ملخص
يدور التَّحليل حول حِلف النَّاتو والأزمة التي يُعتقَد أنَّه وقع فيها مُؤَخَّرًا، ويرى أنَّ النَّاتو سيحافظ على وجوده، رغم الأزمة التي يواجهها؛ لأنَّ النَّاتو يعيشُ أزمةً مُؤَقَّتَةً لم يَخلُ تاريخه من مثيلاتها، ولأنَّه لا يوجد تحوُّلٌ بُنيَوِيٌّ في النِّظام العالميِّ. ويُؤكِّد التَّحليل أمرًا آخرَ، وهو أنَّ علاقات تركيا بالنَّاتو تَتَحدَّدُ و/أو ستتحدَّد بحسب هذه الظُّروف الجديدة. ويمكن القول إنَّ تركيا هي أوَّل من يتأثَّر بهذه الأزمة، وأوَّل من يُبدي رُدودَ أفعالٍ مَنطِقِيَّةٍ مُتماسِكَةٍ. إنّ تركيا تحوَّلت إلى إستراتيجيَّةٍ تَقومُ على مَنطِقِ التَّعاوُنِ مع اللَّاعبينَ الدَّوليِّينَ الآخرين، ولكن من دون أنْ تنسَحِبَ من النَّاتو. وأصبحت شريكًا أكثرَ جاذبيَّةً بالنِّسبة للَّاعبينَ الآخرين بعد تطبيق إستراتيجيَّة التَّحالُفِ المُتعدِّد. فحَظِيَت بمزيدٍ من الاستقلاليَّةِ في مجالِ الأمن والسِّياسة الخارجيَّة. ومن المُتَوقَّعِ أنْ تَستَمِرَّ هذه السِّياسة على المدى القريب والمُتَوسِّطِ.
المدخل:
يتناول التَّحليل أزمة حِلف النَّاتو التي انتشرت الأقاويل عنها مُؤخَّرًا، وهل هي حقيقةٌ أو لا؟، وماهيَّة هذه الأزمة إنْ وُجِدَت، ومصدرها، ونتائجها. هل الأزمة التي يواجهها النَّاتو نِتاجُ التَّحوُّل البُنيَوِيِّ في النِّظام العالميِّ؟ أم أنَّها نِتاجُ صراعٍ ظَرفيٍّ مُؤقَّتٍ؟ كيف يخرج النَّاتو من هذه الأزمة؟ هل هناك احتماليَّةٌ لانهيار النَّاتو؟ إلى أين يتَّجهُ النَّاتو؟ كيف تُؤثِّرُ أزمة النَّاتو في الدُّوَلِ الأعضاء؟ وما تداعِياتُها على تركيا؟ وكيف تتبلوَرُ العلاقات بين تركيا والنَّاتو في الفترة الجديدة؟ والجواب عن كلِّ هذه الأسئلة في هذه الدِّراسة التَّحليليَّة التي تهدف إلى تقديم تقييم راهنٍ وعامٍّ حول النَّاتو.
لا يمكن إعطاء إجاباتٍ تفاؤليَّةٍ جدًّا عن الأسئلة المذكورة أعلاه، فهذه الدِّراسة التَّحليليَّة تقبل المزاعم بوجود أزمةٍ في النَّاتو، لكنَّها تقولُ إنَّ هذه الأزمة ليست ناجمةً عن تحوُّلٍ بُنيَوِيٍّ شاملٍ في العلاقات الدَّوليَّة، وإنَّما أزمةٌ ظرفيَّةٌ، صودفِت مثيلاتها في الماضي. ومِن ثَمَّ فالأصحُّ أنْ نقول: إنَّ النَّاتو ليس في منعطف تحوُّلٍ تاريخيٍّ، بل في أزمةٍ ظرفيَّةٍ.
لا يوجد تحوُّلٌ جادٌّ في النِّظام العالميِّ الذي يرتكزُ على الولايات المُتَّحدة الأمريكية، فهذه الأخيرة لا تزال الدَّولة الأكثرَ نفوذًا في النِّظام العالميِّ، وتتبوَّأ موقعًا يؤهِّلها للتَّحرُّك بما يتوافق وهذا النُّفوذ، ولا يَخفى على أَحَدٍ أنَّ أمريكا في السَّنوات الأخيرة فقدتِ الرَّغبة في الإنفاق على النِّظام العالميِّ، فقلَّت استثماراتها في هذا المجال، بدءًا من عهد أوباما، وصولًا إلى عهد ترامب، فنراها تسعى إلى تقليل نفقاتها، والانعزال عن العالم سياسيًّا، بُغيَةَ تحقيق مكاسبَ على الصَّعيد الاقتصاديِّ، لكنَّ هذا لا يعني أنَّ أمريكا تفتقرُ إلى القدرة الماديَّة الكافية لاستمرار دورها المركزيِّ؛ لأنَّ واشنطن في وضعٍ يُمَكِّنُها من الاستمرار في ممارسة دورها المركزيِّ، إلّا أنّها غير راغبةٍ في ذلك، وبإمكانها أنْ تكونَ أكثرَ فاعليَّةً، وتُمارِسَ مرَّةً أُخرى دور القيادة عندما يكون الأمر مُتعلِّقًا بالمسائل الأمنيَّة والسِّياسيَّة المِحوريَّة.
ولهذا السَّبب لا يزال النَّاتو الحلف الأكثرَ مصداقيَّةً ورَدعًا واستِدامةً في العالم[1]، ولا يوجد له أيُّ منافسٍ أو بديلٍ من هذه النَّاحية، ولا يوجد حِلفٌ دوليٌّ أو مُنظَّمةٌ دوليَّةٌ يمكن مقارنته بحلف النَّاتو، ولهذا السَّبب لا تنوي الدُّول الأعضاءُ الابتعاد عنه، رغم الأزمة التي يواجهها. والجدل اليوم يتَّجه نحو الأولويَّات الاقتصاديَّة، في أوساطٍ تشهدُ ضعفًا في المنافسَة الأمنيَّة، وفي حال تعزيز المنافسة الأمنيَّة ستعود الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة إلى القيام بمزيدٍ من الاستثمارات في النَّاتو، وستبدأ بقيَّة البلدان بالتَّمسُّك بالحلف بشكلٍ أكبر، وهذا يعني أنَّ النَّاتو ليس على حافَّة الانهيار على الإطلاق، بل على العكس، يحافظ على وجوده باعتباره الحلف الذي يعيش الأزمات، لكنَّه صالحٌ للاستعمال.
وفي مثل هذه الأوساط ستَتَشَكَّلُ علاقات تركيا مع النَّاتو بحسب هذه الظُّروف الجديدة. ولا ننسى أنَّ تركيا تسعى منذ مدَّةٍ للخروج من كونها الحليف الصَّادق الوفيَّ للنَّاتو، والتَّحوُّل إلى لاعبٍ يستفيد منه؛ لأنَّ حلفاءها في النَّاتو لم يُبْدوا تعاونًا معها وهي التي تُواصِلُ تعلُّقها بالحلف من طرفٍ واحدٍ، فلم يكتَفِ حلفاؤها في النَّاتو بتَركِها وحيدةً في مجالاتٍ حيويَّةٍ، مثل القضيَّة السُّوريَّة، والإرهاب وفي مُقدِّمَتِه الانقلاب الفاشل في 15 يوليو/تمُّوز 2016، بل ذهبوا أبعدَ من ذلك، فاتَّهموا أنقرةَ، واتَّبعوا سياسة دعم التَّنظيمات الإرهابيَّة في وجه تركيا.
أعادت تركيا بناء علاقتها بالحلف إستراتيجيًّا اعتبارًا من 15 يوليو/تمُّوز 2016، فبدأت مُحادثاتٍ مع روسيا من دون أنْ تفسدَ علاقتها بالنَّاتو، ونفَّذت عمليَّتَي دِرعِ الفرات وغُصنِ الزَّيتون، فقَوِيَ ساعِدُها، وأصبحت لاعبًا مُستقلًّا، وشريكًا مُغريًا بالنِّسبة للولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة، واضْطُرَّت واشنطن إلى قَبولِ طلب أنقرةَ في مسألة منبج التي طالما فضَّلت البقاء بعيدًا عنها. وكلَّما عزَّزت تركيا هذا التَّحالُفَ المُتعدِّدَ بين روسيا وأمريكا، رأتِ اتِّساع مجالِ مُناوراتها. وبعد الاتِّفاق مع الجانب الأمريكيِّ حول منبج، تناولت الأجندات اتِّفاقها مع الجانب الرُّوسيِّ من أجل تلِّ رِفعت، وهذا يعني أنَّ تركيا ستتمتَّعُ بمزيدٍ من الأمن كلَّما نجحت في المحادثات والمفاوضات مع روسيا من دون الانفصال عن حلف النَّاتو. وخلال العامَين الماضِيَين اللَّذَين حصلت فيهما لعبة التَّحالف المُتعدِّد، حقَّقت تركيا مكاسبَ في سوريا، وحالت دون وقوعِ الهجمات الإرهابيَّة المُمنهَجَةِ ضمنَ حدودها. ومنَ المُتوقَّعِ أنْ تبني تركيا علاقاتها بالنَّاتو ضمن هذا الإطار.
تنتهز تركيا الأزمة التي يواجهها النَّاتو في الفترة الحاليَّة في تطوير علاقاتها بروسيا، وتعمل على تعزيز دورها بوصفها لاعبًا أكثرَ استقلاليَّةً. وبفضل سياستها الخارجيَّة التي أصبحت أكثرَ مُرونَةً اكتسبت مجالاتٍ أكبرَ للمُناورةِ، وصارت دولةً تتمتَّع بمزيدٍ من الأمن. وأعتقد أنَّ تركيا سوف تواصل وجودها في النَّاتو، وتبني علاقاتٍ مع بقيَّة اللَّاعبينَ الدَّوليِّينَ حول عناوين ملموسةٍ؛ لأنَّ استراتيجيَّة التَّحالف المُتعدِّد حقَّقت ارتفاعًا كبيرًا في استقلاليَّتها وحُكمِها الذَّاتيِّ.
أعادت تركيا بناء علاقتها بالحلف إستراتيجيًّا اعتبارًا من 15 يوليو/تمُّوز 2016 فبدأت مُحادثاتٍ مع روسيا من دون أنْ تفسدَ علاقتها بالنَّاتو ونفَّذت عمليَّتَي دِرعِ الفرات وغُصنِ الزَّيتون فقَوِيَ ساعِدُها وأصبحت لاعبًا مُستقلًّا وشريكًا مُغريًا بالنِّسبة للولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة
تتناوَلُ هذه الدِّراسة الموضوعات المذكورة تحت ثلاثة عناوين رئيسةٍ، هي: أزمةُ النَّاتو وطبيعتها، ومستقبل النَّاتو وأسباب الحفاظ على وجوده، ونظرة تركيا إلى النَّاتو وتقييم ردود أفعالها والتَّنبؤات والتَّوقُّعات حول ماهيَّة العلاقة التي تنوي أنقرة بناءها مع الحلف.
أزمة النَّاتو:
إن اندراج النَّاتو مُؤخَّرًا في جدول الأعمال في إطار الجدل الدَّائر حول الوضع الماليِّ يشير إلى أزمةٍ[2]، فالمبلغ الذي بلغه الحلف مثيرٌ للقلق، وإذا تطلَّب الأمر إجابةً مُختَصَرةً وواضحةً أمكننا الحديث عن أزمةٍ ظرفيَّةٍ، لا عن تحوُّلٍ بُنيَوِيٍّ أو تاريخيٍّ في النَّاتو، ولكي يُعَدّ تحوُّلًا بُنيَوِيًّا لابدَّ من أنْ تطرأَ تبدُّلاتٌ مهمَّةٌ في شروط النِّظام العالميِّ، مثل ضعف الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة إلى درجةٍ لا يمكنها أنْ تغطِّيَ الأموال التي تنفقها على النَّاتو، لكنَّ واشنطن اليوم لا تفتقر إلى هذه القُدْرَةِ[3]، ولم يحصل بَعْدُ انهيارٌ كبيرٌ في توازن القوى البُنيَوِيَّةِ العالميَّة، ولم تتعادل الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة مع أيِّ لاعبٍ أو مجموعة لاعبين، ولا يمكننا الحديث إلَّا عن القوى التي هي قيد الصُّعود، أو الكشف بالأرقام عن الضَّعف النِّسبيِّ في قوَّة أمريكا، كما يجري بين الفينة والأُخرى، والتَّحوُّلُ من ثَمّ لم يطل توازن القوى الذي تشكِّلُ واشنطن مركزه؛ لأنَّه ليس ثمَّة وضعٌ عجزت فيه الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة عن تغطية نفقاته، والصَّحيح هو أنَّ واشنطن لا ترغب في حمل أعباء هذه النَّفقات وحدها. إنَّ سقوط الاتِّحاد السُّوفييتيِّ وبقاء الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة القوَّة العُظمى الوحيدة على سبيل المثال يُعدّ تَحوُّلًا بُنيَوِيًّا، وكانت له آثاره البالغة جدًّا على النَّاتو[4]، مثل تحقيق مزيدٍ من الانتشار والتَّعمُّق[5]، وفتح الطَّريق أمام البحث عن مجالاتٍ لمهامَّ جديدةٍ[6]. واكتسب النَّاتو نتيجةَ التَّحوُّل البُنيَوِيِّ الجذريِّ مدلولًا جديدًا، وأصبح حِلفًا يجتمع حول القوَّة الأميركيَّة، أكثرَ من كونه تنظيمًا أُسِّسَ لمناهضة الاتِّحاد السُّوفييتيِّ[7]. والتَّوتُّر الحاصل اليوم -ولاسيَّما بين أمريكا وحلفائها الأوربِّيِّين - هو أَحَدُ الأَزْمات السِّياسيَّة المُؤقَّتة التي شهدتها السِّتِّينيَّات والسَّبعينيَّات من القرن الماضي، والتي لها مثيلاتُها في التَّاريخ[8].
مرَّ النَّاتو في تاريخه بهذا النَّوع من الأزمات الظَّرفيَّة التي لا تختلف كثيرًا عن غيرها من حيث الخصائص، وإن بدت أكثر عمقًا وأكثر إثارةً للزَّعزعة، ففي السَّتِّينيَّات والسَّبعينيَّات عاش النَّاتو أزمةً طويلةً دامت قَرابة عشرين سنةً، وتجلَّى أبرز مُؤشِّراتِها في المِثالَين الفرنسيِّ واليونانيِّ، حيث انسحبت فرنسا من الجناح العسكريِّ للنَّاتو عام 1966، مُتذرِّعةً بالمشكلات التي عاشتها مع الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة، وذلك في ظلِّ بحثها عن سياسةٍ خارجيَّة أكثرَ استقلاليَّةً[9]، وَسَعَتْ فرنسا في هذه الفترة لتطوير علاقاتٍ طيِّبةٍ مع الاتِّحاد السُّوفييتيِّ[10]. وبطريقةٍ مماثلةٍ، اتَّخذتِ اليونان قرار الانفصال عن النَّاتو في أعقاب عمليَّة السَّلام في قبرص سنة 1974، وجاء ذلك ردًّا على الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة ظنًّا منها أنَّ واشنطن غضَّتِ الطَّرْفَ عن العمليَّة التي قامت بها تركيا في قبرص. ومن الممكن رؤيةُ ظاهرةِ النَّاتو الضَّعيف بدواعي الظُّروف الرَّاهنة المَرحليَّةِ ذاتها في سائر نماذج الدُّوَلِ على وجه التَّقريب[11].
كانت تركيا تُعرَف بأنَّها واحدةٌ من أكثرِ حلفاء النَّاتو إخلاصًا ووفاءً لسنواتٍ طِوالٍ، لكنَّ المسؤولين الأتراك أصابَهم شعورٌ عميقٌ بانعدام الثِّقة، عندما علموا أنَّ حلفاءهم الأمريكيِّين اتَّخذوا قراراتٍ مصيريَّةً من دون الشُّعور بالحاجة حتَّى للتَّشاور معهم في أعقابِ أزمة الصَّواريخ في كوبا سنة 1962، ذلك أنَّ المُباحثاتِ التي أُجرِيَت مع السُّوفييت أسفرت عن سحب الأسلحة النَّوويَّة التي كان قد نُشِرَت بهدف حماية تركيا من دون سؤال أنقرةَ، وهذا يعني أنَّ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة قد بادلت كوبا بتركيَّا، وهكذا انطلق المسؤولون الأتراك يُحقِّقون في مدى مَوثوقيَّة المِظلَّة النَّوويَّة الأمريكيَّة، وتزعزعت ثقة أنقرةَ تمامًا إثر رسالة جونسون الواردة في إطار قضيَّة قبرص بعد ثلاث أو أربع سنواتٍ؛ لأنَّ الرَّئيس الأمريكيَّ أومأ في هذه الرِّسالة إلى أنَّ أمريكا غير مُستعدَّةٍ للدِّفاع عن تركيا في حال اندلاع أزمةٍ بسبب قبرص.
هناك العديد من الأمثلة المُماثِلَة الأُخرى، نذكر منها إنكلترا والأزمة التي عاشتها مع النَّاتو والولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة، حيث رأى الإنكليز تخلُّف الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة عن الوفاء بوعودها حول صواريخ سكاي بولت [12]Skybolt، في هذا الوقت لم يَطُلِ فُتورُ العلاقاتِ بين بقيَّة اللَّاعبين والنَّاتو، فالولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة أيضًا أصبحت لا تُعيرُ أهمِّيَّةً كبيرةً للحلف الذي تترأَّسُهُ، فبرزت وللمرَّةِ الأولى مسألة تمويل النَّاتو، وسُرعان ما تناولت الأدبيَّات الأكاديميَّة الجدل الدَّائر حول هذه المسألة، فكان مانكور أولسون على سبيل المثال أوَّل من طرح مسألة العمل المجَّانيِّ، وبيَّن في كتابه بعنوان The Logic of Collective Action المنشور عام 1965 كيف أنَّ الشُّركاء يركبون على ظهور بعضهم بعضًا[13]، وقال: إنَّ هذا الأمر يُعقِّدُ بناء التَّحالفات واستمراريَّتها، وفيما بعد تكاثفت الأدبيَّات حول هذه المسألة، وتناوَلَها عددٌ من البيروقراطيِّين الأمريكيِّين حتَّى ثمانينيَّات القرن الماضي، وكان القول السَّائد طوال هذه الفترة هو أنَّ اللَّاعبين الآخرين في النَّاتو لا يُسهِمونَ بما فيه الكفاية في ميزانيَّته.
خفَّت هذه النِّقاشات اعتبارًا من الثَّمانينيَّات؛ لأنَّ النَّاتو استعاد دوره وفائدته تمامًا كما كان في الخمسينيَّات، ففي الثَّمانينيَّات اشتدَّت سخونة الحرب الباردة، ودخل العالَم في فترةٍ يُمكِنُ وصفها بالحرب الباردة الثَّانية، وعملت اليونان على العودة سريعًا إلى النَّاتو، وتوقَّفت الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة عن الحديث عن تقاسُمِ الأعباء الماليَّة بخصوص النَّاتو، وقدَّمت تركيا التَّنازلات لتأمين عودة اليونان إلى النَّاتو، وصار جميع الشُّركاء الآخرين يُعيرونَ مَزيدًا من الاهتمام بتوقُّعاتِهم وآمالهم، وعاد جميع الحلفاء إلى النَّاتو، واستمرَّ ذلك حتى نهاية الحرب الباردة. وعندما اشتدَّ التَّنافس في الثَّمانينيَّات صار النَّاتو مرَّةً أُخرى قيِّمًا، واجتمع الحلفاء تحت مَظلَّته، تاركين خلافاتهم جانبًا.
وفي الفترة التي تلت الحرب الباردة شهد النَّاتو الاتَّساع والتَّمدُّد الأسرع في تاريخه، واندلع الجدل مُجدَّدًا عن الأعباء الماليَّة[14]، فأدَّى هذا التَّحوُّل البُنيَوِيُّ الذي يغيب فيه التَّهديد السُّوفييتيِّ إلى تَشَكُّل مجالاتِ اهتمامٍ جديدةٍ بالنِّسبة للنَّاتو، ولم يحدث انهيار الحلف كما توقَّعَ بعضهم، بل على العكس أصبح أكثرَ فاعليَّةً، نتيجة اتِّساعه واكتسابه مَدلولًا جديدًا، فصار مركز جذبٍ طوال التِّسعينيَّات، ولم يتجنَّبِ التَّمدُّدَ وصولًا إلى روسيا[15]. ووقف اللِّيبراليُّون مع تمدُّد النَّاتو، وحصوله على مجالاتٍ جديدةٍ للعمل فيها[16]، رغم الانتقادات اللَّاذعة من قِبَلِ الذين كانوا ينادون حينذاك بالواقعيَّة الجديدة (نظريَّةٌ في العلاقات الدَّوليَّة تقول إنَّ السُّلطة هي العامل الأكثر أهمِّيَّةً في العلاقات الدَّوليَّة. م.)[17]. وعملتِ الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة على تسريع هذا التَّمدُّد، ولاسيِّما في عهد الدِّيمقراطيِّين، حتَّى أصبح النَّاتو يضمّ جميع دُوَلِ البلطيقِ والبلقانِ على وجه التَّقريب، وامتدَّ الحلف حتَّى وصل إلى حدود أوكرانيا وجورجيا، وطُبِّقت المادَّة الخامسة للمرَّة الأولى ضدَّ أفغانستان عام 2001، واتَّحَدَ النَّاتو في وجه هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، وفي هذه الفترة تحديدًا ازداد التَّحكُّم الأمريكيُّ بالحلف، وأخذ يستعمله كما يشاء.
استمرَّ الوضع على هذا الشَّكل إلى أنِ انتهجت أمريكا في عهد أوباما إستراتيجيَّةً جديدةً، فبدأت واشنطن تَمتَعِضُ من النَّاتو الذي عمل على اتِّساعه وتمدُّدِه، وتحوَّلَ أوباما إلى سياسة الانعزال الجديدة التي تُسمَّى بإعادة التَّموضُعِ، وتعمل على تحقيق النُّموِّ الاقتصاديِّ، وتقليل النَّشاط العسكريِّ والسِّياسيِّ في العالم، فقلَّت من هنا الأهمِّيَّة التي كانت تُعطيها للنَّاتو وحلفائها[18]، وبدأ الحلف يَفقِدُ أهمِّيَّتَه بسبب هذا الميل الذي لوحظ بوضوحٍ في الحالتَين السُّوريَّة والأوكرانيَّة. أمَّا في عهد ترامب فتبدو الصُّورة كأنَّ واشنطن تحاملت على النَّاتو بدافع الغضب المُتراكِمِ في المُجتَمَعِ الأمريكيِّ، بيد أنَّه تُوصِّلَ إلى اتِّفاقٍ حول مِيزانيَّة النَّاتو في قِمَّة ويلز عام 2014[19]. وبناءً على هذا الاتِّفاق الذي تمَّ في عهد أوباما، تعهَّدَ حلفاء النَّاتو أنْ يُخصِّصوا على الأقل 2 بالمئة من ميزانيَّاتِ دولِها للنَّاتو بحلول عام 2024.
لا يزال ترامب اليوم يواصل السِّياسة ذاتها، ويسعى إلى الظُّهورِ بمظهرِ النَّاجح أمام ناخبيه من خلال حمل حلفائه في النَّاتو على الوفاء بوعودهم، وتخصيص 2 بالمئة من ميزانيَّات دولهم للنَّاتو، فالاتِّفاق الذي حصل في عهد أوباما بدون تطبيلٍ أو تزميرٍ، يسير في عهد ترامب على هامشِ مُشاحَناتٍ بَلاغيَّةٍ استِعراضيَّةٍ، والإعلام الأمريكيُّ يعمل على تضخيم هذه المُشاحَناتِ بسبب المَواقِفِ المُناهِضَةِ للرَّئيس الأمريكيِّ ترامب. فعندما تطفو على وسائل الإعلام أخبارٌ عن ترامب، بين ذامٍّ ومادحٍ، وكيف يعبثُ بالقِيَمِ الغربيَّة، بدلًا من التَّركيز على الاتِّفاق الذي حصل في النَّاتو، وتقييم حقيقته- يذهب الجميع إلى الاعتقاد أنَّ النَّاتو في أزمةٍ، بيد أنَّه عند النَّظر إلى النَّتيجة يتَّضِحُ أنَّه لم يحصل تَغَيُّرٌ ملحوظٌ في الحلف، وأنَّ ترامب يستخدم هذا الاجتماع لاستعراض نفسه أمامَ الرَّأيِ العامِّ الأمريكيِّ، وأنَّه لم يتوقَّف عن السِّياسة التي كان ينتهجها أوباما.
في الفترة التي تلت الحرب الباردة شهد النَّاتو الاتَّساع والتَّمدُّد الأسرع في تاريخه واندلع الجدل مُجدَّدًا عن الأعباء الماليَّة فأدَّى هذا التَّحوُّل البُنيَوِيُّ الذي يغيب فيه التَّهديد السُّوفييتيِّ إلى تَشَكُّل مجالاتِ اهتمامٍ جديدةٍ بالنِّسبة للنَّاتو ولم يحدث انهيار الحلف كما توقَّعَ بعضهم بل على العكس أصبح أكثرَ فاعليَّةً
في خِضَمِّ هذه المُشاحناتِ والاستعراضاتِ أُعلِنَ بيانٌ باسم النَّاتو، وعند النَّظر إلى فَحوى هذا البيان، تعتقدون أنَّ النَّاتو لا يواجه أيَّ أزمةٍ، ولو اكتَفَيتُم بقراءة البيان وحدَهُ بعيدًا عن الأخبار والمُشاحناتِ التي تَزخَرُ بها هذه الأخبار لاعتَقَدْتُم أنَّكم أمامَ حلفٍ يعمل بشكلٍ سلسٍ سليمٍ، ورأيتم البيان يتضمَّنُ في البداية تشديدًا عامًّا على أهمِّيَّة النَّاتو، ثمَّ يأتي كالعادة على ذكر التَّهديدات، والخطوات التي يتَّخذُها الحلف لمواجهتها[20].
من الواضح أنَّ البيان من حيث المضمون ينسجم كُلِّيًّا مع التَّقليد الذي يتَّبعه الحلف إلى اليوم في تقديم تصريحاته، فنراه بدايةً يُشير إلى روسيا على أنَّها تُشَكِّل تهديدًا، ثمَّ يتناوَلُ الإرهاب، والصَّواريخ بعيدة المدى، والهجمات الإلكترونيَّة، وسوريا وإيران، ويقول: إنَّ النَّاتو لديه النِّيَّة والقدرة على التَّدخُّل في جميع هذه المسائل، كما يشير البيان إلى ضرورة الالتزام بالاتِّفاقيَّات السَّابقة، إضافةً إلى مطالب بلدان عديدةٍ. تمَّ التَّطرُّق في البدء إلى تقاسم الأعباء الماليَّة التي جاء ترامب على ذكرها، ورسم صورةً تَفاؤليَّةً عُمومًا حول هذا الموضوع، أُشير إلى رغبة بقيَّة الدُّوَل الأعضاء في زيادة إسهاماتها فيما يتعلَّق بالأعباء الماليَّة.
هذا يعني أنَّ ترامب استطاع أنْ يحصل على ورقةٍ رابحةٍ، يستعرضها أمام ناخبيه عند عودته إلى بلده، أمَّا مدى انعكاس ذلك على أرض الواقع فهذا أمرٌ آخر، لكنَّ ترامب استطاع حاليًّا أنْ يخلُقَ صورةً بأنَّه حصر القادة الأوربِّيِّين في زاويةٍ. من جهةٍ أُخرى، يبدو أنَّ إنكلترا أيضًا نالت مُبتَغاها، حيث حمَّلت روسيا مَسؤوليَّة الهجوم الكيماويِّ الذي حصل في لندن، وأعلن جميع الحلفاء دعمهم لإنكلترا في قناعتها. كما جاء البيان على مَطالِبَ تركيا، حيث قال الحلف: إنَّ تركيا مُحقَّةٌ في مخاوفها من الهجمات التي تحصل على حدودها الجنوبيَّة، وإنَّ النَّاتو هو الضَّامن في هذا المعنى. وبنفس الشَّكل تناوَلَ البيان جميع المسائل ذات الأولويَّة لدى جميع الدُّوَلِ الأعضاء.
إنَّه النَّاتو، المُؤسَّسة التي تُشَكِّلُ أهمَّ قوَّةٍ رادعةٍ في العالم، فتمنح الأمان لأصدقائها أو تنذر أعداءها، ولا أحد يُناقِشُ في مدى تنفيذ البُنود الواردة في هذا البيان، فالمهمُّ في الأمر أنَّ الدُّوَلَ الأعضاء قدَّمت هذه التَّعهُّداتِ، وستستَقبِلُ الدُّوَلُ خارج النَّاتو أنَّ هذه التَّعهُّداتِ قد أُعطِيَت، فروسيا مثلًا تدرس هذا البيان بدقَّةٍ، وتأخذه مَحمَلَ الجِدِّ، وتحرِصُ على ألَّا تتجاوَزَ حدودها، ولا تستطيع أنْ تقول: "أنا مُتأكِّدَةٌ أنَّ الأمور الواردة في البيان لن تُطبَّق، فهذه البلدان تَتَصارَعُ حتَّى فيما بينها"؛ لأنَّ النَّاتو لا يزال يُشكِّلُ أكبرَ قوَّةٍ رادعةٍ في العالم[21]. عند النَّظر من هذه الزَّاوية نصل إلى قناعةٍ أنَّ حلف النَّاتو في واقع الأمر راسخٌ في مكانه رغم كلِّ الإرهاصات، ولا يشهد أزمةً بُنيَوِيَّةً على الإطلاق.
مُستَقبَلُ النَّاتو:
تبقى التَّقييمات التي تقول بانهيار النَّاتو عديمة المدلول، فإذا كانت التَّقييمات المذكورة أعلاه صحيحةً، وكان النَّاتو يشهد أزمةً ظرفيَّةً لا أزمةً بُنيَوِيَّةً، فإنّ انهيار مُنظَّمةٍ قويَّةٍ تملك أرضيَّةً بُنيَوِيَّةً صلدةً كالنَّاتو- ليس سهلًا كما يُظَنُّ، ولكنَّ الأشخاص الذين تأثَّروا بالمشاحنات السِّياسيَّة الكلاميَّة اليوميَّة يخرجون بادِّعاءاتٍ مُماثِلَةٍ بين الحين والآخر[22]، وبحسب هذه الذِّهنيَّة، تنهار الأشياء سريعًا، وتقوم مكانها أشياءُ جديدةٌ، وهذه قراءةٌ خاطئةٌ للغاية، فالنَّاتو لن ينهار طالما أنَّه لا يحصل التَّحوُّل البُنيَوِيُّ الذي ذكرناه... ربَّما تستمرُّ الأزمات وتَتَعمَّقُ، ولكنَّ النَّاتو سيتخطَّاها كما حصل في السِّتِّينيَّات والسَّبعينيَّات.
عندما تطفو على الإعلام أخبارٌ عن ترامب بين مادحٍ وذامٍّ، وكيف يَعبَثُ بالقيم الغربيَّة؛ يعتقد الكثير أنَّ النَّاتو يواجه أزمةً تاريخيَّةً.
ولكنْ يجب ألَّا نتوقَّع أنْ يكون النَّاتو فعَّالًا جدًّا في السِّياسة الدَّوليَّة قريبًا؛ لأنَّ القوَّة الأمريكيَّة هي التي تجعل النَّاتو فعَّالًا بغضِّ النَّظر عن آراء من يقولون خلاف هذا، فالنَّاتو من غير هذه القيادة ليس شيئًا يُذكَر[23]. ولا ننسى أنَّ ترامب لا يتجنَّب الحديث عن هذا الأمر بوقاحةٍ، ويكرِّر إعلانه عن استعداد أمريكا للانسحاب من النَّاتو إنْ لم يُتَقيَّد بمطالبها فيما يتعلَّق بالميزانيَّة. وهذا بالطَّبع يتطلَّب ترتيباتٍ مُؤسَّسيَّةٍ، مثل مُصادقة الكونغرس، ولا داعيَ للخوض في إجراءات الانسحاب. وربَّما لم يَكُنْ ترامب يُصدِّق ما يقول، فهو يشعر بما يعنيه النَّاتو لأمريكا، وإنْ لم يفهم أبعاده الحقيقيَّة.
لا يزال النَّاتو بأعضائه التِّسعة والعِشرين، ودعمه الأمريكي، وقيادته الأمريكيَّة- التَّنظيمَ العسكريَّ الأكثرَ مِصداقيَّةً، والقوَّة الرَّادعة الكُبرى للدُّوَلِ التي لا تنتمي إليه، بفضلِ مادَّته الخامسة على وجه الخصوص، والدُّوَلُ الأعضاء تستغلُّ هذا الوضع حتَّى الرَّمق الأخير[24]. إنَّ غياب النَّاتو يعني فراغًا رهيبًا في السُّلطة والنُّفوذ في النِّظام العالميِّ، الأمر الذي من شأنه أنْ يُحدِث اضْطِراباتٍ كبيرةً في النِّظام العالميِّ كُلِّه، ولا نستثني أوربا ولا المحيط الأطلسيِّ ولا آسيا أو إفريقيا. ولا يزال الأمن الذي يُحقِّقه النَّاتو مهمًّا جدًّا بالنِّسبة للولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة، بل مهمًّا لدرجةٍ لا يمكن مُقارَنَةُ ذلك بالإسهامات الاقتصاديَّة.
من جهةٍ أُخرى، تُعَدّ أمريكا زعيم هذا الحلف ومُؤسِّسه، والمُستَفيدَ الأكبر منه. وتفعيل المادَّة الخامسة[25] لمصلحة أمريكا لم يكن أمرًا بمحض الصُّدفة. كما أنَّ أمريكا جعلت حلف النَّاتو في موقعٍ يُنتهَز في العالم أجمع، وهو الأمر الذي لم يلقَ اعتراضًا من قِبَلِ بقيَّة الدُّوَلِ الأعضاء[26] رغمَ أنَّها تملك حقَّ الفيتو. ولم يسبق أنْ رأينا في تاريخ النَّاتو أنَّ أمريكا تطلب شيئًا ولا تحصُلُ عليه، والآن لا يُتَوَقَّعُ أنْ تتخلَّى واشنطن عن مَوقعها القياديِّ في الحلف، وتَتَوقَّفَ عن الاستفادة منه، لأسبابٍ اقتصاديَّةٍ بحتَةٍ.
عند النَّظر من هذه النَّاحية، يتَّضِحُ أنَّ النَّاتو مُنظَّمةٌ مهمَّةٌ لدرجةٍ لا يمكن الاستغناء عنها، ولاسيَّما بالنِّسبة لأمريكا. ولكنْ في السَّنواتِ الماضية لاحظنا مزيدًا من عدم المبالاة في مواقف واشنطن حيال أوضاعٍ مُشابِهَةٍ في النِّظام العالميِّ. ويمكن القول عمومًا: إنَّ الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة دمَّرت بيدها المُؤسَّسات التي بنتها بيدها منذ الحرب العالميَّة الثَّانية إلى اليوم. وحَذَت حَذوَها الدُّوَلُ الأُخرى، وفي مُقدِّمتها الصِّين، عملًا بالسِّياسة الحِمائيَّة، فضلًا عن الإعلان عن اندلاع الحروب التِّجاريَّة.
ويمكننا أنْ نقولَ: إنَّ النَّزعاتِ التي من شأنها أنْ تُدمِّرَ النِّظام اللِّيبراليَّ الذي مركزه الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة، مثلَ النَّزعة القوميَّة، ومُعاداة الأجنبيِّ- تَكتَسِبُ انتشارًا ورواجًا كبيرًا في العالم برمَّته، وإنَّ السَّبب في هذا كُلِّه هو واشنطن، ومواقِفُها التي تَتَّسِمُ بعدم المبالاة. ولا ننسى أنَّه حتَّى المُنظَّماتُ الدَّوليَّةُ التي تعمل لمصلحة الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة، مثلَ نافتا (اتِّفاقيَّة التِّجارة الحُرَّة لشمال أمريكا)؛ حُوِّلت إلى قضيَّةٍ، رغمَ أنَّ الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة هي أكثرُ المُستفيدينَ من هذه المُنظَّمة التَّعاونيَّة الإقليميَّة بصِفَتِها الشَّريك الكبير، ولكنَّ ترامب يجرُّها اليومَ إلى أزمةٍ، وذلك بناءً على التَّصوُّراتِ الخاطئة السَّائدة في الرَّأي العامِّ الأمريكيِّ حول هذه الاتِّفاقيَّة.
فهل يمكن بعد كلِّ هذا ألَّا نتوقَّعَ من أمريكا أنْ تَتَّخِذَ موقفًا غيرَ مُبالٍ فيما يتعلَّق بالنَّاتو؟ بالطَّبع نتوقَّعُ، فالتَّطوُّرات التي حصلت في الفترة الماضية كانت نتيجةَ عدم المبالاة في المواقف الأمريكيَّة. ولكنْ لا أحدَ يتوقَّعُ أنْ يبلُغَ عدم المبالاة هذه درجةً من شأنها أنْ تُدمِّرَ الحلف؛ لأنَّ النَّاتو ليس مُنظَّمةً تُؤَمِّنُ لأمريكا المكاسب فقط، مثل بقيَّة المُنظَّمات الدَّوليَّة، بل هو في الوقت ذاته أساسُ النِّظام والأمن الذي تُريده واشنطن، والبلدانُ يمكنها أنْ تُضحِّيَ بمكاسِبها الاقتصاديَّة، لكنَّها لا تُضحِّي عندما يكون الأمرُ مُتعلِّقًا بأمنها. ولا يغرَّنَّكم حديث أمريكا عن خسائرها الاقتصاديَّة، بسبب الأوضاع التي تعيشها اليوم، فمجرَّدُ أنْ تشتدَّ وتيرَةُ المُنافَسَةِ سوف تدعُ واشنطن جانبًا كلَّ مَطالِبها الاقتصاديَّة، وتعمل ما بوسعها من أجلِ الدِّفاع عن نظامها الأمنيِّ، ولن تتردَّد في تغطِيَة النَّفقات اللَّازمة.
لا يُقاسُ نَهْجُ الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة والدُّوَلِ الأعضاء في موضوع حلف النَّاتو بنهجها في موضوع المُنظَّماتِ الاقتصاديَّة، فواشنطن لديها فرصةٌ أكبرُ لأنْ تكونَ غيرَ مُباليةٍ في مواقفها المُتعلِّقة بالمُنظَّماتِ الاقتصاديَّة؛ لأنَّها تعتقد بقُدرَتِها على تعويض خسائرها الاقتصاديَّة إذا ما سَلِمَ لها أَمنُها، لكنَّ مُجرَّدَ شعورها بوجود التَّهديداتِ الأمنيَّة يكفي للتَّخلِّي عن نَزَواتِها، وعودة الحلف إلى وظيفَتِه الأصليَّة.
كيف تتشكَّلُ علاقة تركيا بالنَّاتو؟
لا أحد يعتقدُ أنَّ تركيا في منأىً عن تأثيرِ الأزمة التي يُعانيها النَّاتو، بل كانت تركيا من أوّل البلدان التي تأثَّرت بتداعياتِ هذه الأزمة، ولا يبدو أنَّ هذا التَّأثير سيتوقَّفُ. ومع الأسف هناك مجموعاتٌ تفرَّغت للهجوم على تركيا، وتُقدّمُ نفسَها على أنَّها تُجري دراساتٍ أكاديميَّةً، فتقول كلامًا فارغًا يستحيلُ تطبيقه، من قَبيلِ إخراج تركيا من النَّاتو. هذه المجموعات التي تَتَمركَزُ في واشنطن، وتنحصِرُ وظيفتها الاختصاصيَّة في مُعاداة تركيا تتحرَّك انطلاقًا من أرضيَّةٍ سَخيفةٍ، لدرجةِ أنَّها لا ترى استحالةَ إخراج تركيا من النَّاتو. ونحن بعيدًا عن هذه التُّرَّهات نتوقَّعُ أنْ تسير العلاقات بين تركيا والنَّاتو بشكلٍ لا يخلو من المشكلات.
فقدت تركيا ثِقتَها بالنَّاتو، ولاسيَّما بعد مواقف حلفائها في قضيَّتَين مهمَّتَين، هما: القضيَّة السُّوريَّة، ومحاولة انقلاب 15 يوليو/ تمُّوز 2016. إذ لم يكتفِ حلفاؤها في النَّاتو، وعلى رأسها أمريكا، بتركها وحيدةً في سوريا، بل اتَّهموها جورًا وظلمًا، ودعموا المُنظَّمات الإرهابيَّة في وجه تركيا. في الفترة ذاتها وقعت مُحاوَلَةُ انقلاب 15 يوليو/ تمُّوز 2016، فلم تُقدِّم واشنطن وبقيَّة الحلفاء تصريحاتٍ تدعم فيها تركيا ضدَّ الانقلابِيِّينَ، فبات الجميع في تركيا يشيرون بأصابع الاتِّهام إلى واشنطن، بأنَّ لها يدًا في هذه المُحاوَلَة الانقلابيَّة. والأنكى من ذلك، أنَّ أمريكا والدُّوَلَ الأوربِّيَّة رفضت تسليم المَسؤولينَ من المُستوى الأوَّل في تنظيم غولن الإرهابيِّ، وأصبحت لهم الملاذَ الآمن.
فلا أمريكا ولا الدُّوَلُ الأوربِّيَّة دعمت تركيا في المسألة السُّوريَّة، إذ تركتها وحدها بدون مُعينٍ في جميع المسائل المِحوَريَّة والحيويَّة التي تهمُّ الشَّأن السُّوريَّ، وفي مُقدِّمَتها مِنطَقَةُ الحظر الجويِّ، والمِنطَقَةُ الآمنة، وقضيةُ اللَّاجئينَ، ومكافحة داعش ووحدات حماية الشَّعب الكرديَّة. في البدايات قرَّرت الدُّوَلُ الغربيَّة وعلى رأسها أمريكا أنْ تدعم التَّحوُّلَ الدِّيمقراطيَّ في سوريا والعالم العربيِّ، واتَّهمت تركيا بالتَّأخُّر في هذا المجال، بيد أنَّ تركيا كانت تعتقد بضرورةِ أنْ تمرّ المَرحلَةُ الانتقاليَّة بالطُّرُقِ السِّلميَّة، ظنًّا منها أنَّ هذا التَّحوُّلَ الرَّاديكاليَّ من شأنه أنْ يخلُقَ عواقبَ غير مُتوقَّعةٍ تضُرُّ بتركيا، ولكنَّ حُلَفاءها اتَّهموها بعدم اتِّخاذ المَسؤوليَّة الكافية. وعندما بدأت تركيا تدعَمُهم في مَساعيهم من أجل التَّحوُّل الدِّيمقراطيَّ، تركوها وحدها هذه المرَّةَ أيضًا؛ لأنَّهم خافوا من احتماليَّة أنْ يتحقَّقَ التَّحوُّل الدِّيمقراطيَّ.
لا أمريكا ولا الدُّوَلُ الأوربِّيَّة دعمت تركيا في المسألة السُّوريَّة إذ تركتها وحدها بدون مُعينٍ في جميع المسائل المِحوَريَّة والحيويَّة التي تهمُّ الشَّأن السُّوريَّ وفي مُقدِّمَتها مِنطَقَةُ الحظر الجويِّ والمِنطَقَةُ الآمنة وقضيةُ اللَّاجئينَ ومكافحة داعش ووحدات حماية الشَّعب الكرديَّة
تعرَّضت تركيا لهجمات داعش وحزب العمَّال الكردستانيِّ، فخاضت مُباحثاتٍ مع الجانب الأمريكيِّ بشأن المِنطَقَةِ الآمنة ومِنطَقَةِ الحظر الجويِّ، ولجأت واشنطن بالمُقابِلِ إلى أسلوبِ المُماطَلَة في كلِّ مسألةٍ على وجه التَّقريب، وساعدت وَحَداتِ حمايةِ الشَّعب الكُرديَّة في التَّمدُّد وُصولًا إلى منبجَ. ومارس الإعلام العالميُّ الضُّغوطاتِ على تركيا واتَّهمها بعدم مُكافحة داعش، وأطلق دعاياته التي تَزعُمُ بأنَّ أنقرةَ تدعم داعش، مُستفيدًا من امتداداته في الإعلام التُّركيِّ، وتمكَّن من حمل تركيا على أنْ تأخذ دائمًا موقع المُدافِعَ في الدِّعايات التي أحاطت بشاحِنَتَي جهاز الاستخبارات الوطنيَّة. ولم يتَّخذ حلفاؤها الأوربِّيُّون خطواتٍ جادَّةً فيما يتعلَّق باللَّاجئين السُّوريِّين الذين بلغ عددهم الآن أربعة ملايين، وتخلَّفت عن الوفاء بوعودها الاقتصاديَّة، وَسَعَت لتحويل تركيا إلى (سجنٍ) للَّاجئين.
كلُّ ذلك أدَّى إلى تحوُّلٍ تدريجيٍّ في نظرة تركيا إلى النَّاتو وحلفائه، ولكنَّ مُحاوَلَةَ انقلاب 15 يوليو/ تمُّوز 2016 كانت النُّقطة الأخيرة في هذا الموضوع، ففي أعقاب هذه المُحاوَلَة الانقلابيَّة لم تتلقَّ الحكومة التُّركيَّة المُنتَخَبَة الدَّعم المَطلوب من حليفاتها في النَّاتو، وعلى رأسها أمريكا وألمانيا، وهذ دفع الرَّأي العامَّ التُّركيَّ إلى اعتبارها أعداءَ تركيا لا حليفاتها، ناهيك عن أنَّ المواطنين ورجالات السِّياسة في تركيا مُستاؤونَ جدًّا من سماح الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة لزعيم تنظيم غولن الإرهابيِّ بالإقامة في أراضيها من دون مُساءَلَةٍ، كما أنَّ قسمًا كبيرًا من قادة هذا التَّنظيم يعيشون في مُختَلَفِ المُدُنِ الأوربِّيَّة، ولاسيَّما في ألمانيا، ولا يُلقون سَمعًا للمطالب التُّركيَّة باستعادتهم.
وتُواصِلُ واشنطن إمداد وَحَداتِ حماية الشَّعب الكُرديَّة بآلاف الشَّاحناتِ العسكريَّة المُحمَّلَةِ بالسِّلاح لتستخدِمَه في مُحاصَرَةِ الحدود الجنوبيَّة من تركيا. في مثلِ هذه الظُّروف بدأت تركيا تَفقِدُ ثِقتَها بحلفائها، وبدأت تُعيدُ النَّظر في سياساتها الخارجيَّة والأمنيَّة، ولاسيَّما في أعقاب مُحاوَلَةِ انقلاب 15 يوليو/ تمُّوز 2016. فأبدت مُرونةً في الجلوس على طاولة المُباحثات مع روسيا وإيران اللَّتَين تعيشان مشكلات كبيرةً في سوريا، فنفَّذت في هذا الإطار عمليَّتَي دِرعِ الفرات وغُصنِ الزَّيتون ضمن حدودها، رغمَ جميع العراقيل التي وضعها حلفاؤها في النَّاتو. أجل، اعتمدت تركيا على ذاتها، ودخلت في مُباحثاتٍ مع روسيا بدلًا من النَّاتو من أجل أمن أراضيها.
تعرَّضت تركيا لهجمات داعش وحزب العمَّال الكردستانيِّ فخاضت مُباحثاتٍ مع الجانب الأمريكيِّ بشأن المِنطَقَةِ الآمنة ومِنطَقَةِ الحظر الجويِّ ولجأت واشنطن بالمُقابِلِ إلى أسلوبِ المُماطَلَة في كلِّ مسألةٍ على وجه التَّقريب وساعدت وَحَداتِ حمايةِ الشَّعب الكُرديَّة في التَّمدُّد وُصولًا إلى منبجَ
من يسمع هذه الحكاية يسأل: "كيف يمكن لتركيا أنْ تبقى عُضوًا في حلفٍ من هذا القَبيلِ؟". وهو بالتَّأكيدِ مُحِقٌّ في سؤاله هذا، ولكنْ لا يمكننا تقييم نظرة تركيا إلى حلف النَّاتو بصورةٍ عاطفيَّةٍ. تركيا تعرفُ أنَّه لا يمكنها الوثوق بحلفائها، وتدرك في ذات الوقت أنَّ وجودها فيه يُوفِّرُ لها الأمن؛ لأنَّ النَّاتو هو أكبر قوةٍ رادعةٍ في العالم، وبإمكانه أنْ يحمِيَ تركيا من أعدائها وأصدقائها بدون استثناءٍ. ولا ننسى أنَّ وجودها في النَّاتو جعلها شريكًا مُغريًا في نظر روسيا، وعندما أسقطت تركيا الطَّائرة الحربيَّة الرُّوسيَّة، لم تستطع روسيا أنْ تتَّخِذَ خطواتٍ عسكريَّةً مماثلةً، على خلاف ما حصل مع جورجيا عندما أسقطت طائرةً حربيَّةً روسيةً عام 2009. فاكتفت روسيا بممارسة الضُّغوطات الاقتصاديَّة والدِّبلوماسيَّة على تركيا. ولهذا السَّبب لا يزال النَّاتو أداةً قيِّمةً في يد تركيا.
كانت تركيا الشَّريك الوفيَّ للنَّاتو لسنواتٍ طويلةٍ مَضَت، ولكنَّنا في الفترة الأخيرة نراها تتَّجِهُ إلى استعماله أداةً لتحقيق مصالحها. فتَتَقدَّمُ علاقاتها بالنَّاتو على أرضيَّةٍ مَنطقيَّةٍ للغاية، كما يجب أنْ تكونَ عليه هذه العلاقات، فتركيا لا تريد أنْ تكونَ حليفًا وفيًّا فحسب، بل تريد في الوقت ذاته أنْ تكون لاعبًا يستفيدُ من النَّاتو.
دخلت تركيا في مباحثاتٍ مع روسيا عندما تخلَّى النَّاتو عنها، وقامت بتطهير جميع المَمَرَّات الإرهابيَّة في غرب نهر الفرات. هذا يعني أنَّ تقارُبَ المسافة بين اللَّاعبَيْن جعل تركيا تتمتَّع بمزيدٍ من الأمن، وحصل أكثرُ من ذلك، حيث حملت هذه المباحثات أمريكا على العودة إلى طاولة الحوار والمُفاوَضات التي طالما نَأَت بنفسِها عنها، وأسفرَ عن ذلك أنْ حصل اتِّفاقٌ تركيٌّ أمريكيٌّ فيما يتعلَّقُ بمنبجَ، ولو استمرَّت تركيا في البقاء بجانب أمريكا بدون قيدٍ أو شرطٍ ما استطاعت أنْ تُنَفِّذَ عمليَّة دِرعِ الفرات ولا عمليَّة غُصنِ الزَّيتون. وهناك أمرٌ يجب التَّنويه إليه، وهو أنَّ أنقرةَ لم تقطع علاقاتِها لا بأمريكا ولا بالنَّاتو، ولو فعلت ذلك لانتقلت إلى تَبَعيَّةِ روسيا، لذلك قَبِلَت تركيا العرض الجديد القادم من واشنطن، لحلِّ مشكلة منبجَ. ونلاحظ هنا أنَّه كُلَّما اقتربت تركيا من أمريكا في شأن منبجَ، اقتربت روسيا من تركيا في تلِّ رفعت، ويلوح في الآفاق إمكانيَّةُ أنْ تشهدَ تلّ رفعت تطبيقًا مُشابهًا للنَّموذج التُّركيِّ الأمريكيِّ في منبجَ. ولا شكَّ أنَّ تركيا ستتمتَّع بمزيدٍ من الأمن، ما دامت تنتَهِجُ سياسةَ التَّعاوُنِ مع الجانب الذي يقترب منها، بدلًا من البقاء مُتعلِّقَةً بجانبٍ دون غيره، وتنجح في استعمال التَّنافس بين القوَّتَين الكبيرَتَين لصالحها.
لهذا السَّبب لا نتوقَّع أنْ تُبديَ تركيا تبعيَّةً لأيِّ لاعبٍ مثل روسيا وأمريكا في المستقبل القريب. بل على العكس، سوف نراها تنتَهِجُ سياسةً خارجيَّةً أكثر استقلاليَّةً، وتتَّجه نحو المباحثات مع جميع اللَّاعبين. ولو كان الاتِّحاد الأوربِّيُّ على سبيل المثال لاعبًا فاعلًا لَسُرَّت به تركيا ودخلت في مباحثات معه، ولكنَّه بعيدٌ جدًّا عن أنْ يكونَ لاعبًا فاعلًا حقيقيًّا، وهذا ما يُقلِّلُ البدائل أمام تركيا. من جهةٍ أُخرى سوف تُعرِبُ تركيا عن رغبتها الشَّديدة في تطوير علاقاتها مع لاعبٍ مثل الصِّين، إذا استطاعت الصِّين أنْ تَضرِبَ دَمغَتها بقوَّةٍ في المجالَينِ السِّياسيِّ والدِّبلوماسيِّ، ولكنَّ الصِّين لا تُبدي حضورًا إلَّا في المجال الاقتصاديِّ.
في الحقيقة تُحاوِلُ تركيا بين الفينة والأُخرى الحديث عن مُنظَّمة شنغهاي للتَّعاوُنِ باعتبارها بديلًا، واتَّخذت خطواتٍ عديدةً في هذا الإطار، ولكنَّه يبقى بديلًا ضعيفًا بالنِّسبة لتركيا، ما لم يتمَّ تعزيزه وتمكينه بما فيه الكفاية. ويجب أنْ نُنَوِّهَ أنَّ مُنظَّمة شنغهاي للتَّعاوُنِ لن تكون بديلًا عن النَّاتو، ولو أبدت تركيا استعدادًا للتَّقارُبِ. تعلَّمت تركيا ألَّا تبقى مُتعلِّقةً بحلفٍ دون غيره. ولهذا السَّبب يمكننا القول: إنَّها ستحافظ على وجودها في النَّاتو، لكن ليس باعتبارها تركيا التي يستفيدُ منها النَّاتو، بل باعتبارها تركيا التي تستفيدُ من النَّاتو استفادةً حقيقيَّةً.
الخاتمة:
تناولنا في هذا التَّحليل حلفَ النَّاتو تحت ثلاثة عناوين، وتوصَّلنا إلى نتيجةٍ مَفادُها أنَّ الحلف يواجه أزمةً مُؤقَّتَةً ظرفيَّةً، تشبه مَثيلاتها التي حصلت في العهود السَّابقة، ومن هنا فالنَّاتو بعيدٌ كلَّ البعد عن حافَّة الانهيار في المستقبل القريب، بل يبقى الحلف الأكثرَ قوَّةً و(مأسَسَةً) ورَدعًا في العالم. والأزمة التي يواجهها نِتاجُ تدهورِ الأوضاع الأمنيَّة، وعدم المبالاة في المواقف الأمريكيَّة، ومن المُتوقَّعِ أنْ تعمل الدُّوَلُ الأعضاء وفي مُقدِّمَتِها أمريكا على تحويل النَّاتو مرَّةً أُخرى إلى موضوعٍ مركزيٍ، مع ازدياد حِدَّةِ وقساوة النِّظام العالميِّ[27].
وفي هذا السِّياق قُمنا بقراءة العلاقات بين تركيا والنَّاتو. فتركيا في مُقدِّمة البلدان التي تأثَّرت بتداعيات أزمة النَّاتو، وتَبنَّت مَنظورًا جديدًا في مجال الأمن والسِّياسة الخارجيَّة؛ لأنَّها كانت مُستاءَةً للغاية من مواقف النَّاتو وأعضائه حيال الحرب الأهليَّة السُّوريَّة، والهجمات الإرهابيَّة المُمنهَجَةِ، ومحاولة انقلاب 15 يوليو/ تمُّوز 2016. ولم تعد ترى نفسها ذلك الحليف الصَّادق الوفيَّ، ولا تريد أنْ تكون كذلك بعد الآن. فنراها تبني علاقاتٍ جديدةً مع اللَّاعبين الدَّوليِّينَ خارج نطاق النَّاتو، وتنتهجُ سياسةَ التَّوازن، وتسيرُ قُدُمًا لتصبح لاعبًا دَوليًّا يتمتَّعُ بمزيدٍ من الاستقلاليَّة، وتتحوَّل إلى دولةٍ أكثرَ أمنًا، بفضل مجال المُناوراتِ الذي طوَّرته. ولهذا السَّبب، نستبعدُ أنْ تقطع تركيا علاقاتها بالنَّاتو في المستقبل القريب، ولكنَّها في ذات الوقت سوف تُواصِلُ علاقاتها بجميع اللَّاعبين الدَّوليِّينَ بشكلٍ مُتوازِنٍ. وهذا الموقف الجديد الذي تتبنَّاه تركيا لا يمكن تسميته تحرُّكًا من أجل الانفصال، بل تحرُّكًا لبناء نظام التَّحالفاتِ المُتعدِّدةِ، وستواصل العمل لزيادة استقلاليَّتها وحُكْمِها الذَّاتيِّ.
الهوامش والمراجع
[1] Charles L. Glaser, “Why NATO is Still Best: Future Security Arrangements for Europe”, International Security, volume: 18, issue: 1, (1993), p. 5-50.
[2] Julie Hirschfeld Davis, “Trump Warns NATO Allies to Spend More on Defense, or Else”, New York Times, 2 July 2018.
[3] من أجل الدِّراسة التي تتضمَّنُ أكثر التَّقنيَّات تطوُّرًا للإشارة إلى أنَّ أمريكا لا تزالُ القُوَّةَ العُظمى الوحيدة في النِّظام العالميِّ، انظر:
Stephen G. Brooks and William C. Wohlforth, America Abroad: The United States’ Global Role in the 21st Century, (Oxford University Press, Oxford: 2016).
[4] من أجل الأمثلة الرَّئيسة عن الجدل الدَّائر حول النَّاتو عَقِبَ الحرب الباردة، انظر:
Robert J. Art, “Creating a Disaster: NATO’s Open Door Policy”, Political Science Quarterly, volume: 113, issue: 3, (1998); Christopher L. Ball, “Nattering NATO Negativism? Reasons Why Expansion May Be a Good Thing”, Review of International Studies, volume: 24, issue: 1, (1998); Jonathan Eyal, “NATO’s En- largement: Anatomy of a Decision”, International Affairs, volume: 73, issue: 4, (1997); John Gaddis, “History, Grand Strategy and NATO Enlargement”, Survival, volume: 40, issue: 1, (1998); Glaser, “Why NATO is Still Best: Future Security Arrangements for Eu- rope”; Celeste A. Wallender, “Institutional Assets and Adaptability: NATO after the Cold War”, International Organization, volume: 54, issue: 4, (2000); Michael C. Williams and Neumann B. Iver, “From Alliance to Security Community: NATO, Russia, and the Power of Identity”, Millennium-Journal of International Studies, volume: 29, issue: 2, (2000).
[5] Frank Schimmelfennig, “NATO Enlargement: A Constructiv- ist Explanation”, Security Studies, volume: 8, issue: 2-3, (1998); Galia Press-Barnathan, “Managing the Hegemon: NATO under Unipo- larity”, Security Studies, volume: 15, issue: 2, (2006); Eyal, “NATO’s Enlargement: Anatomy of a Decision”; Rachel A. Epstein, “NATO Enlargement and the Spread of Democracy: Evidence and Expecta- tions”, Security Studies, volume: 14, issue: 1, (2005); Dan Reiter, “Why NATO Enlargement Does Not Spread Democracy”, International Security, volume: 25, issue: 4, (2001).
[6] John Baylis, “NATO Strategy: The Case for a New Strategic Concept”, International Affairs, volume: 64, issue: 1, (1987-1988); Richard K. Betts, “NATO’s Mid-Life Crisis”, Foreign Affairs, volume: 68, issue: 2, (1989); Douglas M. Gibler and A. Jamil Sewell, “External Threat and Democracy: The Role of NATO Revisited”, Journal of Peace Research, volume: 43, issue: 4, (2006); Gülnur Aybet, “The Evolution of NATO’s Three Phases and Turkey’s Transatlantic Relationship”, Perceptions, volume: 17, issue: 1, (2012).
[7] Williams and Iver, “From Alliance to Security Community”, p. 357-387.
[8] من أجل الأزمات المُتعلِّقة بالنَّاتو في السِّتِّينيَّات والسَّبعينيَّات، انظر:
Christian Nuenlist, “Into the 1960s: NATO’s Role in East-West Relations, 1958-63”, Transforming NATO in the Cold War: Challanges Beyond Deterrence in the 1960s, ed. Andreas Wegner, Christian Nuenlist and Anna Locher, (Routledge, New York: 2007), p. 67-88; Michael Spirtas, “French Twist: French and British NATO Policies from 1949 to 1966”, Security Studies, volume: 8, issue: 2-3, (1998); Lawrence S. Kaplan, NATO Divided, NATO United: Evolution of an Alliance, (Praeger, Londra: 2004); Robert E. Osgood, NATO: The Entangling Alliance, (The University of Chicago Press, Chicago: 1962); Alastair Buchan, NATO in the 1960s: The Implications of Interdependence, (Praeger, New York: 1963).
[9] من أجل انسحاب فرنسا من الجناح العسكريِّ، انظر:
Mahan Erin, “Through the Looking Glass: The Berlin Crisis and Franco-American Perceptions of NATO, 1961-63”, Transforming NATO in the Cold War, ed. Andreas Wenger, Christian Nuenlist ve Anna Locher, (Rout- ledge, New York: 2007), p. 89-106.
[10] Edgar S. Furniss Jr., “De Gaulle’s France and NATO: An In- terpretation”, International Organization, volume: 15, issue: 3, (1961), p. 349-365.
[11] George McGhee, The US-Turkish-NATO-Middle East Connection, (St. Martin’s Press, New York: 1990).
[12] Spirtas, “French Twist: French and British NATO Policies from 1949 to 1966”, p. 302-346.
[13] Mancur Olson, The Logic of Co lective Action, (Harvard University Press, Cambridge MA: 1965).
[14] John R. Oneal, “The Theory of Collective Action and Burden Sharing in NATO”, International Organization, volume: 44, issue: 3, (1990), p. 379-402.
[15] Martin A. Smith, Russia and NATO since 1991: From Cold War through Cold Peace to Partnership, (Routledge, New York: 2006); Sarwar A. Kashmeri, NATO 2.0: Reboot or Delete?, (Potomac Books, Washington D.C.: 2011).
[16] Ronald D. Asmus, Opening NATO’s Door: How the Alliance Remade Itself for a New Era, (Columbia University Press, New York: 2002).
[17] Art, “Creating a Disaster: NATO’s Open Door Policy”, p. 383-403.
[18] من أجل إستراتيجيَّة التَّموضُعِ، انظر:
Colin Dueck, The Obama Doctrine:American Grand Strategy Today, (Oxford University Press, Oxford: 2015).
[19] “Wales Summit Declaration”, North Atlantic Treaty Organization, 5 September 2014, www.nato.int/cps/ic/ntohq/official_texts_112964.htm, (access date: 26 July 2018).
[20] “Brussels Summit Declaration”, North Atlantic Treaty Organization, 11 July 2018, www.nato.int/cps/en/natohq/official_texts_156624.htm, (access date: 26 July 2018).
[21] Arnold Wolfers, “Europe and the NATO Shield”, International Organization, volume: 12, issue: 4, (1958), p. 425-439.
[22] بل هناك أدبيَّاتٌ تتحدَّثُ باستمرارٍ بشيءٍ من المُبالَغَة عن أزمةٍ تُواجِه النَّاتو. من أجل التَّفاصيل، انظر:
Walles J. Thies, Why NATO Endures, (Cambridge University, Cambridge: 2009)
[23] Robert J. Art, “Why Western Europe Needs the United States and NATO”, Political Science Quarterly, volume: 11, issue: 1, (1996), p. 1-39.
[24] Steve Weber, “Shaping the Postwar Balance of Power: Multi- lateralism in NATO, International Organization, volume: 46, issue: 3, (1992), p. 633-680.
[25] تنصُّ المادَّة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسيِّ على أنَّ هجوم طرفٍ ثالثٍ على أحد أعضاء النَّاتو يُعَدُّ هجومًا على الحلف بأسره.
[26] Weber, “Shaping the Postwar Balance of Power: Multilateralismin NATO”, p. 633-680.
[27] Paul Cornish, Partnership in Crisis: The US, Europe, and the Falland Rise of NATO, (Chatham House Papers, Londra: 1997), p. 6.