يأتي صدور العدد الجديد من مجلة رؤية تركية في الوقت الذي تشهد فيه المنطقتان العربية والإسلامية حدثًا بارزًا كانت له تداعيات هائلة على المنطقة والعالم بأسره، وذلك عقب إعلان الرئيس الأمريكي مدينة القدس عاصمة لإسرائيل، واعتزامه نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، وهذا أثار حملة من الغضب الشعبي الكبير في مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي، تمثّلت في تظاهرات ووقفات تضامنية مندّدة بالقرار الأمريكي. وفي هذا التوقيت برزت كلمات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الحادة إزاء القرار، ومثّلت هذه الكلمات نقلة نوعية في طبيعة العلاقات التركية الإسرائيلية، التي تعد الأولى من نوعها في وصول الخطاب الرسمي بين الدولتين إلى هذا الحدّ من التصعيد المتبادل، إذ لم تشهد العلاقات سجالًا بهذه الحدة منذ أحداث سفينة مرمرة 2010 م.
وقد صعّد الرئيس التركي من خطابه تجاه الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة ومباركة الجانب الأمريكي لها، الذي انتهى بمحاولته اختطاف القدس لمصلحة إسرائيل، ودعا الشعب التركي إلى أن ينتفض في كل المحافظات تنديدًا بالقرار والممارسة، وأُقِيمت عدة مؤتمرات على هامش الحدث، وظهر أردوغان ومعه خريطة كبيرة لفلسطين المحتلة تبرز مراحل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، التي كان أبرزها وعد بلفور 1917، وأثار أردوغان في كل ندوة أو مؤتمر هذا الموضوع بإسهاب يشرح فيه كيف تطور احتلال إسرائيل للدولة الفلسطينية. وفي الجانب الآخر لم تكن تحركات رئيس الوزراء بن علي يلدرم مغايرة لهذا المسار الذي جعلته الدولة التركية ردة فعل على هذا القرار السياسي الأمريكي المفتقد للحكمة، ووظف رئيس الوزراء كل المحافل والمؤتمرات الداخلية لتأكيد خطورة انعكاسات الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل على السلام في منطقة الشرق الوسط، ولاسيّما بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
بالتوازي مع ذلك دعا الرئيس التركي إلى قمة طارئة وعاجلة لمنظمة التعاون الإسلامي التي خرجت ببيان مهمّ أكّد أن القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، ودعا إلى تحقيق السلام العادل والشامل القائم على أساس حلّ الدولتين، رافضًا القرار الأحادي وغير القانوني للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل .
وكان من الطبيعي أن تتحرك الأقلام الإسرائيلية من النخب السياسية والإعلامية وكبار الكتّاب والباحثين صوب الدولة التركية، منتقدة دعمها لفلسطين، سواء على مستوى السلطة الرسمية ودوائر الحكم أم على المستوى الشعبي غير الرسمي الذي يعكس حجم التماهي التركي مع القضية الفلسطينية، ووجود تلك القضية على رأس أولوياتها، فضلًا عن رمزيتها الدينية والعقدية. ونال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان النصيب الأكبر من الخطابات الحادة والتصريحات غير المسؤولة، ولاسيّما عقب تهديداته بقطع العلاقات بين الجانبين التركي والإسرائيلي على خلفية هذا الحدث .
نقدّم في العدد الذي بين أيديكم من مجلة (رؤية تركية) طائفة من البحوث المتنوعة المهمّة، نبدأها ببحث عن العلاقات التركية الروسية للباحث في مركز ستا محمد كوتشاك الذي يسعى إلى الوقوف على محددات العلاقات التركية الروسية التي شهدت منعطفات عدة ومحطات سياسية متنوعة تأرجحت بين الصعود والهبوط، إلا أنها في مجملها حافظت على نوع من التوازن في العلاقة، حرص من خلاله كل طرف على ترك مساحات من التواصل والعلاقة بحيث تسمح لهما بمزيد من التعاون في عدة مجالات، ومنعِ وقوف اختلاف وجهات النظر السياسية عائقًا لإتمامها، و قطع الطريق على مستجدات الأحداث المفتعلة التي تسعى جاهدة لذلك، وكان أكبر دليل على ذلك تجاوز البلدين أزمة إسقاط تركيا الطائرة الروسية، فضلًا عن اغتيال السفير الروسي في أنقرة، وغيرهما من القضايا التي تحتاج إلى مزيد من التفكيك والتحليل للوقوف على تأثيراتها الممتدة وتداعياتها على كلا الطرفين.
ومن روسيا إلى الصين حيث يأتي بحث الكاتب قدير تميز عن العلاقات التركية الصينية ليعطي بعدًا مهمًّا وعرضًا مميَّزا عن طبيعة هذه العلاقة، بدءًا من السياسة وانتهاء بالثقافة، من خلال ما تحمله هاتان الدولتان من أطر سياسية ومجتمعية وثقافية ممتدة لسنوات. ورغم أن هذه العلاقة لم تشهد تطورًا كافيًا بسبب تأثّرها سلبًا بالعلاقات التركية الأوروبية، إلا أنها تظل من القضايا المهمّة التي تستدعي ضرورة تسليط الضوء عليها في سياق الرؤية التي تنتهجها الدولة التركية في اللحظة الراهنة، بسعيها إلى إيجاد دور نافذ في خريطة القوى الكبرى في المنطقة، التي تُعَدّ الصين واحدة منها، وتسعى بشكل تصاعدي إلى أداء دور مستقبلي يتجاوز دورها الذي يركّز على جملة من الطموحات الاقتصادية .
وإنّ العلاقة القائمة بين تركيا وحلف الناتو تشكّل محورًا مهمًّا في تاريخ تركيا الحديث، من خلال ستة عقود متوالية، منذ انضمام تركيا إلى الحلف في أربعينيات القرن الماضي، وهو ما يستعرضه بشكل تفصيلي الأكاديمي التركي مصطفى كبار أوغلو. ومع التحولات التي شهدتها الجمهورية التركية خلال العقدين الأخيرين، وانتقالها من دولة تابعة منقادة إلى دولة نافذة ومؤثّرة، وذات وزن دولي تجاوزت النطاق المحلي- كان لابدّ أن تتعامل تركيا مع الحلف بشكل مغاير من جهة، وأن يقبل الناتو تلك التحولات ويقدر على استيعاب هذه التمظهرات الجديدة من جهة أخرى .
واستطاع كبار أوغلو في هذا البحث أن يقدّم قراءة عميقة تتجاوز سرد الأحداث وتقديم مضامينها إلى إبراز خريطة العمل اللازمة للدولة التركية، من خلال تقديم مجموعة مقترحات تعزّز من تلك العلاقة بينهما مع الحفاظ على ثوابت ودور تركيا في الحلف .
بالتوازي مع ما سبق شهدت منطقة الخليج حالة من السجال غير المعهود بين الأشقاء الخليجيين، وتحديدًا بين كل من المملكة العربية السعودية والإمارات وغيرهما من جهة، ودولة قطر من جهة أخرى، وكان لدولة قطر موقف وسط دعا كل الأشقاء إلى رأب الصدع ومحاولة إيجاد طرق للتفاهم تقرّب المسافات ولا تبعدها، انطلاقًا من مركزية المملكة العربية السعودية باعتبارها الشقيقة الكبرى لكلّ الخليجيين، وقد سعى الباحث علي أصلان في دراسته: (لماذا تتصادم قطر والسعودية؟) إلى النظر من زاوية مغايرة؛ لسبر أغوار المشهد الخليجي بشكل عام، وأزمة الحصار على قطر بشكل خاص، وتداعياتها المستقبلية، مع التركيز على محددات هذا السجال وأطره وسياقاته الفاعلة على المستويات كافة، ولاسيّما السياسية والاجتماعية.
ومنذ أحداث الثورة الليبية في 17 فبراير/ شباط 2011 وما تلاها من تداعيات سعت الجمهورية التركية إلى تقديم يد العون والمشورة لتثبيت دعائم الدولة المركزية هناك، والوقوف في وجه أيّ حالة ميليشاوية تحاول أن تكون بديلًا لنظام القذافي، والسعي إلى أن يخرج النظام الجديد محمّلًا ومعبّأً بأحلام الثورة وأفكارها ورؤاها التي انطلقت شرارتها من أجلها.
ويمكننا القول إن العلاقات التركية الليبية من القضايا الأكثر تعقيدًا؛ لكونها تحمل طائفة من الإشكاليات، نتيجة حجم القوى المتصارعة فيما بينها في الداخل الليبي، ويسعى الباحث امرح ككيلي إلى تسليط الضوء على طبيعة هذه العلاقات وأطوارها التكوينية، وكيف بدأت توثباتها، وما أصبحت عليه الآن، إضافة إلى قراءة عميقة لتمظهراتها المستقبلية.
ومثّل استفتاء إقليم شمال العراق الأخير في أيلول الفائت 2017م نقطة تحول كبيرة في الخارطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، ولاسيّما أن نسب التصويت في هذا الاستفتاء كانت مرتفعة، وهو ما أدّى إلى استنفار كبير لدى كل من تركيا وإيران والعراق، نتيجة تداعيات مثل هذه الممارسات السياسية الانفصالية التي من شأنها أن تعصف بالمنطقة وتقسمّها على أساس عرقي وإثني، وهو ما يقدّمه بشكل تفصيلي الكاتب بنيامين كسكين في بحثه المهمّ: (بحث إقليم شمال العراق عن الاستقلال).
وتشغل المسألة الكردية محور اهتمام الفاعل السياسي التركي، سواء على المستوى الرسمي أم على المستوى الحزبي والمجتمعي، ونظرًا لتعقيد هذا الملف وحساسيته وما يلتفّ به من إشكاليات عدة- يسعى الباحث طلحة كوسا في بحثه (صعود وهبوط مبادرات السلام الكردية التي أطلقها حزب العدالة والتنمية) إلى إبراز الوجه الجاد والدور الحقيقي للحزب في هذا الملف، وبخاصة في الفترة الممتدة ما بين 2002-2017، وهو جهد سعى من خلاله كوسا إلى وضع معايير هذه العلاقة، وأسباب صعودها حينًا وإخفاقاتها أحيانًا أخرى، وبيان أسباب تلك التحولات: إن كانت داخلية؛ أي من داخل الحالة الكردية ذاتها وتحديدًا حزب العمال الكردستاني، أم خارجية من السياقات التي تغذّي هذه الحالة وتدفع نحو تشظّيها، خصوصًا بعد سعي أطراف إقليمية لتغذية هذا الصراع وتفاقمه.
وتُختَتَم مقالات هذا العدد بما سطرته الأكاديمية التركية زينب صاغير من خلال قراءتها البعد النفسي والمجتمعي لحالة الهجرات واللجوء، وبخاصة المرتبطة بالأزمة السورية، واللاجئين السوريين، وهي من النقاط المهمّة التي تغافل عنها كثير من المهتمّين، وترجع خطورتها وأهميتها في آن معًا إلى التداعيات النفسية والمجتمعية الخطيرة للاجئ التي تؤثر في مخياله وواقعه وأدواته، فضلًا عن آلياته التفاعلية مع الواقع والمجتمع من حوله، التي لاشكّ كانت للحرب السورية السبب الرئيس لتلك المشكلات المتفاقمة، والتي تتزايد خطورتها على اللاجئ واقعًا ومستقبلًا.