رغم أن تدخل المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي ظاهرة قديمة متجددة، إلا أن هذه العلاقة شهدت محاولات عدة للضبط والتقنين في القرنين التاسع عشر والعشرين في العالم الغربي، إذ خضعت هذه العلاقة للدراسة من قبل منظري الدراسات السياسية والإستراتيجية لتجاوز ظاهرة الانقلابات العسكرية؛ ذلك أن العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية تعد أمرًا خطيرًا لانعكاساتها على البناء التنظيمي للدولة، إن العلاقة المدنية– العسكرية مفهوم سياسي قانوني بدأته الدول والمجتمعات الديمقراطية الغربية وتطور جنبًا إلى جنب مع تقدم الديمقراطية ، خصوصًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأمم المتحدة.
يؤكد صموئيل هنتغتون في كتابه " الجندي والدولة" ضرورة حياد الجيش وعدم انخراطه في الحياة السياسية، وأن تنحصر مهامه في تنفيذ السياسة الدفاعية للبلاد وإنجازها، وأن الجيش الذي يقوم بأدوار سياسية غير محترف بالضرورة. غير أن رأي هنتغتون هذا تغير وتبدل عندما تعلق الأمر بدول العالم الثالث، فقد بيّن في كتابه "النظام السياسي لمجتمعات متغيرة" موقف الولايات المتحدة من الانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث، مفضلًا الاستقرار على الديمقراطية، ومدافعًا عن دور الجيش في صناعة الاستقرار وتأمين المصالح الغربية. إن قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان لا تعدو في حقيقة الأمر أن تكون أداة أيديولوجية يستخدمها الغرب لفرض هيمنته، وتسويغ تدخله في شؤون الدول المناهضة لسياساته؛ لذلك لم يعارض الغرب ظاهرة الانقلابات العسكرية في كثير من دول العالم، بل كان متواطئًا في كثير منها، أو غاضًّا الطرف عنها.
إن الجيش يُعَدّ مؤسسة أساسية في الدول النامية، إلا أن الانقلابات العسكرية كانت أسلوبًا شائعًا للوصول للسلطة وتغيير نظام الحكم فيها في القرنين الماضي والحالي. إذ خرج الجيش في عدد من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية عن الدور المناط به؛ ليمارس نفوذًا أكبر من خلال محاولة السيطرة على السلطة. فقد شكلت الانقلابات العسكرية تاريخ كثير من هذه الدول في القرنين العشرين والحادي والعشرين، في إطار فرض علاقة مغايرة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية بعيدة عن نظريات التحول الديمقراطية.
كان الربيع العربي تنبيهًا على الحاجة إلى إعادة صياغة العلاقات المدنية- العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، ورغم تعثره في إنهاء الاستبداد في المنطقة، إلا أنه كشف جليًّا عن دور المؤسسة العسكرية في إحباط ثورات الربيع العربي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في كثير من هذه الدول. وهو ما يعكس حجم هذه المؤسسة وجذورها الضاربة في مضمار السياسة.
لذلك فإن الإشكالية تكمن في انعكاسات طبيعة العلاقة المدنية- العسكرية المختلة في دول الشرق الأوسط على البناء التنظيمي للدولة، ومن ثم صعوبة إعادة صياغة هذه العلاقة في ظل اضطراب معايير التحول الديمقراطي في دول المنطقة، وازدواجية المعايير الغربية تجاه محاولات تنظيم هذه العلاقة، وكذلك مدى إدراك الشعوب لمكامن القوة التي تمتلكها وقدرتها على فرض البناء النظري الذي يضمن بلوغ مرادها، إن التحدي الكبير يكمن في الوعي الناضج والقوة الفكرية التي تضمن للشعوب عدم ضياع تضحياتها.