رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

التنافس الروسي الإيراني في سوريا

التنافس الروسي الإيراني في سوريا

التنافس الروسي الإيراني في سوريا

ملخص يتناول البحث أحد أوجه العلاقات التعاونية في سوريا، على نحو يدفع الباحثين إلى دراسة تلك العلاقات، ومعرفة شكلها أهو قائم على التعاون أم على التنافس؟ ومعرفة مدى احتمالية اتجاهها إلى أنماط الصراع في المستقبل.

يحلّل البحث عدة نقاط متعلقة بمسببات اشتعال الأحداث في سوريا، ومقدّمات العلاقات الروسية الإيرانية، وأسسها، ومضمونها، وإمكانية تغيّر في تلك العلاقات في سوريا، وينتهي البحث إلى أن هناك علاقات مركبة بين الدولتين، مضمونها: التعاون الظاهر في تلك العلاقات، مع التباين والتنافس السائد فيها، والاحتمالات المتصاعدة لبروز علاقات صراع في المستقبل.

 يثير موضوع الأحداث في سوريا جملة من التساؤلات المتعلقة بالأسباب التي أوصلت تلك الأحداث إلى ما ظهرت عليها في عام 2018، والمتمثلة بحالات العنف البالغ القسوة الذي تعرضت له سوريا: من حيث المواطنون والممتلكات والبنى التحتية، وحالات الهجرة واللجوء والنزوح التي أظهرت أن الإنسانية لا تزال فقيرة بقيمها وإجراءاتها في مواجهة حالات جرائم الحرب، والانتهاكات ضد الإنسانية التي تمارس تحت عناوين: الشمولية والاستبداد والعقائد الفاسدة التي تؤمن بالتدمير والتطهير العرقي للآخر الذي تستشعر معه أن هويتها معرضة للخطر، في حالة استمرار وجوده.

أما موضوع العلاقات الروسية الإيرانية فإنه يطرح مضمون تلك العلاقات، وهل تقوم على أسس مستقرة لعلاقات تعاون؟ أم أنّها مبنية على تحالفات مصالح مؤقتة يمكن أن تتحول إلى أنماط أخرى من العلاقات بتغير الأوضاع السياسية والاقتصادية في ظل التعاون الذي تغلب عليه الأوجه الأمنية والعسكرية والسياسية؟

أمّا موضوع سوريا في العلاقات الروسية الإيرانية فإنه يطرح تساؤلات عن أسباب التقاء البلدين على أهداف مشتركة في سوريا، وعن إمكانية التحول بمضمون العلاقات بين البلدين إلى أنماط أخرى إن تغيرت بعض العوامل المرتبطة بالأحداث السورية، أو بأوضاع أي من البلدين؟ فالعلاقات هنا مفتوحة الاحتمالات فيما يخصّ التعامل مع تطور الأحداث في سوريا، ويمكن أن تنقلب إلى وجهة أخرى مستقبلًا.

هذه المقدمات والتساؤلات تفرض علينا أن نتناول أربعة موضوعات مرتبطة ببعضها، وهي:

أوّلًا- الأحداث السورية: المسببات والمظاهر

ثانيًا- مقدّمات وأسس العلاقات الروسية الإيرانية

ثالثًا- مضمون العلاقات الروسية الإيرانية في سوريا

رابعًا- إمكانية التغير في مضمون العلاقات الروسية الإيرانية في سوريا

وهو ما سنتناوله كالآتي:

أوّلًا-الأحداث السورية: المسبّبات والمظاهر

شهدت سوريا أقسى أعمال العنف الموجهة من النظام السياسي إلى المواطنين بدعوى ظاهرة مضمونها حفظ الأمن والاستقرار، وحقيقتها الرغبة في استمرار حكم أسرة الأسد، ثم تفاقمت بعد أن اتجهت بعض المجموعات السورية إلى تنظيم نفسها في نشاط مسلح معارض، مع تدخل إقليمي-دوليّ واسع انتهى إلى تدمير واسع في الموارد السورية، وخسائر بشرية كبيرة، مثل: القتل، والتغيير الديموغرافي، والتهجير، والنزوح، واللجوء... ومن الصعب أن يتحقق مع هذه الكوارث استقرار وسلام مجتمعي على المدى القصير([1]).

لا يمكن إرجاع الأحداث في سوريا إلى تظاهرات ربيع 2011، إنما هي ترجع إلى ثلاثة أصول فكرية:

  • الصراع العربي الإسرائيلي

إن هذا الصراع انطلق بصفته جزءًا من مشروع غربيّ؛ لتأسيس وطن على أرض العرب، يمنعهم من تحقيق أي وحدة، في وقت كانت فلسطين تحت السيادة العثمانية. وبعد التأسيس، وفي مرحلة كانت البلدان العربية تحت سيطرة الاحتلالين البريطاني والفرنسي- أخذت البلدان الغربية عامة بدعم ذلك الكيان بلا سقف، ورغم أن الموارد والقدرات إلى جانب العرب في مضمونها الإستراتيجي إلا أن الكيان الذي أُوجِد على أرض العرب سرعان ما حقّق انتصاراته على القوات العربية في حروب 1948 و1956 و1967 و1973، ودليله أن مكاسب العرب فيها بلا قيمة تذكر أمام استمرار ذلك الكيان واتساع الأرض التي يسيطر عليها، وفي خطوة لا يمكن تفسيرها سلحت تلك القوى ذلك الكيان بأسلحة الدمار الشامل ليكون قادرًا على تدمير العرب، ومن يصطف معهم من المسلمين، باعتباره خيارًا نهائيًّا في تنفيذ انتحار سياسي شامل للطرفين، هذا الدعم له ووجود سوريا إلى جواره جعله أمام استحقاقات مرتبطة بذلك الصراع، نعم سوريا لم تستطع أن تحرك ساكنًا منذ عام 1967 إلا أنّها تدرك أن خياراتها في ذلك الصراع إنما هو حروب الاستنزاف عبر دعم فصائل مقاومة لا يمتلك المجتمع الدولي الواقع تحت هيمنة الغرب قدرة على إدانته طالما أن المقاومة لا تمتلك دولة. وهذا الأمر أدرك الكيان الإسرائيلي خطورته، وخطورة أن تستقر سوريا تحت حكم وطني يمكن أن يهددها مستقبلًا، فخياره الأفضل دعم العنف إلى مستوى يهدد وحدة سوريا واستمرارها بوصفها دولة.

  • مضمون النظام السياسي وهشاشته الشرعية في سوريا

لقد أُسِّس في سوريا أكثر من نظام سياسي منذ الاستقلال، إلا أنه استقرّ على حكم أقلية علوية ومجموعات عسكرية، وأخرى انتهازية من تكوينات إثنية واعتقادية تدعمه عام 1970، واستقر الحكم ظاهرًا تحت قيادة حزب البعث/فرع تنظيمات قيادة سوريا، أمّا فعلًا وحقيقة فبيد تلك الأقليّة، وأسّس حافظ الأسد الذي كان إحدى القيادات العسكرية السورية عددًا من الأجهزة الاستخباراتية (المخابرات، وأمن الدولة، والأمن السياسي)، وربطها بمكتب الأمن القومي في حزب البعث، ثم أصدر دستور عام 1973 الذي كفل للأسد صلاحيات واسعة، كما نصّت المادة الثامنة منه على أن حزب البعث هو (الحزب القائد للدولة والمجتمع)، وهذا ربط مؤسسات الدولة السورية ومناصبها والمناهج الدراسية بالحزب فقط، واختزل الحزب بالأقليّة الحاكمة، مع غياب شبه تام للحريات السياسية والديمقراطية، وهو ما أسهم في إيجاد نظام سياسي شمولي معتمد على طابع أمني، وممارسات مخابراتية، ومرتبط بعلاقات خارجية داعمة له مع الاتحاد السوفيتي وغيره، مع غياب الدعم الخارجي لأي مجموعة اجتماعية أو سياسية أخرى، وهو ما مكّن النظام من مواجهة أي تهديد داخلي. ولمّا صعد للحكم بشار الأسد اعتمد بعض الإصلاحات التي تعكس توجهات أكثر مرونة لإدامة النظام السياسي بالانفتاح على البلدان العربية ودول غربية، وبعض المرونة الاقتصادية والحريات الشخصية، وهو ما مكّن سوريا من تحقيق استقرار أكبر نسبيًّا طيلة العقد الأول من القرن الراهن، باستثناء تحدّيات غربية أخذت تتصاعد بعد احتلال العراق، مرتبطة بمشروع الشرق الأوسط الكبير، وبعلاقات سوريا مع إيران، ومع منظمات تُصنَّف في الغرب بأنها إرهابية، وبوضع سوريا داخل لبنان. والنظام كله بقي يعمل ضمن توجّه عام، مضمونه استمرار حكم عائلة الأسد والأقليّة العلوية.

  • مشروع الشرق الأوسط الكبير

اتجهت إدارة المحافظين الجدد عام 2001 إلى اعتماد نهج في التعامل مع المنطقة العربية يقوم على (دمقرطة) المنطقة، بعد مرحلة من تقبّل أو دعم الحكم الشمولي، وهو ما تزامن مع سياسات تقوم على تبنّي نهج ما يعرف بمحاربة الإرهاب، ورافقه احتلال العراق عام 2003، في تلك المرحلة أطلقت الولايات المتحدة نهجها في مشروع الشرق الأوسط الكبير، القائم على: التداول السلمي للسلطة، والخيار الرأسمالي، وتحرير المرأة، وإنهاء نظام التعليم الديني الإسلامي([2])، واتجهت الولايات المتحدة إلى تنفيذ سياسات سلبية ضد سوريا لدفعها إلى تصحيح سياساتها، ومن ضمنه: تقليل مستوى انخراطها في أعمال دعم الإرهاب، وأنواع العنف في العراق، والخروج من لبنان، وبخاصة بعد مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وهو ما تزامن مع بدأ تغير مهمّ في سياسات تركيا وانفتاحها على سوريا، وعملها على إجراء وساطة بينها وبين الكيان الإسرائيلي.

تلك المقدمات، تعلّقت بسوريا، وكانت سياسات النظام السياسي حذرة تجاه أيّ احتمال لتدخل البيئة الخارجية في الشأن الداخلي، مع مرونة في الانفتاح على إيران والبلدان العربية. في حين كانت الأوضاع الداخلية في سوريا تشهد انخفاضًا في متوسط الدخل ومستوى المعيشة؛ بسبب انخفاض عوامل التنمية، والتصنيع، وغياب موارد الريع، وهذا كلّه مهّد لتقبّل أيّ انفجار في الوضع السوري، وهو ما حدث عام 2011.

 

ثانيًا- مقدمات العلاقات الروسية الإيرانية وأُسسها

إنّ تتبع العلاقات الروسية الإيرانية يُظهِر أنّها ترتبط بموضوعات متعلقة بـ:

  • علاقة الدولتين بالعالم الغربي
  • أُسس علاقة الدولتين ومضمونها
  • منظورهما للبيئات الإقليمية والدولية

وهذه النقاط تحتاج إلى تحليل مختصر، وهو ما سنعرضه فيما يأتي:

  • علاقة الدولتين بالعالم الغربي

شهد العالم تغيّرًا مهمًّا عام 1989، وذلك ببدْءِ تراجع الاتحاد السوفيتي، تلاه تراجع حادّ لروسيا، وصولًا إلى عام 2000، عندما بدأ التيار الوطني ينضج في روسيا ببروز فلاديمير بوتين ووصوله إلى سدّة الحكم، وأخذ يتجه إلى التعامل مع الغرب بطريقة براغماتية، وصولًا إلى منتصف العقد الأول من هذا القرن، عندما أخذ الصدام بينهما يتّسع بسبب سياسات أمريكية ترغب في دعم توسّع حلف الناتو باتجاه البلدان الأوروبية شرقية وبلاد القوقاز، ونشر الدرع الصاروخيةة حول روسيا، وهنا استشعرت روسيا أنّها مستهدفة؛ لهذا حدث الصدام في جورجيا عام 2008، إلّا أنه سُوِّيت أوضاع جورجيا، وأوضاع نشر منظومة الدرع الصاروخية في بعض البلدان الأوربية الشرقية والوسطى، بوصول الرئيس أوباما إلى الحكم في الولايات المتحدة. ثم جاءت أحداث سوريا التي أعاقت فيها روسيا إصدار الغرب قرارات لكبح أعمال العنف في سوريا باستخدام مجلس الأمن عامَي 2011 و 2012، جرَت بعدها أحداث أوكرانيا عام 2013 و2014، وعملت روسيا على المبادرة والتدخل فيها، وفصل القرم من أوكرانيا، وهو ما أثار الغرب ودفعه إلى فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، لتشهد العلاقات بين الطرفين شبه قطيعة مهمّة، وليفرض إخراج روسيا من مجموعة (G8) الاقتصادية، ولتتوتر العلاقات بينهما في ملفات واسعة.

وعلى إثر ذلك اتجهت روسيا إلى التوسع بإنفاقها العسكري، بإنفاق نحو 54 مليار دولار عام 2015، ونحو 49 مليار دولار عام 2016 كما هو معلن من روسيا، وكُشِف في البدء أن روسيا ستستثمر نحو 370 مليار دولار في صناعة أنواع متقدمة من الأسلحة خلال المدة بين 2015- 2022، الا ان روسيا ظهر أنها أنفقت على نحو مستقل مبلغ قدره 300 مليار دولار على التسلح خلال المدة بين 2015- 2017 بفعل مبالغ صفقة تزويد الصين بالطاقة([3])، وكشفت روسيا أنها استطاعت أن تطور تكنولوجيا مهمة خلال الأعوام الأخيرة وأنها قادرة على منافسة الغرب في هذا المجال. ومن الأسلحة التي طورتها روسيا، وأفصحت عنها: صواريخ بالستية جديدة عابرة للقارات، وقاذفات إستراتيجية بميزات متقدمة جدًّا، كما أعادت روسيا نشر قواتها، نحو البحر المتوسط، وعزّزت وجودها في سوريا.

أما إيران فإنّها دولة إقليمية كبرى، كانت حليفًا رئيسًا للولايات المتحدة حتى عام 1978، ثمّ أسهم الغرب في إسقاط نظام حكم الشاه، وساعد على وصول الخميني إلى سدّة الحكم بعد أن كان مقيمًا بفرنسا، ووصل إلى إيران على متن طائرة فرنسية، بعد أن وضع كلٌّ من كيسنجر وبريجنسكي رؤيتهما بشأن استخدام العقائد في التعامل مع الخصوم، ومن ذلك الشيوعية، وكيفية التعامل مع البلدان العربية بعد مرحلتي الحروب العربية-الإسرائيلية والحظر النفطي، وسرعان ما اتّجه نظام الحكم في إيران إلى معاداة الغرب ظاهريًّا في خطوة تحمل علامات استفهام كبيرة متعلقة بمدى تورّط الغرب في تكوين نظم حكم مشوّهة في المنطقة (إسرائيل وإيران)، وعدم السماح للدول العربية والإسلامية بتكوين نظام حكم إسلامي وفق المبدأ الذي تمّ به دعم تأسيس هذين النظامين.

وخلال المدة بين عامَي 1980-2003 أظهر الغرب سلوكيات مختلفة في التعامل مع إيران، مضمونها العمل على تحقيق استقرار لنظام الحكم في إيران، وإنماء قوتها على حساب الدول العربية، كما أنّ المدة بين عامَي 2004-2015 أعطت انطباعًا بأنّ محاولات الغرب استهداف إيران بسبب برنامجها النووي، أو محاولة إسقاط نظام حكمها، أو تغيير توجهاته- إنما كانت محاولات غير جادة. بل كانت عبارة عن خطاب سياسي سمح لإيران بامتلاك الوقت الكافي لتطوّر قدراتها على نحو يعكس وجود خلل إستراتيجي في العلاقة مع الدول العربية، وهو ما تسبب في أن تعاني الدول العربية عدمَ موافقة الدول الغربية على أيّ برامج تسلّح جاد تقيمها هذه الدول، ومن ثم أخضع إرادتها بالاعتماد على الإرادة الغربية، وبخاصة بعد تدمير قدرات العراق عام 2003، وصياغة توجهاته على نحو يتّفق مع السياسات الإيرانية.

وخلال المدة التالية لحرب احتلال العراق، سمحت الولايات المتحدة أن تتمدد إيران في العراق بسرعة عن طريق ضرب أيّ قوة تنتمي إلى التيار القومي العربي، أو إلى التيار السياسي الإسلامي السُّنّي، وكانت التصريحات الأمريكية في الغالب تشير إلى عدم ترك العراق يسقط في قبضة إيران([4])، وهذا الخطاب كان غير جادّ على الأرض، ثم تكرّر المشهد نفس عام 2011 في دول عربية عدة، منها سوريا، عندما تغاضت الولايات المتحدة عن دعم فصائل المقاومة السورية في حين سمحت لإيران أن تتمدد على الأرض، وأن تجند مجموعات كبيرة من المقاتلين وتسلّحهم وتموّلهم لدعم النظام السوري. وتكرر الأمر في اليمن، وهو ما تسبّب في اضطراب كبير بفعل اعتماد البلدان العربية غير الحكيم على البلدان الغربية، التي تضمر أبعادًا قيمية وعقدية، مع دعم الكيان الإسرائيلي في مواجهة العرب، والرغبة في توسيع تفكيك بلدانهم.

  • أسس علاقة الدولتين ومضمونها

إنّ العلاقات الروسية-الإيرانية قديمة نسبيًّا، وتتصل بالقرن الثامن عشر، عندما أخذت روسيا تتمدّد بسرعة على حساب الأراضي العثمانية في آسيا الوسطى وبحر قزوين، في تلك المرحلة كانت العلاقات العثمانية الإيرانية تقوم على التنافس السلبي، ثم تحوّلت العلاقات إلى محطة أخرى مع نهايات القرن التاسع عشر، عندما أخذت بريطانيا تمدّد نفوذها في إيران، وتسمح لها أن تتمدد وتتسع على حساب مناطق عدة، ثم سرعان ما أصبحت إيران موضع تنافس روسي-بريطاني، ثم ترسّخ النفوذ لبريطانيا، ليظهر إلى جانبه النفوذ الأمريكي، وهو ما استقر على علاقات تحالف بعد الحرب العالمية الثانية وصولًا إلى عام 1978.

أمّا روسيا فإنها كانت تتمتع بنفوذ جيد في إيران في مستهل القرن الماضي، إلا أنه تراجع، ثم اتجه الاتحاد السوفيتي إلى دعم تشكيل دولة مهاباد الكردية عام 1946، ودعم الحزب الشيوعي الإيراني في مواجهة علاقات إيران بالغرب، مع الاتجاه لاحقًا إلى دعم كُرد العراق في ستينيات القرن الماضي، من دون الانفتاح على دعم كُرد إيران، أو معارضة نظام الحكم الإيراني أو سياساته.

وبعد سقوط نظام حكم الشاه، انفتح الاتحاد السوفيتي على دعم قدرات إيران وتعزيزها، رغم أن إيران تجاور الجمهوريات السوفيتية الإسلامية في وسط آسيا وبحر قزوين، ولا يمكن تفسير ذلك إلّا تحت عنوان أن الاختلاف المذهبي يمنع إيران من التدخل لتحريض شعوب تلك الجمهوريات ضد الاتحاد السوفيتي، رغم أنّ خطاب النظام السياسي الإيراني يدعو إلى ثورة الشعوب الإسلامية ضد أي نوع آخر من الأنظمة أو الاحتلال، وهو ما يفسّر أن خطابها يحمل مضمونين: تصميم كيان طائفي، والعمل ضد البلدان العربية، وهو ما يثير تساؤلات عن السبب في دعم الغرب للتغيير في إيران عام 1978، وأن المستهدف منه هو المنطقة العربية، على أنه نوع من الإستراتيجيات لإحداث انقسام في المنطقة المحيطة بالكيان الإسرائيلي، ومنح الكيان الإسرائيلي فرصة البقاء بلا أي كابح.

واستمر الحال بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي عندما اندفعت روسيا إلى تطوير قدرات إيران النووية، مع تزويدها باحتياجاتها من السلاح.

ومع عام 2000 أخذت العلاقات الروسية الإيرانية منحًى جديدًا مضمونه دخول روسيا على خط تطوير قدرات إيران الشاملة، ولم تنظر روسيا إلى إيران بوصفها منافسًا لها، وأن تطوير قدرات إيران يمكن أن ينعكس على إيجاد منافس إستراتيجي لها في وسط آسيا مستقبلًا؛ بسبب التباين المذهبي، وإنما عملت على تقديم مقولة: عدوّ عدوّي صديقي.

واستمرت روسيا تحمي النظام السياسي الإيراني وبرنامجه النووي من القرارات الأممية، وتعمل على تعزيز قدرات إيران الشاملة طيلة المدة اللاحقة لعام 2004.

ومع عام 2011 انفتحت العلاقات الروسية الإيرانية على تعزيز التعاون الأمني والعسكري والسياسي، في حين أنّ التعاون الاقتصادي بقي هامشيًّا ومحدودًا جدًّا بلغ أقصى مستوياته (3.1 مليار دولار عام 2014، ثمّ تراجع إلى 1.7 مليار دولار عام 2015)([5]).

  • منظور روسيا وإيران للبيئات الإقليمية والدولية

إنّ روسيا هي دولة كبرى تسعى إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي في النظام الدولي، إلّا أنّها خسرت كثيرًا في عامَي 1990-1991، ومن ثمّ فإنّ نفوذها تقلّصَ إلى دول محدودة، ومنها إيران وسوريا وكوريا الشمالية. ومنظور روسيا اليوم للنظام الدولي هو محط تنافس عدة تيارات روسية فاعلة، ومنها التيار القومي الروسي وتيارات أخرى، وكلّها ترى وجوب أن تكون روسيا أكثر استعدادًا للتعامل مع الغرب من منطلق القوة، ومن ثم إظهار التحدّي في مواضع، ومنها دعم برنامج إيران النووي، ودعم سوريا، وكوريا الشمالية؛ لكي يعترف الغرب بوجود روسيا شريكًا في إدارة النظام الدولي.

إن القرار السياسي الروسي بيد الرئيس بوتين، وهو سيبقى في قمة الهرم السياسي حتى عام 2022، ولا يتوقّع أن يحدث تغيير كبير في الهرم السياسي الروسي طالما أن روسيا محكومة بنظام أمني، يعيد ضبط النظام السياسي وتوجيهه، ومنع انقياده للغرب.

أمَا إيران فتظهر مواقف متضاربة نتيجة تباين التيارات السياسية في الداخل، فهناك التيار الشيعي الذي يهيمن على الحرس الثوري، والذي يدعو صراحة إلى التمدد في العالم الإسلامي، وتفكيك البلدان العربية، ودفع الشعوب العربية إلى التشيع بنسخته الفارسية، وعدم الصدام مع الغرب، وأكثر رواده من الفرس والآذريين، وهناك التيار القومي الفارسي الذي يدعو إلى بناء إمبراطورية فارسية على حساب أراضي العرب، ويدعو إلى عدم الصدام مع الغرب، وهناك التيار البراغماتي الذي يدعو إلى التوازن في سياسات إيران، وهؤلاء يمثّلون قواعد اجتماعية-سياسية مشتّتة.

إن القرار السياسي محكوم بمؤسسة ظهرت وأخذت حجمها في القرن الماضي، وحَظيت بدعم غربيّ؛ بسبب الرغبة في تأسيس نظام حكم يخالف نظام الأغلبية الإسلامية العقدية الموجود، حتى يسهم في إحداث قدر من الفرقة بين صفوف المسلمين؛ لأنّ الإسلام تحوّل وفقًا لأيديولوجية النظام الجديد إلى مضمون ثقافي يستمدّ أصوله من التقاليد والقيم التي ظهرت بالممارسة، وهو ما يتقاطع مع النهج الذي يسود بين العرب بالاعتماد على القرآن الكريم والنهج النبوي والقياس والإجماع، وبعيدًا عن تفسير هذا الخط أو نقده والذي أخذ استقراره عبر عدة عقود فإن المؤسسة الطائفية المرتبطة به استقرت على السيطرة على الشأن السياسي الإيراني عام 1978، وأسّست لها مجموعة مؤسسات مالية وثقافية وأمنية وعسكرية داعمة لها لتحميها من التوجهات الأخرى الموجودة، والأكثر قوة داخل إيران، وأهمها التيار القومي الفارسي، والتيار البراغماتي.

ولا يُتوقَّع أن يظهر تباين في سياسة إيران تجاه المنطقة العربية والغرب، بحكم أنّ السياسة تصنعها مؤسسة المرشد الإيراني، وتحميها مؤسسة الحرس الثوري، وهذا يجعلها تخضع لمركز ووحدة قرار سياسي، والخط عامٌّ يعمل بتنسيق ضمني مع الغرب على تفكيك المنطقة العربية، واعادة توجيه الضعف العربي إلى مستوى يسمح ببقاء كيان إسرائيل مركز القوة الإقليمي، وإلى جوارها مراكز قوة إقليمية غير عربية، تخالف العرب في فهم الإسلام حتى يحدث أكبر انشقاق لقوة العالمين الإسلامي والعربي.

إن تلك المقدمات تتحكم بالعلاقات الروسية الإيرانية إلى حد كبير، وتدفعها إلى التعاون في ثلاثة حقول فقط: الأمني والعسكري والسياسي، بينما العلاقات في الشق الاقتصادي والثقافي ضعيفة جدًّا؛ أي أن العلاقات فوقية وليست مستقرة، وهذه نقطة ضعف خطرة في تلك العلاقات؛ لأنها يمكن أن تتغير بحسب مستجدات وقراءة النظام السياسي في البلدين لحجم الفائدة في تلك العلاقات.

 

ثالثًا- مضمون العلاقات الروسية الإيرانية في سوريا

اندلعت أحداث سوريا نتيجة عدة مقدمات، منها التنظيم الأمريكي باستخدام قوى محلية وإقليمية لإحداث فوضى تدفع إمّا إلى تغيير أو استنزاف في المقدرات الوطنية، أو تفكيك الدولة السورية ضمن رؤى الفوضى الخلاقة([6])، إلّا أن النظام السوري سرعان ما اتجه إلى استخدام العنف في التعامل مع حالات تظاهر مدنية محدودة، واتسع الغضب من استخدام العنف ضد تلك التظاهرات، ليتسع حجمها بسرعة بين شهرَي آذار-حزيران 2011، ليتم تدويل محدود للأزمة بأن اتجهت جامعة الدول العربية مع الأمم المتحدة إلى إرسال مبعوث مشترك لتقصّي الحقائق وإيجاد تسويات ملائمة، في حين سعت الولايات المتحدة إلى إصدار قرار من مجلس الأمن لإدانة النظام السياسي السوري، ووقفت روسيا والصين ضد كل مشروعات القرارات التي طُرِحت بين عامَي 2011-2013، وأخذت القوى المعارِضة للنظام السوري تنظم نفسها، واستطاعت بإمكانات بسيطة من التوسع والتمّدد وإسقاط عدة مدن سورية خلالها، في ظل غياب دعم غربي جدّي لتلك القوى، ووجود تورّط خليجي في دعم التظاهرات ماليًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا، وتدخلت إيران بكثافة في الأشهر الأولى بالأفراد والسلاح، وتدخلت قوى سياسية في العراق بشكل غير رسمي لتحويل أموال ضخمة من أنشطة الفساد لدعم نظام بشار الأسد([7])، واستمر تقدّم قوى المعارضة حتى كادت تسقط نظام الحكم إلا أن الغرب اتّجه عام 2013 إلى تنشيط تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا لتكون قوة تضرب قوى المعارضة، وتتمدد على حسابها وهو ما تسبب في ظهور عوامل غير متناسقة يغلب عليها الصراع في المشهد السياسي السوري، وظهر إلى العلن وجود تنظيم إيراني ضخم يعمل على تجنيد وتدريب وتسليح وتمويل منظمات منتشرة في إفريقيا وآسيا (باكستان أفغانستان والهند) والعراق من أجل دعم نظام بشار الأسد، وقُدِّر عدد من جُنِّد بنحو 100 ألف عنصر مع وجود نحو 50 ألف عسكري إيراني في سوريا([8])، في حين عملت تركيا على تقديم دعم محدود للمعارضة السورية، وتنسيقها وتنظيمه.

ويُطرَح هنا تساؤل:

هل تدخلت إيران في سوريا بمعرفة روسيا وبطلب منها أو أنّ التدخل جاء وفقًا للإرادة الإيرانية؟

تلا هذا التدخّل الإعلان عن حجم التورط الروسي في سوريا، وهذا أيضًا يطرح تساؤلًا مشابهًا:

هل تدخلت روسيا في سوريا بطلب من إيران أو أن تدخلها كان ضد رغبة إيران؟

مع تمدد الإرهاب إلى العراق اتجهت الولايات المتحدة إلى تشكيل ما عُرِف بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وقد أُعلِن عن أن نطاق أهدافه ستقع في العراق وسوريا وذلك في أيلول 2014، وعلى الفور أعلنت روسيا أنها متورطة في الأحداث السورية، لينتقل الوصف من أزمة إلى مصطلحات أخرى تتباين الكتابات الأكاديمية في توصيفها بين حرب أهلية، وحرب إقليمية، وصراع دولي، ونحن ندرجها ضمن نطاق تسمية: (أحداث)، تشابكت تفاعلاتها... وأخذت روسيا تمد النظام السوري بنطاق غير محدود من التسلح، وعدد غير محدود من القوات الروسية والمرتزقة([9])، وهنا تدخل الكيان الإسرائيلي، وقام بعدة ضربات لأهداف مختلفة داخل سوريا، وهو ما عقّد المشهد السوري، وعملت تركيا على رفع سقف استعدادها للتدخل في الشأن السوري، لكن حلف الناتو لم يوافق على أيّ تدخل تركي، واتجهت تركيا إلى إسقاط طائرة عسكرية روسية اخترقت المجال الجوي التركي نهاية عام 2015، وهنا أُسِّس ما عرف بالتحالف الرباعي: روسيا وإيران والعرق وسوريا، الذي سمح بتنسيق روسيا وتخطيطها لضرب أهداف في سوريا باستخدام المجال الجوي الإيراني والعراقي وقواعد أرضية في إيران وسوريا.

وقد استحدثت إيران منصب (المنسق الأعلى للسياسات العسكرية والأمنية مع سوريا وروسيا)، واشتركت في حزيران 2016 في إنشاء مقر عسكري وأمني مشترك بين روسيا وإيران في سوريا. يقدم الاستشارات العسكرية والأمنية للجيش السوري والمرتزقة، وهذا مؤشر على رغبة إيران في تنسيق السياسات المشتركة بشأن سوريا، وبرز هذا الأمر بعد أن سلّمت روسيا إلى إيران في شباط 2016 صواريخ (إس إس 300)، ووقعت معها في كانون الثاني 2016 صفقة بقيمة 21 مليار دولار تشمل: معدات أقمار صناعية، وطائرات متنوعة، وتشتمل التفاهمات على تعزيز التعاون في مجال التدريب العسكري، وتنظيم مناورات مشتركة، ودعم منظور الدولتين للأمن الإقليمي، ومكافحة ما يسمّى بالإرهاب والميول الانفصالية([10]).

في تلك المرحلة الحرجة، أخذت العلاقات الروسية-الإيرانية في سوريا تتحول من أن إيران الماسك بالملف السوري عام 2011 إلى أن روسيا هي الماسك بتفاصيل الأحداث في ذلك الملف على جهة النظام السياسي السوري، في حين أن أدوار إيران في سوريا تتعلق بتجنيد وتدريب ونشر الأفراد على الأرض، وتنظيم عملية إيصال الأموال التي تحصّل عليها من جهات مختلفة إلى نظام بشار الأسد([11]).

والسؤال هنا هو المتعلق بمضمون العلاقة الروسية الإيرانية في سوريا: هل هو تعاون وتوزيع أدوار أو هو تنافس؟ وهل يمكن أن يتحول إلى صراع؟ وللإجابة عن ذلك نقول:

  • ماذا تريد روسيا من سوريا؟ وهل يمكن أن تتنازل عن سوريا لأيّ بلد؟
  • ماذا تريد إيران من سوريا؟ وهل يمكن أن تتنازل عن سوريا لأيّ بلد؟
  • هل ما يجمع روسيا مع إيران أكبر ممّا يمكن أن يفرقهما بشأن سوريا؟

إن تتبع وضع سوريا في الإستراتيجيات الروسية يبين أن روسيا مهتمة بالآتي:

  1. جاءت السياسة الروسية بوصفها نوعًا من ردّ الاعتبار على تمادي الولايات المتحدة في استبعاد روسيا من أن تستعيد مكانتها في النظام الدولي.
  2. إظهار أنها موجودة في تفاعلات المجتمع الدولي.
  3. إرسال رسالة إلى من يرغب في التحالف مع قوة كبرى خارج العالم الغربي، مفادها أن روسيا يمكن الاعتماد عليها.
  4. العمل على إظهار تقدّم الصناعات الحربية الروسية.

هذه الدوافع مهمة لدى روسيا، لكنّ سوريا ليست مقدسة لديها، فروسيا يمكن أن تقبل بالشراكة في النظام الدولي وتسوية أوضاع سوريا، ويمكن أن ترضى باستبدال بشار الأسد ضمن صفقات تحقّق لها مصالحها. ويلاحظ أن روسيا سمحت للكيان الإسرائيلي بتوجيه أكثر من ضربة في داخل سوريا من دون أن تعترض تلك الهجمات([12]).

أمّا ما يتعلّق بسؤال: ماذا تريد إيران من سوريا؟ فالملاحظ أن إيران تنظر بعيون التيار الطائفي، الذي يؤمن بمجموعة اعتقادات ترى أن العرب مخالفون لهم، وهي تعمل على نشر التشيع بنسخته الفارسية (المزاوجة بين تقاليد اجتماعية وقيم فارسية)، وترى أن الوقوف مع نظام الحكم العلوي في سوريا إنما هو خطوة لهدم أهم مرتكزات الإسلام ضمن التفسيرات العربية الممتدة منذ نحو أربعة عشر قرنًا بحكم خصوصية الاعتقادات العلوية، ومحاولة كبح الأغلبية العربية من تولي الحكم في سوريا، وهو ما يمكّنها من أن تستعيد أمجاد الإمبراطورية الفارسية التي ظهرت يوما ما على أنقاض الإمبراطوريات التي ظهرت في أرض العراق في القرون الأخيرة من الألف الأخير قبل الميلاد([13]).

إذن سوريا بالنسبة إلى إيران هدف، إذ تنظر إيران إلى سوريا من منظور المجال الحيوي الذي يقدّم خط الحماية إلى حدود الخصوم أنفسهم، فخط الدفاع الأخير هو حدود إيران، يليه العراق، ثم سوريا واليمن والبحرين بالاعتماد على مجموعات سياسية صغيرة تدين بولائها لإيران على حساب أيّ قدرة على طرح أفكار مقنعة لإعادة تفسير الإسلام، وعلى حساب الانتماء إلى بلدانها.

والملاحظ على سلوك إيران أنّها ورّطت مجموعات كبيرة في نشاطها الطائفي في آسيا وإفريقيا وفي بعض البلدان العربية، مستغلة وجود مصادر متعددة للتمويل، منها بحسب ما يُتدَاوَل رأس المال العراقي الذي غادر تحت عناوين: الفساد، أو بسبب إعادة استثمار الأموال التي تُجمَع من أنشطة اعتقادية. واستنزفت الكثير من أبناء الشعب السوري تحت عناوين طائفية ضيقة، مقابل تحمّل إيران كلفة كبيرة في سبيل دعم نظام بشار الأسد، حتى كانت التظاهرات في إيران نهاية عام 2017 ومستهلّ عام 2018، تطالب بإعادة مراجعة سياسة إيران الخارجية، وإحداث إصلاحات داخلية، وأظهرت أنّ التزام الإيرانيين بعلوية المراجع الشيعية الإيرانية ليست متماسكة لدى مجموعات إيرانية واسعة، إذ تمّت تسوية تلك التظاهرات بالعنف. وهذا الحدث ترافق مع اتجاه إيران إلى إظهار استعداد مرتبك لتسوية سياسية في سوريا([14])، والمعروف عن الفلسفة التفاوضية والخطاب السياسي الفارسي-الآذري هو الكره غير المسوَّغ للعرب وللمسلمين، وإحداث فوضى في مناطقهم ضمن منطق وتفسيرات طائفية لا مجال للخوض فيها هنا، وممارسة التقية في حقل السياسة الخارجية (إظهار مواقف مخالفة للباطن)، مع الرغبة بالتوسع، وعدم الاستعداد لخوض أيّ مواجهة مع الغرب الممسك بذلك (التوجه) بآليات تتحكم بها مرجعيات إيرانية، ودليلنا هو وجود استثمارات كبيرة لتلك المجموعات في الدول الغربية.

أمّا ما يتعلّق بالسؤال الآخر: هل ما يجمع روسيا مع إيران أكبر مما يمكن أن يفرقهما بشأن سوريا؟ فالواضح أن طبيعة العلاقة الروسية-الإيرانية في سوريا تقوم على قاعدة: عدوّ عدوّيّ صديقي، وطالما أن هناك سقف تفسير من روسيا أن هناك عداءً من الغرب لها، إذن ستلجأ إلى أيّ نقطة يمكن أن تحقّق لها مصلحة، أو دعم نفوذ، في حين أن إيران عدوّها ليس الغرب، بل عدوّها العرب والمسلمون، وهي تجد أن مصالحها تكمن في إشاعة الفوضى، ولا يعنيها حجم الاتفاق مع روسيا. ومن ثم فإن المرونة التي تتمتع بها الدولتان في سوريا يجعل علاقاتهما هشة في سوريا، وغير مستقرة على مصالح إستراتيجية، لأنه طالما عُرِفَت المسبّبات التي تقف خلف كل واحدة فإنه يمكن التعامل مع تلك العلاقات بالتعامل مع دوافع كل من البلدين.

أمّا عن حجم التعاون فإنّه يتعلق بتنسيق الأدوار الذي تشرف عليه روسيا، وأمّا الصراع فإنّه يتعلق بأنّ هدف روسيا إكمال سيطرتها على سوريا، وتوسيع نفوذها، في حين أن هدف إيران يتناقض معها، إلّا وهو زرع الفوضى، ومن ثم فإنّ الأهداف للدولتين في سوريا متناقضة.

إنّ وضع سوريا يتعلق بوجود استنزاف بات يدفع الأطراف كافة إلى الابتعاد عن أصل التظاهرات التي عمّت سوريا، والمطالب الشعبية، وأدرك الجميع أن مستوى الفوضى لا يمكن إيقافه إلّا عبر تسويات مركّبة طالما أنّ عقد اجتماع قمة أمريكي-روسي-أوروبي-تركي غير ممكن، وهو ما تمثّل بتحقيق انفتاح تركي-روسي، وتحقيق إعلان موسكو عام 2016، مستغلين ضلوع الغرب، أو تسهيله، أو عدم منع- محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا، وهو ما دفع البلدين بمشاركة إيران إلى عقد اجتماعات الأستانا، لتكون خطًا موازيًا للقاءات جنيف في محاولة لإيجاد تسوية في سوريا تناسب كل الأطراف([15]).

ومنذ عام 2014 اتّجهت الأوضاع في سوريا بشدة إلى إيجاد موضوعات متناقضة، وعدم التركّز على هدف محدد، فهناك: الإرهاب، والكرد، وشكل النظام السياسي والدولة، واستمرارية بشار الأسد في الحكم، والمدة الانتقالية، والعدالة الانتقالية، واستمرارية مؤسسات الدولة، واستمرار القوات الأجنبية والمرتزقة في سوريا، ومضمون علاقاتها مع كل من روسيا والغرب.

إنّ اهتمام روسيا بهذه القضايا مركّب، فروسيا معنيّة بمحاربة المدّ الإسلامي؛ لأنّه يمثّل أكثر مكامن الخطر الداخلي عليها، وتسعى إلى تصفية أكبر عدد ممكن من المسلمين السنة بمساعدة إيران والمرتزقة الذين يعملون بإمرتها في سوريا، والعمل على منع المجموعات المقاتلة من الأفراد من مناطق القوقاز من العودة إلى أراضهم.

في حين أن المجموعات الكردية هي أكثر أوراق روسيا الضاغطة في المنطقة، بحكم اعتماد القوى الكردية على توزيع أوراقهم على القوى الكبرى والكيان الإسرائيلي لتحقيق حلمهم في إنشاء وطن قومي، وقد أُسِّس عام 2012 ما عرف بـ(المجلس الوطني الكردي) من مجموعة قوى كردية، وطالب بتشكيل إقليم كردي في شمال شرق سوريا، وتعدّ روسيا تلك القوى الكردية غير عدوّة رغم علاقاتها مع الولايات المتحدة. والمعروف أنّ هناك علاقات تجمع حزب العمال الكردستاني التركي مع أحزاب من قبيل: حزب الاتحاد الديمقراطي، أو ما يعرف بـ(PYD)، ويعدّ الفرعَ السوري لحزب الـ(PKK)، ووحدات حماية الشعب التركي، أو ما يعرف بـ(YPG)، ويعدّ الجناح المسلح لـ(PYD)، وهو أيضًا الحليف الأقوى بالنسبة للولايات المتحدة على الأرض، وتلقّى دعمًا كبيرًا منها، وبفعله سيطر على مساحات واسعة على حساب تنظيم داعش وقوى المعارضة السورية، وهناك (قوات سوريا الديمقراطية)، وهي تسمية أكثر دينامية لقوات كردية مدعومة من الولايات المتحدة([16])، وأسهمت باسترجاع مدينة الرقة من تنظيم داعش، إلا أنّ هناك احتمال لتسويات بإرجاعها إلى النظام السوري بمساومات أمريكية-روسية، وعمومًا فإن الدعم الأمريكي بالاتكال على قوى كردية لا بالاتكال على القوى العربية المعارضة في سوريا أثار حفيظة تركيا؛ لأنّه سينتهي إلى مزيد من الضغوط عليها بشأن القضية الكردية، الأمر الذي دفع تركيا إلى التدخل المحدود في شمال سوريا.

أمّا شكل النظام والدولة في سوريا فإن روسيا لا تظهر أيّ دعم لأيّ فكرة فيها، وهي تدعم استمرار بشار الأسد خلال مرحلة الحكم الانتقالي، بينما هي تركز على أن يكون هناك استمرار لمؤسسات الدولة، وسحب للقوات الأجنبية والمرتزقة من سوريا في المرحلة الانتقالية. وتعمل على أن يكون هناك نفوذ لها في سوريا بعد نظام بشار الأسد.

أمّا ما يتعلق باهتمامات إيران من هذه القضايا فهو يقوم على خلق الفوضى في سوريا، ومعارضة أيّ اتجاه كردي لرفع سقف المطالب في سوريا، واستمرار النظام السياسي وشخص بشار الأسد، أو أي شخص من الطوائف غير السنية، ودعم استمرار مؤسسات الدولة، وتأجيل سحب القوات الأجنبية والمرتزقة من سوريا، بحيث يضمن ذلك لها موقعًا على الأرض العربية.

إن القضايا السابقة تؤشر أنّ هناك تناقضًا في الرؤى الكلية الروسية-الإيرانية من سوريا متعلقًا بالآتي:

أمّا ما يتعلق بالإرهاب فإنّ كلًّا من البلدين يتفقان على محاربة أيّ مجموعة إسلامية حتى وإن لم تصنّف بأنّها إرهابية تعمل وتنشط داخل سوريا، فروسيا تعمل على تقليل احتمالات ظهور قوى إسلامية في القوقاز تعرّض وحدتها الإقليمية واستقرارها للخطر، وإيران تعمل من أجل تعزيز حضور المجموعات ذات التفسيرات المناقضة للتفسير العربي للإسلام، وهناك تباين في دعم الكرد، فروسيا تراه مجرد وسيلة رخيصة في تحقيق غاياتها في دحر التنظيمات الإسلامية، وفي الضغط على سوريا، في حين ترى إيران أنّ الكرد يمكن أن يشكّلوا لها عامل ضغط مستقبلًا. أمّا شكل النظام السياسي واستمرار نظام حكم بشار الأسد فهو يمثل هدفًا لإيران، ولا يعدّ كذلك بالنسبة إلى روسيا، وترى إيران إخراج المرتزقة من سوريا خسارة لها؛ لأنّ الغلبة العددية ستكون للعرب المسلمين السُّنة، خصوصًا أنّ الأوضاع في العراق تشهد تغيرًا نحو إيجاد توازن في السياسة الخارجية العراقية، ورفع سقف منع أيّ تدفق غير رسمي محتمل للموارد لدعم الأنشطة الإيرانية، بحيث لا يخدم المشروع الإيراني مستقبلًا، وإيران ترى أن الأغلبية العربية في سوريا هي من سيقرر الحكم والنظام السياسي في سوريا ديمقراطية، في حين ترى روسيا أن الاعتماد على المرتزقة مرحلة انتقالية يمكن التضحية بهم عند تحقق الغاية في سوريا.

إنّ سوريا اليوم مقسّمة بين القوى الفاعلة الآتية: النظام السياسي، والمعارضة، وتنظيم داعش، والقوى الكردية:

  1. شمال شرق سوريا، يوجد به تداخل مركّب شديد التعقيد، فبعد أن كانت هذه المناطق تحت سيطرة المعارضة، تحولت إلى سيطرة تنظيم داعش، ثم إلى سيطرة الكرد، ومُنِح النظام السوري إمكانية التوسع فيها، وتشمل محافظات: الرقة، ودير الزور، والحسكة شرقًا، ومحافظتي إدلب وحلب شمالًا، ومنطقة عفرين في الشمال الغربي.
  2. شمال غرب سوريا وجنوبها، تحت سيطرة المعارضة السورية.
  3. وسط سوريا وغربها تحت سيطرة النظام والقوى المساندة له.

ويمكن تتبع التباين في السيطرة على الأراضي السورية من الخريطتين المرفقتين بين عامي 2014 و2018.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خريطة (1): توزيع القوى والنفوذ في سوريا في كانون الثاني 2014

المصدر: خارطة النفوذ العسكري في سوريا: المدن للنظام والأرياف للمعارضة

9 أيار 2014، في: http://www.orient-news.net/ar/news_show/79022

 

 

 

 

 

 

خريطة (2): توزيع القوى والنفوذ في سوريا في نيسان 2018

س

المصدر: أطراف الصراع بسوريا... لمن النفوذ والسيطرة؟، الجزيرة نت، 3 نيسان 2018، في: http://www.aljazeera.net/news/presstour/2018/3/4/أطراف-الصراع-بسوريا-لمن-النفوذ-والسيطرة

 

 

 

 

 

وعمومًا، إنّ مواضع التباين بين روسيا وإيران تتسع أحيانًا، وأحيانًا أخرى تظهر حتى في سوريا، وتلك المواضع هي:

  1. عدم القدرة على تشكيل اتحاد يجمع الدول المنتجة للغاز رغم أن موضوعه طُرِح عام 2006-2007، وتحاول روسيا أن تكون مسيطرة على سوق الغاز في العالم، وبضمنه السيطرة على احتياطات الطاقة في سوريا، والنفوذ في سوريا للتحكم بأيّ أنابيب لنقل الطاقة عبر سوريا.
  2. وتتقاطع روسيا مع إيران في الهدف في سوريا، فروسيا تنظر إلى عملياتها في سوريا من منظور الحفاظ على نفوذها في البحر المتوسط والتحكم بأي نشاط لمدّ أنابيب الطاقة عبر سوريا، في حين أن إيران تجد مصلحتها في تفكيك البلدان العربية وتدمير الوجود العربي.
  3. فضلًا عن المنافسة على بحر قزوين، فإيران منافس في الأصل لروسيا، وروسيا تنظر إلى إيران بصفتها ورقة ضغط أكثر من كونها حليفًا في العلاقات مع الغرب والعرب، في حين أن إيران ترى أنّ علاقاتها مع الغرب أهم من علاقاتها مع روسيا والعرب.
  4. قُدِّرت قيمة صفقات الأسلحة الروسية إلى إيران بنحو 304 مليار دولار للمدة بين عامَي 1991-2015، وبنحو 21 مليار دولار عامَي 2016-2017، ورغم هذه الصفقات يبدو التحالف الروسي الإيراني في سوريا متعدّد الأوجه في الظاهر، إلا أنّه في حقيقة الأمر تحالف هشّ.
  5. إن أغلب الحلول المطروحة لا ترضي الدولتين معًا، فالحلول التي تريدها روسيا هي أن تكون القوة صاحبة النفوذ في سوريا مستقرة غير خاضعة للغرب، بينما تريد إيران أن تكون سوريا طريق مرور -فضلًا عن العراق- إلى تفكيك البلدان العربية، وزرع الفوضى فيها.
  6. كما أنّ روسيا تَفصِل بين بشار الاسم، والنظام السياسي في سوريا بمؤسساته المختلفة، وترى أنّها تدعم استقرار النظام السياسي، بينما تركز إيران على دعم بشار الأسد بوصفه خيارها الملائم، وأنّ أيّ استبدال لقمة الهرم السياسي يجب أن يأتي بشخص قريب من إيران.
  7. كما أن إيران تتخوف من احتمالات قوية لتفاهمات أمريكية-روسية لإيجاد تسوية في سوريا، فروسيا تعاني أزمة اقتصادية، وهي تشعر بحجم تأثيرها المستقبلي في البلاد، وهو ما قد يكون خطوة لتسوية العلاقات الغربية-الروسية مستقبلًا عبر المدخل السوري.
  8. كما أنّ روسيا تدعم بشار الأسد حتى يكون قادرًا على مفاوضة قوى المعارضة التي تحظى بدعم الشارع السوري على المدى البعيد لضمان موقف أقوى لنفوذها في سوريا، أي أن العمل العسكري في نظر روسيا إنما هو وسيلة لا غاية، بينما ينظر الإيرانيون إلى العمل العسكري ضد المعارضة هدفًا طالما أنّه يحقّق غايات تدمير أكبر قدر ممكن من القدرات العربية.
  9. كما أنّ الحوار التركي-الروسي بشأن سوريا يثير إيران ضدّه، لأنّه يجعل إيران حاملة للتكاليف، بينما تكون تركيا وروسيا حاملة للنتائج.
  10. يضاف إلى ما تقدّم أن إيران تدرك أن روسيا تجد مصلحتها في تطوير العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، ومن ثمّ فإنّه يمكن أن تترك إيران بسبب مزايا ومقوّمات العلاقات الروسية-الإسرائيلية، وهو ما يفسر ترك روسيا للكيان الإسرائيلي لينفذ غارات عدّة في الأراضي السورية.

إن المتضرّر من مواصلة العنف في سوريا هي قوى المعارضة في ظل غياب الدعم العربي أو الإسلامي أو الدولي؛ لأنّ المعارك تحصد من القواعد الجماهيرية (العرب السنة) وأرضهم، والمستفيد هو بالتتابع:

  • روسيا التي لا تخسر شيئًا؛ لأنّ ما تنفقه من عتاد سيُعوَّض بمشتريات أسلحة ستطلبها دول عدة، بصفتها بديلًا عن شراء السلاح من العالم الغربي، وتقييداته، فضلًا عن تمتّع روسيا بأوراق تفاوضية مستقبلية مهمّة بوجه الغرب.
  • ثم إيران، لأنها رغم الكلف التي تحمّلتها لم تخسر الكثير، بل إن أغلب من قُتِل من عناصرها هم مرتزقة من عدة دول تم شراؤهم إمّا بوعود دعم طائفية، أو بأموال مصدرها غير إيراني.
  • ثم يأت الكرد الذين حصلوا على أوسع تنظيم وتدريب وتسليح ونشر من دول عدة؛ ليسمح لهم بالتوسع على حساب الأرض العربية، وليسيطروا على مناطق واسعة خارج مناطق تواجدهم، بصفتهم بديلًا مقبولًا لدى الغرب وروسيا عن دعم القوى العربية أو الإسلامية في سوريا، وهذا تسبب بمعارضة تركية واسعة على الإستراتيجية الأمريكية([17]).

 

رابعًا- إمكانية التغير في مضمون العلاقات الروسية الإيرانية في سوريا

إذن العلاقات الروسية-الإيرانية في سوريا علاقات غير مستقرة، أو لا تستند إلى أسس ثابتة إستراتيجية، بل الطرفان يستفيدان من ضعف الموقف العربي والإسلامي والدولي، واتجاه البلدان العربية والمعارضة السورية إلى وضع أوراقها بيد الغرب، والغرب ينظر إلى سوريا على أنها نقطة استنزاف، وأنّ أوضاع سوريا بعد 2011 حماية للكيان الإسرائيلي، وأنّ حجم الاضطراب في سوريا سيدفع إلى شراء السلاح من الغرب... فأكبر المتضررين هنا هم العرب والمسلمون بسبب الاستنزاف في الأرض والأفراد والأموال.

إن المطلوب في الملف السوري لإعادة التوازن هو:

  1. تحقيق قدر من الوحدة في المواقف العربية، والانفتاح على تشكيل قوات عسكرية عربية من عمليات تطوع لا تعتمد على الحكومات العربية، على أن يجري تمويل تلك القدرات وتنظيمها وتدريبها وتسليحها بما يحقق الغايات العربية، وإيجاد شعور جمعي بوجود مشروع عالمي لتفكيك العرب بصيغة ثأر تاريخي ومعاداة التفسير العربي للإسلام.
  2. الحصول على دعم إسلامي، وإشعار البلدان الإسلامية أن هناك مشروعًا أكبر لضرب كل ما هو إسلامي.
  3. الاتجاه إلى تحريض الأقليات في إيران وقوى المعارضة فيها تجاه نظام الحكم، بحيث يجعلها مشتتة الأولويات، ولاسيّما على صعيد الأقليات غير الشيعية، مثل الكرد والتركمان والبلوش.
  4. الاتجاه إلى دعم تنظيم المعارضة الإسلامية في القوقاز الروسي، بحيث يؤكد لروسيا أن لديها نقاط ضعف.
  5. يُضاف إلى ما سبق، الاتجاه إلى تقليل الاعتماد على الدعم الغربي؛ لأنه دعم غير جِدّي، وبلا نتيجة، فما مارسته الولايات المتحدة ومعها المملكة المتحدة وفرنسا من ضربات عسكرية للنظام السوري في منتصف نيسان 2018 وقبله في عام 2017 لا يعدو أن يكون محاولة إيهام للحلفاء بوجود حضور أمريكي، فهو لا يعبّر عن دعمٍ ومواقف جدية لإيجاد تسويات للأحداث في سوريا، إذ هي ضربات بلا نتائج على الأرض، يضاف إليه أنّ الولايات المتحدة أخذت تفكّر بالانسحاب التامّ من التورط بأي تفصيل يخصّ سوريا، وهناك طروحات بدعوة العرب إلى تحمل التزامات بنشر قوات في الأراضي التي تقع تحت سيطرة أو نفوذ الولايات المتحدة.

 

إن الولايات المتحدة سبق لها أن تركت الشاه يسقط، ودعمت بشكل غير مباشر صعود الخميني إلى الحكم بوصفه يمثل مشروعًا يتناسب وفقًا لفرضية كلٍّ من برجنسكي وكيسنجر في منتصف سبعينيات القرن الماضي، التي ترى وجوب دعم التيارات الاعتقادية في مواجهة كل من الشيوعية وتفكيك المنطقة العربية. وهو ما يدعو العرب إلى اعادة صياغة خياراتهم، وواحدة منها الاعتماد على جهدهم، وعلى معونة البلدان الإسلامية ومنها تركيا.

إن تركيا يمكن أن تسهم في دعم الجهود لإحداث تسوية ملائمة في سوريا بشرط أن توسّع من تدخلها لتحمي مناطق المعارضة التي لا تحظى بدعم وغطاء جويّ بوجه القصف الجوي الروسي المستمر، وعمليات التمويل والانتشار الضخم للمرتزقة على الأرض، وهو يتطلب منها الإمساك بملفَّي توسيع التدخل العسكري الجِدّي والتفاوض مع روسيا وإيران بما يحقّق توازنًا على الأرض.

إن تركيا يمكنها أن تطور علاقات مصلحية مع العرب، فهي عاجزة عن التزام خط أيديولوجي إسلامي، وعلاقات المصالح تمثل فرصة لتلاقي الطرفين، ومقوّمات المصلحة حاضرة بين الطرفين. ويدعم ذلك: أنّ أوروبا تنظر إلى تركيا على أنها خطر إستراتيجي؛ لأسباب قيمية (وجود الإسلام)، ورغم أن تركيا تنظر سلبًا إلى العرب بلا غطاء الإسلام، إلّا أنّها لا تجعل هدفها ضرب العرب وتفكيكهم.

وبالمقابل، إنّ إيران تستخدم غطاءً أيديولوجيًّا عقديًّا إثنيًّا، الذي ينظر إلى العرب بسلبية، ويخضع سياساتها تجاههم لمنطق الثأر؛ رغبة في إنهاء الهوية العربية والمحتوى العربي للتفسيرات الإسلامية، والعرب يمكنهم الركون إلى تركيا طالما أنّها لا تمثل خطرًا أيديولوجيًّا أو عقديًّا، وطالما أن القوى الأخرى: إيران والولايات المتحدة وأوروبا والكيان الإسرائيلي تجمع على إنهاء الوجود العربي، في حين أن روسيا لا يمكن الاعتماد عليها لدعم العرب.

والعرب هنا بلا برنامج وبلا أولويات، وإيران تدرك أن أحد أهم أدواتها في توجيه مجموعات كبيرة في المنطقة هو المرجعيات التي تمتلك مفاتيحها، وتستخدمها لمخاطبة ما هو موجود وفقًا للبيئة الثقافية التقليدية القائمة على الخضوع. وهنا استثمرت الغفلة العربية، وعدم تبلور هوية شيعية عربية قادرة على إنضاج مركزية عربية لا فارسية- لفهم التشيع، وتركيا يمكن أن تتدخل هنا لمساعدة العرب على تركيز أولوياتها مقابل تعظيم أدوار تركيا الإقليمية.

إن مشكلة تركيا هي غياب الأولويات، الذي سبب لها تلكؤًا في السياسة عن تنفيذ احتياجاتها الأمنية في سوريا، فهي ترى أن مشكلتها متعددة وهي: الكرد، ثم احتمال تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، ثم الشك في روسيا، وهو ما جعلها تنتقل من سياسة إخراج بشار الأسد من الحكم بوصفه أولوية إلى كون الأمر لا يمثل أولوية لتركيا قياسًا بحجم التورّط الغربي في محاولة الانقلاب العسكري أو بدعم الكرد، ورغم ذلك فإن المقدّمات التي ذكرناها تجعل تركيا قريبة من تطوير علاقات مصلحية مع العرب.

 

الخاتمة:

إن الرؤى المتقدمة فيما يخص التنافس الروسي-الإيراني في سوريا تمثّل اجتهادات الباحث في تفسير ما يحدث في سوريا، وهي اجتهادات يمكن أن تجد ما يناقضها، وهي عمومًا تستند إلى فرض أن ما يجمع روسيا وإيران في سوريا هو عوامل تقارب مؤقت ومتعارضة على المدى البعيد، ويمكن تفكيكها إن اتّجهت البلدان العربية إلى التعامل معها بعقل إستراتيجي يعي خطورة الموقف والظرف التاريخي الذي يعيشون به.

وهذه العلاقات بوصفها قريبة من تركيا، فإنه يحمّلها التزامات على طول حدودها الجنوبية، وإلا فسوف تجد نفسها عرضة للإحاطة من قبل روسيا على جبهة ممتدة من القوقاز والبحر الأسود شمالًا، وبحر قزوين شرقًا، وإيران والعراق وسوريا جنوبًا، ومن الدول الغربية غربًا، ومن ثم فإنّ أيّ احتمال لبروز تركيا اللاحق استنادًا إلى نموّ عوامل القوة التركية سيكون مقيدًا، وسيكون البروز لإيران بتفسيراتها الطائفية للأحداث على حساب الرؤى والمصالح التركية والمصالح العربية، فضلًا عن تمدد روسيا في سوريا وشرق البحر المتوسط.

 

 

الهوامش:

 

[1] -للتوسع: شذى زكي حسن، التغيير السياسي في سوريا بين مطالب الداخل وضغوط الخارج، مجلة مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية، الجامعة المستنصرية، العدد 52، 2015، ص175-176.

[2] -للتوسع ينظر: شوقي علي إبراهيم، مشروع الشرق الأوسط (دراسة في تطوره السياسي)، المجلة السياسية والدولية، الجامعة المستنصرية، العدد 16، 2010، ص10-11.

[3] -ينظر مثلًا: روسيا تكشف عن أسلحة متطورة خلال معرض الهند للأسلحة الدفاعية، موقع الأمن والدفاع العربي، بتاريخ 21 نيسان 2018، على الرابط: http://sdarabia.com

[4] -ينظر مثلًا: أمريكا تحذر إيران مجددًا من التدخل في الشأن العراقي، موقع عربي 21، بتاريخ 27 آذار 2018، على الرابط: https://arabi21.com/story/1082028/أمريكا-تحذر-إيران-مجددا-من-التدخل-في-الشأن-العراقي

[5] -تقرير: هل تؤثر علاقات إيران الاقتصادية في مصيرها النووي، بتاريخ 18 نيسان 2018، على الرابط: http://www.elbalad.news/3256206

[6] -سميرة المسالمة، ما بعد نزهة ترامب في سورية، العربي الجديد، بتاريخ: 20 نيسان 2018، على الرابط: https://www.alaraby.co.uk/opinion/02d236fa-7d52-463f-a190-05730820ea84

[7] - العراق مصدر المال والرجال لإيران في صراعها على الأرض السورية، موقع باسنیوز، بتاريخ 1 نيسان، على الرابط: http://www.basnews.com/index.php/ar/news/iraq/430900

وأيضًا: محسن ظافر آل غريب، تمويل الفساد للإرهاب، موقع كتابات، بتاريخ: 19 نيسان 2018، على الرابط: https://kitabat.com/2018/04/18/تمويل-الفساد-للإرهاب/

[8] -فاتن عمري، المرتزقة في حروب العالم العربي، على موقع مجلة المرأة العربية، بتاريخ: 12 نيسان 2018، على الرابط: https://meemmagazine.net/2018/04/20/كولمبيون-في-اليمن-وأوغنديون-في-سوريا-/

[9] -كتب عن المرتزقة في سوريا.. موت غامض لصحفي روسي، بتاريخ: 10 نيسان 2018، على الرابط: http://www.dw.com/ar/كتب-عن-المرتزقة-في-سوريا-موت-غامض-لصحفي-روسي/a-43413051

[10] -إيران مثل سوريا... لا تملك دفاعات جوية، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، بتاريخ 17 نيسان 2018، على الرابط: https://rasanah-iiis.org/مقالات/إيران-مثل-سوريا-لا-تملك-دفاعات-جوية/

[11] -عوني الكعكي، القرار في سوريا فقط أميركي–روسي، موقع القوات اللبنانية، بتاريخ 20 نيسان 2018، على الرابط: https://www.lebanese-forces.com/2018/04/18/the-decision-in-syria-is-only-american-russian/

[12] -وزير إسرائيلي: وجهنا 100 ضربة في سوريا ولبنان لإحباط نقل أسلحة متطورة إلى (حزب الله)، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، العدد 14390، بتاريخ: 20 نيسان 2018، على الرابط: https://aawsat.com/home/article/1245476/وزير-إسرائيلي-وجهنا-100-ضربة-في-سوريا-ولبنان-لإحباط-نقل-أسلحة-متطورة-إلى-«حزب

[13] -تقرير: 3 إمبراطوريات تنهض من جديد والمستهدف منطقتنا العربية، بتاريخ: 2 نيسان 2018، على الرابط: http://www.alqurtasnews.com/news/284820/alqurtasnews-news/ar

[14] - الرئيس روحاني: سنواصل دعمنا لسوريا حتى عودة الأمن والاستقرار لكل ربوعها، بتاريخ: 21 نيسان 2018، على الرابط: http://ar.farsnews.com/iran/news/13970201001371

[15] -سونر چاغاپتاي, آنا بورشفسكايا, نادر أوسكوي، قمة تركية- روسية- إيرانية: القيود أمام تفاهم ثلاثي، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، دورية تحليل السياسات، العدد 2951، بتاريخ: 3 نيسان 2018، على الرابط: http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/turkish-russian-iranian-summit-limits-to-a-tripartite-entente

[16] -تقرير: بعد تصريح ترامب بالخروج من سوريا... أكراد: فرنسا سترسل قوات إلى منبج، بتاريخ 29 اذار 2018، على الرابط: http://www.masrawy.com/news/news_publicaffairs/details/2018/3/29/1304547/بعد-تصريح-ترامب-بالخروج-من-سوريا-أكراد-فرنسا-سترسل-قوات-إلى-منبج

[17] -للتوسع بشأن إستراتيجية الولايات المتحدة ينظر:

4 سيناريوهات تكشف أسباب تخلي واشنطن عن أكراد سوريا، بتاريخ: 28 آذار 2018، على الرابط: https://www.tahrirnews.com/posts/879381/الأكراد++واشنطن++سوريا++عفرين

وأيضًا: آزاد جمكاري، ماذا قالت مستشارة الأسد عن دعوة ترامب لنشر قوات عربية في سوريا؟، بتاريخ: 18 نيسان 2018، على الرابط: http://www.rudaw.net/arabic/middleeast/syria/18042018


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...