يتزامن صدور العدد الجديد من مجلة (رؤية تركية) مع حدَثين مهمّين عكسا حجم التحولات التي شهدتها الدولة التركية على مدار العقود الأخيرة ولاتزال تشهدها: أوّلهما مرور خمسة عشر عامًا على قيادة حزب العدالة والتنمية قاطرةَ المشهد السياسي والمجتمعي، ولاتزال تمضي في طريقها نحو أهدافها التي رسمتها منذ انطلاقتها، وعايشت خلالها قياداته منعطفات ومنعرجات كثيرة، وسلكت طرقًا وعرة حتّى وصلت إلى ما أصبحت عليه «تركيا الجديدة» اليوم، ولاشكّ أنّه تخلّلت هذه الفترة مواقف تسعى القيادة السياسية في الوقت الحالي إلى قراءتها مجدّدًا، وثانيهما هو العملية العسكرية الأبرز في تاريخ تركيا الحديث، المتمثّلة في مواجهة ميليشيات ـ PKK الإرهابية، وامتداداتها في منطقة PYDفي الجانب السوري، وتحديدًا في مدينة عفرين. وإنّ هذه العملية التي أُطلِق عليها اسم «غصن الزيتون» مثلّت معركة الشعب التركي بأكمله، لا القيادة السياسية والعسكرية فقط، وقد برز حجم الاصطفاف الشعبي مع السلطة والنظام في البلاد، وبخاصة بعد تقديم شهداء ومصابين في هذه العملية المهمّة .
إجمالًا يضمّ هذا العدد الجديد من (رؤية تركية) طائفة من الدراسات والبحوث التي تكشف لنا تفصيلات الأعوام الخمسة عشر من عمر القيادة السياسية الحالية، بتنويعات مختلفة: سياسية ومجتمعية واقتصادية، وثقافية أيضًا، إضافة إلى تسليط الضوء على المعركة المهمّة التي تقودها تركيا في مواجهة الميليشيات الإرهابية في عفرين .
كانت باكورة المقالات والبحوث لمحيي الدين أتامان، وعنوانها: «إعادة هيكلة السياسة الخارجية التركية خلال حكم حزب العدالة والتنمية»، يقدّم خلالها الأكاديمي التركي البعدَ الحداثي وملمح التغيير الذي أحدثه حزب العدالة والتنمية في السياسة الخارجية، بإعادة هيكلتها بالشكل الذي يتواءم مع مرحلة جديدة، لاتُقَاد فيها تركيا بل تقود، ولا تكون فيها تابعة بل تُتَّبَع، وهي النقطة المهمّة والركيزة الأساسية التي انطلق منها مشروع السياسة الخارجية في عهد العدالة والتنمية، فضلًا عن قاعدة التكامل والتوافق، التي هي الركيزة الأساسية لكسب الثقة والاحترام المتبادل بين الدول والشعوب.
لم يُغفِل أتامان السياقات والأبعاد المهمّة المحيطة التي أخصبت تلك التحركات، منها مثلًا القيادة السياسية: ماهيتها، وآلياتها، والهوية التي حددتها الدولة، والأثر المتزايد للفاعلين الدوليين العابرين للحدود.
ومن الإشكالات العميقة والمهمّة التي أصبحت مثار نقاش خلال الأعوام السابقة ليس داخل تركيا فحسب، بل امتدت آثارها لتشمل مساحات أخرى من العالم- العلاقات المدنية العسكرية، التي يُعَدّ حزب العدالة والتنمية ذا خبرة في التعامل معها، ورائدًا في هذا المجال، من خلال ما أبداه في سنوات قيادته من التعامل الحذر والحازم معًا، عبر تحييد المؤسسة العسكرية، بحيث تعود إلى دورها الحقيقي المنوط بها، لا من خلال (عسكرتارية) تطيح بالحكم المدني، كما حدث في تركيا خلال عقود مضت، وهذا خلاصة البحث الذي كتبه الكاتبان يوسف أوزكير ورمضان أكير بعنوان: «العلاقات المدنية العسكرية في عهد حزب العدالة والتنمية».
كان التحوّل الديمقراطي حلمًا لتركيا، وقد تحقّق هذا الحلم في فترة حزب العدالة والتنمية، لكن بعد عقود من الكفاح والنضال السياسي من المؤسِّسين الأوائل، أمثال تورغوت أوزال وعدنان مندريس ونجم الدين أربكان وغيرهم، ولا يمكن القول إنه جاء بشكل فجائي أو عفوي، إذ لولا تضحية هؤلاء ما كان سيتحقّق هذا التحول القائم، الذي أثمر على يد العدالة والتنمية بعد أن وضع بذوره قادة سياسيون أحبّوا تركيا، وسعَوا نحو تدشين مشهد مغاير يخرج من سيطرة (العسكرتارية) القديمة.
يرصد الكاتب وَداد بيلغن في بحثه: «حزب العدالة والتنمية في فترة التحول الديمقراطي» أهمّ المحطات السياسية التي شهدت التحوّل الديمقراطي في الدولة التركية، الذي قاد قاطرتَه حزبُ العدالة والتنمية من خلال ثلاثة مرتكزات رئيسة تنطلق من فكّ الارتباط والهيمنة المباشرة على الدولة من قبل المثقفين والبيروقراطيين، ثم العسكريين؛ لتعزيز مفهوم الشرعية التي تستند إلى إرادة الشعب، إذ إن الشعب هو المفتاح الرئيس لعملية التحول الديمقراطي.
إنّ عملية التحول الديمقراطي تحتاج إلى أُطر تعزّز من قدرة الفرد/الشعب، على أن يكون له دور فعّال ومؤثّر في ديناميكية هذا التحول، ولإمكانية إطلاق وصف (التحوّل الديمقراطي) لابدّ من توافر أدوات وآليات النمو والتوظيف والقدرة التنافسية، التي تجعل من الشعب صانعًا ومصنعًا وشريكًا في التحول السياسي والاجتماعي، والتي تُلقي بظلالها على الإنتاجية، ثمّ تقاسم الأدوار، وعدم احتكار السلطة من قبل الموالين لها من النخب في هذه الدوائر المهمّة، وهو الهدف الأساسي الذي سعى إليه حزب العدالة والتنمية حين وصل إلى السلطة في عام 2001م، من خلال تقييم مدروس لمَواطن الخلل السابقة في تصورات البنى السياسية والمجتمعية، ثم معالجتها والسعي لتحقيق نمو وتطور إلى حدّ الرفاهية، بات يلمسها الخارج قبل الداخل، وهذا ما يعرضه بتفصيل دقيق وبالإحصاءات والخطط الباحث أكرم أردم في دراسته: «سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية في النمو والتوظيف والقدرة التنافسية».
ومن التحوّل الديمقراطي وتحولاته، وميدان الإنتاجية والتوظيف والقدرة التنافسية- إلى مجال التعليم الذي يشهد للحزب أنه جعله أحد أدوات القوة الناعمة للدولة التركية، من خلال فتح المجال العام لجعل التعليم في الداخل التركي في مصاف الغربي منه، بل وقد يتقدّم عليه بخطوات.
وإنّ الجامعات التركية أصبحت محطّ أنظار الغربيين والشرقيين، يفد إليها الطلاب من دول العالم أجمع بلا استثناء للانتساب إليها والتعلّم فيها، وهذا لم يكن بهذا المستوى في عقود مضت، وهو ما يحاول الباحث يوسف تكين أن يُسلّط عليه الضوء في مقالته: «سنوات حزب العدالة والتنمية الخمس عشرة في سياق التحوّل في ميدان التعليم»، من خلال رصد وتحليل القفزات النوعية التي قام بها الحزب خلال عقد ونصف بتنويعاته المختلفة، من التعليم الأساسي إلى التكميلي والجامعي، ثم في مجالات الدراسات العليا وغيرها.
أمّا مجال النشر فيُعَدّ من المجالات المهمّة التي تعكس حجم حضارية المشهد الثقافي والمعرفي في أي بلد، وقد كانت تركيا في مرحلة من مراحل تاريخها القديم أحد أهم المنابر الثقافية التي يحظى مجال النشر فيها بمساحات من الاهتمام والتمايز عن غيرها، وقد أعادت القيادة الفكرية والمعرفية من النخب الأكاديمية داخل حزب العدالة والتنمية النظر في هذا المجال الخصب والمهمّ خاصة .
لذا عكف الباحث محمد عاكف ممّي على دراسة هذا المجال خلال الأعوام الخمسة عشر لحزب العدالة والتنمية في السلطة، برصد وتحليل المستجدات التي حصلت في هذا المجال وانعكاسات ذلك وتأثيراته في حالة الاستقطاب في البلاد، ولاسيّما أنّ المتابع له في الداخل التركي يجد قفزات نوعية له في عهد العدالة والتنمية .
في موازاة ذلك، يُمثّل الاقتصاد إحدى الركائز الرئيسة التي انطلقت منها الرؤية التحديثية والتطويرية لحزب العدالة والتنمية، بدءًا من رفع المستوى الخدمي في البلديات، ومرورًا بإقامة المشروعات الكبرى من خلال الاهتمام بوسائل النقل والمواصلات، والشركات العابرة للقارات وغيرها، فضلاً عن الارتقاء بالمشروعات السياحية، والاهتمام بتركيا بصفتها واجهة سياحية عالمية، حتى أضحت قِبلة السائحين من مختلف بلدان العالم على مدار العام بأكمله، ومن هذه المحدّدات أنّ التمويل الإسلامي أدّى دورًا تحديثيًّا في تلك البنى، و كان له عظيم الأثر في التطور الحادث وانعكاساته على الداخل التركي.
ومن زاوية مقاربة يتناول الباحثان مجاهد أوزدمير وحاقان أصلان في بحثهما: «تطور التمويل الإسلامي في تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية»- التحوّل من التبني إلى الإستراتيجية، بإلقاء الضوء على هذه الآلية -التمويل- عبر مرحلتين أساسيتين: قبل سنة 2002 وبعدها؛ أي ما قبل قيادة العدالة والتنمية وما بعدها، من خلال رصد وتحليل أهم الأطوار التي مرّت بها مسألة التمويل الإسلامي في الداخل التركي.
لم تكن محاولة الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من تموز 2016 حدثًا عاديًّا في تاريخ تركيا الجديدة، إذ كانت بحقٍّ مخاضًا حقيقيًّا لتركيا أكثر قوة وصلابة؛ حيث تجلّت أواصر الوحدة الوطنية، وظهر قدر التلاحم الشعبي الذي أذهل العالم أجمع- مع الدولة والقيادة السياسية أمام طغمة تسلطية إرهابية أرادت لتركيا أن تعود إلى الوراء مجدّدًا، لتكون تحت الوصاية العسكرية والغربية، إلا أن عزم الشارع أفشل هذا الانقلاب، وأسهم في كشف منفذيه والداعين إليه أمام المجتمع والناس .
يحاول الكاتبان جم دوران أوزون ومرت حسين آك كون في بحثهما: «تنظيم غولن الإرهابي ومحاولة انقلاب 15 تموز في لوائح الاتهام» تسليط الضوء على ما ورد في لوائح الاتهام الموجهة ضد أعضاء تنظيم فتح الله غولن الإرهابي، من أجل الوقوف على حقيقة التنظيم بشكل موثّق، ذاك التنظيم الضالع في المحاولة الانقلابية بشكل كامل، كما أوردته أدلة الاتهام والإدانة، وقد بذلا الباحثان جهدًا توثيقيًّا كبيرًا لكشف أمور وملابسات تعرضها الدراسة لأول مرة، لم يكن يعرفها الناس؛ نظرًا لسرّية ودقة التنظيم الإرهابي؛ وهذا يمنح الدراسة أهمية كبيرة نظرًا لحجم التوثيقات والمعلومات فيها.
ونختم بحوث هذا العدد بموضوع الساعة، وهو «عملية غصن الزيتون: توقعات تركيا وخريطة طريقها» للباحث أفق أولوطاش، الذي يعرض في مبحثه الأسباب الرئيسة والدوافع التركية لتنفيذ هذه العملية، ويبيّن أهدافها، رغم أنه من العسير تقييم عمليةٍ لاتزال أحداثها قائمة وحديثة، إلا أنّ الكاتب يحاول أن يقدِّم مقاربة مهمّة يتوخّى فيها تلك الإشكالات.