رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

صعود الشعبوية المعادية للأجانب في السياسة التركية

بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، أصبحت تركيا الوجهة الأولى للاجئين السوريين، ولكن أدى التدفق المفاجئ والكبير للاجئين الأجانب إلى تركيا إلى ظهور بعض المشكلات في المجتمع التركي. وقد حاولت النخب المعارضة التي أخفقت سنوات عديدة أمام حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان استغلال هذه الفرصة لمصلحتها؛ حيث سعت إلى تحقيق النجاح في الانتخابات باستخدام إستراتيجيات وخطابات قومية معادية للأجانب، على غرار ما يحدث في أوروبا. ونتيجة لذلك، شهدت السياسة التركية صعودًا للتيار القومي الشعبوي المعادي للأجانب. تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عن ثلاثة أسئلة محورية في هذا السياق: كيف ظهر التيار القومي الشعبوي المعادي للأجانب بوصفه تيارًا سياسيًّا في تركيا؟ ما وضعُ الدراسات الأكاديمية المتعلقة بهذا التيار في تركيا؟ كيف يجري إنتاج هذا الخطاب المعادي للأجانب في السياق السياسي؟

صعود الشعبوية المعادية للأجانب في السياسة التركية

بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، أصبحت تركيا الوجهة الأولى للاجئين السوريين، وكذلك للاجئين من العراق وأفغانستان وغيرها من دول الشرق الأوسط. وأصبحت تركيا واحدة من أكثر نقاط العبور شهرة إلى أوروبا. لكن تركيا كانت بالفعل مركز جذب أو دولة عبور للمهاجرين منذ فترة طويلة؛ نظرًا لموقعها الجغرافي وروابطها التاريخية والاجتماعية والثقافية مع البلقان، والشرق الأوسط، وحتى شمال إفريقيا، التي ورثتها من الإمبراطورية العثمانية. في الواقع، حتى قبل أزمة الهجرة التي شهدتها عام 2015، كانت تركيا هدفًا للهجرة القسرية من البلدان المجاورة، خاصة في أواخر القرن العشرين. فعلى سبيل المثال، تعرضت تركيا لموجة كبيرة من الهجرة الكردية من العراق في عامَي 1988 و1991، نتيجة للحرب الخليجية الأولى وهجمات صدام حسين ضد الأكراد في شمال العراق. وفي الفترة نفسها، كانت تركيا أيضًا الوجهة للأتراك الذين غادروا بلغاريا نتيجة سياسات الاستيعاب التي شهدتها البلاد في عام 1989. كذلك، خلال فترة الحرب الأهلية في يوغوسلافيا والإبادة الجماعية في التسعينيات، لجأ البوشناق والألبان الكوسوفيون إلى تركيا.

في نهاية عام 2010، عندما بدأ الربيع العربي، كانت تركيا تتمتع بهيكل سياسي واقتصادي مستقر وقوي للغاية، حيث كانت تنمو بسرعة من الناحية الاقتصادية، وتحت حكم حكومة مستقرة منذ 8 سنوات، وتمتلك جمهورية ديمقراطية وعلمانية عمرها يقارب القرن، على الرغم من وجود بعض العثرات. ومن هذا المنطلق، كانت تركيا تُعَدّ "نموذجًا" للدول الإسلامية في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن هذا التوجه كان يُطلَق عليه أحيانًا اسم "العثمانية الجديدة"، إلا أن تركيا كانت تسعى لأن تصبح قوة إقليمية من خلال اتباع سياسة خارجية نشطة. وبالفعل، مع بدء الربيع العربي، اختارت تركيا الوقوف إلى جانب الانتفاضات، خاصة في تونس ومصر وسوريا.

لكن الانتفاضة في سوريا تحولت في وقت قصير إلى حرب أهلية متعددة الأطراف، وهذا أتاح المجال للتنظيمات الإرهابية للظهور. ومع تدخل دول أجنبية مثل روسيا والولايات المتحدة وإيران في الحرب، تصاعدت حدة الصراع وازداد عدد الضحايا المدنيين بسرعة. نتيجة لذلك، بدأ المدنيون السوريون، وبخاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعات المعارضة للنظام، بالنزوح إلى الدول المجاورة. وتسارعت وتيرة الهجرة بشكل ملحوظ في عام 2013 وبلغت ذروتها في عامي 2014 و2015. وكانت تركيا الوجهة الأولى للاجئين السوريين؛ نظرًا لقربها من مناطق الصراع، وكونها أطول حدود مجاورة لسوريا.

خلال هذه الفترة، اتبع رجب طيب أردوغان وحكومته سياسة الباب المفتوح تجاه اللاجئين، وأوضح أردوغان، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء قبل أن يصبح رئيسًا للجمهورية في عام 2014، هذه السياسة من منطلق "مسؤولية حضارية إسلامية". كما بنى خطابه الإيجابي والشامل باستخدام مصطلحات مثل "إخوتنا السوريين" و"الأنصار والمهاجرين". ومع ذلك، وخصوصًا بعد عام 2015، بدأت تركيا تواجه صعوبات في استيعاب الأعداد الكبيرة من اللاجئين. ومع تصاعد عمليات الهجرة غير الشرعية ومحاولات اللاجئين الانتقال من تركيا إلى أوروبا، بالإضافة إلى تزايد حوادث وفاة المهاجرين في بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط، تحولت أزمة اللاجئين إلى أزمة إنسانية. وخلال هذه الفترة، كان أردوغان يوجه انتقادات متكررة إلى أوروبا، متهمًا إياها بـ"عدم المسؤولية" تجاه ما يحدث في سوريا.

من ناحية أخرى، ومع تحوّل الهجرة إلى أزمة سياسية بالنسبة لأوروبا، وقّع الاتحاد الأوروبي وتركيا اتفاقًا في مارس 2016 للحد من الهجرة غير النظامية وغير الشرعية. وفقًا لهذا الاتفاق، كان من المقرّر أن يقدّم الاتحاد الأوروبي مساعدة مالية لتركيا، ويسرع في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويتخذ خطوات إيجابية في مجموعة من القضايا الأخرى. وفي المقابل، كانت تركيا ستبذل جهودًا للحد من الهجرة غير النظامية وغير الشرعية، وتستقبل المهاجرين الذين يعبرون بشكل غير قانوني إلى جزر اليونان، بينما يتعهد الاتحاد الأوروبي بقبول العدد نفسه من المهاجرين بشكل قانوني.

هذا الاتفاق أصبح سببًا رئيسًا في تحويل قضية الهجرة إلى أزمة في السياسة الداخلية التركية. إذ كانت هناك بالفعل نقاشات حادة بين حزب العدالة والتنمية وبين أحزاب المعارضة الرئيسة، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، حول سياسة الباب المفتوح. وزادت حدة النقاشات مع ارتفاع أعداد اللاجئين إلى الملايين ومع توقيع الحكومة على الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، وهذا أدى إلى تفاقم الأزمة؛ إذ وصف زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال قليجدار أوغلو، في عام 2014، قبول 1.5 مليون لاجئ بأنه "خيانة". ونتيجة لذلك، أصبحت قضية الهجرة واللاجئين أزمة سياسية في تركيا. وكما حدث في أوروبا، بدأ صعود الشعبوية المعادية للأجانب في السياسة التركية، وكان قليجدار أوغلو وبعض الأحزاب والشخصيات المعارضة الأخرى في طليعة هذا الخطاب.

هذه الدراسة ستسعى للإجابة عن ثلاثة أسئلة محورية تتعلق بهذه القضية: كيف ظهرت الشعبوية المعادية للأجانب تيارًا سياسيًّا في تركيا؟ ما وضع الدراسات الأكاديمية المتعلقة بالشعبوية المعادية للأجانب في تركيا؟ كيف يجري إنتاج هذا الخطاب في السياق السياسي؟ ولكن قبل البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، يجب أولًا تقديم لمحة موجزة عن مفهوم الشعبوية المعادية للأجانب.

 


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...