تظلّ المسألة الفلسطينية القضية الأهم والأبرز في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأس ملفاتها الأكثر سخونة؛ وهذا يرجع إلى حجم تأثيراتها الارتدادية من نجاحات وإخفاقات، فضلًا عن انعكاساتها على مستويات عديدة: سياسية واجتماعية وأمنية... وغيرها، وتتعدى أهميتُها نطاقها المحلّي الشرق أوسطي، لتصبح جزءًا أساسيًّا من إشكالات المجتمع الدولي، وفي مقدمة مباحثاته ومساعيه الرامية إلى وضع حلول فاصلة لإنهاء هذا الصراع (العربي- الإسرائيلي).
بيد أنه قد تصاعد الحديث في الآونة الأخيرة عن نشوء تغيّرات جذرية، وتحولات عميقة طفت على السطح بشكل فجائي، كشفت عن مسمّيات وتوصيفات جديدة لمشروعات قُرِنت بالقضية الفلسطينية، تتعلق بشكل مباشر بمحددات واقعها ومستقبلها، وهذا من شأنه أن يقلب هذه القضية رأسًا على عقب، فيما يشبه -إن جاز الوصف- وعدًا بلفوريًّا جديدًا، رسمته وحددت معالَمه الإدارة الأمريكية الجديدة، تزامنًا مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدّة السلطة .
ولا شكّ أنّه لا يمكن فصل أهمية مسجد الأقصى، وخصوصيته الدينية: العربية والإسلامية، وما يمثله من إشكال هوياتي، ومحور ارتكاز للقضية الفلسطينية وبوصلتها الجامعة- عن تلك الخطوات التي يجري الدفع صوبها، من رسم ملامح تشكّلات جديدة، تعيد صياغة المنطقة بشكل لا يتناسب مع الأهداف التي من أجلها ضحَّت أرواح نفيسة وصُرِفت أموال كثيرة، ومن أجلها جاهد الكثير من أبناء العرب والمسلمين، ولاسيّما الفلسطينيين، وهذا يوجب دقّ ناقوس الخطر، واستدعاء الانتباه واليقظة لما يجري الحديث عنه في اللحظة الراهنة، والذي يهدف بلا شك إلى زلزلة القضية الفلسطينية وقلبها رأسًا على عقب .
هذه المشاهد كانت دافعًا رئيسًا لمجلتنا (رؤية تركية) لسبر أغوار المشروع الجديد الذي يجري الحديث عنه، ويستهدف صلب القضية الفلسطينية، وهو الذي بات يُعرَف بـ"صفقة القرن"؛ وذلك من خلال استقراءات عدد من الكتّاب والباحثين والأكاديميين الفلسطينيين، الذين تناولوا هذا المشروع تفكيكًا وتحليلًا وتفنيدًا؛ للوصول إلى ماهية هذا المشروع وأهم بنوده، فضلًا عن الداعمين له، وإمكانية تحقّقه من عدمه، في ظلّ تحالف شبكي ينطلق من الداعم الرئيس الممثَّل في السلطة السياسية الأمريكية، وحلفاء لها في الإقليم، يمهّدون لها الأرض؛ لإتمام هذه الصفقة، وتمريرها بشكل يقفز على جميع الثوابت الدينية، والمبادئ القيمية والأخلاقية التي تضع المحتلّ الإسرائيلي في صورته الحقيقية التي عليها في اللحظة الراهنة.
قدّم الباحث الفلسطيني هاني المصري أولى دراسات هذا العدد، وعنوانها: "القضية الفلسطينية ومشروع صفقة القرن"، تناول فيها نشأة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قبل الولوج إلى صلب الحديث عن مشروع صفقة القرن؛ ليكون ذلك مدخلًا رئيسًا لفهم الواقع الآني، ومعطيات اللحظة الراهنة.
ثم انتقل المصري إلى مشروع صفقة القرن، فعَدّه تطورًا نوعيًّا في تعاطي الدولة الأمريكية عبر سياساتها المتعاقبة مع القضية، إذ أكّد الباحث أن الدور الذي قامت به إدارة ترامب استطاع نقل العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية و(إسرائيل) إلى مشهد جديد، من خلال الانحياز التاريخي لها، والانتقال بالعلاقة إلى الشراكة الكاملة معها، وبخاصة مع اليمين المتطرف في الداخل الإسرائيلي. والأمر اللافت الذي قدّمه الباحث هو إيضاحه الأسباب التي جعلت حتى الآن صفقة القرن مشروعًا تُحدَّد معالمُه وأهدافُه، وتُنسَج ترتيباته خلف الأبواب المغلقة، وبطرق غير مباشرة، وهذا يدلّ على خطورة الصفقة، والخشية من الإعلان عنها بشكل جليّ.
وانطلاقًا من ذلك الموقف الأمريكي كانت من المهم معرفة تاريخ تحولات السياسات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، وهو ما قدّمه السياسي الفلسطيني حسام بدران، من وحي التجربة، واستقراء التاريخ، وتتبّع تلك المسارات والمحطّات السياسية المهمّة وأطوارها التكوينية منذ عقود مضت، وذلك في بحثه: "تطورات السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية: (صفقة القرن): المحتوى والسياق".
وفي هذا البحث تنكشف أمامنا رويدًا رويدًا تفصيلات أكثر لملامح مشروع صفقة القرن، خصوصًا مع ما تقدّمه الدول المؤثرة في تشكّل هذه الصفقة من عروض تدفع نحو تعزيزها. ويرى الباحث السياسي الفلسطيني أنها ترتكز على محورين رئيسين: أوّلهما سياسي، يتمثّل في إنهاء الملفات السياسية في القضية الفلسطينية، كالقدس واللاجئين وحدود الدولة من جهة، وثانيهما اقتصادي، وهو المال الذي يؤدّي دور الداعم والمساند والترغيب والترهيب في آن معًا من جهة أخرى .
وفي سياق المتغيّرات الحادثة على المشهد الفلسطيني بالتوازي مع دور الولايات المتحدة الأمريكية الملحوظ في إدامة هذا الصراع، وعدم وجود الرغبة الحقيقية في إيجاد حلّ ناجز لهذه القضية- يتناول الأكاديمي الفلسطيني سامي العريان دور الولايات المتحدة الأمريكية في استدامة المأساة الفلسطينية.
وبهذا التوصيف يقدّم لنا العريان زاوية جديدة ومهمّة، متمثّلة في الدور الأمريكي في إبقاء المشكل الفلسطيني على حالته القائمة، ولاسيّما مع بروز صفقة القرن، وهذا يمنح هذا البحث بعدًا مهمًّا وجديدًا في معالجة المسألة الفلسطينية، في ظل السرد المعلوماتي المهمّ، القائم على البيانات والإحصاءات التي تتحدّث عن الدعم الأمريكي العسكري المباشر لقوات الاحتلال الإسرائيلي على مدار تاريخ العلاقة التي جمعت بينهما، وهذا ينفي دور الوسيط المتوازن، وهو ما يحاول الوصول إليه من استنتاجات، انطلاقًا ممّا يجري تدبيره، ممّا بات يُعرَف بصفقة القرن.
في موازاة ذلك، كان من المتوقِّع أن تهندس الولايات المتحدة الأمريكية الدولةُ الراعية لصفقة القرن كيفية القبول الدولي لهذه الصفقة، ولاسيّما من جهة الشقّ الإعلامي، وتوجيهها بشكل مباشر نحو الجمهور المتلقّي، وهو ما يسلّط عليه الضوء الباحث الفلسطيني عمر أبو عرقوب في دراسته: "صفقة القرن من منظور الإعلام وهندسة الجمهور: تحليل نقديّ للخطاب الرسمي الأمريكي".
يقف عرقوب على نقطة جديرة بالملاحظة والاهتمام، هي القدرة على تسويق هذا المصطلح "صفقة القرن" بقدر يكرّس حضوره في الإعلام، عبر خطوات تبدأ بتمريره بشكل ينطلق من غرابته معنى وسياقًا، إلى تقبّله بشكل يصبح إطلاقه اعتياديًّا بل وتقليديًّا إلى أن يصبح مقبولًا، ويجري تداوله بشكل يومي، بل وعلى مدار الساعة.
من جهة أخرى شهد العام الجاري حدثًا مزلزلًا بالنسبة للقضية الفلسطينية، حينما أقرّ الكنيست الإسرائيلي ما سمّاه بالقانون الأساسي للدولة الإسرائيلية، الذي عدَّ إسرائيلَ دولة قومية للشعب اليهودي، وهذا أثار حينها جملة من الانتقادات الإقليمية والدولية، بيد أن الباحث الفلسطيني صادق الشيخ عيد ربط بين هذا القانون وما يُسمَّى بصفقة القرن، باعتباره يمثّل الشقّ المحلّي من الصفقة، الذي تُعلَن معه نهايةُ الطرح القديم بحلّ الدولتين، ونتيجة لذلك القانون: سيجري تكريس العنصرية والكراهية بين العرب واليهود، فضلًا عن إنهاء المسار السياسي، بحسب وصفه.
وحتى تكتمل الصورة كان لا بدّ من الوقوف على الرؤية الفلسطينية إزاء التهويد القائم في القدس، وموقفها منه، وهو الجهد البحثي الذي يقدّمه أشرف القصاص في بحثه: "الموقف الفلسطيني من الاستيطان الصهيوني في الفترة ما بين 1882 إلى 1917م، وتبرز أهمية ذلك البحث في تسليط الضوء على مدينة القدس التاريخية، ورصد سير الهجرة التاريخية لها من قبل اليهود منذ بدايتها، وتناول أطوارها، إلى ما أضحت عليها صيرورتها في الفترة ما بين التاريخين السابقين. تركز الدراسة في آلياتها المنهجية على منهج البحث التاريخي، وتضيء من خلاله آليات اليهود المتنوعة وأساليبهم الماكرة -بحسب وصف الباحث- في حيازة الأراضي بالقدس والموقف العثماني منه.
وتزداد الحاجة الملحّة إلى الوقوف على مقارنات من شأنها أن توضّح حجم الفروقات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في فضاء ما أطلق عليه الباحث الفلسطيني معاذ العامودي "الدبلوماسية الرقمية" .
يقدّم العامودي في دراسته: "الدبلوماسية الرقمية الرسمية وتأثيراتها في السياسة الخارجية: دراسة مقارنة بين فلسطين والاحتلال الإسرائيلي"- بعدًا جديدًا في التعاطي الإسرائيلي الرقمي مع العالم من حوله، وبخاصة الجانب العربي منه، بالتوازي مع نظيره الفلسطيني، وهي دراسة جديرة بالتأمل والوقوف عليها؛ نظرًا لأهمية الفضاء الرقمي في اللحظة الراهنة بشكل عام.
أمّا مقال الباحث محمود سمير الرنتيسي فقد تناول الموقف التركي من مشروع صفقة القرن؛ نظرًا لما تمثّله تركيا من نفوذ إقليمي كبير في منطقة الشرق الأوسط، وتوازيًا مع موقفها الجادّ والحازم والداعم للقضية الفلسطينية، الذي عبرت عنه الخطوات الأخيرة التي أقدمت عليها السلطة السياسية في انتقادها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والهبّة الشعبية التركية التي وقفت أمام الداعم الأمريكي للإجراءات الإسرائيلية المجحفة بحق الشعب الفلسطيني.
وفي سياق منفصل انتقل العدد إلى بحثين مهمّينِ تناولا شأن تركيا الداخلي وسياساتها الخارجية؛ عنوان أوّلهما: "الاقتصاد التركي يبحث عن طرق جديدة في ظل الاضطرابات المالية"، لمجموعة من الباحثين، هم: نور الله غور ومولود طاطلي ير وشريف ديلك، وعنوان ثانيهما: "المساعدات الخارجية بوصفها أداة للسياسة الخارجية التركية" للباحث ويسل كورت.
ثمّ جاء بحث "إشكالية الدولة الحديثة والدِّين: جوانب سياسية ودستورية في السياق الغربي المعاصر" للباحث المغربي خالد يايموت، الذي توسّع في دراسة تلك الإشكالية التي لا تزال مثار جدل ونقاش على مدار عقود متوالية، وقد انطلق يايموت في مقالته من مقاربات تفسيرية وتحليلية تمزج بين ما تقدمه عدّة حقول معرفية في علم السياسة والاجتماع والفلسفة والتاريخ من أطروحات تتعلّق بشكل مباشر بهذه الإشكالية، وهذا يمنح البحث إضافة جيدة، في ظل معالجة جديدة، تسعى إلى وضع تصوّر يمكن من خلاله تفكيك هذا الإشكال، وإبرازه على النحو المراد منه.