعليمية ومؤسسات الدولة، كما كان هناك تمييز في التعامل مع خريجي مدارس (الأئمة والخطباء) في امتحانات القبول بالجامعة.
ومن الضروري عند عملية تقييم العلاقات المدنية- العسكرية في فترة حزب العدالة والتنمية التمييز بين الفترات المختلفة من أجل التمكن من إجراء تقييم شامل. وقد أقرّ العديد من الدارسين الذين درسوا هذه الفترة، مثل هالي وأوزبودون- بأن العلاقة المدنية العسكرية في عهد حزب العدالة والتنمية تنقسم إلى ثلاث فترات: الفترة الأولى التي تمتد من عام 2002 حتى نهاية عام 2006، ويمكن أن يطلق عليها فترة (الخلاف المتحكّم به) حيث اعترف الجيش، الحارس للعلمانية في هذه الفترة، بأن الحكومة هي المسؤولة عن صنع السياسات في الموضوعات التي يتمّ الاختلاف عليها بالرغم من محاولته الضغط على الحكومة للحفاظ على الهيكل الموجود بدون تغيير، ورغم أن الجيش كان يرى في نفسه الصاحب الحقيقي للدولة والوصي عليها والحامي لها فقد ترك الجيش للسياسيين مساحة للعمل السياسي وإن كانت صغيرة.
والفترة الثانية هي (فترة التحدي والأزمات) التي اتّبع فيها قادة الجيش إستراتيجية تهدف إلى إنتاج الأزمة من خلال تحدّي الجهات السياسية الفاعلة، وبوجه خاص ما حدث مع المذكرة الإلكترونية التي نشرتها رئاسة الأركان على موقعها على الإنترنت في 27 نيسان/أبريل 2007، وبهذا تدّخل الجيش بشكل واضح في السياسة، متّخذًا موقفًا ضد أعمال الحكومة، ولاسيّما انتخاب الرئيس.
وتُعَدّ الفترة الثالثة فترة (انسحاب العسكر)، ورغم استمرار الصراع بين العسكر والسياسيين المنتخبين، إلا أنّ العسكر وافق في هذه الفترة على عدم وجوده في الواجهة، وخلال هذه الفترة عاد الجيش إلى مهمته المتمثلة في تأمين البلاد ضد التهديدات الخارجية وفقد الكثير من نفوذه على السياسة، ووفقًا للدراسة التي أجراها هيل وأزبودون فإن هذه الفترة استمرت حتى عام 2010.[13] ولذلك، فإن محاولة الانقلاب التي قام بها تنظيم غولن في 15 تموز/يوليو 2016، والمحاولة التي وقعت في نهاية عام 2013 في الفترة من 17 إلى 25 كانون الأول/ديسمبر 2013، كانت خارج نطاق الفترة الثالثة وفقًا للدراسة المذكورة.
ويمكن تقييم العلاقة بين العسكر والمدنيين في عهد حزب العدالة والتنمية الذي كان في السلطة مدة خمسة عشر عامًا- من خلال ثلاث فترات، وقد كانت الميزة الرئيسة لهذه الفترات هي تكوّن ثلاثة خطوط صدع حدّدت العلاقات المدنية-العسكرية في تركيا:
فترة النزاع السلبي ( 2002-2007) |
1 |
فترة النزاع النشط (2007-2013) |
2 |
فترة تأسيس التوازن الديمقراطي (2013-2017) |
3 |
الجدول2: العلاقات المدنية- العسكرية في فترة حزب العدالة والتنمية
كانت أولى هذه الفترات فترة الصراع السلبي، وتبدأ من 3 نوفمبر 2002 حتى 27 أبريل 2007 وهو تاريخ المذكّرة الإلكترونية الصادرة عن الجيش، وكانت السمة المميزة لهذه الفترة هي أن الاشتباك بين الجيش والمؤسسة السياسية كان ضمنيًّا.
وكانت الفترة الثانية هي فترة الصراع النشط، وتبدأ هذه الفترة من 27 نيسان/أبريل 2007، وتستمرّ حتى عملية 17 - 25 كانون الأول/ديسمبر 2013، وفي هذه الفترة، أصبح التوتر بين حكومات حزب العدالة والتنمية وبعض الهياكل داخل الجيش مرئيًّا للجمهور. وعلاوة على ذلك، شهدت الفترة عمليات قضائية مختلفة، وفتحت الجهات القضائية المرتبطة بالجيش قضية لإغلاق حزب العدالة والتنمية.
وفي الفترة الثالثة، بدأ إنشاء التوازن الديمقراطي في العلاقات المدنية العسكرية، وقد بدأت في ديسمبر 2013، ومرت بمحاولة الانقلاب على الرئيس رجب طيب أردوغان، من قبل تنظيم غولن في 15 يوليو 2016 وهذه المرحلة لم تنته بعد.
فترة النزاع السلبي (2002-2007)
كما هو ملاحظ في تركيا، كان الجيش مؤثّرًا في السياسة المدنية بشكل فعّال دائمًا، وحتى في فترة حزب العدالة والتنمية ومع الحملات الإصلاحية التي نُفِّذت في إطار إصلاح العلاقة المدنية العسكرية- استمرت الوصاية العسكرية على السياسة بشكل عام، لكن حملات الوصاية العسكرية لم تنجح، وبدءًا من حكم حزب العدالة والتنمية واستمراره وحتى المذكرة الإلكترونية في 27 أبريل/نيسان- استمر تأثير الجيش في السياسة بشكل يمكن أن يُوصَف بأنه تأثير كان تحت السيطرة.
وكان أهمّ سمة من سمات هذه الفترة النهج الابتعادي عن الجيش الذي كان يشتبه في حزب العدالة والتنمية؛ لأن قيادة حزب العدالة والتنمية احتوت على قيادات سابقة من حزب الرفاه الذي أبعد الجيش حكومته عن الحكم من خلال الانقلاب في 28 فبراير 1997، ومِمّا يُجدّر ذِكره هنا أن رجب طيب اردوغان زعيم الحزب كان رئيسًا لبلدية إسطنبول عن حزب الرفاه الذي أُغلِق أيضًا.[14] وعلى الرغم من أن أردوغان ذكر كثيرًا أنه غيّر طريقة صنع السياسة التي كان يتبناها حزب الرفاه، ووصف حزبه الجديد بأنه ديمقراطي محافظ- إلا أن شكوك الجيش في حزب العدالة والتنمية بقيت قائمة.
إذن فأهم سبب لذلك هو أن حزب العدالة والتنمية مشتق من الناحية النظرية من حركة (ميللي غروش) التي أسّسها أربكان، وكانت غالبية الشخصيات الفاعلة من مؤسسي الحزب الجديد لديها ماضي وخلفيات إسلامية. وقد عُمِل على منع حزب العدالة والتنمية من المسير وفق هذا الفكر، وشُكِّلت حواجز أمام حكمه البلاد وفق هذا الفكر.
وكان هناك تصور لدى أعضاء الجيش الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم امتداد لمؤسّس الجمهورية ومؤسس فكرة الكمالية- بأن حزب العدالة والتنمية معادٍ للعلمانية، ووفقًا لتصور الجيش، فإن حزب العدالة والتنمية خطير على العلمانية والكمالية،[15] وعلى الرغم من أنه غيَّر خطابه إلا أن أصوله تبقى إسلامية. لذلك بدا الجيش وحزب العدالة والتنمية -خلال فترة إنشاء الحزب- كأنهما يلعبان (بالرموز)، وقد أشار حينها إلى ذلك الباحث غاريث جنكينز، فقال: "إن حزب العدالة والتنمية سوف يتفقد حدود ردّة فعل الكماليين في الجيش، فإذا كانوا سيصدرون ردّ فعل قوي فإن الحزب سيتراجع، وإذا استطاع الجيش أن يحافظ على حماية الكمالية العلمانية فإنه سيتجنب التدخل المباشر في الحياة السياسية، وفي الوقت نفسه، فإن عين كلا الجانبين سوف تبقى على عملية مفاوضات عضوية الاتحاد الأوروبي".[16] في الواقع، يلخّص هذا التقييم الجو السياسي لحزب العدالة والتنمية من 2002-2007. وخلال هذه الفترة، كان لزامًا على حزب العدالة والتنمية أن يأخذ في الحسبان موقف الجيش من كل عمليات حركات الإصلاح التي قام بها.
وفي ذات السياق مع أن الجيش اعتمد سياسة عدم التدخل مباشرة في السياسة إلا أنه واصل تبني مهمّة حماية النظام والحفاظ عليه، وبعبارة أخرى، كان الطرفان في الواقع يتنازعان مع بعضهما، لكنهما كانا يحاولان فعل ذلك بطرق غير مباشرة، وبدون جذب الانتباه العام، حيث استمر الصراع وراء الكواليس، والذي كان يظهر على السطح كان يشبه ما يظهر من (جبل الجليد).
مقاربة حزب العدالة والتنمية ضد ضغوط العلمانية
تُعَدّ العلمانية منذ قيام الجمهورية في تركيا من أهم البنود على أجندة السياسة والمجتمع، وفي هذا السياق أُغلِق العديد من الأحزاب السياسية المعارضة للعلمانية، أو فُرِضت العلمانية على الفاعلين السياسيين الذين ينتمون إليها، ولذلك اضطر حزب العدالة والتنمية إلى الإعلان أكثر من مرة أنه ليس لديه مشكلة مع العلمانية، ومن على منصات مختلفة، وبشكل عام، فإن حزب العدالة والتنمية أعلن أنه لا يرى أن هناك صراعًا بين الإسلام وبين معتقدات وقيم الحداثة المشتركة مع الليبرالية أو العلمانية.
وبناء على ما سبق يفرض ههنا سؤال نفسه، وهو: أيّ نوع من العلمانية يتبنى حزب العدالة والتنمية؟ في هذا الصدد من الضروري أن ندرس موقف حزب العدالة والتنمية في سياق تبلوره في بيئة مواجهة وجهًا لوجه مع تهديد بمحاولات الانقلاب تحت حجج وذرائع أهمها حماية العلمانية.[17]
أوّلًا، يدعم حزب العدالة والتنمية، العلمانية الليبرالية/الاختيارية بدلًا من العلمانية الإجبارية أو العلمانية القسرية التي طُبِّقت في عهد الحزب الحاكم في الفترة (1923-1946)،[18] وقد جاء وصف العلاقة بين العلمانية والدين في برنامج الحزب (التنمية وبرنامج التحول الديمقراطي) الذي نشر في عام 2002، على النحو الآتي: العلمانية "تسمح لجميع منتسبي الأديان والمعتقدات بالعيش، وممارسة عبادتهم بحرية، وكذلك بشرح معتقداتهم الدينية، كما تسمح للأشخاص غير المؤمنين أيضًا بتنظيم حياتهم، وفي هذا الصدد، فإن العلمانية من مبادئ الحرية والسلم الاجتماعي"[19]. وسوف يكون مفهومًا أن هذه العلمانية ليست العلمانية القائمة على الفصل أو التمييز، بل العلمانية التي تتبنى الحرية في الاندماج الاجتماعي، ولهذا خلافًا للعلمانية القمعية التي تجبر على ترك الدين والمعتقدات خارج الحياة العامة- دعا الحزب إلى العلمانية التحررية.
وقد كان هناك بُعد آخر وضعه مفهوم حزب العدالة والتنمية للعلمانية، وهو أن تقف الدولة على مسافة واحدة من الديانات والمعتقدات المختلفة، وكان من شأن ذلك أن يخلق جوًّا يساعد على عدم استغلال القيم المقدّسة، وعدم إساءة استخدامها، ويرفض حزب العدالة والتنمية في برنامجه استخدام "القيم الدينية المقدسة، أو القيم العرقية موادَّ سياسية، ويرى الحزب أن المواقف والممارسات التي تسيء للإنسان المتدين بسبب حياته الدينية أو خضوع معاملته لترجيحات مختلفة عن الآخرين هي مواقف وممارسات مضادة للديمقراطية، وتتعارض مع حقوق الإنسان والحريات، ومن ناحية أخرى، يرى الحزب أن استخدام المصالح الدينية والسياسية والاقتصادية وغيرها بوصفها أدوات ضغط ضد الذين لديهم تفكير ديني أو اعتقادي مخالف- هو أمر غير مقبول"[20].
وقد استقبل المجتمع التركي برنامج حزب العدالة بتفاؤل؛ لأن البرنامج أشار بل ركّز على أن معاملة المتدينين والمحافظين وتركهم خارج الحياة العامة في فترة علمانية الحزب الواحد- كانت أمرًا غير ديمقراطي وفتح المجال لاستغلال الدين.
وكان هناك بُعد آخر أيضًا لمفهوم العلمانية عند حزب العدالة والتنمية، وهي أن العلمانية ليست عدوّة للدين، ووفقًا لنفس برنامج حزب العدالة والتنمية: "المؤسسات الدينية هي من المؤسسات الأكثر أهمية للبشرية، والعلمانية أيضًا هي شرط لا غنى عنه من أجل الديمقراطية، كما ينظر إلى العلمانية على أنها ضمان لحرية الدين والضمير. ونحن ضد تفسير العلمانية، بأنها معادية للدين".[21] ومن خلال استخدام التعبيرات السابقة في برنامجه أكّد حزب العدالة والتنمية أنه يتبنى نهجًا مختلفًا للعلمانية، ويوضح برنامج حزب العدالة والتنمية أن العلمانية التي يتبناها تضع في اعتبارها حماية حرية الدين وعدم ترك المتدينين خارج الحياة العامة، وكذلك الحيلولة دون إساءة استخدام الدين.
ومهما كانت وجهة نظر حزب العدالة والتنمية تجاه العلمانية، وما أُعلِن عنه حولها في برنامج الحزب إلا أن العقلية الانقلابية المعتادة على استخدام ذريعة (تهديد العلمانية) كعادة سيئة استمرت في الضغط على السياسيين من هذا المنطلق؛ لذلك فأن مفهوم العلمانية أو معضلة العلمانية تأتي على رأس القضايا في أجندة كلّ من يريد تصميم السياسة في تركيا.
وقد بذل الجيش والنخبة الكمالية الممتدة عنه في الحياة السياسية في تركيا، في السنوات بين 2002-2007 جهدًا كبيرًا لإبقاء السياسة خاضعة لهم من خلال الترويج لمعاني الخوف على مستقبل العلمانية، و(الخوف من الرجعية)، وهناك العديد من الأمثلة التي تبيّن ذلك. وفي هذا السياق، كان ما كتبه الجنرال المتقاعد أوزدن أورنيك بعنوان (لقد تغاضينا عن القيام بانقلابين في 2004) في مجلة (نقاط) في عام 2007 لافتًا جدًّا في سياق العلاقات العسكرية السياسية.
إضافة إلى ذلك، كان ما نشرته صحيفة جمهوريت في عام 2003 تحت عنوان (الضباط الشباب قلقون) انعكاسًا في وسائل الإعلام لرغبة الجيش في إعادة تنظيم السياسة في البلاد، وكان العنوان الرئيس الذي استخدمته صحيفة جمهوريت: (الضباط الشباب قلقون) قد استخدمه انقلاب 27 مايو 1960، وهو ما يدل على تأثير الديناميات التاريخية، وهو قضية جديرة بالملاحظة.
دفاع حزب العدالة والتنمية عن السياسة المدنية ضد المذكرة الإلكترونية
كان أحد الأحداث التي أظهرت بوضوح حالة انعدام الثقة هو الضغط من أجل منع حزب العدالة والتنمية من ترشيح مرشح رئاسي، أما الحدث الآخر فهو تجمّعات الجمهورية، وهي تجمّعات وُصِفت بأنها لدعاة الكمالية الجديدة، وقد قيل إن هذه التجمّعات كانت قد نُفِّذت بصفتها أرضية ممهدة للانقلاب، ووفقًا للمعلومات التي كُشِفت مؤخرًا حول التجمعات التي بدأت في 14 أبريل 2007 واستمرت لفترة- فإن منظمات المجتمع المدني والجامعات التي تعاونت في تنظيمها كانت تنسق معًا لتمهيد الطريق للانقلاب، وكان محتوى الشعارات التي هُتِفَ بها والكلمات التي ألقيت شاهدًا على هذا التوجه.[22]
فعلى سبيل المثال، قال أحد المتحدثين في تجمّعات الجمهورية، بيرغول أيمان غولر؛ أستاذ العلوم السياسية في جامعة أنقرة: "الجيش الكمالي سوف يقول كلمته، والجامعة ستقول كلمتها، والقضاء سوف يقول كلمته"، داعيًا القوات العسكرية بالنزول إلى الشارع، وعلاوة على ذلك كان بين الحاضرين لكلمة غولر عسكريون بزِيّ مدني، وهم من كبار قادة الجيش المتقاعدين والمؤثرين، ومن بين هؤلاء شنار أر أويوجور وخورشيد طولون، وكذلك كان بينهم موظفون في سلك القضاء، مثل عضو المحكمة الدستورية فتاح أوتو، وعدد من كبار البيروقراطيين، مثل رئيس المجلس الأعلى للتعليم كمال غوروز، وعدد من رؤساء الجامعات، مثل رؤساء وعمداء جامعات أنقرة، وغازي، والشرق الأوسط والتي شاركت في هذه التجمعات، وقد عُدَّ هذا المشهد استعراضًا للقوة العسكرية والوصاية العسكرية على السياسة.
ولم يقتصر الأمر على تجمعات الجمهورية. بل بعد تصريح بيرغول أيمان غولر؛ أستاذ العلوم السياسية في جامعة أنقرة: "الجيش الكمالي سوف يقول كلمته" ببضعة أيام- أصدرت رئاسة الأركان مذكرة لحزب العدالة والتنمية على شكل بيان على موقعها على الإنترنت، وكانت المذكرة تتويجًا للحراك التمهيدي الذي قام به تحالف الجامعات والقضاء والعسكر، وعادت المناقشات الأصولية، والسياسية المستمرة حول الحجاب والعلمانية والرجعية إلى الواجهة في تركيا مرة أخرى، وحاولت المكوّنات المضادة للديمقراطية أن تؤثر في الانتخابات الرئاسية، وباختصار هُيِّئَ الجو الاجتماعي والسياسي لتمهيد الطريق للجيش للتدخل السياسي.
و في هذه الفترة لم يقتصر الأمر على مثل هذه الأعمال المناهضة للديمقراطية، إذ تحدّث -قبل المذكرة الإلكترونية في 27 أبريل بأسبوعين- الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار في مجلس الأمن القومي الفعلي مشيرًا إلى تزايد الأنشطة الرجعية، كما ألقى العديد من الكلمات على منصّات مختلفة حول هذه الموضوعات.
وفي كلمة له في المؤتمر الذي عُقِد في أكاديمية الحرب في 13 أبريل 2007، قال سيزار: "لم يكن النظام السياسي في تركيا منذ تأسيس الجمهورية، معرّضًا للخطر في فترة كما هو الحال اليوم، إن القيم الأساسية للجمهورية العلمانية تُناقَش للمرة الأولى، فالقوى الداخلية والخارجية تعمل في نفس المصلحة في هذه المسألة، إن القوى الأجنبية، تريد أن تصبح تركيا نموذجًا للدول الإسلامية، وللإسلام المعتدل؛ ولذلك يريدون نقل النظام السياسي التركي من (الجمهورية العلمانية) إلى (الجمهورية الديمقراطية)، والإسلام المعتدل يعني أن النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقانوني للدولة سوف يتأثر إلى حد ما بقواعد الدين، وعلى هذا النحو، فإن نموذج الإسلام المعتدل، إذا كان يُنظَر إليه على أنّه نموذج جذاب للدول الإسلامية الأخرى فإنّه بالنسبة لتركيا بشكل واضح (رجعية) وعودة للوراء، وإن تركيا تكون نموذجًا في المنطقة بالعلمانية فقط وبصفتها دولة قانون ديمقراطية، وفي هذا الاتجاه يمكننا أن نتشارك خبراتنا مع الدول الأخرى"[23]، ومن خلال التركيز على هذه المعاني المتعلقة بالرجعية والعلمانية كان سيزار ينظّر في تصريحاته لضرورة سيطرة الوصاية العسكرية، وعند فحص وتقييم المصطلحات التي استُخدِمت نجد أنّها كلّها كانت تأتي في سياق جعل الموقف السياسي مرتهنًا بالوصاية العسكرية.
كان هناك خطاب آخر مواز لخطاب الرئيس سيزار، يعبّر عن أحد الأطراف السياسية الأخرى في السياسة المدنية، وهو خطاب رئيس حزب الشعب الجمهوري آنذاك، دنيز بايكال، حيث كان بايكال يردّد أن أردوغان على خلاف مع مؤسسات التعليم العالي والجيش؛ لذلك لا يمكن أن يكون هناك شخص على خلاف مع القيادة العليا للجيش ويصبح في موقع القيادة على الجيش.[24]
ومع ذلك، لم يقتصر الأمر على الحديث عن الأصولية الرجعية، والحجاب، ونوايا حزب العدالة والتنمية، والأجندة الخفية للحزب، وقضايا مثل الولاء للعلمانية؛ بل كان يتمّ العمل بشكل مكثف على إدراج هذه الموضوعات في جدول الأعمال السياسي وخطاب الحركة من جهة، وخلق ضغط على حزب العدالة والتنمية، وحفز المجلس العسكري للقيام بانقلاب عسكري من جهة أخرى.
وقد قال رئيس هيئة الأركان العامة يشار بيك كانيت في تصريح له في 12 أبريل 2007: "نتمنى أن تكون القيم الأساسية للجمهورية، في قلب الرئيس الذي سيتم انتخابه، لا على لسانه فحسب"، وقد يشير استخدام هذه العبارة في تصريح رئيس الأركان على أنه علامة على التدخل في السياسة واحتمال الإقدام على مذكرة عسكرية.
إضافة إلى ذلك، ارتُكِبت بعض جرائم القتل من أجل زيادة التوتر الاجتماعي في هذه الفترة، ففي مايو 2006 قُتِل قاض من المحكمة الإدارية العليا في جريمة اعتداء، وفي يناير 2007 قتل هرانت دينك المحرر العام لصحيفة أجوس وقد أثارت الحادثة توترات اجتماعية في حينها.[25]
وهكذا، كانت الفترة بين 2002-2007 بكل التطورات التي وقعت فيها تظهر أن تنظيم العلاقات المدنية-العسكرية في تركيا من جديد أمر ضروري، وبهذا كانت هذه المرحلة منذ عام 2002 وحتى مذكرة 27 أبريل مسرحًا لمثل هذه الإجراءات المذكورة والتصدعات الهشّة.
وعلى وجه التحديد في هذه الفترة، كتب زينو باران الخبير في معهد هدسون في الولايات المتحدة، في مجلة نيوزويك تحت عنوان: (احتمال حدوث انقلاب في تركيا في عام 2007، 50 في المئة)، وقد استحضر باران عملية 28 فبراير، حيث قام الجيش بإجبار نجم الدين أربكان رئيس حزب الرفاه على الاستقالة، وقال باران: "مرة أخرى نحن أمام ظروف مشابهة، فمرة أخرى هناك إسلاميون في السلطة، ومرة أخرى يهمس الجنرالات في غضب حول الضرر الذي تسببه الحكومة للدولة العلمانية"، وأضاف: "من وجهة نظري أن فرصة حدوث انقلاب عسكري في تركيا في عام 2007، هي 50 في المئة"، ومن خلال النظر إلى ما كتبه باران يمكن الاستدلال على مواقف مراكز القوى المختلفة في الولايات المتحدة آنذاك.[26]
وقد أعلنت المذكرة الإلكترونية، التي وضعت حدًّا لهذه الفترة، ضد حكومة حزب العدالة والتنمية في 27 نيسان/أبريل في مثل هذا الجو. وكان هذا بمثابة تأكيد استمرار عقلية الجيش في التدخل في السياسة، وقد نشر رئيس الأركان العامة يشار بييك كانيت المذكّرة بنفسه على موقع رئاسة الأركان العامة، وقد كان واضحًا أن هناك رغبة في تغطية هذا التدخل عبر الهندسة السياسية والاجتماعية، من خلال مسوّغات المذكرة ومسوِّغات تنظيم تجمعات الجمهورية التي كانت متداخلة مع سياق العلمانية.
وقد جاء في المذكّرة: "في الأيام الأخيرة، فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية برزت مشكلة متصلة بمناقشة موضوع العلمانية، وتراقب القوات المسلحة التركية هذه الحالة بقلق، ولا ينبغي أن يُنسى أن القوات المسلحة التركية طرف في هذه المناقشات، وهي مدافعة عن العلمانية، إضافة إلى ذلك، تعارض القوات المسلحة التركية بشدة المناقشات الجارية والتعليقات السلبية، وستظهر بوضوح موقفها وسلوكها عند الضرورة، ويجب أن لا يكون لأحد أي شكّ في ذلك... وإن القوات المسلحة التركية، تقوم بهذه المهمّة التي أتاحها لها القانون، وهي ستقوم بالتزاماتها بحسم لا يتزعزع، والتزامها بهذا القرار أمر مؤكد". ومن خلال هذا الإعلان أكّد الجيش عدة مرات على أن تدخله في السياسة يأتي من خلال استخدام خطاب حماية العلمانية وحماية النظام، ومرة أخرى بعد انقلاب 27 مايو، أُعِيد فرض قوة السلاح على السياسة من خلال مهمّة حماية الجمهورية.
وقد ردّت حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بشدة على إعلان العسكر، وعلى عكس ما كان متوقعًا، وصرح المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية، جميل تشيشك، في مؤتمر صحفي في 28 أبريل/نيسان 2007، أي بعد يوم واحد فقط، متحدثًا عن الديمقراطية، ومذكرًا الجيش بالمبادئ الديمقراطية. وقال في خطابه: "يُعدّ هذا البيان على أنه موقف ضد الحكومة، وممّا لا شك فيه أنّه من الخداع أن نعتقد أن ما يحدث يمكن أن يحدث في نظام ديمقراطي. أوّلًا وقبل كل شيء نريد أن نقول إن رئاسة الأركان، هي مؤسسة تابعة لرئيس الوزراء، وإن صدور موقف ضد الحكومة عنها لا يمكن عدّه أمرًا قد يحصل في دولة القانون والديمقراطية، وإن رئاسة الأركان العامة هي مؤسسة تتبع الحكومة بموجب الدستور والقوانين ذات الصلة، ووفقًا لدستورنا، فإن رئيس الأركان العامة مسؤول أمام رئيس الوزراء عن واجباته وسلطاته"[27].
وذكّر تشيشك رئيسَ الأركان العامة بأنه يتْبَع الإدارة المدنية، وقد كان إعلان تشيشك الذي رفض فيه المذكرة الإلكترونية بمثابة سابقة في تاريخ تركيا، حيث سجل لأول مرة رفض السياسيين المدنيين لانقلاب عسكري في تاريخ الديمقراطية التركية، وقد فتح هذا الموقف المبدئي صفحة جديدة لمصلحة الديمقراطية في تركيا.
الإصلاحات في الجيش في فترة الصراع السلبي
قامت حكومة حزب العدالة والتنمية ببعض الاستعدادات قبل المذكرة الإلكترونية في 27 نيسان/أبريل، وهذا أدّى إلى تضييق مساحات السياسة المناهضة للديمقراطية والمدنية التي حققها الجيش خلال الانقلاب السابق في 28 فبراير الماضي، وعلى رأس هذه الاستعدادات التغييرات المتعلقة بمجلس الأمن القومي، ويمكن تلخيص الإصلاحات على النحو الآتي:
- أُعِيد ترتيب فترات اجتماع مجلس الأمن القومي. وتقرّر أن يُعقَد الاجتماع كل شهرين بدلًا من كونه شهريًّا، وأن يكون الأمين العام للمجلس مدنيًّا.
- نُقِلت سلطة الأمانة العامة للمتابعة والرقابة إلى نائب رئيس الوزراء، وكان هذا التغيير مؤثرًا جدًّا بسبب الموقف القوي للأمين العام داخل مجلس الأمن القومي، وهكذا، اتُّخِذت خطوة لمصلحة السياسة المدنية من خلال مجلس الأمن القومي.
- أُلغِيت اللائحة السرية التي تنظّم مبادئ مهامّ الأمانة العامة للمجلس بموجب لائحة جديدة نشرت في 29 كانون الأول/ديسمبر 2003، وكان ذلك خطوة مهمّة نحو الشفافية، حيث كانت الإجراءات السرية بمثابة سلطة استثنائية.[28]
- طبقًا لِلّائحة رقم 6688 التي اعتمدها مجلس الوزراء في 29 ديسمبر/كانون الأول 2003 لإعادة هيكلة الأمانة العامة للمجلس وإعادة تحديد مهامّها وسلطاتها- قُلِّص عدد الموظفين الملتزمين مباشرة بالأمانة العامة، ومن ثَمّ فُقِدت الصلة العضوية بين مجلس الأمن القومي ورئاسة الأركان العامة. إضافة إلى ذلك، انخفض عدد وحدات الخدمات من 11 إلى 6 وحدات.[29]
- إنهاء عملية اختيار عضو في مجلس التعليم العالي من قبل هيئة الأركان العامة. إضافة إلى ذلك، ألغي أيضًا حكم ترشيح الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي المرشحين لعضوية المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون.
- أصبح من الصعب مقاضاة المواطنين في المحاكم العسكرية، كما ضُيِّق نطاق اختصاص المحاكم العسكرية.
- أُدخِلت تغييرات على مراقبة السلع العسكرية، وألغيت المادة 160 من الدستور المعنونة بـ(محكمة الحسابات): "تتمّ إجراءات مراقبة ممتلكات الدولة في أيدي القوات المسلحة نيابة عن البرلمان التركي، وفقًّا لمبادئ السرية التي تقتضيها خدمات الدفاع الوطني". وهكذا، اتُّخِذت خطوة بالغة جدًّا نحو مراقبة السلع العسكرية، وتقرّر أن تقوم محكمة الحسابات بمراجعة الحسابات، نيابة عن البرلمان، شريطة أن تظلّ سرية بموجب القانون رقم 4963 المؤرخ في 30 تموز/يوليه 2003.[30]
وهكذا، في هذه العملية التي يمكن اعتبارها خطوة مبكّرة في الفترة الأولى من بداية عمل حزب العدالة والتنمية باتجاه توسيع مساحة العمل السياسي المدني في تركيا، وهذا أدّى إلى تضييق وتقييد الوصاية العسكرية في وقت مبكَر جدًّا. وفي هذه الفترة وبينما استمرّ الاشتباك بين السياسة والعسكر سرًّا، اتُّخِذت خطوات لإنهاء الممارسات غير الديمقراطية التي اتّبعها العسكر في السابق بطريقة خاضعة للرقابة، فيما اتُّخِذت أيضًا خطوات جديدة لإنهاء الوصاية العسكرية.
مرحلة الصراع النشط وقمّة الصِّراع (2007-2013)
تُعَدّ المرحلة الممتدة من مذكرة 27 أبريل 2007 الإلكترونية وحتى فترة 17-25 ديسمبر 2013 مرحلة الصراع النشط، وكانت السلطة السياسية تعمل على توسيع مجالاتها في مواجهتها مع تهديد البنى الكمالية التي تريد الحفاظ على النفوذ في الجيش، كما كانت تعمل في نفس الوقت على إزالة ظلّ الوصاية العسكرية على المؤسسات السياسية، ومن الممكن القول إنّ ما يقرب من ثلاثة أحداث أساسية تؤثر في هيكل العلاقات المدنية- العسكرية تحقّقت في هذه الفترة، ويمكن إدراجها على النحو الآتي:
- أوّل هذه الأحداث بدأ مع الانتخابات العامة التي عقدت في 22 يوليو 2007، حيث فاز حزب العدالة والتنمية بـ 46.5 في المئة من الأصوات، وهذا أعطاه الحق في إعادة تشكيل الحكومة، وقد قُيِّمت هذه النتيجة على أنّها مكافأة من الناخب لحزب العدالة والتنمية؛ لأنه لم يتراجع أمام تهديد المذكرة الإلكترونية في 27 أبريل، واستخدم الإرادة التي أعطاه لها الناخب في الانتخابات السابقة بشكل صحيح.
وبعد تشكيل الحكومة الجديدة قدّم رئيس الحزب ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وزير الخارجية عبد الله غول مرشحًا للرئاسة عن الحزب بعد انتهاء مدة الرئيس السابق أحمد نجدت سيزار، وكان أحد الأسباب التي دفعت نحو إعلان المذكرة الإلكترونية منعَ حزب العدالة والتنمية من تقديم مرشح للرئاسة؛ أي منع عبدالله غول من الوصول إلى كرسي الرئاسة. ومن أجل منع انتخاب غول رئيسًا تمّ اللجوء إلى قاعدة من قواعد البرلمان، وهي ضرورة وجود 367 نائبًا في البرلمان عند التصويت، لكن حزب العدالة تخطّى هذا المأزق الذي فرضته النخبة الكمالية من خلال أصوات الناخبين، وحصل غول في التصويت الذي تلاه في 28 أغسطس 2007 على 339 صوتًا.[31]
- والحالة الثانية هي فتح قضية ضد حزب العدالة والتنمية الذي حصل تقريبًا على نصف أصوات الناخبين، وكان فتح قضية إغلاق حزب العدالة والتنمية مخططًا من الكماليين في الجيش وامتداداتهم في القضاء لإزالة حزب العدالة والتنمية من الحكم، ووفقًا للبيان النهائي الذي أصدرته المحكمة الدستورية في 30 يوليو/تموز 2008، فقد أُنقِذ حزب العدالة والتنمية من الإغلاق بفارق صوت واحد.[32]
وعند تقييم العملية القضائية قرأ رئيس النيابة العامة عبد الرحمن يالجين كايا التُّهم التي وردت في المذكرة الإلكترونية والمتعلقة بالإضرار بالنظام العلماني بوصفه نصًّا للدعوى.
وطالب يالجين كايا في لائحة الاتهام بإغلاق حزب العدالة والتنمية، كما أشار إلى أن حزب العدالة والتنمية يستخدم التقية، ويهدف إلى إعادة الشريعة والإسلام المعتدل، وبحجة أن الجمهورية تحت خطر كبير قدم يالجين كايا طلبًا للمحكمة بإبعاد الرئيس التركي عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ورئيس البرلمان السابق بولنت أرينج، وقائمة أسماء تضم 71 شخصًا آخرين عن العمل السياسي.[33]
وقد وافق 5 من أصل 11 قاضيًا في المحكمة الدستورية في يوليو 2008 على طلب إغلاق حزب العدالة لكن 6 قضاة صوّتوا ضد إغلاق الحزب، وهكذا نجا الحزب بفارق صوت واحد؛ لأن قرار الإغلاق كان يعتمد على الأغلبية بيد أن المحكمة العليا حكمت بحرمان حزب العدالة والتنمية من 50 في المئة من مساعدات الخزينة في عام 2008، وهذا عرّضه لأضرار مادية.
- أما الحدث الثالث فهو الكشف عن بنية أرغنكون التي أُنشِئت "للإطاحة بالسلطة المنتخبة عن طريق الانقلاب"[34]، ففي 12 يونيو 2007 عُثِر على قنابل يدوية وصواعق ومتفجّرات في منزل في حي عمرانية في إسطنبول، وبدأت عملية أرغنكون، ثم استمر الحدث من خلال قضية عرفت باسم قضية المطرقة. وقد قام تنظيم فتح الله الإرهابي (الذي كان يُعرَف آنذاك بجماعة غولن) من خلال أعضائه الذين تسلّلوا بين أفراد الشرطة وفي الجهاز القضائي- بمحاكمة عدد من الضباط العسكريين المتقاعدين، وكذلك بعض السياسيين، وبعض الأكاديميين، وبعض الصحفيين، وبعض المديرين التنفيذيين للمنظمات غير الحكومية، ولم يكن يُنظَر إلى جماعة غولن في ذلك الوقت بعين الاعتبار.[35] أما في قضية المطرقة فقد حُوكِم جنود شاركوا في ندوة في مقرّ الجيش الأول في إسطنبول في عام 2003، وفُتِحت قضايا تجسس بحق بعض الجنود،[36] وقد أعرب سادات أرغين الكاتب الصحافي في صحيفة (حرييت) عن "أن تحقيق أرغنكون كشف عن عدد من الشبكات التي تستهدف الاستقرار الديمقراطي".[37]
وفي سياق العلاقات المدنية-العسكرية، تضمنت قضية أرغنكون دلائل مهمّة، منها الكشف عن وجود منظمات غير قانونية تعمل في الجيش. والثاني يدل على أن (الفيروس الانقلابي) لا يزال على قيد الحياة. وقد ركّزت قضية أرغنكون على هاتين المشكلتين لفترة من الوقت، ومن وجهة النظر هذه، قامت القضية أيضًا بثلاث وظائف مهمّة، أولها حقيقة أن ذلك قد أجبر الجيش على التركيز على أعماله الأساسية، وإغلاق بابه على السياسة، لتحسين صورته وهيبته، أما ثانيًا، فقد دخل الجيش في عملية محاسبة على أعماله الخاصة، والثالثة -وهي تحدث لأول مرة في تاريخ السياسة التركية- هي إحالة محاولة الانقلاب إلى العدالة.[38] وقد قدمت هذه الفترة برمتها عوامل مهمّة لتقدّم السلطة المدنية في مجال الديمقراطية في العلاقات المدنية العسكرية، ومهدت لمرحلة جديدة.
الإصلاحات في فترة النزاع النشط
وفي هذه الفترة التي بلغت فيها عملية النزاع إلى ذروتها تحقّق العديد من التغييرات من أجل مسح بقايا التاريخ المناهض للديمقراطية، وفي هذه الفترة حدثت إضافات كبيرة لتطبيق المعايير الديمقراطية في العلاقات المدنية-العسكرية، ويمكن إدراجها على النحو الآتي:
- في عام 2010 أُلغِي بروتوكول وُقِّع بين وزارة الداخلية وهيئة الأركان العامة في عام 1997، وكان يجيز التدخل العسكري في المناسبات الاجتماعية بإذن من المحافظ.[39]
- من التغييرات المهمّة التي عملت على تعزيز السياسة المدنية وإنهاء الوصاية العسكرية إلغاء دورات الأمن القومي التي تُدرَّس في المدارس الثانوية من المنهاج الوطني.[40]
- في هذه الفترة، فُتِحت قرارات المجلس العسكري الأعلى أمام المراجعة القضائية، وقد حُذِفت المادة 125 من الدستور، التي كانت تنص على أن "قرارات المجلس العسكري خارج صلاحيات الرقابة القضائية"، وأصبحت كل قرارات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، باستثناء ما يتعلق بالتقاعد خاضعةً للرقابة القضائية.
- وثمة تغيير آخر يتمثّل في تضييق نطاق الولاية القضائية العسكرية، ومن ثَمّ تقرر أن يُحاكَم الجنود في المحاكم المدنية عن الجرائم بما في ذلك تطبيق العقوبات المشددة، إضافة إلى ذلك، مُنِع المدنيون من المثول أمام محاكم عسكرية خارج أوقات الحرب.
- يتعلق التغيير الآخر بالولاية العسكرية. إذ ينص الدستور على إلغاء ولاية إنشاء الأجهزة القضائية العسكرية وتشغيلها وفقًا لمتطلبات الخدمة العسكرية.[41]
- أُلغِيت (المادة 15 المؤقتة) التي حالت دون محاكمة منفّذي انقلاب 12 أيلول/سبتمبر، وهكذا، فُتِح الطريق لمحاكمة انقلابيي 12 سبتمبر.
مرحلة إنشاء التوازن الديمقراطي (2013-2017)
بدأت الفترة الثالثة في العلاقات المدنية العسكرية في عهد حزب العدالة والتنمية، مع محاولة انقلاب 17-25 ديسمبر من قبل تنظيم غولن في عام 2013، وقد واجه حزب العدالة والتنمية محاولتين انقلابيتين إحداهما كانت دامية، ورغم ذلك استطاع حزب العدالة والتنمية في هذه الفترة التي يمكن أن نسمّيها فترة إنشاء التوازن الديمقراطي من تحقيق مشروعية اجتماعية كبيرة، وأيضًا في سياق تكريس السلطة المدنية وفي سياق تنفيذ مبادرات إصلاحية داخل القوات المسلحة. ومع الإصلاحات التي أدخلت سابقًا لمنع تدخل الجيش في السياسة فإن الإصلاحات هذه المرة أشمل، وأخذت بعين الاعتبار أن تكون داخل القوات المسلحة، بحيث تمنع حدوث أي محاولة انقلابية.
وكان الهدف الأساسي لهذه الإصلاحات هو تغيير العقلية الانقلابية التي أصبحت نظامًا بعد انقلاب 27 مايو 1960، والتي كانت تنفّذ انقلابًا ضد السياسة المدنية بمعدل مرّة واحدة كل 10 سنوات، وبدلًا من الحلول الملطّفة التي كانت تستخدم سابقًا استُخدِمت هذه المرة خطوات عملية لإحداث نقلة نوعية من شأنها أن تمنع ظهور مثل هذه الفيروسات داخل القوات المسلحة.
ومن الضروري قراءة هذه الخطوات، وعلى وجه الخصوص التي اتخذت بعد 15 يوليو في هذا الإطار. وخلال هذه الفترة، لم يعلن الجيش عن آرائه في الانتخابات الرئاسية، ولم يشارك في الأعمال التي من شأنها أن تؤثّر في السياسة، وإذا قارنا هذه الفترة مع فترة تأسيس حزب العدالة والتنمية في هذه الحالة، فإننا نرى عودة للجيش إلى مهامّه الأساسية، واعتبار ذلك مؤشرًا على التوجه لتحقيق الاستقرار الديمقراطي، وسوف نرى نطاق هذه الإصلاحات أدناه، ولكن خلال هذه الفترة، وقع حدثان من الأحداث الرئيسة التي تهمّ المجتمع والاقتصاد والسياسة.
أوّلهما ظهور مركز جديد غير شرعي للقوة، حاول قمع السياسة المدنية في 17-25 ديسمبر 2013، وبينما كانت المحاولات السابقة تأتي عادة من الكماليين في الجيش فإنّ محاولة الانقلاب في 17-25 ديسمبر أتت هذه المرة من خلال متسللين إلى جهازَي الشرطة والقضاء، لكن ليس في إطار التسلسل الهرمي للمؤسّستين، بل من خلال تسلسل هرمي أُنشِئ بين القائمين على الانقلاب داخل تنظيم غولن.
وكما ذكرنا فإن الجهة التي وقفت خلف هذا الانقلاب هي جماعة غولن أو تنظيم غولن، وقد انتشر اسم جديد لها بعد هذه المحاولة، وبعد بدء الملاحقة القضائية للانقلابيين، هو (الكيان الموازي) أو ( تنظيم فَتُو الإرهابي)[42]، وعندما نذكر اسم (فَتُو) لاحقًا في هذا المتن فإن ذلك يعني أن المقصود هو تنظيم غولن الإرهابي، وقد تأكّدت صحة هذا الأمر بعد قيام تنظيم غولن بالمحاولة الانقلابية العسكرية في 15 يوليو 2016.
مع ظهور تنظيم غولن (فتو) ممثلًا غير شرعي ضد السياسة المدنية في هذا التاريخ، فُتِحت صفحة جديدة فعلًا في عقلية الانقلاب التي بدأها الكماليون في 27 مايو 1960.
ولأول مرة في تركيا تهاجم جهة أخرى من خارج القوات الكمالية السياسة المدنية، حيث استهدفت جماعة مدنية تُعرّف نفسها بأنّها تعلّم وتدرّب المتطوعين، بوصفها حركة خدمة أو جماعة دينية- الحكومةَ المنتخبة بإرادة وطنية، واتّخذت خطوات في سبيل ذلك، على رأسها إسقاط رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان؛ قاموا بهذه المحاولة من خلال أعضاء التنظيم في الجهاز القضائي وفي المؤسسة الأمنية.
والنقطة التي ينبغي تأكيدها مرة أخرى هي أن الجهة التي تنفّذ محاولة الانقلاب ضد السياسة المدنية هي التي تغيرت، ولكن الهدف لايزال هو نفسه، وقد استطاعت حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان، بالقضاء على المحاولة التي نُفِّذت على أيدي أفراد تنظيم غولن في الشرطة والقضاء، وهذا تسبّب في زيادة شرعية الحكومة في نظر الشعب ونجاحها في الانتخابات التالية.
وقد أدركت حكومة حزب العدالة والتنمية من خلال عملها على توسيع نطاق السياسة المدنية ضد الوصاية العسكرية من أجل تحقيق الديمقراطية في العلاقات المدنية-العسكرية أنّ الانقلاب قد لا يأتي فقط من داخل هياكل الجيش، بل يمكن أن يأتي من طرق أخرى، وهذا ما أشارت إليه محاولة 17-25 ديسمبر، وقد حثّ ذلك حزب العدالة والتنمية على العمل بكثافة لإضفاء الطابع الديمقراطي على الميدان العسكري، وإجراء الإصلاحات أيضًا في مجالات أخرى، مثل القضاء والقوى الأمنية، وعند تقييم عمل حزب العدالة والتنمية في هذا المجال من هذا التاريخ وحتى 15 يوليو نجد أنّ هناك تقدّمًا في خطوات التحول الديمقراطي، ويتبين أن هذه الخطوات توسعت لتشمل أيضًا قطاعات مختلفة من البيروقراطية، وخاصة السلطة القضائية والقوى الأمنية.
أما الحدث الثاني خلال هذه الفترة، فهو قيام تنظيم غولن بتعبئة أعضائه في الجيش يوم 15 يوليو 2016 لتنفيذ المحاولة الانقلابية الأكثر دموية في الحياة السياسية التركية.[43] أوّلًا، لابد أن نقول إن ظهور جيل جديد من التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم غولن من المؤدلجين الحقيقيين، المتسلّلين في هيكل الدولة، والذين هم على استعداد لعمل أي شيء وكل شيء ضروري لتحقيق أهدافهم وأنّه مباح في اعتقادهم- هو أمر لا تقتصر خطورته على تركيا؛ بل هو أمر يهدد العالم بأسره.
مرّ ما يقرب من أربعين عامًا على تسلّل أعضاء التنظيم في بنية الدولة حتى وصلوا إلى مفاصل حساسة فيها، وقد عمل التنظيم في بنيته الداخلية كما تعمل أجهزة الاستخبارات، بينما عمل على تشكيل وجهة نظر الرأي العام من خلال مظهره الخارجي[44] وقد شرع التنظيم الذي يشكّل تهديدًا دوليًّا بمحاولة انقلابية دامية في إسطنبول وأنقرة وعدد من محافظات تركيا في ليلة 15 يوليو 2016.
ومن أهم الدوافع التي حركت التنظيم نحو القيام بمحاولة الانقلاب الدموية هي التخلص من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومحاولة لالتقاط النفس من خلال التخلص من الإجراءات القضائية الجارية لملاحقة التنظيم، التي أدّت إلى التضييق كثيرًا عليهم، وإضافة إلى ذلك يمكن أيضًا القول إن التنظيم أراد العمل على الحيلولة دون فقدان المكتسبات والإنجازات التي حقّقها في مجالات التعليم والصحة والإعلام.
في ليلة 15 تموز 2016 وتحديدًا في تمام الساعة العاشرة مساء تحرّك أعضاء تنظيم غولن من خلال استخدام مقدّرات الجيش، فاقتحموا مقرّ الإذاعة والتلفزيون التابع للدولة في أنقرة في هذه الليلة، ونشروا مجموعة من الدبابات في الشوارع، واحتلّوا عددًا من المباني الحكوميةـ ومنعوا المرور على جسر البوسفور، وأطلقوا الرصاص على المواطنين... كانت هذه الأحداث بمثابة بداية مرحلة جديدة في السياسة التركية، ومع استخدام أعضاء تنظيم غولن لإمكانات الجيش من دبابات، وطائرات وسفن حربية ومروحيات كوبرا... وغيرها من العربات المدرعة- لم يتورع أعضاء التنظيم عن تنفيذ مجازر بحق المواطنين، لكن بالرغم من عمليات القتل قاوم المجتمع التركي المحاولة الانقلابية، وأسفر صباح 16 تموز عن هزيمة المحاولة الانقلابية.
كان هناك أثر لدعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي رفض الاستجابة للانقلاب، ودعا الملايين من المواطنين للخروج إلى الشوارع ومقاومة الانقلاب، وقد شكلت استجابة الشعب لدعوة الرئيس عاملًا فعالًا في منع نجاح المحاولة الانقلابية. وهكذا، ولأول مرة في الحياة السياسية التركية، لم يكن هناك مرور لانقلاب بدأ من داخل الجيش. ونتيجة لهجمات الانقلاب قُتِل 249 شخصًا وجرح 2194 شخصًا. وكان وقوف المواطنين أمام الدبابات بأيديهم العارية لمنع المحاولة الانقلابية من النجاح نقطة تحول في الحياة السياسية والاجتماعية، ويمكن تلخيص هذا التحول في عدد من النقاط فيما يأتي:
- لأول مرة في تركيا يخرج المواطنون لمنع محاولة انقلابية يقوم بها الجيش، وقد أثبت هذا أن المواطنين قالوا إن الأيام التي كان العسكر يلوّحون فيها بأسلحتهم للحكومات المدنية فتسقط هذه الحكومات التي كانت تمثل الإرادة الشعبية- انتهت.
- انتهاء عهد نزول الجنود للشوارع من دون أن يتعرض لهم أحد.
- ألقى الشعب إلى مزابل التاريخ مقولات احتقار الديمقراطية التي كان يردّدها العسكر، من قبيل أن الشعب يصوّت للسياسيين لكنه في الأوقات الحرجة.
- انتقال ميراث إلى الأجيال المقبلة، بأن أصحاب الإرادة الوطنية وإن لم يكن بأيديهم سلاح يمكن أن ينتصروا في مواجهة الأسلحة غير الوطنية. وسيتعين على الجنود الذين سيشاركون في أي محاولة انقلاب تالية أن يأخذوا في الاعتبار هذا التراكم.
- وضع الشعب نقطة أمام السطر الذي فتحه انقلاب 27 مايو 1960 العسكري في حياة تركيا.
ولذلك، فإن حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان استخدم خبرته وتجربته في مواجهة الوصاية العسكرية في الفترة من 27 أبريل 2007 وحتى 17 ديسمبر إلى 25 في عام 2013 أيضًا في مواجهة المحاولة الانقلابية الدموية ليقدّم دورًا رائدًا في التغيير في طبيعة العلاقات المدنية العسكرية، وتركز هذه الحقبة الجديدة على توسيع الديمقراطية بإخراجها من الساحة الضيّقة وإعادة بناء العلاقات المدنية- العسكرية تمامًا كما ينبغي، وینبغي النظر في الخطوات المتّخذة في القوات المسلحة التركية بعد 15 یولیو/تموز 2016 في ھذا الإطار.
الإصلاحات التي أُجرِيت في مرحلة إنشاء التوازن الديمقراطي
سرعان ما تحركت السياسة المدنية، التي تلقّت دعمًا كبيرًا من الإرادة الوطنية، في مواجهة محاولة الانقلاب في 15 يوليو، لاتخاذ خطوات لإضفاء الطابع الديمقراطي على الجيش، وكان من بين الأمور الأولى التي تمّ القيام بها فصل الجنود التابعين لتنظيم غولن من الجيش. وقد حُدِّدت أسماء هؤلاء الجنود، من خلال النظر في الأحكام الصادرة عن القضاء التركي، وكانت الصورة الأولى بعد فصل أعضاء غولن هو أن العسكر بدأوا بالخروج من السياسة.
وفي هذه الفترة التي بدأت منذ عام 2013، أُدخِل بعض التعديلات القانونية من أجل تحقيق المعايير الديمقراطية في العلاقات المدنية والعسكرية. أوّلًا بدأت الإصلاحات في عام 2013 مع قيام حزب العدالة والتنمية بتعديل المادة 35 التي كان الانقلابيون العسكريون يستخدمونها ذريعة لحماية الجمهورية، كما نُفِّذ العديد من الإصلاحات المهمّة في الفترة التي تلت 15 تموز 2016، ويمكن الوقوف على التغييرات الأساسية في تنظيم عمل القوات المسلحة من خلال ما يأتي:
أولًا، عُدِّلت المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة الذي صدر بعد انقلاب 27 مايو، والذي قدّم غطاء شرعيًّا للانقلابات، وتنصّ هذه المادة على أنّ من واجب الجيش "صيانة الجمهورية التركية وحمايتها"، وقد غُيِّرت العبارة إلى أنّ "مهمّة القوات المسلحة هي الدفاع عن الوطن التركي ضد التهديدات والمخاطر القادمة من الخارج، والمحافظة على القوات بشكل يوفر قوّة الردع أمام هذه التهديدات، وتنفيذ المهامّ الخارجية التي يوكلها البرلمان للجيش، والإسهام في تحقيق السلام العالمي"[45]، وبهذا أُلغِيت المادة الدستورية التي كان يستند إليها الانقلابيون لشرعنة الانقلابات.
ثانيًا عُدِّلت المادة 2 من قانون الخدمة العسكرية؛ من عبارة: "إن العسكري مكلّف بتعلّم وتطبيق فنون الحرب من أجل حماية الوطن التركي والاستقلال والجمهورية" إلى عبارة: "العسكري مكلّف بتعلم وتطبيق فنون الحرب"، كما حُذِفت عبارة أخرى تفيد بأن هذا التكليف يعطي الحق في وضع قوانين خاصة، ويركّز هذا التغيير القانوني على أن العمل العسكري لابدّ أن يرتكز على حماية الدولة من الخطر الخارجي فحسب.[46]
أما التغيير الثالث في القانون فقد كان في الفقرة الأولى من المادة 43، حيث كانت الفقرة تقول: "القوات المسلحة التركية خارج وأعلى من أي أفكار سياسية، ولهذا يُمنَع أفراد القوات المسلحة من الانتساب إلى أيّ حزب سياسي، أو من الدخول بصفتهم أعضاء في جمعيات لها علاقة بالنشاط السياسي، وكذلك جميع أنواع التجمعات السياسية، وتُحظَر عليهم الكتابة السياسية". وقد حُذِفت الفقرة السابقة تمامًا وعُدِّلت لتكون في سياق الفقرة الآتية: "لا يمكن لأفراد القوات المسلحة التركية المشاركة في أي أنشطة سياسية".[47]
رابعًا بعد محاولة انقلاب 15 يوليو وفي إطار إعادة هيكلة القوات المسلحة التركية أصبحت قيادة القوات الجوية والبرية والبحرية، تابعة لوزارة الدفاع، وأُغلِقت المدارس العسكرية، ويُعدّ هذا التغيير مؤشّرًا مهمًّا لربط الجيش بالإرادة المدنية.[48]
خامسًا غُيِّرت شروط عملية انتخاب رئيس الأركان العامة بعد 15 تموز، إذ يكون الشخص الذي برتبة لواء أو جنرال (أورجنرال) الذي يقترحه مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية رئيسًا للأركان، وبهذا أصبح من الممكن أن يكون أيّ شخص برتبة لواء أو جنرال رئيسًا للأركان العامة، ووفقًا للوائح ذات الصلة، تغيّر النص من: "يُعيِّن رئيس الجمهورية رئيس الأركان العامة؛ بعد ترشيح مجلس الوزراء لأحد الجنرالات الذين يقودون القوات البرية أو البحرية أو الجوية أوالأميرالات" إلى عبارة: "يعيّن رئيس الجمهورية رئيس الأركان العامة بناء على اقتراح مجلس الوزراء من بين الجنرالات والألوية".[49]
- قد حدث تغيير آخر في هيكل مجلس الشورى العسكري الأعلى، وهذا التغيير مهمّ للسياسة التركية؛ لأن اجتماع وقرارات مجلس الشورى العسكري الأعلى كانت بمثابة المقام أو السلطة العليا التي تصدّق على نظام الوصاية العسكري على السياسة، وقد عُدِّل قانون إنشاء وواجبات المجلس العسكري الأعلى، الذي أُنشِئ للعمل في أوقات السلم، كما أعيد تنظيم هيكل مجلس الشورى العسكري الأعلى.
وأصبح أعضاء مجلس الشورى العسكري الأعلى هم: رئيس مجلس الوزراء، ورئيس الأركان، ونوّاب رئيس الوزراء، ووزير العدل، ووزير الخارجية، ووزير الداخلية، ووزير الدفاع، وقادة القوات[50]، وبذلك تنتهي الحقبة التي كان أعضاء مجلس الشورى العسكري الأعلى هم قادة القوات وقائد الدرك العام وقائد البحرية والجنرالات. إضافة إلى ذلك، نُقِلت تبعية الأمانة العامة له من هيئة الأركان العامة إلى وزارة الدفاع الوطني.[51]
ومن الأمور المهمة الأخرى التي طُبِّقت بعد 15 يوليو هو إنشاء جامعة الدفاع الوطني. هذه الجامعة، التي ستتكون من معاهد منشأة حديثًا لتعليم علوم الحرب البرية والبحرية والجوية، ومعاهد لتأهيل ضباط الأركان، وللدراسات العليا في المجالات المذكورة، وقد تقرّر أن يختار رئيسُ الجمهورية رئيسَ الجامعة من بين ثلاثة مرشحين يرشحهم وزير الدفاع، ويوافق عليهم رئيس الوزراء،[52] كما تقرّر أن تعيّن وزارة الدفاع مساعدي رئيس الجامعة، وقد تقرّر أن تقوم وزارة الدفاع الوطني بالعديد من الوظائف والعمليات، بما في ذلك قبول الطلاب في هذه الكليات.[53]
أُسِّست جامعة الدفاع الوطني، وضُمِّنت كليات الحرب، والكليات المهنية، كما قُرِّر إغلاق أكاديميات الحرب والمدارس الثانوية العسكرية ومدارس التأهيل العسكرية.[54] وثمة تغيير آخر هو إزالة القيود المفروضة على المدارس العسكرية، حيث كان النظام السابق يمنع دخول خريجي مدارس الأئمة والخطباء إلى الكليات العسكرية، ومع إجراء التعديل أصبح بمقدور جميع خريجي المدارس الثانوية وما يعادلها دخول هذه المدارس. إضافة إلى ذلك، أُلغِي التمييز ضد النساء اللواتي يرتدين الحجاب، وأصبح مسموحًا وفق ترتيبات داخل القوات المسلحة ارتداء الزِّي بشكل مناسب وفق المعتقدات الدينية.
وفي المجال الصحي نُقِلت تبعية عدد من المؤسسات الصحية إلى وزارة الصحة، ومن هذه المؤسسات: المستشفيات التدريبية التي تعمل في إطار الأكاديمية الطبية العسكرية، ومركز القوات المسلحة التركية لإعادة التأهيل والرعاية، والمستشفيات العسكرية، والمستوصفات، ووحدات الرعاية الصحية المماثلة، والمؤسسات الصحية التابعة للقيادة العامة للدرك، وهكذا، فإن هذه المؤسسات قد أصبحت ذات طابع مدني.[55]
وفي سياق ما سبق أصبح الطريق أمام وزارة الدفاع التي يمكن القول إنها كانت بمثابة وسيط بين المدنيين والعسكر في عهد حزب العدالة والتنمية- مفتوحًا نحو التوجه للمدنية في تشكيلاتها بطريقة صحيحة، ولهذا الغرض قُرِّر أن يوافق وزير الدفاع على الأفراد الذين سيُعيَّنون في القوات المسلحة التركية، وأن يتابع وزراء الدفاع الوطني التعيينات.[56]
وكذلك الحال رُبِطت قيادة القوات الجوية والبرية والقوات البحرية بوزير الدفاع، وذلك وفقًا للقانون رقم 1325 الصادر في عهد حزب العدالة والتنمية حول وظيفة وبنية وزارة الدفاع، وهناك تعديل آخر أعطى أثرًا مهمًّا للسياسة المدنية، وهو أنّه يجوز للرئيس أو لرئيس الوزراء الحصول على معلومات مباشرة أو إعطاء أوامر مباشرة لقادة القوات إذا عُدّ ذلك ضروريًّا.[57]
كما تغيّرت سلطة تعيين الضباط وضباط الصفّ، إذ قُرِّر أن تتمّ هذه المهامّ بناء على اقتراح قيادة القوات وبموافقة وزير الدفاع، وهذا الأمر يعطينا دلالات واضحة عن الحالة التي وصلت إليها العلاقة المدنية العسكرية، وتحديدًا بعد 15 تموز 2016.
وبعد محاولة الانقلاب في 15 يوليو، رُبِطت المؤسسات التي تعمل على حماية الأمن الداخلي بوزارة الداخلية، ورُبِطت القوات العسكرية بوزارة الدفاع، وبعد أن تركت القوات العسكرية مهمّة حماية الأمن الداخلي أُنِيط بها تعزيز عمل القوات المتصلة بوزارة الداخلية للحفاظ على الأمن، ونتيجة لهذا التغيير قُضِي على كثير من التعارضات بين مؤسسات الدولة، ولاسيما في مجال مكافحة الإرهاب.
ومن بين القرارات المهمّة التي اتُّخِذت بعد محاولة الانقلاب في 15 تموز/يوليو قرار نقل المناطق العسكرية والمنشآت العسكرية المحظورة إلى خارج المدينة، ومع هذا التغيير الذي بدأ لأول مرة نُقِلت الحاميات والمعسكرات، وبدأت القوات بالخروج من مدينتي إسطنبول وأنقرة.
إضافة إلى ذلك، فإن الاستفتاء الذي أُجرِي في 16 أبريل 2017 حمل معه تغييرات في نظام إدارة المجتمع في تركيا، حيث سيجري التحوّل إلى النظام الرئاسي للحكومة، وكان من التطبيقات الأولى لهذا النظام الجديد بعد الاستفتاء إلغاء المحكمة العسكرية العليا، والمحكمة الإدارية العسكرية العليا، والمحاكم العسكرية.
خاتمة
درسنا فترة حكومة حزب العدالة والتنمية التي بدأت في 3 نوفمبر 2002 واستمرت 15 عامًا، ولاتزال مستمرة، حيث قسّمنا في هذه الدراسة الفترة إلى 3 مراحل، وفي هذا السياق، كان تعريفنا للفترة ما بين 2002-2007، بأنها مرحلة الصراع السلبي، وكانت الفترة بين 2007-2013 هي مرحلة النزاع النشط، أما الفترة ما بين 2013 -2017 فهي مرحلة إنشاء التوازن الديمقراطي والاستقرار الديمقراطي.
وكان أهمّ سمة أساسية في المراحل الثلاث هو عدم تراجع حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان بأيّ شكل من الأشكال عن نهجه المتمثل في إضفاء الطابع الديمقراطي على الجيش.
وبينما كانت الديناميات الداخلية لكل مرحلة مختلفة، فقد كانت الدينامية الرئيسة التي حدّدت نهج حزب العدالة والتنمية هي المضي في اتجاه الديمقراطية، وكان حزب العدالة والتنمية مستعدًّا لاستخدام القوة الشرعية للحكم الذي أعطاه إياه الشعب حتى النهاية ولذلك فقد جرت عدة محاولات للهيمنة على حزب العدالة والتنمية من قبل المجلس العسكري وكان هدفًا لأجهزة الدولة الأخرى التي كانت تمثل امتدادًا للعسكر .
في هذه المرحلة، وخاصة بعد 15 يوليو أصبح الجيش تحت ضغط السياسة والمجتمع المدني، بعيدًا عن هندسة سياسة البلاد، وعاد إلى المهمّة الأساسية وهي التموقع للدفاع ضد الأعداء الخارجيين.
لذلك عند مناقشة قضية العلاقات المدنية-العسكرية في تركيا فإن الفصل بين الحديث عن العلاقة قبل حزب العدالة والتنمية وبعد حزب العدالة والتنمية بعد النموذج هو نهج صحيح؛ لأن مناخ الفترة التي بدأ حزب العدالة والتنمية فيها حكم البلاد كانت السياسة خاضعة تمامًا للبيروقراطية العسكرية، وكان يُذكَر بعد انقلاب 28 فبراير عام 1997 أنّ هذا الوضع سيستمرّ ألف عام.
ومن خلال سياسته ومقاربته للعلاقات المدنية-العسكرية لم يتراجع حزب العدالة والتنمية خطوة إلى الوراء رغم الضغط العسكري الكمالي والضغط الأيديولوجي المتطرف، حيث تمسّك الحزب بالإرادة الوطنية التي حصل عليها من الشعب، ولم يكن لهذا أثر في التحولات السياسية في واقع البلد فحسب، بل نجح الحزب في تحقيق انجازات ستظل باقية للمستقبل.
ورغم تعّرضه لانقلاب دموي لم يتراجع حزب العدالة بقيادة أردوغان عن جهوده في إبعاد العسكر عن الحياة المدنية. ونتيجة لترتيبات مختلفة نحو تقوية الديمقراطية أصبح وضع الجيش أقوى في مواجهة التحديات الخارجية، كما أن تركيا حققت نجاحًا في كفاحها لفيروس العقلية الانقلابية داخل أوساط الجيش.
وقد لوحظ مباشرة أن قدرة الجيش على الردع تحسنت سواء في مواجهته إرهابيي حزب العمال الكردستاني، أم في عملية درع الفرات في سوريا، التي استطاع فيها الجيش طرد تنظيم داعش من مناطق، مثل جرابلس، وإعزاز والباب، كما لوحظ تطور كبير في مجال التصنيع العسكري، وهذا كما ذكرنا كان له دور كبير في زيادة الردع العسكري.
ومما لا شكّ فيه أن الجيش يتبوَّأ في الثقافة السياسية والاجتماعية في تركيا مكانة مهمّة ومتميزة، وهذا ينبع من الديناميات التاريخية فضلًا عن أسس جيوسياسية نابعة من الجغرافيا. ولذلك، فإن حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان كان من جهة يهتمّ بالجيش ويدعمه وقد استثمر في هذا الاتجاه، ومن جهة أخرى كان لا يكف عن مواصلة الإصلاحات وتوطيد العملية؛ لعلاج الجيش من فيروس العقلية الانقلابية الذي أصابه منذ انقلاب 27 مايو، ومن الواضح أن الإصلاحات التي تحقّقت حتى هذه النقطة عزّزت الجيش، وبالتأكيد عندما يغادر الجيش السياسة والهندسة الاجتماعية للتركيز بشكل كامل على مهمّة حماية البلاد ضد الأعداء الخارجيين- فإن أداءه سوف يتحسن بشكل كبير.
وفي مواجهة الانقلاب الدموي بدون أي انحناء حافظ أردوغان وحزب العدالة والتنمية على وجود الحزب مستندينِ على الإرادة الوطنية، كما أن إخضاع الجيش للإصلاحات نقل الحزب الى موقع ودرجة أقوى.
كان الهدف جعل الانقلابات التاريخية في الذاكرة الجمعية جزءًا من الماضي؛ بل جزءًا مؤلمًا من أحداث الماضي، لكنّ الاستئصال الجذري للعقلية الانقلابية التي غُذِّيت منذ انقلاب 27 مايو وبعد ذلك لسنوات عديدة-سيستغرق وقتًا؛ لهذا لابدّ لحكومة حزب العدالة والتنمية في ظلّ مواصلتها للإصلاحات أن تكون مستعدة لمواجهة فيروس الانقلابات، ولابدّ أن يتمّ العمل لجعل مرحلة توطيد التوازن الديمقراطي عملية دائمة.
الهوامش والمراجع:
[1] تقرير لجنة تقصّي الحقائق الصادر عن البرلمان التركي بخصوص المحاولة الانقلابية في 15 تموز 2016، البرلمان التركي، 2017.[1]
[2] بيجوم براق، علاقات الجيش والسياسة من العهد العثماني إلى أيامنا، الدراسات التاريخية، المجلد3، العدد1، 2011، ص46.
[3] وثيقة الادّعاء في محكمة الجزاءات رقم 17 في أنقرة، يوجد عدة تشابهات بين انقلابي 27 مايو 1960 وانقلاب 15 تموز 2016، منها أن جنرالاتٍ من نفس الدرجة هم من قاموا بالانقلاب، كما أن ساعة بدء الانقلاب في الظروف العادية للطرفين كانت متقاربة حول الساعة 3 وفق المخطط، وقد استخدم الطرفان عبارة "سلام في الداخل" التي استخدمها أتاتورك كما أن عدد المجلس الانقلابي في الحالتين تكوّن من 38 شخصًا، يضاف للتشابهات أن الانقلابيين في الحالتين تحركوا خارج نظام التسلسل العسكري، وقد أُفِيد أن أحد الضباط الانقلابيين في 2016 وهو متين غوموش قام بقراءة كتاب ألفه أحد المشاركين في انقلاب 1960 أكثر من مرة في مكتبة رئاسة الأركان، كما أن الطرفين قاما في الحالتين بعرض فكرة الانقلاب على رئيسي الأركان خلوصي أكار في 2016 ورشدي أردلهان في 1960 وهناك الكثير من التشابهات بين الحالتين، وللمزيد يمكن الاطلاع على الرابط الآتي: (“Darbeciler 27 Mayıs darbesini örnek almış”, Anadolu Ajansı, (9 Mart 2017), http://aa.com.tr/tr/darbe-girisimi-cati-davasi/darbeciler-27-mayis-darbesini-ornek-almis/767271,.
[4] محمد علي بيرناد، آخر انقلاب 28 شباط، إسطنبول، دوغان، 2012، ص190-204.
[5] رمضان أكير، من 17-25 ديسمبر إلى 15 تموز، منشورات آز، 2016.
[6] سردار شان، القوات المسلحة والمدنية، كتاب نقطة، 2005، ص29.
[7] ماكس فيبر، كتابات سوسيولوجية، وقْف حرييت، 1993، ص207.
[8] يالتشن أكدوغان، الديمقراطية المحافظة، منشورات ألفا، 2004.
[9] حميد إمراح بريش، الجيش والسياسة، منشورات اللوتس، أنقرة، 2008، ص415.
[10] البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، أنقرة، 2002. ص13.
[11] طانيل ديميريل، العسكر والسياسة، أنقرة، ستا، 2010، ص7.
[12] هالي وأوزبودون، الليبيرالية والديمقراطية والإسلاموية في تركيا، دوغان، 2010، ص141.
[13] هاكان يافوز، الإسلاميون الحداثيون، دار نشر الكتب، (إسطنبول: كيتاب ياينيفي، 2008)، ص335
[14] غاريث جنكينز، "الرموز والظل: علاقات الجيش وحزب العدالة- 2002-2004"، حزب العدالة والتنمية: التغيير الاجتماعي، المحرر: هاكان يافوز، (إسطنبول: كتاب للنشر، 2010)، ص235.
[15] المرجع السابق.
[16] كمال كاربات، إليتلر ودين، (إسطنبول: تيماس، إسطنبول، 2010)، ص290-291.
[17] حزب العدالة والتنمية وإرساء الديمقراطية، (2002)، ص14.
[18] المرجع السابق
[19] المرجع السابق
[20] المرجع السابق
[21] تجمعات الجمهورية هي تجمعات أُجرِيت مع انتهاء مدة الرئيس أحمد نجدت سيزار في المدن الكبرى اعتراضًا على احتمال قدوم رئيس إسلامي.
[22] " آخر الكلمات في الأكاديمية الحربية، https://www.tccb.gov.tr/konusmalari-ahmet-necdet-sezer/1721/7814/harp-akademileri-konferansinda-yaptiklari-konusma.html
[23] حديث دينيز بايكال، 10 يناير 2007.
[24] مقتل ألب أرسلان أرسلان في المحكمة بتاريخ 17 مايو 2006 بهجوم مسلح، إضافة إلى مقتل مصطفى أوزبيلغين وإصابة آخرين.
[25] مجلة نيوزويك، احتمال حدوث انقلاب في تركيا بنسبة 50%
http://arsiv.sabah.com.tr/2006/11/26/gnd95.html
[26] تصريح شديد اللهجة من رئاسة الأركان، صحيفة صباح، 29 نيسان 2007.
[27] قنجار أوزجان، مجلس الأمن القومي، دليل تركيا 2005، تساف، 2006.
[28] المرجع السابق
[29] أحمد يلدز، الرقابة على الأمن في البرلمان، دليل تركيا 2005، تساف 2006.
[30] اتُّخِذت عدة إجراءات لمنع حزب العدالة من تقديم مرشّح للرئاسة بدلًا من الرئيس أحمد سيزار المنتهية ولايته، ومن هذه الإجراءات النزول إلى الشوارع ومذكرة 27 نيسان الإلكترونية واللجوء إلى الأغلبية في البرلمان
[31] فريدة بلانجار وإسراء إلماس، التدخل العسكري في السياسة، تساف، 2008، ص185.
[32] النص الكامل لطلب إغلاق حزب العدالة والتنمية
http://bianet.org/bianet/siyaset/105636-akp-ye-kapatma-iddianamesinin-tam-metni
[33] يوسف أوزكير، من 27 مايو إلى 27 نيسان، مجلة الأخلاق، 2011، 4/8، ص91-114.
[34] مرجع سابق، وللاطلاع أيضًا http://aa.com.tr/tr/15-temmuz-darbe-girisimi/17-25-araliktan-15-temmuza-feto-/861258
[35] هل كانت قضية المطرقة انقلابًا، 25 ديسمبر 2017
http://www.aljazeera.com.tr/al-jazeera-ozel/balyoz-darbe-mi-kumpas-mi-1
[36] سيدات إرغين، نضال حزب العدالة من أجل الديمقراطية، 2002-2010، مجلة مركز الدراسات السياسية، نيسان 2013، 26-37
[37] فريدة بلانجار، مرجع سابق
[38] نهوض أماسيا، 11 نوفمبر 2017http://bianet.org/bianet/bianet/119863-emasya-yururlukten-kalkti
[39] يوسف ألأباردا، الإصلاح في الجيش خارطة طريق، سيتا، 2016
[40] الصحيفة الرسمية، قرار المحكمة الدستورية، 8 يناير 2010.
http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2010/01/20100108-17.htm
[41] في 17-25 كانون الأول / ديسمبر 2013، وقعت محاولة لاستهداف الحكومة بالتعاون بين أعضاء الهيئة القضائية والشرطة التابعة لمكتب التحقيقات. وقد قاومت حكومة حزب العدالة والتنمية العمليات التي نُفِّذت بحجة التحقيق في الفساد، وبدأت الحكومة تحقيقًا حول 17-25 ديسمبر. وتبيّن أن منظمة فتح الله غولن الإرهابية (فتو) أو منظمة الدولة الموازية في مجتمع غولن هي من قامت بهذه العملية، موقع صحيفة جمهوريت،
[42] توجد مجموعة من الكتب التي تقيّم موضوع وجود تنظيم غولن في الجيش، مثل كتاب أحمد زكي أوتشوك، وكتاب تشتين أجار، وكتاب يافوز سليم دميراغ ومصطفى أونسال
[43] برهان الدين ضوران، تنظيم غولن كتهديد دولي، صباح، 25 نوفمبر 2017.
https://www.sabah.com.tr/yazarlar/duran/2017/11/25/uluslararasi-bir-tehdit-olarak-feto
[44] تغيير المادة 35 للقوات المسلحة، 11 نوفمبر 2017، http://www.hurriyet.com.tr/tsk-35-madde-degistirildi-23718265
[45] لا توجد انقلابات بعد الآن، 31 ديسمبر 2017،http://www.aksam.com.tr/siyaset/darbeye-artik-dayanak-yok/haber-220078
[46] المرجع السابق
[47] ربط قيادة القوات بوزارة الدفاع، 30 ديسمبر 2017، http://www.bbc.com/turkce/36935575
[48] سيتم تعيين رئيس الأركان من قبل الرئيس، 29 ديسمبر 2017،
http://aa.com.tr/tr/turkiye/genelkurmay-baskani-cumhurbaskani-tarafindan-atanacak/630117
[49] قانون حول مجلس الشورى العسكري الأعلى
http://www.mevzuat.gov.tr/MevzuatMetin/1.5.1612.pdf
[50] تغيير في هيكلية القوات المسلحة ووزارة الدفاع
https://www.haberler.com/tsk-da-ve-milli-savunma-bakanligi-nda-yapilan-8664459-haberi/
[51] الصحيفة الرسمية، تغيير بعض القوانين في إطار حالة الطوارئ، وبخاصة فيما يتعلق بإنشاء جامعة الدفاع الوطني،
http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2016/11/20161124-3..htm
[52] المرجع السابق
[53] المرجع السابق
[54] المرجع السابق
[55] المرجع السابق
[56] الصحيفة الرسمية، . http://www.resmigazete.gov.tr/eskiler/2016/11/20161124-3..htm
[57] قانون حول مهام وزارة الدفاع، 15 نوفمبر 2017، http://www.mevzuat.gov.tr/MevzuatMetin/1.5.1325.pdf