فوز قيس سعيّد: الأسباب والتوقّعات
لم يكن قيس سعيّد وجهًا سياسيّا معروفًا قبل 2011، فلا يُعرف عنه انتماءٌ إلى حزب من الأحزاب، ولا معارضةٌ، ولا مشاركةٌ في نشاط سياسيّ عامّ مؤيّد للنظام أو معارض. بل كان منصرفًا إلى التدريس الجامعيّ والعمل الأكاديميّ. ثمّ عرفه التونسيّون في إطلالاته التلفازيّة الكثيرة، ومداخلاته الإذاعيّة بعد سقوط النظام. فكثيرًا ما كان يُسأل في نشرات الأخبار والحوارات السياسيّة عن المسائل الدستوريّة التي أثارتها كتابة الدستور الجديد. والذي لفت إليه الأنظارَ بشدّةِ من حيث الشكل حرصُه على استعمال العربيّة الفصيحة في وسط غلب عليه استعمال اللهجة التونسيّة؛ وهيئتُه الثابتة في الجلوس والاسترسالِ الشديد الكلام؛ وصوتُه الإذاعيّ الذي يجمع بين رتابةٍ ثقيلة أحيانًا وانفرادٍ لا يوجد إلّا فيه.
وأمّا في آرائه ومواقفه فقد تعلّق به جمهور عريض من التونسيّين لأسباب؛ أحدُها مخالفتُه الظاهرة لنموذج السياسيّ التقليديّ في متخيّل الناس. فالصورة القارّة عند الأغلبيّة أنّ السياسيّ كثير الكلام والوعود قليل الإنجاز. وأمّا سعيّد فبدا من لهجة كلامه صادقًا فيما يقول. وانتبه الناسُ لبُعد جديد في خطابه هو بناؤه الرأي والموقف السياسيّينِ على القيم الأخلاقيّة. وبدا واضحًا للسياسيّين أنّ صلاحيّات الرئيس المحدودة لن تمكّنه من تطبيق ما يعتقد ويرغب في إنجازه. وأمّا جمهور الناس فأغلب الظنّ أنّهم ركّبوا صورة قيس سعيّد على صورة الرئيس الموروثة من النظام الرئاسيّ قبل 2011، فظلّوا مشرئبّين إلى أفق ورديّ تملأه "سياسة نظيفة" تقوم على العدل والمساواة وحفظ الحقوق واحترام الإنسان والقضاء على التمييز والفساد.
* والسبب الثاني موقفُه الصريح من قضايا أساسيّة عند عامّة التونسيّين، منها القضيّة الفلسطينيّة التي لم يتغيّر فيها موقفه وحماسه، وظلّت جملتُه في تسمية التطبيع خيانة عظمى في المناظرة التلفازيّة تتردّد على ألسنة الناس وفي مواقع التواصل أيّامًا. ومنها أيضًا مسألة المساواة في الميراث التي أثارها
الرئيس السابق الباجي قايد السبسي وتقرير اللجنة التي شكلّها. وظنّ جمهور حركة النهضة مثلًا أنّ قيادتها ستكون صريحة في رفض التقرير، إلّا أنّ بادئ الرأي جاء صادمًا للمتديّنين من القاعدة الشعبيّة، فكتب الغنّوشي في حسابه في فيسبوك: إنّ الحركة "ستتفاعل مع مبادرة رئيس الجمهوريّة المتعلّقة بالمساواة في الميراث بين الجنسين، عندما تُقدَّم رسميًّا إلى البرلمان، بما تقتضيه من الحوار والنقاش، للوصول إلى الصياغة التي تحقّق المقصد من الاجتهاد، وتجعل من تفاعل النصّ مع الواقع أداةَ نهوضٍ وتجديدٍ وتقدّمٍ، لا جدلًا مقيتًا يفرّق ولا يجمع، ويفوّت على التونسيّين والتونسيّات المزيد من فرص التضامن والتآلف. وتساعدنا جميعًا على المضيّ قدمًا في تحقيق ازدهار المرأة التونسيّة". ثمّ أصدرت النهضة بيانًا رسميًّا قالت فيه: إنّ "مبادرة المساواة في الإرث، فضلًا عن تعارضها مع قطعيّات الدين ونصوص الدستور ومجلّة الأحوال الشخصيّة- فهي تثير جملة من المخاوف على استقرار الأسرة التونسيّة ونمط المجتمع.
وأمّا قيس سعيّد فلم يغيّر رأيه في رفض المشروع، وقال إنّ "الانحراف بمطالب التونسيين، وبخاصّة الشباب، انطلق مباشرة غداة 14 كانون الثاني/ يناير 2011، حين بدأت المطالبة من قبل عدد قليل بدولة لائكيّة (علمانية)، وأثير موضوع المساواة بالميراث، والسماح بالمثليّة الجنسيّة، وهي قضايا لا أعتقد أنّ الذي انتفض خلال الثورة التونسيّة كان يفكّر فيها". فشباب الثورة طالبوا
بـ"الشغل والكرامة والحريّة، لا بالمساواة في الميراث"، ومسألة الميراث حسمها التاريخ والقانون، وهي من "الثوابت الشرعية والمجتمعيّة"، فلا يستطيع أحد تغييرها.