رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

الإسلام المعياري والإمكان التاريخي قراءة تحليلية نقدية للأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية

تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية نقدية لكتاب الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية للمفكر محمد بن المختار الشنقيطي، الذي ينخرط في مشروع نظري طموح، غرضه إعادة قراءة المدونة التراثية الإسلامية قراءة جديدة، بما يعتقد أنه سيفيد شعوب الأمة الإسلامية في مختلف معاركها الراهنة: الفكرية والسياسية والأخلاقية، أو كما جاء بتعبير المؤلف "معركتها الحضارية"، حيث يتبنى نفَسًا تجديديًّا، مع مواقف تجاه قضايا التغيير في المنطقة، ويحاول الباحث تناول المؤلفات السابقة للشنقيطي، في سياق البحث ضمن الإطار النظري لهذه الدراسة.

الإسلام المعياري والإمكان التاريخي قراءة تحليلية نقدية للأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية

لعل من المفيد، بالنسبة لنا، التوقف عند كتابين سابقين لمؤلفنا، وإلقاء نظرة سريعة على إشكاليتهما المركزية تمكننا من "موضعة" الكتاب الذي نحن بصدده، ضمن الإطار النظري العام الذي يشتغل فيه مؤلفه.

لنبدأ بأطروحة الشنقيطي لنيل درجة الدكتوراه في تاريخ الأديان المقارن من جامعة تكساس تك الأمريكية، التي ترجمها بنفسه، من الإنكليزية إلى العربية، في كتابه الموسوم بـ"أثر الحروب الصليبية على العلاقات السُّنية الشيعية"؛ الذي هو تأملات في صفحات من الصراع الطائفي، بين "السنة" و"الشيعة"، بوصفه عرضًا من أعراض الأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية، الذي مزق المسلمين شر تمزيق، ولا يدخر المؤلف أيّ جهد نظري في العمل على إخراج الأمة الإسلامية من "الجهالة الطائفية" و"الهمجية السياسية" التي ورثتهما بسبب هذا الصراع؛ حيث اقترح ما يعتقد أنه الدواء الشافي والكافي للطائفية، وهو "العدل والحرية للجميع، دون ازدواجية ولا مثنوية".

أما الكتاب الثاني فيحمل عنوان "الخلافات السياسية بين الصحابة –رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ"، ويعالج فيه الكاتب المظهر الأول لما يعتقد أنه يمثّل جوهر أزمة الحضارة الإسلامية، وهو "الأزمة الدستورية"، التي تمثلت في الاستقطابات الحادة التي وقعت بين الصحابة بعد التحاق النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى، سواء خلال النقاشات الساخنة التي عرفتها ليلة "السقيفة"، أو الاقتتالات الدامية في معركة "الجَمَل"، أو خلال حرب "صِفّين" التي أسفرت نتائجها عن جراح عميقة، لا يزال العالم الإسلامي يعاني ما نتج عنها من ويلات الفرقة والتشتت والطائفية التي ازدادت استفحالًا خلال أيامنا هذه.

تُحَرِّك فكرَ الشنقيطي قضيةٌ مركزية، هي البحث عن مخرج للأمة الإسلامية من أزمتها الحضارية الخانقة؛ من خلال العمل على وضع حدّ للجوهر الدستوري لهذه الأزمة، انطلاقًا ممّا "تضمنه القرآن والسُّنة من مبادئ هادية في بناء السلطة وأدائها .. [و] ما توفره التجربة الإنسانية المعاصرة من عبرة مفيدة في هذا المضمار".

وإذا كان المؤلف قد تناول أبرز مظاهر هذه الأزمة في منشوراته السابقة، وفي مقدمتها الكتابان المشار إليهما آنفًا، فإنه يخصص قولًا مفصّلًا لها في الكتاب الذي بين أيدينا، مظهرًا قدرة هائلة على البحث والتنقيب، والوصف والتحليل والتقويم، قليلًا ما نجد نظيرًا لها في كتابات "الإسلاميين" المعاصرين، وبخاصة المتعلقة منها بتقويم الموروث التاريخي أو استيعاب الكسب الحضاري الغربي.

وحقًّا إن كتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية" سِفر شائق في عدد من المدونات الثقافية الإنسانية حول الحكم والسياسة؛ متنوعة المشارب والتخصصات، والأزمنة والعصور؛ مقالية أو شعرية أو نثرية، فقهية أو تاريخية أو فلسفية...إلخ. وهذا يدلّ على ثقافة موسوعية يتمتع بها مؤلّفه لا تخطئها عين قارئ الكتاب.

يمكن قراءة هذا الكتاب من مداخل متعددة، لكننا نختار من بينها الانطلاق من اقتباسين اثنين، وضعهما الكاتب على رأس كل من مقدمة الكتاب ومدخله، نظرًا لما سيقدمانه لنا من مفاتيح لفهم أطروحة الشنقيطي ورهاناتها التي لا يتردد في الكشف عنها؛ بدءًا من الصفحات الأولى، كما يتعمّد التذكير بها في مختلف مباحث الكتاب المفصلية.

في مقدمة الكتاب لفت نظرنا اقتباس أخذه المؤلف من كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي، وهو "فما أنا إلا فاتح باب صغير من أبواب الاستبداد، عسى الزمان يوسعه". كما أثار فضولنا اقتباس تم وضعه على رأس المدخل، استمدّه من قول لمحمد إقبال من رسالة إلى نيكسون، جاء فيه: "ما من شكّ أن المسلمين نجحوا في بناء إمبراطورية عظيمة. لكنهم –وهم يفعلون ذلك- أدخلوا الروح الوثنية إلى قيمهم السياسية، وأضاعوا بعض الإمكانات العظيمة الكامنة في دينهم". 

لا نحتاج إلى كثير عناء كي ندرك أن قضية الكتاب المركزية قضية سياسية، هدفها الدخول في صراع فكري وأخلاقي مع قيم الاستبداد السياسي، ومحاولة جادة لتحرير الأمة الإسلامية من مختلف الأصنام السياسية المستعبدة لها، وتحديدًا القائمة اليوم منها في مختلف أقطار العالم الإسلامي.


نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...