رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

الإسلاميون والحوار السياسي في ليبيا

تحاول هذه الدراسة تحليل توجهات الإسلاميين في ليبيا نحو الحل السياسي، من خلال تحديد الديناميات السياسية المرتبطة بموضوع الدراسة، وتحليل تصوراتهم عن العدالة الانتقالية، وركزت بشكل خاص على موقف دار الإفتاء الليبية، لكونها مظلة لعدد من الكيانات الإسلامية، ومرجعية دينية للمؤتمر الوطني، إضافة إلى حزب العدالة والبناء، والسلفية غير الجهادية.

الإسلاميون والحوار السياسي في ليبيا

 ملخص تحاول هذه الدراسة تحليل توجهات الإسلاميين في ليبيا نحو الحل السياسي، من خلال تحديد الديناميات السياسية المرتبطة بموضوع الدراسة، وتحليل تصوراتهم عن العدالة الانتقالية، وركزت بشكل خاص على موقف دار الإفتاء الليبية، لكونها مظلة لعدد من الكيانات الإسلامية، ومرجعية دينية للمؤتمر الوطني، إضافة إلى حزب العدالة والبناء، والسلفية غير الجهادية. وخلصت الورقة إلى وجود ثلاثة تصنيفات في مواقف الإسلاميين، فبينما كانت غالبية الأطراف معارضة للاتفاق السياسي، فإنه لقي تأييد حزب العدالة والبناء وحزب الوطن، فيما انقسمت السلفية المدخلية بين القبول والرفض، وقد خلصت الورقة إلى أن حالة الانقسام بين الإسلاميين، وإن كانت متسقة مع اختلاف الأطر الفكرية، فإنها سوف تعمل على تهميش الإسلاميين في السياسة الليبية.

 

مقدمة

شهدت المرحلة الانتقالية ظهور توجهات لإعادة بناء الدولة، وفي هذا السياق ظهر تياران رئيسان، حاولا الاقتراب من شكل وهوية الدولة، وقد جمعت الأفكار والتوجهات السياسية ما بين الوسائل السلمية والعسكرية، بحيث أضفى التداخل حالة من التعقيد ظلت تحول دون التوصل إلى حل سياسي في ظل بروز مشروعات سياسية منتنافرة.

تسعى هذه الورقة إلى الاقتراب من تطورات الثورة الليبية، وخصوصًا ما يرتبط بانعكاس اختلاف مواقف الإسلاميين تجاه الحوار السياسي وانعكاسه على دورهم السياسي، فهذه المسألة تبدو مهمة في الفترة الحالية، وذلك من وجهة استشراف التحول في الأزمة السياسية والخروج من الصراع المسلح، فالمعضلة التي يثيرها الموقف من الحل السياسي، تتمثل في المعوقات التي يفرضها مخزون الصراع المسلح في الثورة الليبية، الذي تكرس عبر مراحلها المختلفة.

ولذلك تتجه الورقة إلى التعرف إلى أبعاد الخريطة السياسية للإسلاميين في ليبيا، واقترابهم من تسوية الأزمة، وخصوصًا منذ انتهاء انتخابات يوليو 2012، حيث انعكس الاختلاف في تشكيل الكتل السياسية داخل المؤتمر الوطني... وأتت معركة صدور قانون (العزل السياسي والإداري) فكانت واحدة من المعارك التي عكست الوعي باختلاف منظور الكتل لمسار السياسة في ليبيا، وهنا تكمن أهمية الدراسة في أنها تحاول الكشف عن فرص الحل السياسي، والعوامل الكامنة وراء اختلاف الإسلاميين بشأن الاتفاق السياسي.

يتوزع الإسلاميون في ليبيا بين تنظيمات سياسية ومجموعات مسلحة عديدة تتفاوت في خصائصها التنظيمية ودرجة تطورها، وهنا تبدو أهمية تناول الكيانات التنظيمية وتصنيفها بحسب التكوين السياسي والأبعاد الاجتماعية والتكوين العسكري والمسلح، حيث تتضافر هذه العوامل في بلورة المسار التنظيمي لكل منها.

 

 

 

 

أولًا: العدالة الانتقالية والتيارات الإسلامية

أ) العدالة الانتقالية

 استقرت قوانين العدالة الانتقالية في ليبيا على التعريف بأنها بمثابة إطار ‏تشريعي لمعالجة انتهاكات النظام السابق وأجهزته الأمنية للحقوق ‏والحريات الأساسية، وخصوصًا ما يتعلق منها بتعرض المواطنين ‏لانتهاكات جسيمة وممنهجة، وهنا تقوم فكرة العدالة الانتقالية على تصحيح المظالم التي تعرض لها المجتمع خلال فترة حكم القذافي والفترة الانتقالية، وهي ترتكز على أساس من سيادة القانون، وعدم التمييز بن الجرائم والانتهاات التي ارتكبها المسؤولون الحكوميون، بغض النظر عن فترة ارتكابها.

وقد شكلت مجموعة القوانين الصادرة في عامي 2012 و2013 الأرضية القانونية لنظام العدالة في ليبيا، حيث صدر قانون العدالة الانتقالية في ليبيا في 9 ديسمبر 2013 على أنها محصلة لمجموعة من القوانين تمثلت في القانون رقم 17/ 2012 بشأن ‏إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة، وكذلك على القانون 38/ 2012 بشأن الإجراءات الخاصة بالمرحلة الانتقالية، والقانون 50 / 2012 بشأن تعويض السجناء السياسيين.

وقد حدّد القانون ثمانية أهداف تشكل ركيزة المحاسبة القضائية والسياسية، بحيث تنقل الدولة إلى مرحلة جديدة ‏من دون انبعاث الصراع الاجتماعي، فقد جاء الحفاظ على السلم الأهلي في أولوية أهدافه، وردع ‏انتهاكات حقوق الإنسان، وبث الثقة في نظام العدالة، وردّ المظالم، ووفق هذه الفلسفة والإطار التشريعي تقترب التجربة الليبية من بلورة الشكل القانوني للعدالة الانتقالية.

وقد شكل القانون (هيئة تقصّي الحقائق والمصالحة الوطنية) بصفتها شخصية اعتبارية مستقلة إداريًّا وماليًّا، وتكون ‏تبعيتها للمؤتمر العام، وتختص بتقصّي الحقائق حول الانتهاكات ودراسة النزاعات الجماعية، ومشكلات المهجرين والنازحين، وذلك على أن يصدر نشاطها في تقرير يوضح الانتهاكات والجهات التي اقترفتها وحدود المسؤولية السياسية والجنائية، ووفق هذه الترتيبات، يقتصر دور الهيئة على الكشف عن الانتهاكات وتسوية النزاعات، بحيث تنتهي مهمتها بإحالة التقرير والأشخاص إلى النيابة العامة أو التأديب، بحيث يقتصر عملها على مراجعة أداء الوظائف العامة، ومدى الإخلال بالمبادئ القانونية في أثناء تولي الوظيفة ‏العامة والإثراء غير المشروع والانتهاكات الأمنية.

كما عُدّت العدالة الانتقالية مكملة لمهمة قانون العزل السياسي، فبينما يتوقف العزل عند الحرمان من المشاركة ‏السياسية، فإن تحقيق العدالة الانتقالية يتناول الجوانب الجنائية والاجتماعية، وهي تشكل جزءًا مهمًّا ‏من إستراتيجية بناء الدولة والتمهيد للانتقال الاجتماعي والسياسي، ولعل ثنائية العزل السياسي والعدالة الانتقالية تشكل واحدة من معضلات السياسة في ليبيا، فكما تتطلب ‏العدالة استقلال السلطة القضائية، فإن قانون العزل يطال عددًا من القضاة ويتسع ليشمل الكثير من ‏الإداريين الذين سبق لهم العمل في جهاز الدولة، وهنا تبدو المعضلة في مدى قدرة مؤسسات الدولة على تطبيق التشريعات والسياسات الانتقالية.

ب) التيارات السياسية الإسلامية

هناك ثلاثة كيانات تشكل التطور السياسي للحركات الإسلامية، ويتأتى في مقدمتها حزب (العدالة والبناء) القريب من حركة الإخوان المسلمين، وحزب (الوطن) بقيادة أمير (الجماعة الليبية المقاتلة)، ورئيس مجلس طرابلس العسكري السابق (عبدالحكيم بلحاج)، ويتبنى توجهات تكفل جميع حقوق المواطنين، ويضمن التعددية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، كما نشأ حزب (الأمة الوسط) بقيادة المنظّر الشرعي لـ(الجماعة الليبية المقاتلة) سامي الساعدي، ويوصف بأنه أكثر راديكالية من حزب بلحاج، وضم غالبية أعضاء (الجماعة المقاتلة).[1]

  1. الإخوان المسلمون والعدالة والبناء

ظهرت جماعة (الإخوان المسلمين) في ليبيا عام 1949 باسم (الجماعة الإسلامية الليبية). وقد أسس الأستاذ المصري عز الدين إبراهيم مصطفى وآخرون فرع جماعة (الإخوان المسلمين) في شرق  ليبيا، وانتقلت إلى طرابلس عام 1968[2]، حيث منحهم الملك الليبي السابق إدريس ملاذًا آمنًا بعد هروبهم من الاضطهاد السياسي في مصر، وسمح لهم الملك درجة نسبية من الحرية لنشر فكرهم، ولم يمر وقت قصير حتى جذبت الحركة عددًا من الموالين المحليين، غير أن القذافي اتخذ موقفًا أقل مرونة معتبرًا الإخوان مصدرًا محتملًا للمعارضة. وبعد فترة قصيرة من وصوله إلى السلطة، اعتقل عددًا منهم ورحّلهم إلى مصر[3].

وفي عام 1999، عادت جماعة الإخوان المسلمين إلى الساحة من خلال الحوار مع نظام القذافي. واكتسب هذا التبادل المزيد من الزخم في الفترة بين 2005-2006، عندما ساعد نجل معمر القذافي سيف الإسلام، في تفعيل الحوار السياسي. وقام بهذه المهمة سيف الإسلام بنفسه لاستمالة (الجماعة). وفي عشية الانتفاضة الليبية في ربيع 2011، أشارت التقديرات إلى وجود ألف عضو من الإخوان داخل ليبيا، ونحو 200 آخرين في المنفى[4].

وفي2004 طرحت توجهات لتكوين حزب وفق المرجعة الإسلامية يكون مفتوحًا لمشاركة المواطنين، وتُرجِمت هذه التوجهات في المؤتمر العام التاسع في نوفمبر 2011 لتكوين حزب سياسي[5]، وفيه قرَّر الإخوان إنشاء حزب وطني مستقل عن جماعة الإخوان المسلمين، ويمكن تفسير عدم تشكيل حزب مشترك مع الجماعة الإسلامية المقاتلة، والتوجه نحو المواطنين الذين يتفقون مع جماعة الإخوان المسلمين في المشروع الوطني- على أنه رغبة في إيجاد تيار وطني واسع من دون الانغلاق على التيار الإسلامي.[6]

وقد أُعلِن تشكيل حزب العدالة والبناء في ٥ مارس ٢٠١٢. يتشكل حزب العدالة والبناء من خلفيات تنظيمية متنوعة لكنها تتوافق على المرجعية الإسلامية، وقد ثار جدل حول علاقته بالإخوان المسلمين في البيان التأسيسي؛ وذلك بسبب اندلاع الأزمة السياسية، وشن حملات إعلامية تشير إلى الحزب بصفته ذراعًا سياسيًّا لحركة الإخوان، غير أن تصريحات لاحقة، كشفت في بيانات العدالة والبناء أن نسبة أعضائه من الإخوان في الهيئة التأسيسية 10%، وفي الهيئة العليا 30% والمكتب التنفيذي 25% فقط[7]، ورغم احتمال أن تكون هذه نسبة مؤثرة، لكنها لا تشكل عامل هيمنة في اتخاذ القرارات داخل الحزب، ووفق هذا الإطار التنظيمي، يرتبط العدالة والبناء بعلاقة تحالف قوية مع حركة الإخوان المسلمين في ليبيا؛ لأنه لا يمثل امتدادًا تنظيميًّا لها، إذ أُسِّس حزب العدالة والبناء بشكل مستقل عن الجماعة. ويتبنى حزب العدالة والبناء المرجعية الإسلامية، ونجح في الحصول على 36 مقعدًا في المؤتمر الوطني من أصل 80 مقعدا، فيما شهد تمثيله في مجلس النواب تراجعًا واضحًا، لكنه ظل واحدًا من الأحزاب المهمّة في ليبيا والأكثر تنظيمًا[8].    

  1. الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة وتياراتها السياسية

ظهر تشكيل (الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة) عام 1995، غير أنه يمكن اكتشاف أصولها من خلال حركة جهادية سرية تكونت في عام 1982. وقد تمكنت الجماعة المقاتلة -بدون أن تعلن عن اسمها الرسمي ومن خلال عملها في سرية تامة- من التوسع وكسب الكثير من المؤيدين في جميع أنحاء ليبيا على مدى أكثر من عقد من الزمان. وخلافًا لـجماعة الإخوان المسلمين، أيدت الجماعة المقاتلة شنّ عمليات عسكرية ضد نظام القذافي بهدف إسقاطه، كما خططت أيضًا لتنفيذ هجمات ضد شخصيات بارزة في حكومته[9].

وبعد إعلان الجماعة عن نفسها شنت العديدَ من العمليات المسلحة ضد نظام القذافي، وهذا أدى إلى هروب كثير من أعضائها إلى أفغانستان، ونفذت الحركة طوال فترة التسعينيات عمليات عسكرية ضد النظام الليبي، منها محاولات عديدة لاغتيال القذافي نفسه، غير أن جميعها أخفقت، وقد توقف تمرّد الجماعة المقاتلة داخل ليبيا بحلول عام 1998، وسُجِن العديد من أعضاء الحركة في ليبيا، في حين قرر بعض الهاربين العودة إلى أفغانستان، غير أن قليلًا من أعضاء الحركة بقوا في المنفى في لندن، وأدوا في النهاية دورًا مهمًّا عندما بدأت الجماعة المقاتلة عملية المصالحة مع النظام الليبي عام 2005[10]، وهي مرحلة ظهرت فيها مراجعات فكرية صدرت تحت عنوان (الدراسات التصحيحية)، خلصت فيها إلى أن الكفاح المسلح ضد نظام القذافي غير شرعي من منظور الشريعة الإسلامية، مما أدى إلى إطلاق سراح الكثير من قادة الجماعة المقاتلة وأعضائها من السجون في مارس 2010[11].

وبعد سقوط نظام القذافي، انقسمت الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة إلى فئتين سياسيتين تنافستا في الانتخابات التشريعية في يوليو 2012، هما: (حزب الوطن) و(حزب الأمة الوسط) الأكثر محافظة، وذو الصبغة الأكثر إسلامية، والذي انضم إليه أغلب أعضاء الجماعة المقاتلة تحت قيادة سامي الساعدي. غير أن حزب الوطن لم يفز بأي مقعد في الانتخابات، بينما حصل حزب الأمة الوسط على مقعد واحد، خُصِّصَ لعبد الوهاب قايد، كما كان أداء الأحزاب الإسلامية الصغيرة ضعيفًا أيضًا[12].

ومن خلال تيار الحركة الإسلامية للتغيير (الجماعة الإسلامية المقاتلة) انحدرت (كتلة الوفاء لدماء الشهداء) في المؤتمر الوطني، التي شهدت تحولات مع بداية ثورة فبراير، وتغير اسمها مرة أخرى إلى (حركة الإصلاح الإسلامي) في 2012، وقد شهدت المناصب القيادية تغيرات كبيرة، فقد استقال سامي الساعدي من الأمانة العامة لـ(الإصلاح الإسلامي)، وشكل حزب (تجمع الأمة الوسط) مع آخرينَ كانوا في الجماعة المقاتلة، ثم في حركة الإصلاح، وأعضاء آخرين، لكنه ما لبث أن استقال من الحزب وفضّل عدم الانخراط في أي تنظيم[13]

تشكلت هذه الكتلة داخل المؤتمر الوطني العام من مجموعة أحزاب وكيانات، منها: حزب الجبهة الوطنية، وحزب الاتحاد من أجل الوطن، وكيان الأصالة, وكتلة الحكمة، وكيان الرسالة، وحزب الأمة الوسط، ومجموعة من المستقلين. وهي تعبّر عن تيار سياسي غير متجانس حول فكرة الديمقراطية والتحول السلمي.

ورغم عدم وضوح الإطار التنظيمي لكتلة الوفاء، كان تأثيرها واضحًا في اتجاهات التصويت داخل المؤتمر الوطني العام، فقد شكَّلت كتلة حرجة لا يمكن تجاوزها، وبجانب كتلة العدالة والبناء، تمكن المؤتمر من إصدار عدد من التشريعات المتعلقة بالقضايا الانتقالية، وخصوصًا العدالة والانتقالية (العزل السياسي)، لكنهما انقسما حول مسار الحوار الوطني، فبينما قبل العدالة والبناء الدخول في الحوار السياسي تحت مظلة الأمم المتحدة، فإن غالبية أعضاء (الوفاء) استمروا على رفض الصيغة المطروحة للحوار، ودعموا استمرار المؤتمر الوطني بوصفه مؤسسة تشريعية وسيادية.

أنصار الشريعة

نشأ تنظيم (أنصار الشريعة) في فبراير ٢٠١٢، بالانفصال عن (سرايا راف الله السحاتي)، وعقد مؤتمرًا في بنغازي تحت عنوان (الملتقى الأول لأنصار الشريعة)، وقد قدم المشاركون من إجدابيا ودرنة وسرت بعشرات العربات العسكرية التي ترفع علم القاعدة، ويرأس التنظيم محمد الزهاوي، وخلافًا لقيادات التنظيمات المشابهة، حرص الزهاوي على الظهور في مقابلات تلفزيونية لشرح رؤيته لكيفية تطبيق الشريعة في ليبيا.[14]

مجلس شورى مجاهدي درنة

 وفي درنة، استطاع منتسبون للتيار السلفي أن يديروا المدينة بطريقة تمثّل الحكم الذاتي، وأن يفرضوا قوانينهم عليها عبر تنظيم (أنصار الشريعة) بقيادة سفيان بن قمو، السائق السابق لأسامة بن لادن، الذي كان قد أُفرِج عنه من سجون القذافي في إطار عملية المصالحة التي قادها سيف الإسلام القذافي مع الجماعة الليبية المقاتلة. وتشير تقارير إلى نشاط التنظيم أيضًا في كل من إجدابيا وسرت، من دون أن يتضح الرابط التنظيمي بين كل هذه الفروع.[15].

وفي 12 ديسمبر 2014 أعلِن عن تأسيس مجلس شورى مجاهدي درنة، وذلك على خلفية الدفاع عن الثورة ضد عودة نظام القذافي، ومنع محاولات حصارها، وتجنب ما حدث في بنغازي من دمار للبيوت وغصب للممتلكات، ورغم استهداف درنة بالطائرات في أغسطس 2014 لم تدخل المعارك ضد حفتر سوى في ديسمبر، وظلت تعمل على حفظ الأمن الأهلي، لأنه أُعلِن مع اتجاه أنصار الكرامة لحصار المدينة عن مجلس شورى مجاهدي درنة، ليشارك في المعارك المسلحة في المنطقة الشرقية[16].

 

  1. التيارات السلفية

ظهرت السلفية في ليبيا في الثمانينيات، وبخاصة في المنطقة الغربية، وهو تيار محافظ يستمد مقولاته من الحركة السلفية السعودية، من دون النظر في اجتهادات دار الإفتاء والعلماء الليبيين، وإلى جانب مشاركته في بعض الأعمال الخيرية والخطابة في المساجد في طرابلس والبيضاء، كان كثير النقد لجماعة الإخوان المسلمين في خطب الجمعة وفي الإعلام... ورغم غياب دور واضح للتيار السلفي في الثورة، إلا أنه حدث تحول في موقفه مع انخراط (التيار المدخلي) في القتال الدائر في بنغازي تحت اسم (كتيبة التوحيد).[17]

وضمن كتائب (البنيان المرصوص) تشكلت الكتيبة 604 مشاة، وهي وإن كانت تتشابه مع الكتائب الأخرى في التسليح، لكنها تختلف في تكوينها ونوعية المنضوين تحتها، فرغم انتماء المسلحين فيها إلى عدد من المدن الغربية، إلا أنّ غالبيتهم كانوا ذوي توجهات سلفية، إذ تكونت هذه الكتيبة بعد اغتيال (داعش) الداعية خالد الفرجاني والعديدين من قبيلة الفرجان في مطلع 2015، وتكونت الكتيبة 604 بدعم من قادة سلفيين في طرابلس من قوات الردع الخاصة وكتيبة باب تاجوراء، وهو ما يتسق مع الاتجاه العام لانخراط السلفيين (المداخلة) في الصراع المسلح على مستتوى البلاد ضد منافسيهم الإسلاميين[18].

وبعد سقوط القذافي أقدم أتباع المدخلي المعروفون في ليبيا بـ(المدخليين) على هدم التراث الصوفي الليبي، وحرق أدبيات الإخوان المسلمين.وشكّلوا دوريات لمكافحة الرذيلة، ركّزت على محاربة تجارة المخدرات، وتعاطي الكحوليات، وتجسّدت هذه الدوريات بشكل خاص في قوات الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كاره ومجموعات أخرى.

كما شكّل المداخلة قاعدة دعم عملية للكرامة التابعة لحفتر، وتركز نفوذهم في المساجد والمنابر الدينية، وتميل معتقداتهم إلى تأكيد الولاء للحاكم، وتحريم الخروج عليه، ووظِّفت هذه التوجهات منذ عهد القذافي وتزايدت بعد ثورة فبراير. في البداية اتجه (المداخلة) إلى الدعوة لعدم المشاركة في ثورة فبراير، فوفقًا للإطار الفكري، يعدّ القذافي واليًا شرعيًّا لا تجوز محاربته، ولذلك ظلت توجهاتهم نحو الثورة غير واضحة حتى الإعلان عن عملية الكرامة، غير أن التطورات اللاحقة كشفت عن انضمام المداخلة إلى العمليات المسلحة التي يشنها حفتر في المنطقة الشرقية، حيث شكلوا كتيبة (التوحيد)، ولعل ما يثير الجدل هو أن المداخلة لم يفسروا أسباب انضمامهم إلى حفتر رغم وجود الولاية الشرعية في المؤتمر الوطني أو رئيس الوزراء.

ويمكن تفسير هذا التوجه من خلال تحليل الخطاب السياسي للمداخلة الذي يقوم بالأساس على مناهضة تيار الإخوان المسلمين والتيارات السلفية الجهادية، وهناك عامل آخر يشكل القناعات العقدية لأتباع المدخلي، تتمثل في إتباع رأي (الإمام) الشيخ ربيع المدخلي، وهو يتبنى خطابًا معاديًا للإخوان المسلمين.

وفي أواخر فبراير 2015، أصدر ربيع المدخلي فتوى بحرمة القتال مع حفتر، وبغض النظر عن الأبعاد السياسية لهذه التغيرات، سوف تنزع هذه الفتوى الشرعية المشاركة في العمل المسلح مع عملية الكرامة، لكنها لا توضح مدى انصراف المداخلة عن تأييد خليفة حفتر بعد إسناد قيادة الجيش الوطني إليه.

ثانيًا: التوجهات السياسية

1- دار الإفتاء الليبية والسلفية الجهادية

من الناحية السياسية، تقود دارُ الافتاء الليبية تيارًا سياسيًّا، فهي ليست مؤسسة ليبية فقط ، لكنها تتقاطع مع الشؤون العامة منذ اندلاع الثورة، حيث طرحت تصورها للمرحلة الانتقالية، وفي 24 أكتوبر 2011، وضعت تصورها للمصالحة الوطنية والعدالة الذي يرتكز على قاعدة التسامح إذا ما ثبت الخطأ وعدم القصد، ولكنها في حالة ثبوت البغي والعمد يكون القصاص واجبًا، إلا أنها لم تغلق الباب أمام التصالح في الانتهاكات مع عدم تجاوز الأصول الشرعية أو هدر الحقوق.

ومن وجهة نظر دار افتاء فإن المصالحة الوطنية تتعلق فقط بتسوية ما يتعلق بالجنايات ضد الأفراد والمجتمع، لكنها لا تؤدي إلى تولي المناصب العامة، وهي بهذا المنطق تقر بأولوية العزل السياسي لبعض الفئات التي تعاونت مع نظام القذافي، وتشمل التصنيفات من تلطخت أيديهم بالدماء، ومن كان معروفًا بسرقات الأموال واستغلال النفوذ، ومن كان معروفًا من اللجان الثورية بالنشاط وحضور الملتقيات، وقول الزور بالمدح الكاذب والنفاق وملاحقة الأبرياء والوشاية بهم.

ووفق هذا المدخل، تتبنى الدولة المصالحة الوطنية بصفتها مشروعًا وطنيًّا، يقوم عليه موظفون محايدون ومتخخصون لوضع إطار للعدالة الانتقالية، بحيث لا تُترَك لجهات متصارعة، وقد ركز على إيواء اللاجئين لوقف الظلم وتوفير الحماية الإنسانية، واحتواء الثوار، وهو هدف يتطلب خطة فعالة لمشروعات إدماجهم في الجيش الوطني وتأمين معيشتهم[19].

وإزاء اندلاع الأزمة السياسية في ليبيا ونشوب الصراع المسلح في يوليو 2014، صدرت فتوى عن دار الإفتاء حاولت فيها التمييز بين المصالحة وبين حقن الدماء، حيث خلصت إلى أن تنفيذ العقوبة على الجاني هو واجب أخلاقي وقانوني، كما يعد شرطًا ضروريًّا لحقن الدماء، فلا يمكن المطالبة بحقن الدماء من دون القصاص من الجاني وردعه، وقد شكلت هذه الفتوى الأساس الشرعي للتصدي للانتهاكات الأمنية في طرابلس، ومهدت الطريق لعملية فجر ليبيا كاتجاه سياسي لردع الانتهاكات ضد المدنيين، ومراجعة ملف العدالة الانتقالية.

الفكرة المركزية التي يركز عليها المفتي، ليست في الاعتراض على الحوار السياسي، لكنها في ضرورة تحقيق المصالحة بعيدًا عن الهيمنة الأجنبية، وهو ما يشكل أساس رفضه للحوار الوطني تحت مظلة الأمم المتحدة، فهو لا يعترض على تقديم تنازلات متبادلة بقدر ما يسعى إلى البحث في الاستقلال الوطني. وهنا يشير إلى أن اهتمام الأمم المتحدة بالسيطرة على أطراف الاتفاق من دون تقديم دعم واضح للمسار السياسي فتح الفرصة للفوضى السياسية والاقتصادية، ويعدّ أن هذه الحالة أدّت إلى إنتاج صراعات معقدة لا تُمكن معالجتها من خلال التعديلات على الاتفاق، ولذلك يرى أن المخرج يكمن في تشكيل جهة تشريعية واحدة واحترام إرادة الليبيين[20].

لمعالجة الأزمة السياسية، تبنى المفتي اقتراحًا بإنشاء (مجلس أمة لقيادة البلاد)، حيث أشار إلى توافق بعض الأطراف على (وثيقة دستورية) تحفظ حقوق الثوار وتشكيل الحرس الوطني، وتستند هذه الأفكار إلى مشاركة دار الإفتاء في بعض اجتماعات لجنة الحوار الليبي-الليبي، التي تشكلت من ممثلين للبرلمان والمؤتمر الوطني[21]، وهي لجنة مستمرة في أعمالها بدون انقطاع منذ نوفمبر 2016، لكنه لم تظهر نتائج في هذا الاتجاه.

وقد عدّ المفتي أن الترتيبات اللاحقة على اتفاق (الصخيرات)، أرست الفساد وتردي الدولة، وهذا ما ترسّخه حكومة الوفاق وعملية الكرامة، حيث يشكّلون أوجهًا متماثلة للأزمة السياسية في الدولة، ولذلك اقترح مبادرة بديلة تتضمن تشكيل جسم تشريعي بديلًا عن المؤتمر والبرلمان يكون أعضاؤه وجوهًا جديدة من قوائم انتخابات 2012، تكون مهمتها الاتفاق على وثيقة  تكون بمثابة دستور مؤقت للمرحلة الانتقالية وتقديمها إلى الأمم المتحدة، وهنا، يركز على فكرة الاستقلال الوطني، لا أنه يعترض على وجود المنظمة الدولية[22].

وتقوم رؤيته المرحلية على أهمية وقف التدهور الحالي من خلال حزمة سياسات تقوم على دعم الثوار و(سرايا مجاهدي بنغازي)، ومقاومة داعش، وقوات (الردع الخاصة)، ولكنه وضع في حالة التعامل مع المداخلة، تصنيفين: القشم الأول هم الملتزمون من عامة الناس المغرر بهم، والقسم الآخر قيادات من صنيعة الاستخبارات السعودية، حملوا السلاح استجابة لجهات غير ليبية، وإتباعًا لفتاوى ضالة مضلة[23].

2- المؤتمر الوطني[24]

في إطار معالجة المشكلات الأمنية أصدر رئيس المؤتمر الوطني العام قرارًا بإسناد عملية تأمين العاصمة طرابلس إلى قوات درع ليبيا (الوسطى-الغربية) على أنها مهمة مؤقتة لحماية معسكرات الجيش والمصالح الحكومية والمقرات الدبلوماسية، وهو ما أثار جدلًا سياسيًّا ما بين القبائل والأحزاب السياسية، وجرت عملية تأمين العاصمة (طرابلس)، ليس فقط بسبب الخلاف بين القبائل على شغل الفراغ في مؤسسات الدولة، ولكنها جاءت في سياق تنامي الدعاية لعودة النظام السابق، مما دفع المؤتمر الوطني إلى استدعاء قوات من المنطقة العسكرية (طرابلس) والمنطقة العسكرية الوسطى وجبل نفوسة والمنطقة العسكرية الغربية[25].

وفيما يتعلق بالحوار الوطني، وضع المؤتمر الوطني شروطه للمشاركة في الحوار، وتمثلت في الحفاظ على ثورة فبراير، والتمسك بالإعلان الدستوري، والفصل بين السلطات، والأخذ بحكم المحكمة الدستورية، وهي شروط تتلاقى مع قانون العزل السياسي، حيث اشترط عدم مشاركة أنصار النظام السابق والمطلوبين قضائيًّا في جرائم فساد، أو جنائيات، أو من يتبنى مواقف ضد ثورة فبراير. وإلى جانب أن هذه الشروط تنطبق على خليفة حفتر، فإنها تنطبق، أيضًا، على بعض قيادات حزب تحالف القوى الوطنية، وأحمد قذاف الدم (منسق العلاقات الليبية/ المصرية السابق) وغيرهم من المشمولين بالعزل السياسي.

وأكّد المؤتمر الوطني أن نجاح الحوار يتطلب وجود ضمانات دولية، بتنفيذ مخرجات الحوار، حيث أكد في رسالته إلى أعضاء البرلمان الأوروبي بتاريخ 8 فبراير 2015 إرساء عدد من المبادئ اللازمة لنجاح الحوار، كان أهمها تحييد المؤسسات السيادية، وتأكيد مرجعية الإعلان الدستوري، إضافة إلى تعزيز الثقة مع بلدان الاتحاد الأوروبي، بوصفها دولًا شريكة في تحقيق الأمن وتسوية الصراعات، ويمكن اعتبار هذه الرسالة نوعًا من إعلان المبادئ تجاه مسألة الحوار الوطني.

وتعبّر هذه الشروط عن مطالب عملية فجر ليبيا، والكيانات المنضوية تحتها، وفي مقدمتها الأحزاب السياسية الإسلامية، والكيانات المعبرة عن ثورة فبراير. وبشكل عام، تعدّ تعبيرًا عن انخفاض الثقة في جدوى الحوار الوطني، فقد تضمنت كلمة رئيس المؤتمر الوطني في ميدان الشهداء في طرابلس في13 فبراير/شباط أن المشاركة في الحوار لا يجب أن تؤدي إلى تقاسم السلطة، وهي إشارات إلى عدم الاعتراف بوجود مجلس النواب، كما أنه تناول، في الوقت نفسه، التعليق على مطالب أتباع النظام السابق بالمشاركة في الحوار، بأن إهدار الحريات في عهد القذافي سبب كاف لاستبعاد من يؤيد تلك الممارسات من المشاركة المؤقتة في إقرار نظامٍ، يقوم على الديمقراطية والحرية ومحاربة الإرهاب.

3- مجلس شورى ثوار بنغازي

حافظ (مجلس شورى ثوار بنغازي) الذي عُرِف لاحقًا بسرايا الدفاع عن بنغازي على استمراره بكونه كيانًا مسلحًا في مدينة بنغازي، ولذلك انتقد محاولات إنشاء كيانات تؤدي إلى اختلاط وتداخل التنظيمات السياسية، وفي بيانه رقم (19) انتقد سعي حزب العدالة والبناء والجبهة الوطنية إلى إنقاذ ليبيا، وتحالف القوى الوطنية لتشكيل مجلس شورى بنغازي، حيث يذهب إلى أن هذه الكيانات كانت سببًا مباشرًا في الأزمة السياسية، وأضاف أن محاولات تشكيل كيانات سياسية فيما تستمر المعارك ضد أنصار النظام السابق هي محاولة للقفز على نتائج الثورة للحصول على مكاسب سريعة تعيد إنتاج معوقات بناء الدولة، فتداخل تشكيل المجلس الجديد يعكس تناقضات الأزمة السياسية، كما أنها تسببت في ضعف أداء المؤتمر الوطني[26]، ومن ثَمّ فإن دخولهم في إطار سياسي جديد يعمل على إعادة إنتائج الأزمة السياسية، ولعل الملاحظة الأساسية هنا، تكمن في جانبين؛ الأول، حيث ارتفاع حساسية الكيانات الثورية لكل ما يهدد مشروعهم الثوري، والثاني، يتمثل في أن العدالة والبناء يظل كيانًا هامشيًّا على الحراك الثوري لكونه من الميراث الذي أسهم في إضعاف الثورة والتفريط بها، وهذه الخلاصة سوف تنعكس على العلاقات المستقبلية بين مكونات التيار الإسلامي من جهة وبين التيار الثوري الوطني من جهة أخرى.

وللخروج من إشكالات الحوار تحت رعاية البعثة الدولية، عدّ المؤتمر أن اجتماعات تونس (10–11 ديسمبر 2015) انعقدت بتفويض من رئيسَي مجلس النواب، والمؤتمر الوطني، وهذا يشير إلى استيفاء الشروط القانونية، ويضعف تمثيل النواب والمؤتمر الوطني في اتفاق (الصخيرات)، كما أشارت ديباجة اتفاق (إعلان مبادئ اتفاق وطني لحل الأزمة الليبية) إلى ارتباطها بقرارَي مجلس الأمن: القرار ذي الرقم 2009 الصادر في ديسمبر 2011، ويهدف إلى دعم الحكومة الليبية وحفظ السلم والأمن، والقرار ذي الرقم 2174 الصادر في أغسطس 2014 الذي يدعم حوارًا وطنيًّا تحت قيادة ليبية، مما يوضح أن اجتماع تونس لم يكن خارج سياق الأمم المتحدة.

وإلى جانب الطابع الوطني لـ(إعلان المبادئ، يرى المؤتمر الوطني أنه يوفر حالة من توازن الدور السياسي بين المؤسستين، وهو توجه يقترب من تقليل الفجوة السياسية، ويمكنه إرساء علاقات تعاون خلال الفترة الانتقالية، وهنا يمكن الإشارة إلى لقاء (مالطا) بين الرئيسين باعتباره مؤشرًا على إمكانية التلاقي حول صيغة سياسية تكون أساس السلام في ليبيا.

4- العدالة والبناء

ترتكز رؤية حزب العدالة والبناء على أن حل الأزمة في ليبيا يكون عبر الحوار السياسي، بحيث يستوعب كل الأطراف الفاعلة في السياسية الليبية باستثناء بعض أركان نظام القذافي، مثل قذاف الدم ومصطفى الزايدي وطيب الصافي، سواء في إطار الحوار في (غدامس) ، أم في (مبادرة الجزائر)، كما عدّ انقسام مجلس النواب انعكاسًا لتباين المواقف السياسية[27].

كما ترتكز على دعم حكم القانون، حيث انتقد حزب العدالة والبناء كلّ استخدامٍ للسلاح خارج إطار الدولة ومؤسساتها الرسمية، سواء باسم الدين، أم ما يسمى بعملية الكرامة في أحداث مدينتي بنغازي وطرابلس، وذهب إلى أن قتل النفس التي حرم الله، أو التسبب في إراقة الدماء إرهاب متكامل الأركان، ويرى أن حل الأزمة يكون من خلال المشاورات، والحوار السياسي، واحترام المسار الديمقراطي، ونتائج صناديق الاقتراع، وبناء الجيش، ومؤسسات الدولة[28]، ويقوم مقترح العدالة والبناء للفترة الانتقالية على أن تقرير فترة بقاء المؤتمر والتعديلات الدستورية تكون نتيجة حوار بين المؤسسات المنتخبة، فوفقًا لرؤيته يبدو مهمًّا تحديد الجدول الزمني للهيئة التأسيسية للانتهاء من مشروع الدستور خلال ثلاثين يومًا من أول اجتماع لها[29].

وذهب العدالة والبناء إلى أن الحملة ضد المؤتمر الوطني، ثم تشكيل مجلس النواب في طبرق أسهمت في تفاقم الأزمة السياسية، وزيادة عدد الأطراف المعنية بحلها، فقد صارت الأطراف التى تحمل السلاح طرفًا أساسيًّا في الحوار الوطني[30]، وعدّ أنّ استمرار المؤتمر الوطني يساعد في تسوية المشكلات السياسية، حيث تتحدد الأطراف في ثلاث كتل؛ كتلة العدالة والبناء، وكتلة تحالف القوى الوطنية، وكتل المستقلين، وهذه التركيبة تساعد على بلورة خارطة طريق، غير أن هذا المسار توقف بسبب إصرار التحالف الوطني على تجميد العمل بقانون العزل السياسي كشرط مسبق[31].

غير أن رؤية حزب العدالة والبناء ذهبت إلى أن مسألة المصالحة الوطنية تتوقف على خيارات المتضرر، حيث طرح ثلاثة خيارات؛ "إما القصاص، وإما العفو، وإما جبر الضرر"، ويرى أن القصاص يكون عبر القضاء، ومن اختار العفو فأجره على الله، وتوفير ضمانات لجبر الضرر، وهذه البدائل تشكل واحدًا من أطر تنفيذ العدالة الانتقالية، بحيث تضمن التعويض العادل كحد أدنى، لأنها لا توفر الضمانات القانونية والشروط السياسية لحماية المتضررين، وخصوصًا في ظل ضعف وتفكك مؤسسات الدولة.

ويرى العدالة والبناء أن أهمية الحوار تكمن في أنه خطوة ضرورية لإنهاء الانقسام، وقد أدى هذا الموقف إلى نتيجتين: الأولى استقالة بعض الأعضاء من الحزب، لعدّهم موقفه تخلّيًا عن تيار الثورة، والثانية ظهور خلافات بين الحزب ورئاسة المؤتمر الوطني، مما أدى لاحقًا إلى تصدع المؤتمر، فبينما اتجهت كتلة العدالة والبناء إلى المضي في تشكيل (المجلس الأعلى للدولة) ظلت غالبية كتلة (الوفاء لدماء الشهداء) في المؤتمر الوطني[32].

ثالثًا: الموقف من الاتفاق السياسي

 المعارضون للاتفاق السياسي

شكّلت دار الإفتاء وكتلة الإسلاميين في المؤتمر الوطني أهم الديناميات التي اعترضت على الاتفاق السياسي، فمن جهتها رأت دار الافتاء الليبية وبعض أعضاء المؤتمر (منهم الرئيس)، أن مسار (تونس) يشكّل أولوية وطنية، ويحظى بدعم المؤسسات الليبية، فخلال اجتماعهما في مالطا، أعلنا عن تبني مخرجات (إعلان المبادئ) أساسًا لتشكيل حكومة وفاق وطني، وتكوين لجان مشتركة لمناقشة أوجه الخلاف بين الجانبين، فضلًا عن مطالبتهما بتأجيل طرح أسماء مرشحي الحكومة حتى حصولها على توافق الأطراف الليبية الأخرى.

كما ذهبت دار الإفتاء الليبية إلى أن معالجة الانقسام السياسي تتطلب توافق رئيسَي مجلس النواب والمؤتمر الوطني، لكونه أساسًا للخروج من الأزمة، ورأت أن التوقيع على اتفاق (الصخيرات) جاء من جهة غير شرعية لا تمثل الليبيين، وأنه لا تترتب على التوقيع آثار قانونية، حيث يعدّ البيان أن المشاركن في الحوار سواء  كانوا من أعضاء المؤتمر أم البرلمان غير مفوضين بالتوقيع، ومن ثم، يفقد الاتفاق شرعيته السياسية ويؤدي إلى الفوضى والفساد، ولذلك دعت دار الإفتاء إلى مراجعة الاتفاق، وإبرامَ غيرِه، وفي هذا السياق تخلص إلى أن الاتفاق جاء محملًا بضغوط يترتب عليها المزيد من الاضطرابات.

فيما حدد المؤتمر الوطني موقفه من التوقيع على الاتفاق، بأن الحوار السياسي يشكل خيارًا إستراتيجيًّا، لكن الإجراءات التي صاحبت التوقيع تخلو من الشفافية، وتؤكد انفراد البعثة الدولية بتحديد مخرجات الحوار، ولم تأخذ بالملاحظات التي أبداها المؤتمر، كما أشار بيان صادر عن المؤتمر إلى تأكيد وجود خلل في تشكيل وفود الحوار، التي اتسمت بانتقائية اختيار المشاركين، وغموض معايير وأهداف مشاركة بعض البلديات ومنظمات المجتمع المدني.

وقد أدّت التتعديلات التي وضعها المؤتمر الوطني على الاتفاق السياسي (66 تعديلًا) إلى حدوث انقسامات في جبهة (فجر ليبيا)، رغم أنها صيغت لضبط النصوص بطريقة قانونية تجنبها احتمالات التأويل، ولسدّ الثغرات التي تخالف الإعلان الدستوري أو التشريعات الليبية النافذة، وتوفير الغطاء القانوني لقوات رئاسة الأركان العامة وكتائب الثوار، وهي صياغات اتسمت بالغموض على مستوى مقترحات ومسودات الحوار التي طرحتها (بعثة الأمم المتحدة)، ورغم ذلك واجه المؤتمر انتقادات من حزب العدالة والبناء على خلفية تأخر المؤتمر في توقيع المسودة الخامسة والملاحق التنفيذية، ترتبط بهامش اختلاف قراءة كل من الإخوان المسلمين وكتائب الثوار والأعضاء المقاطعين لمجلس النواب للمشهد السياسي، حيث يعدّ الإخوان أن صدور الاتفاق سوف يشكل نقطة البداية، لتحقيق السلام اعتمادًا على الثقة في الأمم المتحدة بصفتها منظمة دولية، فيما يرى الآخرون أنه لا تتوافر ضمانات لتنفيذ اتفاق السلام، وأن ما يجرى على الأرض يقوّض أي اتفاق قبل إعلانه وخصوصًا في ظل غياب قوة ملزمة يمكن الإطمئنان إليها.

وقبل إعلان الاتفاق، عدّ رئيس المؤتمر الوطني، نوري أبو سهمين، أن توقيع الاتفاق السياسي بالصخيرات "باطل وخارج إطار الشرعية"، كان ذلك في كلمته في المؤتمر في ديسمبر 2015، ركز فيها على عدم تفويض ممثليه في الحوار بالتوقيع، سواء بالأحرف الأولى، أم بالتوقيع النهائي، أم بعقد اتفاقات، مما يضفي أبعادًا أخرى لأزمة الشرعية السياسية.

 

 المؤيدون للاتفاق الليبي

انخرط العدالة والبناء، وحزب الوطن في تأييد الاتفاق السياسي، فقد نظر العدالة والبناء، وفق بيانه في 19 ديسمبر 2015، إلى الاتفاق من وجهة أنه الحل الممكن في الظروف الحالية لتحقيق الاستقرار ووقف الحرب، ويمثل خطوة في بناء الدولة وصياغة الدستور، وعدّ الاتفاق لحظة تاريخية تساعد في إنهاء الأزمات والمعاناة، وهناك سبب آخر يفسر موافقة العدالة والبناء على اتفاق الصخيرات، وهو ما يتعلق بأنه يقطع الطريق على المتشددين من كل الأطراف، ويشير بشكل خاص إلى أن استمرار الاعتداءات على بنغازي هو محاولة لعرقلة التوقيع على الاتفاق، كما أن الاستغراق في التفاصيل يزيد الخلافات والانقسامات. [33]

 

وكشف رئيس العدالة والبناء محمد صوان أن توقيع الاتفاق يقوم على مبدأي؛ حسن النية وتقديم تنازلات من كل الأطراف "من أجل تحقيق الممكن"، ومن الواضح أن خطة العدالة والبناء تقوم على الاستمرار في التفاوض حتى الوصول إلى اتفاق نهائي، وفي هذا السياق دعا المؤتمر الوطني إلى دعم هذا المسار بصفته جزءًا رئيسًا في الحوار السياسي.

إن الخلفية التي شكلت موقف العدالة والبناء ترجع إلى اعتبار الأطراف الدولية أن المسودة المعروضة هي الصيغة الوحيدة لإدارة الدولة خلال المرحلة الانتقالية، وهو ما يرفع سقف الضمانات الدولية تجاه ليبيا، وبالنظر إلى تحديد مجلس الأمن الشرعية السياسية في اتفاق (الصخيرات) وحكومة التوافق يتضح أن العدالة والبناء أبدى تفهمه للموقف الدولي، من دون وضوح الضمانات اللازمة لتفعيل الاتفاق السياسي وحمايته.

فقد اتضح أن مساندة الأمم المتحدة ظلت غير كافية لـ(دسترة) الاتفاق أو توسيع نطاق القبول به في السياسة الليبية، فنجاح الاتفاق يتوقف على قدرة الحكومة على التصدي للمشكلات الأمنية والاقتصادية، فبغض النظر عن قبول الكثير من التشكيلات المسلحة للاتفاق، فإن اعتراض غالبية الأطراف الإسلامية، إضافة إلى رئيس مجلس النواب وخليفة حفتر، يعكس مدى القلق على استقرار المسار السياسي.

وبينما امتنع مارتن كوبلر عن حضور اجتماع مالطا، كان حريصًا على مقابلة خليفة حفتر بصفته قائدًا للجيش، واعتبر كوبلر أن التواصل مع حفتر، رغم معارضته للاتفاق، هو أكثر أهمية من مقابلة أي من رئيسَي  النواب و المؤتمر، وهذا ما يمكن تفسيرة في أنه بعد الانقسامات التي ضربت المؤسستين يبدو أن البعثة الدولية تتجه نحو الجهة التي تسبب قلقًا لتنفيذ الاتفاق، ومن هذه الوجهة، تسعى الأمم المتحدة إلى دمج حفتر  في الاتفاق السياسي، وتطمينه على دوره في إعادة بناء الجيش في مقابل دعم الاتفاق.

كما يتخذ عبد الحكيم بلحاج موقفًا متجانسًا، فكما يقبل بالحوار الوطني والدولة المدنية، فإنه يعارض المسار المسلح لـخليفة حفتر، ويرى أن نقل الصراع المسلح إلى طرابلس سوف يؤدي إلى انتشار التوتر والتطرف خارج الحدود الليبية، ويؤدي إلى اتساع الفوضى في الدولة، حيث يقيم غالبية سكان ليبيا في المنطقة الغربية [34].

 ويرى عبد الحكيم بلحاج أن سعي خليفة حفتر إلى الانقلاب على الحكومة المؤقتة في فبراير 2014 شكل الأرضية الملائمة للصراع المسلح رغم تسوية أزمة الحكومة والاتجاه إلى عقد الانتخابات التشريعية، ويخلص إلى أن المسار الذي اتخذه حفتر، مسار خارج عن القانون، كما تشكلت الأزمة السياسية في طرابلس بسبب توالي حكومات ضعيفة بعد الثورة، حيث لم تستطع وضع خطط لبناء المؤسسات، وخاصة المؤسسة الأمنية والعسكرية، مما أتاح فرصة لنمو الميليشيات والكيانات المسلحة، وظلت خطط دمج المسلحين غائبة عن سياسات الحكومة[35].

 تشتت السلفيين تجاه الحوار السياسي

ومع اندلاع النزاع بين معسكرَي الكرامة وفجر ليبيا في صيف 2014، انقسمت المجموعات السلفية المسلّحة بين المعسكرين، ففي الشرق تعمل تحت مظلة الكرامة، وفي الغرب تتحالف مع المجلس الرئاسي، وتتسق هذه السياسة، جزئيًّا، مع الأفكار السلفية الخاصة بطاعة الحكومة القائمة (ولي الأمر)، لكنه بالنسبة للحالة الليبية، لا يبدو هذا التفسير كافيًا، فهناك قلق لدى العسكريين والمسلحين من تنامي نفوذ السلفية المدخلية في ليبيا، وغموض أهدافها، وارتباطها بالتدخلات الخارجية[36].

بشكل عام يوجد توتر لدى الجهات السلفية نحو الكيانات العسكرية ذات الميول الإسلامية التي قاتلت ضد تنظيم الدولة في سرت، وتلك القريبة من المفتي (الصادق الغرياني)، في طرابلس وبنغازي، كما تعمل على توجيه أفرادها إلى التغلغل في الشرطة، كما فعل أنصار الشريعة مع اللجنة الأمنية العليا. ويعود ظهور السلفية غير الجهادية في ليبيا إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما وجّه نظام القذافي دعوة إلى أئمة من التيار السلفي السعودي للقدوم إلى ليبيا في سياق إعادة تأهيل الجهاديين السلفيين المنضمّين إلى صفوف الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وبعد اندلاع الثورة في عام 2011، أصدر المدخلي توجيهًا ناشد فيه أنصاره الامتناع عن دعمها، وحافظ عدد كبير منهم على ولائهم للنظام، أو وقفوا على الحياد، على الرغم من أن بعضهم انضمّ في نهاية المطاف إلى انتفاضة 20 آب/أغسطس في طرابلس.

ورغم ظهور قوات (الردع الخاصة) طرفًا مساندًا لحكومة الوفاق، فإن الخلافات الأيديولوجية مع الجماعات الإسلامية الأخرى، تضع قيودًا على قدرة عبد الرؤوف كاره على السيطرة على العاصمة، حيث إنه على خلاف مع المفتي، وحكومة الإنقاذ، والإخوان المسلمين.

ومع الاستعداد لعملية الكرامة (مايو 2014)، عملت الأجهزة الأمنية في الشرق على دمج السلفيين في الصراع المسلح، عبر ضمّهم إلى الجيش الليبي، ثم تطورت عملية الدمج عبر تكوين كتيبة التوحيد (السلفية)، وتشكلت وحدات أخرى في (المرج) و (البيضاء)، كما شاركوا في قوات الدعم للدفاع عن الأحياء في بنغازي، غير أنه في مطلع 2015 تفككت كتيبة التوحيد، وتوزع عناصرها على وحدات الجيش، منها الكتيبة  (302 قوات خاصة)، والقوات الخاصة البحرية، والكتيبة (210 مشاة آلية)، لكن هذه الإجراءات لم تخفف من التأثير العسكري للسلفيين، فالعديد من وحدات الجيش هي في الواقع سلفية ومذهبية إلى درجة كبيرة، فقد استمرت الوحدة بنفس الاسم (كتيبة التوحيد)، وتنشر خطب المدخلي وتصريحاته على صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي... وإنّ تطور هذه الديناميات، سوف يشكل قيودًا على التحول نحو السلام في ليبيا، فالتدخلات الخارجية في الشؤون الأمنية وتزايد نفوذ السلفيين، يزيد من دور المكونات الأيديولوجية في جهاز الدولة. 

رغم دعوة الشيخ ربيع المدخلي أتباعه السلفيين في ليبيا إلى اعتزال القتال مع أي طرف، فإنه دعاهم إلى "نصرة دين الله تعالى، وحمايته من الإخوان المسلمين، ومن المفتي العام لليبيا الشيخ صادق الغرياني"، كما أنه عدّ "الإخوان أخطر الفِرق على الإسلام منذ أن قامت دعوة الإخوان المسلمين، وهم من أكذب الفرق بعد الروافض؛ عندهم وحدة الأديان، ووحدة الوجود، وعندهم علمانية"، ورأى أن المفتي يحرّض على محاربة السلفيين، وهو ما يفسر تكوين الكتيبة السلفية لمساندة عملية الكرامة[37].

نشأت خلافات بين أطراف الحوار الليبية، بسبب اعتبار الأمم المتحدة مسودة 21 سبتمبر 2015، بمثابة نسخة نهائية غير قابلة للتعديل، رغم أن التوقيع عليه كان بـ(الأحرف الأولى). وهنا انقسمت أطراف الحوار بين رؤيتين؛ فمن جهة رأى العدالة والبناء أن التوقيع على المسودة الخامسة ليس توقيعًا نهائيًّا، فيما برر المؤتمر الوطني رفضه التوقيع بأن التوقيعات التمهيدية (الأولية) سوف تجعل الملاحق ملزمة قبل البدء في صياغتهًا، وللخروج من الجدل السياسي والقانوني رأى المؤتمر ضرورة أن يكون التوقيع على النصوص النهائية للاتفاق شاملة كل الملاحق، غير أنه تحت ضغط بعثة الأمم المتحدة، زادت الانقسامات الداخلية في المؤتمر بانحياز العدالة إلى مسار ليون وكوبلر، وكانت هذه المسألة سببًا مباشرًا لامتناع المؤتمر عن حضور جلسات الحوار الوطني. وفيما يزداد التباعد بين إسلاميي المؤتمر الوطني، يتوزع سلفيو المدخلية بين دعم حكومة الوفاق، أحد نواتج الاتفاق السياسي وبين دعم المشروع العسكري في شرق ليبيا.

خاتمة: الأثر السياسي لانقسام الإسلاميين

عندما بدأ الصراع المسلح في 2014، كان التيار الإسلامي باستثناء بعض التيارات السلفية في معسكر واحد ضد خليفة حفتر وعملية الكرامة التي أعلنها في 16 مايو 2014، ويظهر الخطاب السياسي بعد بدء حوار الصخيرات في 5 مارس 2015. وبينما تحفظت جماعة الإخوان المسلمين على الأبعاد السياسية للاتفاق، وإن كانت بدرجة أقل من تيار دار الإفتاء وبعض المشايخ في طرابلس الذين غلب عليهم الطابع الفقهي التأصيلي- كانت الرموز السياسية كعبد الحكيم بلحاج من حزب الوطن ومحمد صوان من حزب العدالة والبناء من المشاركين في الحوار في اجتماع الأحزاب بالجزائر في مارس 2015.[38]

ويكمن الجانب الأكثر أهمية في الانقسامات داخل الكتلة المؤيدة للمؤتمر بعد مشاركة العدالة والبناء، فيما تتجه المجالس الثورية والعسكرية لمدن غرب ليبيا إلى دعم موقف المؤتمر والتباعد مع الإخوان المسلمين, مما يمثل بداية لتحولات في المواقف السياسية، وبخاصة بعدما عدّت (البعثة الدولية) أن المسودة الصادرة في 20 سبتمبر 2015 صارت اتفاقًا غير قابل للتعديل، مما يضعف فرص الأطراف الموقعة في التراجع عن مواقفها، وانتقل هذا الانقسام، حيث بدأ الصراع بين حكومة الإنقاذ الوطني وجماعة الإخوان المسلمين على خلفية الموقف من (الاتفاق السياسي)، وقد رأت (جماعة الإخوان) أن اتهام خليفة الغويل (رئيس الحكومة) بأن جماعة الإخوان تسعى إلى العودة للسلطة، لا يأخذ في الاعتبار الفصل بين الجماعة والحزب، ويعكس هذا الخطاب جانبًا من انقسام الإسلاميين حول الحوار الوطني والاتفاق السياسي.[39]  

إن التناقضات بين الإسلاميين تعزز محدودية دورهم السياسي، كما تعكس غياب رؤية  مشتركة تنضوي تحتها تلك الجماعات، سواء في التنمية أم الثقافة، كما أنها منقسمة في الصراع المسلح، فهناك تباين بين الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية للتغيير، وليس هناك تلاقٍ حول طبيعة النظام السياسي، وتعاني السيولة التنظيمية، ونقص القدرة على تنفيذ مخططاتها[40].

وتتزايد محدودية التأثير السياسي بغياب كتلة صلبة يمكن الاستناد إليها لدعم المسار السياسي، وهي معضلة لايتحمل الإسلاميون نتائجها وحدهم، فيعد أن كانت الخلافات بين طرفين رئيسين: مجلس النواب والمؤتمر الوطني، زاد عدد الأطراف من دون وضوح رؤية لاستيعاب تطلعات ومطالب كل منها، ففي هذه الفترة ظهر مجلس عمداء البلديات طرفًا مساندًا للحوار، فيما طالب أنصار القذافي بالمشاركة بصفتهم معبّرين عن ثورة (الفاتح)، وهو ما يطرح أرضية جديدة لحل الصراع لن تقتصر فقط على ثورة فبراير، وهذا يشكل تحدّيًا للسلام والأمن في ليبيا.

وبشكل عام، تأثر مسار المصالحة الوطنية، بالتنافس حول العزل السياسي، حيث ترافق صدور القانون مع نشوب أزمة سياسية بين التيارات الإسلامية، وبينما تطلع الإخوان المسلمون  إلى تضييق نطاق الحرمان من الحقوق السياسية، كانت التيارات الإسلامية الأخرى في المؤتمر الوطني تسعى إلى توسيع نطاق القانون ليشمل الوظائف الإدارية، وقد انعكس هذا الخلاف في ضعف مؤسسات الدولة على تنفيذ القانون[41].

 وهنا تبدو وتتضح الملاحظة الأساسية في تباعد مواقف الإسلاميين في الانتقال من الصراع المسلح إلى العمل السياسي، وهذا يكشف ضعف القدرة على بناء مواقف مشتركة مع التغيرات السياسية المتسارعة... وتتشكل تحدّيات الحل السياسي من خلال تفكّك سلطة الدولة، وهي حالة تدفع إلى بروز المكونات الفرعية للإحلال مكانها والقيام بدور الدولة، وهذا لا يقتصر فقط على دور القبائل، لكنه يمتد أيضًا إلى تطلع سياسيين للزعامة، ولعل إخفاق بناء المؤسسات في مرحلة ما بعد الثورة، واربتاك المرحلة الانتقالية، وانتشار السلاح من العوامل الرئيسة التي دعمت انقسام الإسلاميين حول المسار السياسي، واتساع نطاق الصراع المسلح.

المصادر والهوامش:

 

[1] - فراس كيلاني، «جماهيريات» بعضها إسلامي، الحياة،١٣ أغسطس/ آب ٢٠١٤.

[2]  - نزار كريكش، الحركات الإسلامية في ليبيا بعد الثورات العربية: التحولات والمستقبل، 06 سبتمبر، 2016 ، مكة

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2016/09/160906083705908.html

[3]  - هارون ي. زيلين، التيار الإسلامي في ليبيا، معهد واشنطن، أبريل 2013.

http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/islamism-in-libya

[4]  - المرجع السابق

[5]  - منظمة فريدريش إيبرت، الجماعات الإسلامية في ليبيا: حظوظ الهيمنة السياسية وتحدياتها، برلين: منظمة فريدريش إيبرت، 2015. ص ص 4ـ5.

[6]  - نزار كريكش، مرجع سابق.

[7]  - حزب العدالة والبناء، بيان للناس من حزب العدالة والبناء، طرابلس، 20/8/2013م.

[8]  - وحدة الدراسات، ليبيا ومخاوف الاقتتال الأهلي الشامل،  الدوحة المركز العربي للأبحاث، 3/ 6/ 2014.

[9]  - هارون ي. زيلين، أول مستعمرة للدولة الإسلامية في ليبيا، معهد واشنطن، 2014.

[10]  - المرجع السابق.

[11]  - المرجع السابق.

[12]  - المرجع السابق.

[13]  - سامي الساعدي، توضيح بشأن الجماعة المقاتلة، 28 ديسمبر 2014.

https://www.facebook.com/sami.saadi66/posts/699274526859250?fref=nf

- وفقًا لرواية سامي الساعدي، تعدّ الجماعة المقاتلة امتدادًا لتنظيم عوض محمد الزواوي، التي أُسِّست في سنة 1980م، وكنت عضوًا في مجلس الشورى بها إلى جانب الشيخ مفتاح الدوادي والدكتور عبد الناصر بو لسين والأخ خالد الهنقاري والأخ عبد الحكيم وآخرين، وهي لم تكن حركة تكفيرية، واقتصر تكفيرها على القذافي، ولم تحكم على أعيان من حوله بنفس الحكم العيني، وعملت على إسقاط نظامه بقوة السلاح.

[14] فراس كيلاني، مرجع سابق.

[15] - المرجع السابق. 

[16] - مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها، بيان رقم1، درنة: 12 ديسمبر 2014.

[17]  - نزار كريكش، مرجع سابق

[18] - المرجع السابق.

[19]  - كلمة الشيخ صادق الغرياني في مؤتمر الحوار الوطني، 10/ 12 / 2011.

https://www.youtube.com/watch?v=qemyIIGdzZ4

- يمكن النظر إلى أن رؤية الشيخ الصادق الغرياني لدور الدولة في المصالحة الوطنية كانت قراءة مبكرة لتجنب الصراع السياسي، حيث تشير الأحداث اللاحقة إلى أن الاستقطاب السياسي وضعف الدولة كانا من العوامل التي أطاحت بفكرة المصالحة وأسهمت في تفاقم الأزمات السياسية.

[20]  - كلمة مفتي عام ليبيا فضيلة الشيخ الصادق الغرياني للشعب الليبي بخصوص الأوضاع الراهنة ، طرابلس: 9|1|2017.

 http://www.zangetna.com/t76790-topic#ixzz4VeSgOsmn

[21]  - مفتي ليبيا يكشف عن قرب إنشاء مجلس لقيادة الأمة، العربي الجديد، 22 سبتمبر 2016, https://goo.gl/F3Jko1

[22]  - حديث الشيخ الصادق الغرياني، قناة التناصح، 4/ 1/ 2017.

[23]  - كلمة المفتي العام لليبيا فضيلة الشيخ الصادق الغرياني للشعب الليبي بخصوص الأوضاع الراهنة ، طرابلس: 9|1|2017.

 http://www.zangetna.com/t76790-topic#ixzz4VeSgOsmn

[24] - ينظر الباحث إلى الإسلاميين المستقلين المعارضين للاتفاق السياسي، لا إلى المؤتمر بكونه مؤسسة سياسية، فقد شهدت تلك الفترة انقسامات كثيرة ، كان أكبرها انضمام كثير منهم إلى المجلس الأعلى للدولة.

[25]- المؤتمر الوطني العام، قرار رئيس المؤتمر الوطني العام باستدعاء قوات الدروع لحماية المنشآت العامة بالعاصمة، طرابلس، 19 مايو 2014.

[26] - مجلس شورى ثوار بنغازي، بيان رقم 19، 17 أغسطس 2014.

- يذهب مجلس شورى ثوار بنغازي إلى أن تسمية المجلس الجديد باسم (مجلس شورى بنغازي) هو محاولة لتشويه صورة الثوار، وإحداث حالة من التداخل، بشكل يمهد الأرضية لاحتواء المكاسب التي حققها ثوار بنغازي، في تكرار لما شهدته الثورة في عام 2011، حيث اختطفها أنصار النظام السابق.

[27]- حوار محمد صوان رئيس حزب العدالة والبناء، حلّ يلوح بالأفق لحسم الخلافات الليبية، طرابلس، عربي21، 11 أكتوبر 2014

[28] - بيان حزب العدالة والبناء، طرابلس: مايو 2014.

[29]  - بيان، حزب العدالة والبناء يدعو إلى انتخابات مبكرة في ليبيا، طرابلس: 13 فبراير 2014.

- تبنى حزب العدالة والبناء رؤية مرنة للخروج من المشكلة الدستورية، بغرض تجنب دخول الصراع المسلح، حيث رأى ضرورة تحديد نطاق عمل الهيأة التأسيسية، حتى لا تؤدّي إلى فراغ سياسي، وطرح في وقت مبكر تصورين: أولهما الانتهاء من صياغة الدستور خلال عام 2014، ويبدأ إجراء انتخابات تشريعية جديدة، وتنقل السلطة إلى المجلس الجديد في تاريخ لا يتعدى 24/12/2014، وثانيهما إذا كان تقرير لجنة الستين يشير إلى طول فترة إعداد الدستور، فيتم تطوير الإعلان الدستوري بالاستعانة بدستور 1951 المعدل، والاستبيانات التي تجريها المفوضية، وذلك من خلال لجنة فنية يشكلها المؤتمر، ثم يقوم المؤتمر بإعداد قوانين للانتخابات العامة لاختيار مجلس تشريعي جديد، ويُحَلّ المؤتمر الوطني في أول انعقاد للمجلس المنتخب في موعد أقصاه 30/8/2014، وهو موعد يزيد بثلاثة شهور عن مقترحات التحالف، وعدد من الشخصيات العامة.

[30]  - حوار محمد صوان.

[31]  - المرجع السابق.

[32]  - رئيس حزب العدالة والبناء: 7 أولويات لـ(حكومة الوفاق)، وهذه حقيقة علاقة الحزب بالجماعة، 22 يناير 2016،

http://alwasat.ly/ar/news/libya/93446/

[33]  - حزب العدالة والبناء الليبي: اتفاق (الصخيرات) الخطوة الأولى لبدء بناء الدولة، أ ش أ، 19-12-2015

[34]  - عبد الحكيم بلحاج: سيطرة حفتر على طرابلس سيحرق تونس ويمتد إلى الجزائر، في 20 يناير 2017.

https://goo.gl/Kb9ZIX

[35]  - يورونيوز في حوار مع عبد الحكيم بلحاج: الإمارات تقصف ليبيا والحل يجب أن يكون سياسيًّا من خلال الحوار، يورونيوز، 8/ 2/ 2015.

http://arabic.euronews.com/2015/02/03/libya-s-abdulhakim-belhadj-we-are-working-to-find-a-solution-to-end-this-crisis

[36]  - فريدريك ويري، وداعًا للهدوء: السلفيون (المداخلة) في ليبيا ينخرطون في النزاعات بين الفصائل، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 15 أكتوبر 2016.

http://www.minbarlibya.com/?p=3626

[37]  - ربيع المدخلي يدعو إلى ثورة سلفية ضد (الإخوان) في ليبيا، المدينة المنورة- عربي21،  09 يوليو 2016
https://goo.gl/6ixnsZ

[38]  - نزار كريكش، مرجع سابق.

[39]  - اتهامات الغويل لجماعة الإخوان تهدف إلى العودة لسلطة الدولة، صفحة جماعة الإخوان المسلمين الليبية، 20 نوفمبر 2016.

[40]  - منظمة فريدريش إيبرت، الجماعات الإسلامية في ليبيا: حظوظ الهيمنة السياسية وتحدياتها، برلين: منظمة فريدريش إيبرت، 2015، ص16.

[41]  - محمد الشيخ، ليبيا بين جماعات العنف والديمقراطية المتعثرة، المستقبل العربي،  بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014، ص130.


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...