تُعَدّ القبائل والعشائر، التي تقوم على قرابة الدم ووجود رابطة أبوية مشتركة تجمع أبناءها- عاملًا حاسمًا في تنظيم الشبكات الاجتماعية في شرق سوريا. وبحسب ابن خلدون، فإن أسلوب الحياة في المجتمعات القبلية يتميز بالتضامن الاجتماعي والعصبية القوية، حيث يسود فيها القانون "العُرف" القبلي، فلا مجال للتردد في الدفاع عن القبيلة وأفرادها ضد أي عدوان خارجي. بالإضافة إلى ذلك، هناك نوع من اللامبالاة تجاه الدولة، وتتميز العلاقات بين القبلية والسلطة بدرجة عالية من البراغماتية والواقعية، حيث إن أولوية زعماء القبائل هي ضمان مصالحهم الشخصية ومصالح القبيلة وحماية أبنائها. زادت قوة العشائر وتأثيرها بشكل كبير مع اندلاع الثورة الشعبية في عام 2011، حيث غابت سلطة الدولة عن أجزاء واسعة من سوريا. وقد أسهمت العشائر بنشاط في تشكيل الديناميات الاجتماعية من خلال فرض آليات ضغط اجتماعي للسيطرة على الفوضى الناجمة عن غياب السلطة المركزية وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية استنادًا إلى الأعراف والعادات العشائرية.
أدركت سلطات الأمر الواقع المتعاقبة في هذه المنطقة أهمية المكون العشائري وقوته في دعم الاستقرار وتأمين النفوذ والسيطرة. إلا أنه غالبًا ما يُساء فهم البنية العشائرية عندما يجري التعامل معها على أنها كيان سياسي. فبينما تبدو العشيرة على أنها كيان اجتماعي متماسك وعامل أساسي في الهيكل الاجتماعي، فإنه من الصعب تأطير العشيرة سياسيًّا؛ بسبب عاملين رئيسين، الأول هو براغماتية العشائر في التعامل مع التغيير المتسارع لسلطات الأمر الواقع في سوريا بعد عام 2011، والثاني يعود إلى الولاءات المتعددة داخل العشيرة نفسها، وهذا يؤثر في عملية صناعة القرار داخل العشيرة.
يهدف هذا البحث إلى دراسة المجتمع العشائري في شرق سوريا من حيث التوزيع الديمغرافي والعوامل المؤثرة في علاقاته مع سلطات الأمر الواقع المتعاقبة في المنطقة بعد الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ عام 2011 حتى النزاع المسلح مؤخرًا بين العشائر وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في دير الزور عام 2023، بالإضافة إلى خلاصات عامة عن العشائر وأدوارها المستقبلية في شرق سوريا.
يُشار عُرفًا إلى القبيلة بأنها مجموعة من العشائر غالبًا يجمعهم أصل مشترك أو تحالف عشائري، كما أنه يُتساهل أحيانًا في تسميتها، فيُطلَق على القبيلة اسم العشيرة أو العكس؛ في هذا البحث سيُعتمَد اسم العشيرة للدلالة على عشائر شرق سوريا وقبائلها.