يُعَدّ المفكّر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) من أعظم فلاسفة الحضارة في التاريخ الإسلامي المعاصر. وقد أسهم في الفكر الإسلامي المعاصر إسهامًا عظيمًا. ورغم أن الفكر السياسي -بمعناه الضيق- لم يكن صلب اهتمام مالك، فقد تناول جوانب منه ضمن دراسته لصيرورة الحضارة الإسلامية. يتناول هذا البحث مثالًا من تعاطي مالك مع المسألة السياسية الإسلامية، وهو حديثه عن حرب صفّين التي وقعت في سنة 37هـ، وما تركته تلك الحرب من جراح غائرة في الحضارة الإسلامية.
ويعتمد البحث منهجًا استقرائيًّا تحليليًّا، فيستوعب كل ما ورد عن حرب صِفِّين في تراث مالكٍ باللغتين العربية والفرنسية، ثم يركِّب من ذلك دلالةَ هذه الوقعة الحربية وأثرها في مصائر الحضارة الإسلامية، كما رآها مالك بن نبي؛ فلحرب صِفِّين مكانة مركزية في تفسير مالكٍ للمصائر السياسية التي آلت إليها الحضارة الإسلامية، فهو يَعدّ تلك الوقعة الدموية محطة الانكسار في منحنى الصعود الصاعق لحركة التاريخ السياسي الإسلامي المبكِّر، والعامل الأعمق تأثيرًا في المسار السياسي للحضارة الإسلامية فيما بعد.
ويستغرب مالكٌ من أن المؤرخين المسلمين لم يقدِّروا تلك الحادثة التأسيسية حقَّ قدرها، فيقول: "لستُ أدري لماذا لم يتنبه المؤرخون إلى هذه الواقعة التي حوَّلت مجرى التاريخ الإسلامي، إذ أخرجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية الذي يسوده عامل العقل وتزيّنه الأبَّهة والعظمة، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح، فإن مؤرخينا لم يروا في تلك الكارثة إلا ظاهرة ثانوية''.