يتناول العدد الجديد من مجلة (رؤية تركية) مجموعة من الموضوعات البحثية المرتبطة بالتطورات والمواقف الدولية ممّا حدث في أفغانستان بعد عودة حركة طالبان وتصدّرها المشهد هناك بشكل مفاجئ، كما يسلّط العدد الضوء على التطورات في أكثر من بلد من بلدان المنطقة، وبخاصة الانتخابات في المغرب التي أسفرت عن تراجع كبير لحزب العدالة والتنمية المغربي.
ويتطرق هذا العدد كذلك إلى ملفات مرتبطة بالتحولات والمتغيرات، وعدد من الظواهر البارزة، ويتميز بمشاركة نخبة من الأكاديميين والباحثين: العرب والأتراك.
نستهلّ بحوث العدد بدراسة الباحث التركي دنيز استقبال بعنوان: "سياسة الصين تجاه أفغانستان: الفرص والمخاطر" التي تتناول العلاقات الثنائية من منظور تاريخي، وتحلّل سياسة الصين تجاه أفغانستان بناء على نهج اقتصادي وسياسي، وتلاحظ أنه من المحتمل أن تؤدّي الصين دورًا في إعادة إعمار أفغانستان، ومن المحتمل أن تشكّل سياسة بكين تجاه أفغانستان منعطفًا مهمًّا في طريقها لتصبح قوة عالمية؛ لكونها اللاعب الذي يملك أكبر احتياطي من العملة الأجنبية والقوة الشرائية والتجارة الخارجية في العالم. وتشير مبادرات التنمية التي خبرتها الصين من خلال القيام بالاستثمارات على الصعيد الاقتصادي في مناطق مختلفة حول العالم في العقدين الماضيين- إلى تحوّل جديد في أفغانستان، وهو الأمر الذي تركز عليه هذه الدراسة.
وتتناول دراسة الباحث محمد تشاغاتاي غولر في مركز سيتا للدراسات سياسة روسيا تجاه أفغانستان، وهي تهدف إلى تحليل السياسة الروسية تجاه أفغانستان في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي 2021. وتجادل بأن سياسة موسكو تجاه أفغانستان تتحدد وفقًا لعاملين أساسيين: أولهما الحفاظ على أمن واستقرار دول آسيا الوسطى التي تستحوذ على موضع مهمّ في السياسة الخارجية الروسية بوصفها "المحيط القريب"، ومنع تسرب القوى الأصولية إلى هذه المنطقة، وثانيهما تقويض نفوذ الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة في أفغانستان، ما أمكن، أو تحديده في مجالات التعاون المشترك. وتدّعي الدراسة أن روسيا ستواجه منافسة على النفوذ في أفغانستان من دول مختلفة، أهمها الصين والهند وتركيا وإيران، على أن هذا التنافس سيكون بعيدًا عن خلق تهديدات أمنية من شأنها أن تقوّض مصالح الأطراف كافة.
وفي قراءة للسياسة الإيرانية تجاه أفغانستان تعرض دراسة الباحث في جامعة سقاريا التركية مصطفى جانر أولًا سياسة إيران في أفغانستان في الفترة التي كانت تعطي الأولوية لانسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، ثم تناقش ردود أفعال إيران وضبطها لموقفها وموقعها بعد أن أحكمت طالبان سيطرتها على معظم البلاد، ثم تسلط الضوء على العوامل التي تتبلور حولها سياسة إيران في أفغانستان، وتحلّل التأثيرات المحتملة لهذه العوامل، وتقدّم توقّعات حول التغييرات المحتملة في السياسة الخارجية على المدى القصير والطويل. وقد لوحظ من خلال هذه الدراسة أن المحددات الأيديولوجية، مثل حماية الشيعة في أفغانستان- تؤدّي دورًا لا يقلّ أهميةً عن الدور الذي تؤدّيه المصالح السياسية الواقعية في النهج الذي تتبعه إيران إزاء الأزمة الأفغانية.
وفيما تُعَدّ دول الخليج العربي من الدول ذات الاهتمام التاريخي بالملف الأفغاني منذ عدة عقود فقد حلّلت دراسة الباحث محمد رقيب أوغلو، بعنوان: سياسات الخليج تجاه أفغانستان: البراغماتية الحذرة بين الفرص والمخاوف"- سياسات ثلاث دول خليجية، هي: الإمارات وقطر والسعودية تجاه أفغانستان. وتجادل الدراسة بأن لدى كل من السعودية والإمارات تخوفات؛ أهمها التقارب بين طالبان وإيران، وموجات اللجوء المحتملة من أفغانستان. توصّلت الدراسة إلى أنّ احتمالية أن يمنح استيلاء طالبان على الحكم دفعة لحركات الإسلام السياسي تمثّل مصدر إزعاج للإمارات، في حين تخشى الرياض من تهديد طالبان لأمن نظامها الداخلي، أو تحدّي مكانتها المميزة في العالم الإسلامي. أما عن قطر؛ فتجادل الدراسة بأنها اللاعب الخليجي الأكثر فعالية على الساحة الأفغانية؛ بفضل دور الوساطة الذي تؤدّيه بين الولايات المتحدة وطالبان منذ عام 2013. وعلى الرغم من اختلاف تخوفات كل لاعب، إلا أن القاسم المشترك بين اللاعبين الثلاثة هو اتباعهم سياسة براغماتية حذرة، إذ يسعى كل لاعب إلى عدم ترك المجال فارغًا لمنافسيه، وفي الوقت نفسه لا يتسرع في إقامة علاقات قوية مع طالبان.
ونظرًا لما حملته الأحداث في أفغانستان من مخاطر للدول المحيطة؛ تخوفًا من بدء عملية هجرة جماعية من البلاد- فقد عالجت دراسة الباحث حاجي محمد بويراز بعنوان: "الهجرة غير النظامية من أفغانستان إلى تركيا: تقييم خاص لعام 2021" حيث تناقش تداعيات ما حصل من هجرة غير نظامية سريعة من أفغانستان نحو دول الجوار وتركيا عبر إيران. وعلى الرغم من كون الهجرة غير النظامية من أفغانستان ليست تطورًا جديدًا إلا أنه عقب سيطرة طالبان على عموم البلاد أخرجت بعض دوائر المعارضة في تركيا القضية من سياقها، وروّجت لنظريات المؤامرة التي من شأنها أن تهيّج الرأي العام، وشنّت حملة تضليل منهجية في هذا الشأن.
أما الملف الآخر الذي ركزت عليه المجلة وتناقشه من خلال دراستين فهو الانتخابات الأخيرة في المغرب في سبتمبر 2021، حيث يناقش الأكاديمي المغربي يحيى عالم في دراسته: "المشهد السياسي ومسارات الديمقراطية بالمغرب في ضوء دستور 2011 وانتخابات 2021"، المشهد السياسي ومسارات الديمقراطية في المغرب في ضوء المذكور، ويحاول الباحث في الدراسة الإجابة عن سؤال ارتباط التنظيم المستمر للانتخابات بسير المغرب نحو الديمقراطية، من خلال تسليط الضوء على الأبعاد والدلالات التي تحملها الانتخابات الأخيرة التي شملت مجلس النواب والمجالس البلدية والجهوية، ثم تشكيل الحكومة الجديدة. كما تشير الدراسة إلى ما أسمته العقد الاجتماعي الجديد في المغرب، ومن هنا فإنّ الدراسة تمنح رؤية للنسق السياسي المغربي، والآليات التي تضبطه، وتوجه الأطراف الفاعلة فيه.
أما الدراسة الثانية فهي تركّز على تجربة حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات، ويحلّل فيها الباحث جواد الرباع أستاذ العلوم السياسية بجامعة ابن زهر أغادير- تجربة حزب العدالة والتنمية المغربي في ولايتين حكومتين 2011-2021 مع التركيز على مخرجات انتخابات 2021. وهذا الرصد يسعى إلى تفسير العوامل والأسباب ودلالات الهزيمة الانتخابية للعدالة والتنمية خلال هذه الانتخابات، في تحليل وقراءة وتفكيك مخرجات العملية الانتخابية من جهة، ووضعها في سياقها التاريخي والسياسي من جهة أخرى، وهي تنطلق من المستجدات القانونية والدستورية، مع استحضار رهانات الفاعلين السياسيين، والتطرق إلى المعوّقات البنيوية والإدارية التي تعترض الفاعل الحكومي والمنتخبين في تحقيق تنمية وديمقراطية حقيقية، باعتبارهما مدخلين يساعدان على الإحاطة بالموضوع .
ويضمّ هذا العدد بين دَفّتيه أيضًا مجموعة أخرى من الدراسات المميزة، مثل دراسة الباحث الفلسطيني حمدان عمران عن "سرقة (إسرائيل) للمياه الفلسطينية والعربية"، ودراسة الباحثين كوتلوهان غورجو وعمر أوزكيزيلجيك التي تناقش الحصار المفروض على منطقة درعا، ويُختّتم العدد بملفّ مهمّ سلط فيه الأكاديمي التركي مردان غونيش الضوء على واقع تعليم دروس الدين الإسلامي في ألمانيا في الولايات الألمانية، وقدم مقترحات جدّية لتعريف الجيل الإسلامي الناشئ في ألمانيا بدينه بشكل صحيح، وبما ينسجم مع القوانين المعمول بها في ألمانيا.
وبالإضافة إلى الدراسات القيّمة يضم العدد عرضًا لبعض الكتب المميزة الصادرة حديثًا، منها كتاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وعنوانه: "من الممكن إنشاء عالم أعدل".
وختامًا نأمل أن تكون ملفّات العدد قد قدّمت للقارئ تحليلًا متماسكًا بمنظور مختلف ورصين، ورؤية واضحة للقضايا التي جرى تناولها، ونأمل أن نستمر في التواصل معكم عبر الأعداد القادمة من خلال المزيد من البحوث والدراسات العلمية الرصينة التي تتناول الظواهر والتطورات الإقليمية والدولية.