مقدمة
مع ازدياد حوادث وحالات الموت، انتقلت محاولات الهجرة عن طريق البحر الأبيض المتوسط من حركات بشرية طبيعية في الماضي إلى مشكلة كبيرة في الوقت الراهن؛ بسبب الخسائر الهائلة في الأرواح، وفي الإمكانات المادية التي يتم بذلها لحل مشكلة الهجرات غير المنظمة. أصبح المهاجرون القادمون من إفريقيا والشرق الأوسط أكثر ضحايا محاولات العبور لأوروبا عن طريق البحر الأبيض المتوسط؛ فمنذ بداية الألفية الجديدة شهدت منطقة البحر الأبيض المتوسط تحركات غير مسبوقة للهجرات غير المنظمة. بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين اضطر حوالي 65 مليون شخص حول العالم للنزوح قسرًا ومغادرة منازلهم، ولا يزال موضوع استقبال اللاجئين والمهاجرين وإدماجهم في المجتمعات المحلية يثير جدلًا سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا واسعًا في أوربا.[1] وفـي السـنوات الخمـس 2014-2018 وثّقت المنظمـة الدوليـة للهجـرة وفاة أكثر مـن 30900 امرأة ورجـل وطفـل لقـوا حتفهـم وهـم يحاولـون الوصـول إلـى بلـدان أخـرى. وخـلال تلـك الفتـرة، شـهد البحر الأبيض المتوسـط أكبر عدد من الوفيات، حيث فتك بحياة مـا لا يقل عن 17919 شـخصًا، لـم تُنتشَـل جثث 64 فـي المئـة منهـم مـن البحر، وفي عام 2018 ظل البحر الأبيض المتوسـط المكان الذي سـجل أكبر عدد معروف من الوفيات في أثناء الهجرة.[2]
دفعت التطورات الجديدة في حركة الهجرة الدولية الدول والمنظمات الدولية والإنسانية والأحزاب السياسية إلى نقاشات طويلة حول معالجة مشكلة الهجرة غير المنظمة؛ وفي هذا السياق أصبحت وسائل الإعلام أكثر حضورًا وحساسية تجاه قضايا الهجرة والمهاجرين، إلا أن التغطيات الإعلامية حول قضايا الهجرة أصبحت تنتابها الكثير من المشكلات أيضًا، كضعف التغطيات الإعلامية وسطحيتها، وسوء تمثيل المهاجرين، وتبنّي الخطابات العدائية تجاههم، والانحياز لرؤية المؤسسات الرسمية، والاهتمام بالتغطيات العاطفية، والتركيز على المهاجرين بوصفهم تهديدًا محتملًا للأمن والاقتصاد وغيرها من أوجه القصور.
ويُعَدّ النقاش حول أسباب مشكلة الهجرة ومعالجاتها أحد أوجه القصور الرئيسة في تغطية وسائل الاعلام لمشكلات الهجرة، ويظهر هذا القصور بشكل واضح في الخطابات الأخبارية التي تناقش مشكلات المهاجرين من دون أن تتطرق لتمثيل المهاجرين أو الأسباب التي تدفعهم للهجرة، أو في أحيان أخرى تتمثل المشكلة في تقديم تغطية إخبارية سطحية لأسباب الهجرة غير المنظمة، لا توجد فيها معلومات تاريخية أو سياقية يمكن أن تشكل إجابة عن أسئلة مسببات الهجرة غير المنظمة أو معالجاتها الصحيحة. لهذا تهدف هذه الدراسة إلى فحص الخطابات الأخبارية التي تقدّمها عدد من وسائل الإعلام الأوربية من أجل التعرف إلى طريقة تمثيل المهاجرين الأفارقة، وطريقة تقديم الأسباب التي تدفعهم للمخاطرة بحياتهم من أجل الوصول إلى أوربا عن طريق البحر. وفي هذا السياق، تهدف الدراسة أيضًا إلى فحص وجود علاقة بين خطابات الهجرة المعاصرة، وبين خطابات ما بعد الاستعمار في الأعلام الأوربي الذي يغطي أحداث الهجرة غير المنظمة في البحر المتوسط.
نظريات ما بعد الاستعمار
بدأت نظريات ما بعد الاستعمار في التحوّل إلى مجال بحثي نقدي مع ظهور نتاجات فكرية لعدد من المفكّرين الذين ينتمون إلى الدول التي تأثرت بهيمنة الاستعمار، مثل إدوارد سعيد، وغاباتريا سبيفاك، وهومي بابا، وغيرهم. وهو حقل بحثي أكاديمي يهتم بدراسة العلاقات والتفاعلات المستمرة بين الدول الأوربية والمجتمعات التي كانت تستعمرها.
تطورت نظريات ما بعد الاستعمار بسرعة في ثمانينيات القرن العشرين لسببين مترابطين، هما: تأثير النظرية النقدية، وظهور منهج ذي طابع ثقافي أكثر في الدراسات الأكاديمية لتناول الأمور التي تبدو ملموسة في التاريخ والسياسة والمجتمع.[3]
يشير مصطلح ما بعد الاستعمار إلى الأنماط المستمرة لظاهرة (الاستعمار الجديد) في الأفكار والممارسات الإمبريالية التي تنتظم العالم المعاصر، و(الما بعدية) لا تعني بحال أن الحقبة الاستعمارية قد انتهت تمامًا.[4]
يرى غراهام هوغان أننا نعيش في عصر الاستعمار الجديد، لا عصر ما بعد الاستعمار، ويشير بذلك إلى التدخل العسكري الأمريكي في الخليج والقرن الإفريقي، والتبعية الهيكلية في منطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية، واستمرار القمع العنصري والصراع بين الفصائل في جنوب إفريقيا ومعظم آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط، والهيمنة العالمية التي تمارسها الشركات متعددة الجنسيات وصناعات المعلومات، والمعاهدات الوطنية المفضلة والتكتلات التجارية التي تعزز الانقسامات الاقتصادية.[5]
ولهذا فإن مصطلح (الخطاب الاستعماري) يُعَدّ الأكثر دقة وتعبيرًا لوصف اتجاهات نظرية ما بعد الاستعمار. والخطاب الاستعماري منظومة من المقولات التي يمكن إطلاقها عن المستعمرات والشعوب المستعمرة، وعن القوى المستعمرة، وعن العلاقات بينهما. بعد إدوارد سعيد، يُعَدّ هومي بابا من أشهر منظّري الخطاب الاستعماري، الذي افترض في تحليلاته وجود تناقضات معينة معطلة داخل العلاقات الاستعمارية، مثل الهجنة والازدواج الوجداني والتقليد، وهي تناقضات كشفت غياب الحصانة الجوهرية عن الخطاب الاستعماري.[6]
رغم انتهاء الاستعمار بشكل رسمي في العديد من الدول التي كانت مستعمرة، إلا أن إدوارد سعيد كان يرى أن الوجود الاستعماري للقوى الغربية ظل موجودًا في مناطق عديدة خصوصًا في إفريقيا وآسيا؛ لأن فكرة التابع لم تكن جزئية تاريخية انتهت مع حصول الدول المحتلة على حق السيادة القومية، بل هي فئة يصنف تحتها ساكن الدول حديثة الاستقلال. ويرى سعيد أن واقع (التابع) ظل يتشكل من خليط من الفقر، والاعتماد على الغير، والتخلف، والعديد من أمراض السلطة، والفساد، بالإضافة إلى بعض الإنجازات الملحوظة في مجالات الحروب، ومحو الأمية، والتنمية الاقتصادية.[7]
بنقده للخطابات الاستعمارية في كتابه (الاستشراق) الذي صدر في عام 1987، يُعَدّ إدوار سعيد من الرواد الأوائل الذين قاموا بتأسيس (دراسات ما بعد الاستعمار) بوصفه حقلًا أكاديميًّا جديدًا. تأثر إدوارد سعيد بأدبيات المدرسة النقدية التي كانت تظهر ملامحها في أفكار ميشيل فوكو حول السلطة والخطاب، وأفكار غرامشي حول الهيمنة.
وتُعَدّ الناقدة الأمريكية ذات الأصول الهندية غاباتريا سبيفاك صاحبة بحث مقال عنوانه: (هل يستطيع التابع أن يتكلم؟) (سبيفاك 1988) من الرواد المهمين في دراسات ما بعد الاستعمار؛ وقد حاولت المزج بين أدب ما بين الاستعمار وبين النقدي النسوي، عن طريق التركيز على دراسات التابع التي اهتمت فيها بأوضاع المرأة الهندية على وجه الخصوص في كتابها الشهير (هل يستطيع أن يتكلم التابع؟). إن سبيفاك واحدة من أوائل الكتّاب الذين جمعوا بين النقد النسوي وما بعد الاستعمار، في قراءتها لمأزق الأنثى المهمّشة.[8]
استمدت مجموعة (دراسات التابعين) جذورها من كتابات أنطونيو غرامشي عن التابع التي حددها من حيث الفئات الاجتماعية والطبقات التابعة. كان غرامشي مهتمًّا بتحديد هذه المجموعات، فضلًا عن دراسة تاريخها وتصوراتها التي ستؤدي في النهاية إلى تحوّل ما في وعيهم وظروف معيشتهم المادية.[9]
تتركز أهداف نظريات ما بعد الاستعمار في نقد خطابات السلطة والهيمنة والمركزية الأحادية للعالم الغربي، ومحاولة كسر سيطرتها على المجال الإدراكي الذي يخوّل لها التحكم في تمثيل الآخرين، وفق الرؤية المركزية الخاصة بها. وتدور اهتمامات نظريات ما بعد الاستعمار حول قضايا جوهرية تتعلق بمفاهيم الاستشراق، والهوية والآخر، والذاكرة والمكان، والهيمنة والتبعية، والإمبريالية والعولمة، والقومية والنسوية، والهجرة والهجنة، والمركزية الغربية والتهميش، وغيرها من القضايا المحورية.
الهجرة في دراسات ما بعد الاستعمار
بعد شهرتها وتوسّع دائرة اهتمامها، أصبحت دراسات ما بعد الاستعمار إطارًا نظريًّا ومنهجًا تحليليًّا تتقاطع مع العديد من الحقول المعرفية. يُعَدّ الحقل الأدبي والثقافي عمومًا من أشهر الحقول المعرفية ارتباطًا بنظريات ما بعد الاستعمار؛ فتطور نظرية ما بعد الاستعمار يدين بالكثير للدراسات الأدبية في العالم الناطق بالإنكليزية، ويرتبط ظهور نظرية ما بعد الاستعمار ارتباطًا وثيقًا بمصير النصوص الأدبية السردية عن الاستعمار وإرثه.[10] إلا أن بقية الحقول الأخرى، كالدراسات السياسية ودراسات الإعلام والدراسات التي تركز على قضايا الهوية والهجرة- أصبحت تشهد اهتمامًا ملحوظًا، وتقدّم إضافات مهمّة للقضايا التي تهتمّ بها دراسات ما بعد الاستعمار.
ارتبطت نظريات ما بعد الاستعمار منذ تأسيسها بقضايا الهجرة والمهجّرين، فليس من الصدفة أن تهتم نظرية ما بعد الاستعمار اهتمامًا خاصًا بتجارب الهجرة والمواطنة التي مرّت بها نخبة مثقفة تنتمي لعصر ما بعد الاستعمار، فقد كان إدوارد سعيد وهومي بابا وجيتري سبيفاك من المهاجرين الذين تلقّوا تعليمًا جيدًا ومن الميسورين الذين هاجروا من الشرق الأوسط أو جنوب آسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا.[11]
يُعَدّ الشتات باعتباره انتقالًا طوعيًّا أو جبريًّا لشعب ما، من أرضه الأصلية إلى مناطق جديدة، واقعًا تاريخيًّا محوريًّا بالنسبة للكولونيالية. والاستعمار ذاته كان في جوهره حركة شتاتية تضمنت التفرق المؤقت أو الدائم، واستيطان الملايين من الأوربيين في العالم بأسره، واستمرت التأثيرات واسعة النطاق لهذه الهجرات، مثل التي أُطلِق عليها اسم: الامبريالية البيئية، على نطاق عالمي.[12]
برأي إدوارد سعيد، فإنه ليس ثمة شك في أن إحدى الخصائص الأشد بؤسًا لهذا العصر، هي أنه أنتج عددًا أكبر من اللاجئين والمهاجرين والمشردين والمنفيين من أي وقت آخر في التاريخ.[13] ويرى سعيد أن المهاجرين واللاجئين يمثلون عاقبة من عواقب تفكيك الاستعمار.[14] يتحدث إدوارد سعيد عن الهجرات والشتات بالنسبة للشعوب المستضعفة بوصفها قضايا (غير مدجّنة)، مثل قضايا اللاجئين، وأهل القوارب الذين يصفهم بجوّابي الآفاق الذين لا يعرفون راحة، والمستضعفين المعرّضين للخطر، والشعوب الجائعة في نصف الكرة الجنوبي، المشردين الذين لا مأوى لهم، والمهاجرين غير المسجلين، والعمال الضيوف المستغَلّين الذين يوفرون أيدي عاملة رخيصة وموسمية في العادة".[15]
ومنذ انطلاق البدايات الأولى لدراسات ما بعد الاستعمار في سبعينيات القرن الماضي وحتى العصر الحاضر، تفاقمت ظاهرة حركة الهجرة من دول العالم الثالث إلى الدول التي كانت تمثل الإمبراطوريات الاستعمارية في الماضي؛ ولهذا فإن قضايا الهجرة تظل من القضايا الأكثر إلحاحًا في نقاشات دراسات ما بعد الاستعمار، بالإضافة إلى سبب آخر هو أن مظاهر الاستعمار الجديد والإمبريالية المكشوفة والمتخفّية لا تزال تؤثر في كثير من الدول والأنظمة السياسية في أحزمة البلدان النامية، سواء عبر أدوات القوة الناعمة أم الخشنة.
الإعلام في دراسات ما بعد الاستعمار
منذ اهتمام إدوارد سعيد بالأسس الخطابية للاستعمار الجديد، بدأت بالتشكّل علاقة وثيقة بين دراسات ما بعد الاستعمار بدراسات الإعلام والاتصال؛ وبشكل عام تُحظى دراسات ما بعد الاستعمار بحساسية تجاه اللغة بشكل خاص بما أن اللغة ذاتها أدّت دورًا رئيسًا في عملية الاستعمار.[16] وقد كانت تتقاطع اهتمامات المجاليْن بشكل خاص في الموضوعات التي تهتم بتمثيل وسائل الإعلام للآخر المختلف عمومًا، وبتمثيلها للهجرة والمهاجرين خصوصًا، بالإضافة إلى موضوع طريقة تأثير الإعلام في حياة الناس عبر التكنولوجيا الأحدث، وعبر المحتوى الموجه من الأقوى إلى الأضعف، وتكمن أهمية التمثيل بالنسبة لدراسات الإعلام ولدراسات ما بعد الاستعمار في حد سواء، في غالبية الناس في العالم الحديث أصبح معظمهم يستمد أغلب معارفه ومعلوماته عن العالم عبر نصوص وسائل الإعلام. و"تمثيل الشيء هو وصفه أو تصويره من أجل استحضاره في الذهن بالوصف أو الرسم أو التخيّل، وتعني كلمة (يمثّل) أيضًا (يرمز إلى) أو يمثل نموذجًا أو بديلًًا".[17]
على الرغم من أن دراسات ما بعد الاستعمار وسّعت اهتمامها بوسائل الإعلام منذ تسعينيات القرن الماضي، إلا أن الأدب لا يزال يُمثَّل بشكل مفرط باعتباره موضوعًا للنقد النصي، ورغم المجهودات التي تُبذَل من أجل تطوير مفاهيم نظرية وتحليلية لما بعد الاستعمار للتعامل مع وسائل الإعلام، لا تزال منهجيات ما بعد الاستعمار ينقصها الكثير في تمثيل الدراسات الإعلامية.[18]
إن وجهات نظر ما بعد الاستعمار مهمة لدراسات وسائل الإعلام؛ لأنها لا تتعلق بالانفصال عن الماضي (سواء مكانيًّا أم زمنيًّا أم معرفيًّا) فقط، بل لأنها تناقش منطق الرأسمالية المتأخرة، فما بعد الاستعمار هو المنطق الثقافي للاستعمار المتأخر. إن مفاهيم ما بعد الاستعمار كالمستعمِر والمستعمَر، والاستشراق، والهجنة والمحاكاة، والتبعية والشتات- يمكن أن تكون أدوات نقدية مناسبة لتحليل المجالات العامة لوسائل الإعلام المعاصرة، كما يمكن أن توفر مسارًا جديدًا للدراسات الإعلامية. بدون هذه المفاهيم الجوهرية لنظرية ما بعد الاستعمار، لا يمكن التعرّف إلى الإنتاج الثقافي الصادر عن وسائل الإعلام المعاصرة لما بعد الاستعمار.[19]
يُعَدّ مفهوم الاستشراق الذي أرسى دعائمه إدوارد سعيد مهمًّا للغاية للدراسات الإعلامية؛ لإدخاله عملية (الآخر) في تحليل النص والخطاب. على الرغم من أن تحليل النص والخطاب يُمارَس على نطاق واسع في الدراسات الإعلامية، إلا أن إدوارد سعيد عُرِف على نطاق واسع بأنه المنظّر الذي تناول أوّلًا إرث الاستعمار من حيث الممارسات الخطابية والنصية المحددة لـ(الآخر) بدلًا من العمليات الاقتصادية والهيكلية. حيث قدم تحليلًا نقديًّا لتغطية الإسلام في الأخبار، والمحاولات العديدة لربط جميع المسلمين بالإرهاب والعنف والأصولية.[20]
على سبيل المثال يرى سعيد أأن ما ألحقته الولايات المتحدة الأمريكية من ضرر بالعالم، كان شديدًا جدًّا وكبيرًا، وكان هذا الضرر يعتمد بشكل كبير على الخطاب الثقافي وصناعة المعلومات، وعلى إنتاج النصوص ونشرها.[21]
بجانب موضوعات الآخر والاستشراق التي تشترك في مناقشتها دراسات ما بعد الاستعمار ودراسات الإعلام في إطار مشكلة التمثيل، يكتسب موضوع التبعية أهمية مماثلة. إذا كان إدوارد سعيد قد اشتهر بمفهوم الاستشراق فإن زميلته في دراسات ما بعد الاستعمار سبيفاك اشتهرت بمفهوم التبعية ودراسات التابع.
يُعَدّ اعتماد سبيفاك لمصطلح غرامشي عن التابع مفهومًا رئيسًا ومهمًّا في الإجابة عن الأسئلة حول الثقافات المحرومة اليوم، وأنماط المقاومة المعاصرة، بالإضافة إلى الإجابة عن مكان حديثهم في وسائل الإعلام وكيفيته. هذا الاتجاه يمكن أن يكون مفيدًا في تفسير نفي الفاعلية عن التابعين، ولكن أيضًا يمكن أن يكون مجالًا لاستعادة سلطة الأقليات العرقية في وسائل الإعلام. [22]
ومثلما استطاعت سبيفاك الجمع بين قضايا النسوية ودراسات ما بعد الاستعمار، استطاعت أيضًا أن تجمع بين قضايا التبعية وقضية التمثيل التي يهتم بها الإعلام. تجادل سبيفاك في أن الافتراض المعاصر بأن التابع يمكنه التحدث عن نفسه، لهو افتراض إشكالي مثل نقيضه؛ أي أن التابع لا يمكنه التحدث عن نفسه.[23]
تقاطعات الهجرة والإعلام في دراسات ما بعد الاستعمار
تتقاطع دراسات الهجرة مع دراسات الإعلام ودراسات ما بعد الاستعمار في قضايا تمثيل المهاجرين في وسائل الإعلام الغربية، بالإضافة الى قضايا التبعية ودراسات التابع، باعتبار أن المهاجرين واللاجئين يمكن أن ينتموا وفق التصنيف الأكاديمي (الما بعد استعماري) إلى دراسات التابع. يمكن في هذا السياق عدّ المهاجر تابعًا، حيث إن المهاجرين واللاجئين، ولاسيّما المنخرطين في الهجرة غير المنظمة، يمثلون طرفًا أضعف في معادلة الهجرات، ويدخلون برغبة شديدة في علاقة تبعية للآخر الأوربي، في محاولة للوصول إليه، ولو كلّف ذلك المخاطرة بالحياة غرقًا في عرض البحر. ولهذا فإن قضايا الهجرة يمكن أن تكون حقلًًا خصبًا لإثراء دراسات الإعلام ودراسات ما بعد الاستعمار أيضًا.
إن أحد الإشكالات المعاصرة في الخطاب الإعلامي لوسائل الإعلام الغربية عند تناولها لقضايا الهجرات غير المنظمة، هو السماح بتمرير سردية إخبارية واحدة حول مشكلة المهاجرين غير المنظمين، وهي سردية تعبّر عن مركزية أوربية، لا تسمح بحدوث أي ربط معرفي بين السياقات الحالية للهجرات المكثفة نحو أوربا وبين التاريخ والتأثير الاستعماري الأوربي في البلدان التي تصدّر الهجرة غير المنظمة. وعليه وفقًا لأفكار فوكو عن الخطاب، فإن خطابات الهجرة في الإعلام الأوربي تنتج معرفة اجتماعية محددة، تتشكل من مقولات يُدرَك العالَم داخل حدودها فقط. يمكننا القول: إن كثيرًا من الخطابات الأوربية حول الهجرة في الإعلام تنطوي على "افتراضات معينة وتحيزات وأشكال من التعامي والاستبصار، لها جميعًا منشأ تاريخي، لكنها تقصي مقولات أخرى من الممكن أن يكون لها شرعية مماثلة. وبالتالي تصبح كل هذه المقولات وكل ما يمكن احتواؤه داخل الخطاب مُصانًا، من خلال التأكيد على الحقيقة"[24]، أي أن وسائل الاعلام الغربية تكاد تسيطر على الخطاب العام حول الهجرة غير المنظمة، كما تحاول السيطرة على الإدراك الاجتماعي لمشكلات وحلول الهجرة غير المنظمة. فعلى سبيل المثال، لماذا لا يُنظَر للهجرات غير المنظمة بوصفه احتجاجًا جماهيريًّا على أوضاع سيئة تسبب فيها الاستعمار القديم والجديد؟ لماذا لا تستطيع وسائل الإعلام الغربية النظر إلى المهاجرين واللاجئين كما نظر إليهم إدوارد سعيد من قبل، كجماهير غير مسلحة تجاوزت بقدر بعيد نقطة القدرة على تحمل الحرمان المفروض والطغيان وتعنّت الحكومات التي حكمتها لزمن مفرط الطول؟[25]
وفي سياق الممارسات الإعلامية، يؤكد العديد من الدراسات الإعلامية الحديثة مشكلات التغطيات الأخبارية لأخبار المهاجرين خصوصًا في البحر الأبيض المتوسط. على سبيل المثال فإن دراسةً بعنوان "كيف غطّت وسائل الإعلام في بلدان ضفتَي المتوسّط ظاهرة الهجرة؟" أُجرِيت ما بين نوفمبر 2016 ويناير 2017 بتمويل من الاتحاد الأوربي وبإشراف المركز الدولي للنهوض بسياسة الهجرة، انتهت إلى تأكيد العديد من وجهات نظر دراسات ما بعد الاستعمار؛ فمن نتائج هذه الدراسة أن وسائل الإعلام التي شملتها الدراسة أخفقت في إعطاء صوت مناسب للمهاجرين؛ لأن التقارير الإعلامية تعتمد بشكل كبير على مصادر المعلومات الرسمية الفردية. كما تشير الدراسة إلى أن التأثير السياسي غير المسوّغ والرقابة الذاتية داخل غرف الأخبار والافتقار إلى الموارد- كل ذلك يعوّق إعداد أخبار متعمقة ومدروسة جيدًا لإعداد التقارير في السياق؛ ونتيجة لذلك فإن الكثير من التغطية الإعلامية للهجرة سطحية، ومبسّطة، وتعكس تحيزًا سياسيًّا واضحًا. بالإضافة إلى ذلك، تؤكد الدراسة أن وسائل الإعلام تعتمد على التغطيات العاطفية عن مشكلات المهاجرين، والتركيز على أعداد المهاجرين/ والأحداث المأساوية، والتهديد المحتمل الذي يشكله المهاجرون للأمن والرفاه في الدول المصدّرة والمستقبِلة للهجرة.[26]
وفي دراسة أخرى (2017) أشرفت عليها الرابطة العالمية المسيحية للتواصل بمنطقة أوربا Europe CCME مع لجنة الكنائس المعنية باللاجئين في أوربا WACC تؤكد نتائجها الأساسية ضعف تمثيل المهاجرين، وعدم الاهتمام بمهنهم وتفصيلات قصصهم، حيث إن 21% فقط من الأخبار المتعلقة بالهجرة تشير إلى المهاجرين. وتشير النتائج إلى أن هناك تيارًا جديدًا لتمثيل اللاجئين والمهاجرين تمثيلًا غير مباشر في وسائل الاعلام، وفي الغالبية العظمى من الحالات 67% يكون المهاجرون هم موضوع القصة الخبرية، لكنهم يُقدَّمون بوصفهم خبراء في 3% فقط من الحالات. كما تشير النتائج أيضًا إلى تركيز كبير من وسائل الإعلام على التعاطف بدل السعي للتفهّم، والسماح للمهاجرين بالتعبير عن أنفسهم وتغطية القضية من منظور الفهم على أساس الحقائق.[27]
إن هذه الإشكاليات الإعلامية المعاصرة تجعل دراسات الهجرة تشتبك بشكل نقدي مباشر مع دراسات ما بعد الاستعمار، كما تجعل من الضروري فتح المجال واسعًا لدراسات بينية نقدية في الحقول الثلاثة: دراسات الهجرة، ودراسات الإعلام، ودراسات ما بعد الاستعمار.
التحليل النقدي لخطابات ما بعد الاستعمار
من خلال إطار نظري ينتمي إلى دراسات ما بعد الاستعمار، وإطار تحليلي ينتمي إلى دراسات الخطاب النقدية، تهدف هذه الدراسة إلى مناقشة الخلفيات المعرفية والتاريخية للأخبار الموجهة لتغطية قضايا المهاجرين الأفارقة عبر البحر المتوسط، وتحاول الدراسة التعرّف إلى علاقة الإعلام بإنتاج وإعادة إنتاج خطابات ما بعد الاستعمار حول هجرة الأفارقة إلى أوربا.
تتلخص مشكلة الدراسة في التحقق من وجود خطابات ما بعد استعمارية في البنية المعرفية والتمثيلية للأخبار التي تقدمها وسائل الإعلام الأوربية عن المهاجرين الأفارقة. وتطرح الدراسة ضمن مشكلة البحث سؤالين أساسييْن :ما مدى كفاية المعلومات التاريخية والسياقية التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية عن الأسباب التي تجبر المهاجرين الأفارقة على المخاطرة بحياتهم من أجل الهجرة إلى أوربا؟ وهل يجري تمثيل المهاجرين الأفارقة في مصادر الأخبار التي تتحدث عنهم؟!
للإجابة عن أسئلة الدراسة والوصول لأهدافها، تستخدم الدراسة منهجية علمية تجمع بين البحث الكمي والنوعي، وتركز على دراسة نماذج من أخبار الهجرة لعدد من المؤسسات الإعلامية الأوربية الناطقة باللغة العربية هي France 24، وDeutsche Welle، و Agency ANSAفي الفترة من أغسطس 2019 حتى أغسطس 2021.
تعتمد الدراسة على توجّه ناقد للخطابات الأخبارية يستفيد من تكامل المنهجين الكمي والنوعي، حيث يُعَدّ تكامل المقاربات الكمية والنوعية أحد أولويات وتحديات بحوث دراسات الخطاب النقدية.[28] من خلال البحث الكمي تحاول الدراسة تحليل البيانات الكمية التي تحويها أخبار المهاجرين الأفارقة للتعرف إلى الظواهر المتكررة التي يشير تكررها إلى قيم إخبارية محددة. في إطار البحث الكمي تحلل الدراسة عددًا من محتويات الأخبار، وتكرار التمثيل للمهاجرين الأفارقة، وتكرار أسباب الهجرة في الأخبار المتعلقة بالمهاجرين. أما بالنسبة للبحث النوعي فتستخدم الدراسة منهجية التحليل النقدي للخطاب لدراسة بنية أخبار المهاجرين الأفارقة والخطابات الأيديولوجية لهذه الأخبار التي تفترض الدراسة أنها تعبّر عن منظور إعلامي ينتمي لخطابات ما بعد الكولونيالية، تلك الخطابات التي تتضح فيها علاقات التبعية والفوقية، وبخاصة عند الحديث عن الأخبار المتعلقة بالدول الإفريقية من طرف الدول الغربية التي كانت تحتلها.
إن التحليل النقدي للخطاب يُعَدّ منهجية مناسبة لدراسة خطابات ما بعد الاستعمار التي تتعلق بهجرة الأفارقة إلى أوربا؛ لأن التحليل النقدي للخطاب يسعى دائما إلى إظهار علاقات السلطة والهيمنة التي يتم غالبًا تعتيمها أو إخفاؤها.[29] تهتم دراسات الخطاب النقدية بشكل عام بالدراسة النقدية للقضايا الاجتماعية والمشكلات الناتجة من عدم المساواة الاجتماعية، وظواهر الهيمنة وما إلى ذلك، وبشكل خاص دور الخطاب واللغة المستعملة، والتواصل في مثل هذه الظواهر.[30]
يعتمد التحليل النقدي للخطاب على أنواع مختلفة من المقاربات المنهجية، لكننا نعتمد في هذه الدراسة على مقاربة العالم الهولندي توين فان دايك في تحليل الأخبار. يقدم فان دايك (1988،1983، 1991، 2008) نموذجًا متكاملًا لتحليل الأخبار، يتكون من قسمين رئيسين: الأول البنى الكلية (ماكرو)، والثاني البنى الجزئية (مايكرو). تنقسم البنى الكلية إلى مستويين: الأول البنيات الكلية الموضوعية، والثاني البنيات الفوقية التخطيطية (الشكلية)، تهتم البنى الموضوعية بالدلالات الكلية والشاملة لقضايا الأخبار، ويقوم فيها فان دايك بتلخيص أهم موضوعات وقضايا الخطاب الخبري، وتعبر عنها في العادة بشكل سريع ومركز العناوين والمقدمات، أما البنى الفوقية التخطيطية فتُعَدّ معايير شكلية تنظم نصوص الأخبار بواسطة محتواها الموضوعي وفاعليها الرئيسين. وتتكون هذه البنى التخطيطية من جسمين رئيسين: الأول الملخّص وتعبّر عنه دائما العناوين ومقدّمات الأخبار، والجسم الثاني هو القصة الخبرية، وتحتوي القصة الخبرية بشكل أساسي على الأحداث الرئيسة والتعليقات عليها، وتتفرع عن هذه المكونات الحدث الرئيس وخلفياته من حيث السياق والأحداث التاريخية المرتبطة به، إضافة إلى الفاعلين والمشاركين في الأخبار وتعليقاتهم وتقييماتهم للأحداث.
لاستخدام نموذج فان دايك لتحليل الأخبار في دراستنا الحالية سنهتم فقط بدراسة البنية الكلية الفوقية للأخبار، وفي إطار البنية الكلية سنركز فقط على نقطتين أساسيتين، هما: أساس مشكلة البحث: خلفيات القصة الأخبارية من حيث السياق والخلفيات المعرفية والأحداث التاريخية المرتبطة بها التي تتعلق هنا بالهجرة، بالإضافة إلى ردود الأفعال اللفظية للفاعلين في الأخبار؛ أي تعليقات وتقييمات المشاركين في القصة الخبرية، وهم يتمثلون هنا في المهاجرين الأفارقة.
بحسب فان دايك تنظم هذه البنى الفوقية شكل المعرفة التي تقدمها التقارير الأخبارية عن طريق تدرج هرمي يحدد في أحيان كثيرة طريقة توزيع السلطة في النص، حيث تحدد هذه البنى الفوقية طبيعة الموضوعات والسياق وشكل التنظيم الإدراكي وصوت الفاعلين والمشاركين في التقارير الأخبارية. فالإدراك في التقرير الخبري يكون من الأعلى إلى الأسفل، حيث تكون أهم المعلومات في مستوى فوقي، وتتدرج إلى الأقل أهمية في المستوى التحتي، وعادة يجري ترتيب الفاعلين في الأخبار بنفس الترتيب الفوقي- تحتي، حيث يتصدر الخبر غالبًا الأعلى سلطة والأكثر موثوقية، بينما يكون الأقل سلطة في مستويات دنيا في البناء الهرمي لشكل التقرير الأخباري.[31]
وتُعَدّ خلفيات الأخبار من المكونات المهمة في البناء الأخباري، فهي تقوم بمهمة توضيح الحقائق الغائبة في الحدث الأخباري، وهي في الأساس تجيب عن سؤال لماذا؟ في أسئلة الخبر الستة: مَن، متى، أين، ماذا، كيف، لماذا؟ وتركز خلفيات الأخبار على التطورات والاحداث السابقة والمعلومات المرتبطة بالأحداث وتاريخها ومكوناتها وسياقاتها وفاعليها. ولهذا نقوم في هذه الدراسة بتقسيم خلفيات الأخبار إلى خلفيات تاريخية تركز على الأحداث التاريخية وخلفيات معرفية تركز على المعلومات السياقية.
جرى اختيار الإعلام الغربي بوصفه مجتمع بحث لدراسة خطابات ما بعد الاستعمار حول الهجرة. في إطار مجتمع البحث هذا جرى التركيز على ثلاث وسائل إعلام أوربية، على أنّها عيّنة للبحث، هي: وكالة فرانس ٢٤، ووكالة دويتش فيله الألمانية، ووكالة أنسا الإيطالية. جرى اختيار هذه الوكالات الأخبارية نسبة لتأثيرها وانتشارها في الشرق الأوسط وإفريقيا باللغة العربية والإنكليزية والفرنسية، وهي اللغات الأكثر انتشارًا في الدول الإفريقية التي يأتي منها المهاجرون، بالإضافة إلى سبب آخر هو شكوى فرنسا وألمانيا وإيطاليا من عمليات الهجرة غير المنظمة، وقد ركزت الدراسة على اختيار هذه الوكالات الأخبارية؛ لأنها تعبّر في أحيان كثيرة عن وجهة النظر الرسمية لتلك الدول الأوربية. وقد جرى اختيار عيّنة عشوائية من الأخبار التي تتعلق فقط بهجرة الأفارقة عن طريق البحر من الدول الإفريقية والشرق متوسطية إلى الدول الأوربية من خلال فترة زمنية امتدت من أغسطس 2019 حتى أغسطس 2021. وفق هذا التحديد الزمني جرى اختيار خمسين خبرًا من الوكالات الأخبارية الثلاث. انظر الجدول(1).
الجدول (1): عيّنة الدراسة
الوكالة الأخبارية |
عدد الأخبار |
فرانس 24 الفرنسية |
22 |
دويتش فيله الألمانية |
16 |
أنسا الإيطالية |
12 |
المجموع |
50 |
من خلال البحث الكمي والنوعي، تركز الدراسة في البداية على التحليل الكمي لخلفيات الأخبار المتعلقة بالمهاجرين الأفارقة وعلى درجة تمثيل المهاجرين الأفارقة في هذه الأخبار. بعد التحليل الكمي تقوم الدراسة بتحليل نقدي للخطاب الأخباري المتعلق بخلفيات الأخبار المتعلقة بالمهاجرين الأفارقة وتمثيلهم. ويهدف التحليل النقدي للخطاب الأخباري إلى كشف علاقات السلطة والهيمنة والانحيازات الأيديولوجية التي يتم إخفاؤها في هياكل الأخبار. فالأخبار ليست في كل الأحوال تعبيرًا موضوعيًّا عن الواقع، فبحسب منظور الدراسات الثقافية لا يجري النظر إلى الأخبار دائمًا بوصفها انعكاسًا للواقع، بل بوصفها نتاج ثمرة شكّلتها القوى والسلطة السياسية والاقتصادية والثقافية.[32]
التحليل النقدي لخطابات الهجرة في وسائل الإعلام الأوربية
قبل تحليل الخطاب الأخباري للخلفيات التاريخية والسياقية لأخبار المهاجرين الأفارقة إلى أوربا عبر البحر، وقبل تحليل درجة تمثيل أصوات المهاجرين الأفارقة في تلك الأخبار ومدى عدالتها، تقوم الدراسة بإجراء تحليل محتوى بسيط للظواهر التي تظهر على بنية الأخبار بشكل متكرر، وتشير إلى قيم إخبارية معينة.
بالتركيز على سؤالَي الدراسة الأساسييْن: (ما خلفيات أخبار غرق المهاجرين الأفارقة في الشواطئ الأوربية؟ وهل يجري تمثيل المهاجرين الأفارقة في أخبار غرق المهاجرين في الشواطئ الأوربية؟) تقوم الدراسة بتقسيم خلفيات الأخبار الى قسميْن: خلفيات تاريخية، وخلفيات معرفية.
يشير الجدول(2) إلى التحليل الكمي للخلفيات والمعلومات التاريخية الواردة في أخبار غرق المهاجرين الأفارقة في الشواطئ الأوربية. جرى تقسيم الخلفيات التاريخية للأخبار إلى ثلاث وحدات رئيسة: أحداث حالية، وأحداث سابقة، وأحداث تاريخية قديمة.
الجدول (2): الخلفيات التاريخية لأخبار غرق المهاجرين الأفارقة في الشواطئ الأوربية
الوكالة الأخبارية |
الخلفيات التاريخية للأخبار |
||
أحداث حالية |
أحداث سابقة |
أحداث تاريخية |
|
فرانس 24 الفرنسية |
22 |
15 |
0 |
دويتش فيله الألمانية |
16 |
12 |
0 |
أنسا الإيطالية |
12 |
3 |
0 |
المجموع |
50 |
30 |
0 |
وكما يظهر في الجدول(2) تتركّز معظم أخبار غرق المهاجرين في الشواطئ الأوربية على الأحداث الحالية، أو الأحداث السابقة التي لم تتعد ّعشر سنوات. تُشير البيانات إلى عدم وجود أي إشارة لأي أحداث تاريخية أو أسباب تاريخية أسهمت في تشجيع المهاجرين الأفارقة على المخاطرة بحياتهم، ومحاولة الوصول إلى أوربا عن طريق القوارب البحرية؛ فكل الأحداث والأسباب إمّا حالية، وإمّا سبقت قبل عشر سنوات فقط. بحسب البحث الكمي فإن أبعد تاريخ تشير إليه خلفيات الأخبار في الوكالات الأخبارية الثلاث هو عام 2011، ولا وجود لأي معلومات عن أي أحداث تاريخية تسبق هذا التاريخ. فوكالة فرانس 24 تشير في خلفيات الأخبار إلى الأعوام 2011 و2014 و2016، أما وكالة دويتش فيله فتشير إلى الأعوام 2015 و2018، أما وكالة أنسا فتشير فقط إلى عام 2018 في خلفياتها.
إن الاهتمام الكبير بالأحداث السابقة في خلفيات الأخبار يؤكد الأحداث الحالية، ويدعم وجود مشكلة قديمة تحدث باستمرار، لكن لا تظهر في خلفيات الأخبار أي إشارات لأحداث تاريخية يمكن أن تفسّر ازدياد حركة المهاجرين الأفارقة إلى أوربا عن طريق البحر. ففي خلفيات الأخبار التاريخية لا توجد إشارة إلى تاريخ الاستعمار، أو إلى أيّ مسؤولية محتملة للدول الأوربية وسياساتها تجاه الدول التي كانت مستعمَرة في التسبب بأزمة هجرة الأفارقة.
يشير الجدول(3) إلى الخلفيات المعرفية لأخبار المهاجرين في الوكالات الثلاث. ويشير تحليل المحتوى إلى وجود خلفيات معرفية محددة تتكرر دائمًا في خلفيات الأخبار لتوضيح معلومات حول ثماني قضايا أساسية هي :(أسباب الهجرة من إفريقيا لأوروبا، مخاطر الهجرة عن طريق البحر، طرق الهجرة عن طريق البحر وأساليبها، الجهود المبذولة لإنقاذ المهاجرين الأفارقة من الغرق، الجهود المبذولة لمحاربة الهجرة غير المنظمة في البحر، أعداد المهاجرين الأفارقة وجنسياتهم، الدول التي يأتي منها المهاجرون الأفارقة، الدول التي يهاجر إليها المهاجرون الأفارقة).
الجدول (3): الخلفيات المعرفية لأخبار غرق المهاجرين الأفارقة في الشواطئ الأوربية
الرقم |
الخلفيات المعرفية للأخبار |
الوكالة الأخبارية |
المجموع |
||
فرانس 24 |
دويتش فيله |
أنسا |
|||
1 |
أسباب الهجرة |
11 |
7 |
1 |
19 |
2 |
مخاطر الهجرة |
8 |
4 |
1 |
13 |
3 |
طرق الهجرة وأساليبها |
10 |
5 |
3 |
18 |
4 |
جهود إنقاذ المهاجرين |
4 |
3 |
1 |
8 |
5 |
جهود الحدّ من الهجرة |
5 |
4 |
1 |
10 |
6 |
أعداد المهاجرين وجنسياتهم |
9 |
8 |
4 |
21 |
7 |
الدول المصدرة للهجرة |
8 |
7 |
4 |
19 |
8 |
الدول المستقبلة للهجرة |
11 |
10 |
3 |
24 |
إذا ألقينا نظرة على ترتيب موضوعات الخلفيات المعرفية لأخبار الهجرة في الجدول(3) سنجد أن وكالات الأخبار تهتم أولًا بتوضيح المعلومات المتعلقة بالدول الأوربية التي تستقبل المهاجرين الأفارقة، يلي ذلك توضيح أعداد المهاجرين الأفارقة وجنسياتهم وهوياتهم، ثم يأتي في أدنى سلّم الأهمية توضيح أسباب هجرة الأفارقة وطرقهم وأساليبهم في الهجرة إلى الدول الأوربية عن طريق البحر.
إن اهتمام وكالات الأخبار بإبراز أسباب هجرة الأفارقة عن طريق البحر في خلفيات الأخبار يؤكد أن خلفيات الأخبار يمكن أن تكون فعلًا بنية جيدة لدراسة تصورات وسائل الإعلام لأسباب هجرة الأفارقة.
ولتسليط الضوء أكثر على الأسباب التي تدفع المهاجرين الأفارقة للمخاطرة بحياتهم عبر محاولة الهجرة إلى أوربا عن طريق القوارب، تشير الجداول6،5،4 إلى أسباب هجرة الأفارقة عن طريق البحر من وجهة نظر كل وكالة إخبارية.
الجدول (4): أسباب هجرة الأفارقة عن طريق البحر بحسب وكالة فرانس 24
الرقم |
السبب |
التكرار |
1 |
تدهور أوضاع الأجانب في ليبيا. |
4 |
2 |
الهروب من تداعيات كوفيد19. |
2 |
3 |
البحث عن فرص عمل وآفاق أوسع. |
2 |
4 |
الهرب من الفقر والفساد وانعدام الآفاق، والسعي إلى بناء مستقبل أفضل في أوربا. |
1 |
5 |
أزمات اجتماعية واقتصادية. |
1 |
ففي الجدول(4) تهتم وكالة فرانس24 بإبراز خمسة أسباب تدفع الأفارقة إلى الهجرة إلى أوربا عن طريق البحر، إلا أنها تركز بشكل أكثر على ثلاثة أسباب هي: (تدهور أوضاع الأجانب في ليبيا، الهروب من تداعيات كوفيد19، البحث عن فرص عمل وآفاق أوسع). وتشير بدرجة أقل إلى الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في البلدان الإفريقية.
الجدول (5): أسباب هجرة الأفارقة عن طريق البحر بحسب وكالة دويتش فيله
الرقم |
السبب |
التكرار |
1 |
الهروب من الصراع والفقر في إفريقيا والشرق الأوسط؛ سعيًا وراء حياة أفضل في أوروبا. |
4 |
2 |
وباء كوفيد-19. |
2 |
3 |
البحث عن مصير أفضل في أوروبا. |
1 |
أما وكالة دويتش فيله كما يشير الجدول(5)، فتقدّم دائمًا ثلاثة أسباب تدفع الأفارقة إلى الهجرة غير المنظمة إلى أوربا عن طريق البحر، أول هذه الأسباب وأكثرها تركيزًا في أخبار دويتش فيله هو: (الهروب من الصراع والفقر في إفريقيا والشرق الأوسط؛ سعيًا وراء حياة أفضل في أوربا)، ثم يلي ذلك وباء كوفيد-19 والبحث عن مصير أفضل في أوربا.
الجدول (6): أسباب هجرة الأفارقة عن طريق البحر بحسب وكالة انسا
الرقم |
السبب |
التكرار |
1 |
الحرب والفقر في إفريقيا والشرق الأوسط. |
1 |
بحسب نتائج التحليل فإن وكالة أنسا الإيطالية هي الوكالة الأقل اهتمامًا بتوضيح أسباب هجرة الأفارقة في أخبارها، فكما يشير الجدول(6) فإن الوكالة أوردت سببًا واحدًا فقط مرة واحدة فقط في أخبارها عن المهاجرين الأفارقة إلى أوربا، وهو الفرار من الحرب والفقر في إفريقيا والشرق الأوسط.
بالنظر إلى نتائج التحليل لأسباب هجرة الأفارقة، فإن وكالات الأخبار الثلاث مجتمعة تتفق على سبب واحد لهجرة الأفارقة هو الهروب من الصراعات والفقر في إفريقيا والشرق الأوسط، بينما تتفق وكالة فرانس24 ودويتش فيله على سببين، هما: وباء كوفيد-19 والبحث عن مستقبل أفضل في أوربا. وعليه وفقًا لهذا الترتيب يمكننا القول: إن المشكلات الأمنية والاقتصادية في البلدان الإفريقية هي الأسباب الأولى لهجرة الأفارقة إلى أوربا، تليها في الترتيب المشكلات الصحية.
وفي إطار الإجابة عن سؤال الدراسة الثاني حول تمثيل المهاجرين الأفارقة في أخبار غرق المهاجرين على شواطئ أوربا، يشير الجدول(7) إلى التعداد الكمّي لأهم الفاعلين في أخبار غرق المهاجرين الذين جرى تقسيمهم إلى أربع مجموعات، بحسب ذكرهم في أخبار غرق المهاجرين.
الجدول (7): الفاعلون في أخبار غرق المهاجرين الأفارقة في الشواطئ الأوربية
الوكالة الأخبارية |
الفاعلون في الأخبار |
|||
المهاجرون |
الجهات الرسمية |
المنظمات الإنسانية |
الأحزاب السياسية |
|
فرانس برس الفرنسية |
4 |
17 |
16 |
0 |
دويتش فيله الألمانية |
3 |
19 |
10 |
2 |
أنسا الإيطالية |
1 |
11 |
6 |
2 |
المجموع |
8 |
47 |
32 |
4 |
كما يشير الجدول(7) فإن تعداد المهاجرين الأفارقة بوصفهم فاعلين في الأخبار ضعيف جدًّا، فمن مجموع خمسين خبرًا عن المهاجرين الأفارقة لا نرى إلا 8 أخبار فقط ورد فيها اقتباس للمهاجرين الناجين. ومن خلال تحليل المحتوى نجد أنه حتى هذه الأخبار الثمانية لا يكون فيها تمثيل المهاجرين تمثيلًا مباشرًا، وإنما يكون عن طريق وسطاء من المنظمات الإنسانية في الغالب. ولهذا لا نرى في الأخبار اقتباسات مباشرة للمهاجرين الناجين من الغرق، إلا بشكل قليل جدًًّا، مثل هذين الخبرين:
- وقال حسن أحد المهاجرين الناجين من غرق القارب، وهو من غانا: "وصلنا إلى الشاطئ بأمان، وقُدِّمت لنا المساعدة... كان قاربنا يقل 120 مهاجرًا، وغرق بعد عطل قبالة الخُمس، ولم يتم إنقاذ سوى 47 شخصًا .(فرانس 24 - 13/11/2020)
- ويروي عبدالله عثمان، أحد الناجين، لفرانس برس: "انطلقنا نحو الساعة 23,30، وبعد ساعة ونصف ساعة على ذلك، دخلت المياه إلى مركبنا، فقال قائده المصري: إننا سنرجع إلى الشواطئ الليبية" (فرانس 24 - 26/07/2019)
أما أغلب الاقتباسات عن المهاجرين الأفارقة الناجين من الغرق فهي اقتباسات غير مباشرة، ينقلها للصحفيين وسطاء آخرون، مثل هذه الأخبار:
- صرح المتحدث باسم وزارة الدفاع محمد زكري أن مركب صيد تمكن من إنقاذ 16 مهاجرًا، ناقلًا عن الناجين قولهم: إن ستين إلى سبعين شخصًا من إفريقيا جنوب الصحراء كانوا على متن القارب الذي أبحر الخميس من الزوارة في ليبيا. (فرانس 24 - 10/05/2019)
- ونقلت السلطات التونسية عن الناجين أن المركب كان يقل 28 أو 29 شخصًا بينهم تونسيان، فيما يتحدر الآخرون من دول إفريقيا جنوب الصحراء. (فرانس 24 - 13/10/2020)
- وعُثر على قارب غادر زوارة الخميس، وعلى متنه ناجيتان نيجيريتان قالتا: إن 17 آخرين من الركاب ربّما يكونون قد غرقوا، بحسب المنظمة الدولية للهجرة. (فرانس 24 - 18/05/2021)
- وقال الناجون، وهم أساسًا من ساحل العاج ونيجيريا وغانا وغامبيا: إن جميع الضحايا من دول في غرب إفريقيا. بحسب الأمم المتحدة. (دويتش فيله - 20/01/2021)
- وأفاد الناجون -بحسب وزارة الدفاع التونسية- أنهم أبحروا من سواحل زوارة بليبيا في الليلة الفاصلة بين 28 و29 حزيران/يونيو، بنية اجتياز الحدود البحرية خلسة في اتجاه الفضاء الأوربي".(دويتش فيله - 03/07/2021)
إذا ألقينا نظرة على محتوى اقتباسات المهاجرين- وفقًا للأمثلة السابقة- فسنجده يتركز فقط على أعداد المهاجرين والناجين من الغرق، وجنسيات المهاجرين الغرقى، وجهة الهجرة وغيرها. ولا وجود يُذكَر لأي أسباب دفعت هؤلاء المهاجرين للمخاطرة بحياتهم من أجل الوصول إلى أوربا.
الجدول (8): تصنيف الفاعلين في أخبار فرانس 24
الفاعلون |
التصنيف |
المهاجرون |
مهاجرون ناجون من الغرق. |
الجهات الرسمية |
خفر السواحل والبحرية التونسية، وزارة الدفاع التونسية، السلطات الإيطالية، الاتحاد الاوربي، وزارة الدفاع التركية، وزارة الداخلية الليبية، البحرية السنغالية، الحرس المدني الإسباني، خفر السواحل اليوناني، السلطات التونسية، وزارة الداخلية التونسية، البحرية الليبية. |
المنظمات الإنسانية |
المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، جمعية الإيفواريين في تونس، منظمة كاريتاس الخيرية، المنظمة الدولية للهجرة واللجنة الدولية للإغاثة، الأمم المتحدة، الهلال الأحمر التونسي، منظمة إس أو إس ميديتيرانيه الإغاثية الأوروبية، المنظمة الإغاثية الأوروبية، وكالة فرونتكس الأوروبية، منظمة أطباء بلا حدود، الهلال الأحمر الليبي. |
الأحزاب السياسية |
لا يوجد. |
في الجداول8،9،10 تُتاَح لنا معرفة هويات الجهات الفاعلة في أخبار المهاجرين الأفارقة الذين يخاطرون بحياتهم من أجل الوصول إلى أوربا. كل وكالات الأخبار تنقل معلوماتها عن أربع جهات رئيسة، هي بالترتيب: السلطات الحكومية، المنظمات الدولية، المهاجرون، الأحزاب السياسية في البلدان الأوربية.
الجدول (9): تصنيف الفاعلين في أخبار دويتش فيله
الفاعلون |
التصنيف |
المهاجرون |
مهاجر ناج من الغرق. |
الجهات الرسمية |
السلطات الفرنسية، السلطات الإسبانية، الأمم المتحدة، خفر السواحل والبحرية التونسية، وزارة الدفاع التونسية، الحكومة السنغالية، السلطات البلجيكية، الحكومة الألمانية، الاتحاد الاوربي، السلطات المغربية، وزيرة الخارجية الأوروبية فيديريكا موغيريني، وزارة الدفاع التركية، البحرية الليبية. |
المنظمات الإنسانية |
منظمة سي-آي غير الحكومية، منظمة كاميناندو فرونتيراسالإسبانية غير الحكومية، منظمة ووتش ذي ميد آلارم فون، منظمة مِسيون لايفلاين الألمانية، الأمم المتحدة، الهلال الأحمر التونسي، منظمة أطباء بلا حدود. |
الأحزاب السياسية |
مجلس النواب الإيطالي، مشرعون إيطاليون. |
بحسب نتائج التحليل فإن أكثر السلطات الرسمية تمثيلًا في أخبار المهاجرين الأفارقة هي دول: تونس، إيطاليا، ليبيا، تركيا، السنغال، إسبانيا، اليونان، فرنسا، بلجيكا، المغرب، مالطا، بالإضافة إلى الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة.
الجدول (10): تصنيف الفاعلين في أخبار وكالة أنسا
الفاعلون |
التصنيف |
المهاجرون |
مهاجر ناج من الغرق. |
الجهات الرسمية |
السلطات الليبية، وزارة الشؤون الداخلية المالطية، وكيل وزارة الداخلية الإيطالية نيكولا مولتيني، السلطات الإيطالية، خدمة الإنقاذ البحري الإسبانية، خفر السواحل الايطالي، البحرية الليبية، وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، وزارة الداخلية الإيطالية. |
المنظمات الإنسانية |
المنظمة الدولية للهجرة، الأمم المتحدة، الهلال الأحمر الليبي، المنظمة غير الحكومية سي ووتش، المنظمة غير الحكومية Open Arms. |
الأحزاب السياسية |
حزب الرابطة الوطني الإيطالي المعارض، زعيم حزب رابطة يورسكبتيتش المناهضة للمهاجرين. |
وتشير النتائج أيضًا إلى أن ألمانيا بوصفها دولة لم يجرِ تمثيلها في أخبار المهاجرين الأفارقة، رغم أن وكالة دويتش فيله تعبّر إلى حد كبير عن اتجاهات السلطات الرسمية الألمانية، لكننا نجد أن ألمانيا وإن كانت غير ممَثلَّة بشكل دولة، إلا أنها ممَثَّلة في أخبار المهاجرين، عن طريق المنظمات غير الحكومية التي تمتلك سفنًًا لإنقاذ المهاجرين في البحر.[33]
أمّا بالنسبة للأحزاب السياسية فنجد أن كل الأحزاب السياسية الممثلة في أخبار المهاجرين أحزاب إيطالية، ومشرّعون إيطاليون، وهي في الغالب مؤسسات إيطالية مناهضة للمهاجرين، مثل حزب الرابطة الوطني الإيطالي المعارض، وحزب رابطة يورسكبتيتش المناهض للمهاجرين.
إن المنهجية التي اتبعتْها الدراسة في المزج بين تحليل المحتوى الأخباري والتحليل النقدي للخطاب، تساعد إلى حد كبير في الكشف عن العلاقة بين الخطابات ما بعد الاستعمارية والخطابات الأخبارية حول الهجرة. فنتائج التحليل تشير إلى وجود فجوات في بِنَى الأخبار حول هجرة الأفارقة، تتماهى مع خطابات ما بعد الاستعمار؛ لأن نتائج تحليل خلفيات الأخبار التي تتحدث عن الأسباب المحتملة لهجرة الأفارقة لا تتطرق إلى (التاريخ الاستعماري) ودوره في زعزعة حاضر ومستقبل الدول الإفريقية التي كانت مستعمَرة علنًا في السابق، أو مستعمَرة بطرق ناعمة في الوقت الحالي. ورغم أن المشكلات الأمنية والاقتصادية في البلدان الإفريقية هي الأسباب الأولى لهجرة الأفارقة إلى أوربا بحسب وكالات الأخبار، إلا أنه لا تُذكَر أيّ تفاصيل حول هذه المشكلات الأمنية والاقتصادية أو أسبابها وتطوراتها، كما لا تُذكَر أي أدوار للدول الأوربية وسياساتها في هذه المشكلات الأمنية والاقتصادية التي حدثت في البلدان الإفريقية، رغم أن هذه البلدان الإفريقية تشكو من الوجود العسكري الأوربي، سواء في الماضي القريب أم البعيد، وأقرب مثال على ذلك الوجود العسكري الفرنسي في دول غرب إفريقيا.
ويكشف تحليل تمثيل المهاجرين الأفارقة في أخبار الهجرة عن نظرة انحيازية إلى الأطراف الأقوى، حيث تستولي السلطات الرسمية والمنظمات الدولية على الصوت الأقوى في الأخبار ونقل الحقيقة والمعلومة، ولا تُتاح فرصة لتمثيل المهاجرين في الغالب، إلا بطريقة غير مباشرة، عن طريق الاقتباسات غير المباشرة التي ينقلها وسطاء للوكالات الأخبارية، كما أن اقتباسات المهاجرين لا تتضمن أيّ إشارة أو إجابة عن الأسباب التي تدفعهم إلى المخاطرة بحياتهم من أجل الوصول إلى شواطئ أوربا؛ ولهذا تبدو أصوات المهاجرين الأفارقة ضعيفة جدًّا في الأخبار التي تتعلق بقصصهم.
الخاتمة
من أجل معرفة علاقة خطابات ما بعد الاستعمار في الإعلام الأوربي بخطابات الهجرة غير المنظمة، طرحت هذه الدراسة سؤالين أساسييْن: ما مدى كفاية المعلومات التاريخية والسياقية التي تقدمها وسائل الإعلام الأوربية عن الأسباب التي تجبر المهاجرين الأفارقة على المخاطرة بحياتهم، من أجل الهجرة إلى أوربا؟ وهل يجري تمثيل المهاجرين الأفارقة في مصادر الأخبار التي تتحدث عنهم؟!
تثبت الدراسة في نتائجها أن وسائل الإعلام الأوربية التي اختيرت كعينة للدراسة، لا تقدم في تقاريرها الأخبارية معلومات تاريخية كافية حول الأسباب التي تدفع المهاجرين الأفارقة إلى المخاطرة بحياتهم من أجل الهجرة إلى أوربا. كما تؤكد الدراسة أن تمثيل المهاجرين الأفارقة في أخبار الهجرة غير المنظمة، يُعَدّ ضعيفًا جدًّا، ولاسيما أنهم يمثّلون الموضوع الأساسي لهذه الأخبار، فهم الذين يقومون بالهجرة، وهم الذين يكونون ضحايا لها؛ ويزيد تمثيل المهاجرين ضعفًا، أن محتوى اقتباسات المهاجرين المحدودة في الأخبار لا يتطرق أبدًا إلى توضيح الأسباب التي دفعت هؤلاء المهاجرين إلى المخاطرة بحياتهم من أجل الوصول إلى أوربا.
يُعَدّ الصراع والفقر في إفريقيا أكثر الأسباب التي تشير إليها وكالات الأخبار الأوربية بوصفها دوافع تشجّع الأفارقة على الهجرة غير المنظمة؛ ورغم أن الصراعات والفقر تُعد أسبابًا قيّمة وحقيقية، إلا أنها لا تمثل كل الأسباب التي تدفع الأفارقة للهجرة، فهي على سبيل المثال لا تشير إلى الأسباب الأخرى التي قد تلقي المسؤولية على الدول الغربية.
تؤكّد نتائج الدراسة أن علاقات السلطة والهيمنة التي تمثل روح خطابات ما بعد الاستعمار في الأخبار الأوربية حول المهاجرين الأفارقة- لا يكون التعبير عنها بشكل مباشر ومكشوف في الأخبار، لكنها تكون مخفية في بِنَى الأخبار، خصوصًا في الخلفيات المعرفية والتاريخية، وفي تمثيل الفاعلين في أخبار المهاجرين؛ ولهذا فإن أخبار الوكالات الغربية حول هجرة الأفارقة إلى الغرب عمومًا يمكن أن تتحول في بعض الأحيان إلى خطابات استعمارية، بسبب فرضها لرؤية الأطراف القوية، وهيمنتها على الخطاب العام حول الهجرة وأسبابها وحلولها.
عن طريق التحليل النقدي لخطابات الأخبار المتعلقة بالمهاجرين الأفارقة، تتّضح أكثر علاقات الهيمنة والسلطة في أخبار المهاجرين الأفارقة، فالصوت الأقوى والمؤثر في الأخبار يكون دائمًا من نصيب غير المهاجرين، كما تسود في أخبار هجرة الأفارقة معلومات حول حقائق معينة تفرضها الرؤية الغربية لا مجال فيها لرأي المهاجرين الأفارقة، أو للأحداث التاريخية المرتبطة بأشكال الاستعمار القديم أو المتجدّد التي قد تمثل دافعًا للوعي الجمعي للشعوب المظلومة للتفكير بالهجرة غير المنظمة، بوصف ذلك رد فعل على سياسات الاستعمار، وبوصفه فعلًا مقاومًا لسوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية التي تشارك بعض الأطراف الغربية في تأجيجها، بالتدخلات المباشرة وغير المباشرة. وهكذا فإن وكالات الأخبار الغربية تعمل على تغليب (رواية سلطوية) واحدة حول أسباب هجرة الأفارقة، ولا تسمح للأخبار بإيراد أسباب أخرى يرويها المهاجرون أنفسهم. لا تهتم الوكالات الأخبارية بأي آراء تاريخية حول ظاهرة الهجرة غير المنظمة في تقاريرها الأخبارية، في مقابل الاهتمام الكبير بآراء المنظمات غير الحكومية؛ وهذا الأمر يجعل المعالجة الأخبارية لحظيّة، ومهتمة بالأحداث الجارية على حساب الخلفيات التاريخية والسياقات المعرفية التي تلقي الضوء على المشكلات الجذرية أو حلولها؛ ولهذا لا نرى في أخبار الوكالات تمثيلًًا لرأي خبراء سوى موظفي المنظمات الأممية وغير الحكومية.
إن بنية الأخبار الأوربية المتعلقة بأحداث غرق المهاجرين الأفارقة في الشواطئ الأوربية، وخصوصًا خلفيات الأخبار والفاعلين الأساسيين في الأخبار- يمكن أن تمثل وسيطًا معرفيًّا قادرًا على إنتاج وإعادة إنتاج الخطابات ما بعد الاستعمار حول هجرة الأفارقة من بلدانهم الفقيرة إلى بلدان أوربا الغنية. فنتائج الدراسة تثبت أن الوكالات الإعلامية الغربية لا تستطيع تمثيل المهاجرين الأفارقة في بِنَى الأخبار بعدالة، كما لا تقوم بتقديم معلومات تاريخية حول جذور مشكلة الهجرة من إفريقيا إلى أوربا، وعلاقات الاستعمار القديمة، وإنما تكتفي فقط بإيراد معلومات حول أحداث الهجرة القريبة؛ هذا الأمر يعزّز من فرضية تفاقم مشكلة الهجرة بالنسبة لأوروبا، كما يساعد على إبعاد النقاش حول أيّ دور أو مسؤولية للدول الأوربية في زيادة المشكلات الأمنية والاقتصادية والسياسية في الدول الإفريقية، منذ أحداث الاستعمار القديم وحتى محاولات الاستعمار المتجددة، التي اصبحت تأخذ أشكالًا أكثر نعومة وتخفّيًا، مثل الضغوط الاقتصادية المتعمدة على الديون، والمساعدات الإنسانية، والمساعدات العسكرية.
تمثل مشكلة الهجرة غير المنظمة هاجسًا يؤرق كل الدول التي تكون طرفًا فيها، سواء كانت دولًا مصدِّرة للهجرة أم كانت مستقبِلة لها، أم وسيطًا ناقلًا لها. وتبذل الدول المتضررة من الهجرة غير المنظمة مجهودات كثيرة ومتنوعة لوقف هذا النوع من الهجرة. ومن المحتمل أن يستمر هذا النوع من الهجرة ما لم يحدث احتواء حقيقي لاتجاهات ما بعد الاستعمار، وآثار خطاباته المحتملة على الأفارقة المرشّحين ليكونوا مهاجرين غير منظمين مستقبلاَ، عن طريق معالجة جذور المشكلة التاريخية وأسبابها البنيوية. ويمكن للإعلام وللدراسات الإعلامية أن تؤدّي دورًا كبيرًا في مجهودات حلول مشكلة الهجرة غير المنظمة عن طريق توضيح الحقائق حول الهجرة غير المنظمة، ووضع أحداثها الحالية والسابقة في سياقاتها التاريخية، وإطاراتها المعرفية الصحيحة.
الهوامش والمصادر
[1] CCME and WACC Europe, Changing the Narrative: Media Representation of Refugees and Migrants in Europe, 2017, P.5
[2] تقرير الهجرة في العالم لعام 2020، ص32.
[3] جون ماكلويد وآخرون، نظرية ما بعد الاستعمار والرواية: دراسات ومقالات مختارة، القاهرة: بيان للترجمة والنشر والتوزيع، 2020، ص 34
[4] G Huggan. The neocolonialism of postcolonialism: A cautionary note. Links & Letters, 1997. (4), P.22
[5] Ibid, p.19
[6]بيل أشكروفت وآخرون، دراسات مابعد الكولوناليالية: مفاهيم أساسية، المركز القومي للترجمة، 2010، ص 101
[7] إدوارد سعيد، تمثيل التابع والمحاورون الأنثربولوجيون، مجلة فصول 2، 24-42، ص 25
[8] Rinella CERE. Postcolonial and media studies: a cognitive map. In: CERE, Rinella and ROSALIND, Brunt, (eds.) Postcolonial media culture in Britain. Basingstoke, Palgrave Macmillan, (2011) 1-13, p.12
[9] Ibid, p.10
[10] جون ماكلويد وآخرون، مرجع سابق، ص37
[11] نفس المرجع، ص 39
[12] بيل أشكروفت وآخرون، مرجع سابق، ص 136
[13] إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، دار الآداب، 2004، 388
[14] المرجع السابق، ص382
[15] ادوارد سعيد في كتابه الثقافة والامبريالية ص 383
[16] بيل أشكروفت وآخرون، مرجع سابق، ص41
[17] تيم وال وباول لونج، الدراسات الإعلامية: النصوص والمعاني الإعلامية، المجموعة العربية للتدريب والنشر، 2017، ص202-203
[18] Kai Merten and Lucia Krämer. Postcolonial Studies Meets Media Studies A Critical Encounter, transcript Verlag, Bielefeld, 2016, p.7
[19] Rinella CERE, Ibid, p.1
[20] Ibid, p.8
[21] إدوارد سعيد، تمثيل التابع والمحاورون الإنثربولوجيون، مرجع سابق، ص32
[22] Rinella CERE, Ibid, p.10
[23] Ibid, p.12
[24] بيل أشكروفت وآخرون، دراسات ما بعد الكولوناليالية: مفاهيم أساسية، مرجع سابق، ص 142.
[25] إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، مرجع سابق، ص 383
[26] Euromed Migration, “How Does the Media on Both Sides of the Mediterranean Report on Migration?: A Study by Journalists for Journalists and Policy-Makers, p.3
[27] CCME and WACC Europe, Changing the Narrative: Media Representation of Refugees and Migrants in Europe, 2017, http://www.refugeesreporting.eu/report/, p.5-6
[28] R. Wodak, and M.Meyer, Critical discourse analysis: history, agenda, theory, and methodology. London: Sage Publications, 2009, p.35.
[29] Ibid, p.53
[30] T.A. van Dijk, Discourse and Power. New York: Palgrave macmillan, 2008, p.3
[31] H.A. Salih Mohamed, Sudan Basınının Haber Söyleminde Ekonomik Şiddetin Kodlanması, Yayınlanmamış Doktora Tezi. Anadolu Üniversitesi, Eskişehir, 2021, s.213-220.
[32] .A. van Dijk, Ibid, p.95.