رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

محاولة انقلاب 15 تموز ونتائجها في سياق علاقة (السياسة – الجيش)

يتناول هذا البحث تحليل محاولة انقلاب 15 تموز في سياق علاقات (السياسة– الجيش) التي كانت موضوع جدلٍ طويلٍ في تركيا.

محاولة انقلاب 15 تموز ونتائجها في سياق علاقة (السياسة – الجيش)

الملخص يتناول هذا البحث تحليل محاولة انقلاب 15 تموز في سياق علاقات (السياسة– الجيش) التي كانت موضوع جدلٍ طويلٍ في تركيا. يتناول المدخل إطار الخطوط العامة لعلاقات (السياسة– الجيش)، ويتناول العنوان الثاني موجزًا تاريخيًّا للعلاقات (العسكرية– المدنية)، وتحليلًا موجزًا  للوصاية العسكرية، ويتناول ما تبقى من البحث محاولة انقلاب 15 تموز؛ التخطيط لها، وخطة الحركة، والمقاومة التي تطورت ضدها، وأسباب إخفاقها، والنتائج التي أفضت إليها.

المدخل:

تُشكِّل كيفية تنظيم العلاقة بين الجيش وآلية السياسة إحدى أكثر المسائل التي تثير الجدل والنقاش في الدراسات السياسية الحديثة، ويشكل الجيش بكونه أهم مؤسسات الدولة من حيث الأمن القومي من جهة وآليةُ السياسة من حيث كونها تتولى توزيع الموارد في المجتمعات الحديثة ويُتوقع منها أن تقيم النظام المجتمعي على قواعد وآليات محددة من جهة أخرى- عنصرين مهمّين في تعقيد علاقات (السياسة– الجيش).

قد يتحرك الجيش الذي يسيطر على السياسة مثل مجموعةٍ تسعى لتحقيق مصالح معينة، مهملًا وظيفته الأساسية في تأمين الأمن القومي، ومن الصعب أن تتحول آلية السياسة التي تعمل في ظل الجيش إلى مؤسساتٍ تناسب التحول المجتمعي، وتعمل في سياق هذا التحول. وآلية السياسة التي تتدخل في آليات الجيش الداخلية يمكنها –في المقابل- أن تجرّد الجيش من وظيفته الأساسية، وتحوّله إلى أداةٍ تتحرك في إطار مصالحها؛ لذلك يحمل عمل هذين العنصرين وتنظيم العلاقة بينهما أهميةً مصيريةً، وتنظيم هذه العلاقة ليس ضروريًّا من أجل العملية الديمقراطية فحسب؛ بل هو ضروريٌّ أيضًا حتى تؤدّي كلتا المؤسستين وظائفها. ولا يوجد في الواقع بلدٌ على وجه الأرض ينأى فيه الجيش عن السياسة ولا يتدخل فيها أبدًا؛ فالجيش على علاقةٍ قريبةٍ بالسياسة في جميع دول السيادة الوطنية؛ لأنه يؤدّي دورًا أساسيًّا في تسيير سياسة الأمن فيها. وإن كيفية تنظيم علاقة بين الجيش والسياسة وإمكانية وجود معايير عالمية بخصوص تنظيمها موضوعٌ لنقاشٍ واسعٍ.

يُلاحظ في بعض البلدان أن العلاقة بين قوى الجيش والقوى السياسية تخضع لمقاييس محددةٍ، وأن التداخل في مجال عمل هاتين المؤسستين محدودٌ إلى حدٍّ كبير، وهذه العلاقة في بعض البلدان في المقابل لا تُنظَّم وفق معايير محددة، في هذه الحال تستعمل آلية السياسة الجيش دعامةً للحزب الحاكم، أو يتدخل الجيش في السياسة (بشكلٍ يشمل المجال الاقتصادي والاجتماعي) بالمعنى الأعم. وأكثر الأدوات التي يلجأ إليها الجيش في هذا المعنى هو الانقلاب العسكري.

يعرّف لوتْواك الانقلاب العسكري بأنّه: "التدخل الذي يقوم به عنصرٌ صغيرٌ لكنه حساس من أجهزة الدولة (الجيش)؛ من أجل تغيير الحكومة في وقت محدد"[1]. إن الانقلاب العسكري واحد من الوسائل المستعملة في تغيير الإدارة في البلدان التي تُدَار بأساليب ديمقراطية أو سلطوية على حدٍّ سواء، وخلال الأعوام 1950-2000 وقعت 471 محاولة انقلابٍ في بلدانٍ عدد سكانها أكثر من مئة ألف؛ نجحت من هذه المحاولات 238 وأخفقت 233، وخلال هذه الفترة الزمنية التي شهدت وسطيًّا تسع محاولات انقلابٍ في كل عامٍ؛ وقعت تسع عشرة محاولة انقلابٍ في عام 1975، وثلاث محاولات انقلابٍ في عام 1998، ولم يمرَّ عامٌ حتى عام 2012 إلا ووقعت فيه محاولة انقلاب[2].  وعند النظر إلى التوزع الإقليمي لمحاولات الانقلاب تظهر أمامنا صورةٌ على الشكل الآتي: في أوربا وقعت 12 محاولة انقلابٍ،تكلل منها 33% بالنجاح، وفي القارة الأمريكية وقعت 145 محاولة انقلابٍ، تكلل منها 48% بالنجاح، وفي إفريقيا وقعت 169 محاولة انقلابٍ، تكلل منها 51% بالنجاح، وفي الشرق الأوسط وقعت 72 محاولة انقلابٍ، تكلل منها 46% بالنجاح، وفي آسيا وقعت 59 محاولة انقلابٍ، تكلل منها 56% بالنجاح[3]، ويتضح من هذا أن قرابة 50% من محاولات الانقلاب في عموم العالم كانت ناجحة. 

موجز تاريخي عن علاقات (الجيش-السياسة) في تركيا

تبوَّأت العلاقات العسكرية- المدنية عمومًا والانقلابات العسكرية على حدِّ سواءٍ مكانة مهمّة في تاريخ التحول الديمقراطي في تركيا بعد تأسيس الجمهورية، فقد غدت القوات المسلحة التركية بوصفها مؤسسة واحدة من العوامل الأساسية في السياسة رغم التحول الديمقراطي والانتقال إلى نظامٍ متعدد الأحزاب منذ خمسينيات القرن الماضي، وصارت الانقلابات العسكرية التي كانت تقع وسطيًّا مرةً كل عشر سنوات، والوصاية العسكرية على حدٍّ سواء- عنصرين أساسيين في تأثير الجيش في السياسة، وتراوح هذا التأثير بين الزيادة النسبية والنقصان من حينٍ لآخر، لكن الانقلابات العسكرية في تركيا فتحت الطريق في معظم الأحيان لتغيراتٍ مهمّة في السياسات الداخلية والخارجية، انطلاقًا من تغييرٍ بسيطٍ في إدارة الدولة، وقد شكّل كلٌّ من انقلاب 27 أيار 1960 وانقلاب 12 أيلول 1980 على وجه الخصوص نقطة انعطافٍ في تعزيز تأثير الجيش في السياسة وتصميم السياسة التركية على حد سواء.

الجدول1- المحاولات الانقلابية في تركيا ونتائجها[4]:

تاريخ الانقلاب

طغمة/ تسلسل هرمي

المقاومة

النتيجة

27 أيار 1960

طغمة

لا توجد

ناجِح

22 شباط 1962

طغمة

لا توجد

ناجِح

21 أيار 1963

طغمة

لا توجد

ناجِح

9 آذار 1971

طغمة

لا توجد

ناجِح

12 آذار  1971

تسلسل هرمي

لا توجد

ناجِح

12 أيلول 1980

تسلسل هرمي

لا توجد

ناجِح

28 شباط 1997

تسلسل هرمي

لا توجد

ناجِح

15 تموز 2016

طغمة

توجد

غير ناجِح

كان انقلاب 27 أيار  ضد الحزب الديمقراطي الذي جاء إلى سدة الحكم من خلال انتخاباتٍ شفافةٍ تنافست فيها لأول مرة أحزابٌ متعددةٌ، والذي تسلّم الحكم على مدار ثلاث دوراتٍ بفارقٍ كبيرٍ بينه وبين الأحزاب الأخرى، ولم يكتف الانقلاب بجعل الجيش في موضع أهم ممثلٍ في السياسة التركية، بل تعدّاه إلى فتح الطريق أمام الجيش ليصمِّم السياسة. وكانت عقوبة الإعدام التي أصدرتها المحكمة العسكرية بحق رئيس الوزراء عدنان مندرس وحسن بولاتْكان وفطين رشدي زورلو- أكبر انقلابٍ على السياسة، ومؤشرًا مهمًّا على فاتورة العمل السياسي المخالف للنظام المؤسس، وكان هذا الانقلاب مهمًّا من حيث تأمينه الحكم الذاتي السياسي للجيش، رغم قرارات التوصية التي اتخذها مجلس الأمن القومي الذي تأسس بعد الانقلاب، وكان انقلاب 12 آذار 1971 تصفيةً لكتلة 9 آذار وإعادة تصميم السياسة. وكان انقلاب 1980 تأديبًا "للديمقراطية التي لا تستطيع التحكم بذاتها"على حدّ قول كنعان أفرن [5]. وتوسعت صلاحيات مجلس الأمن القومي بعد انقلاب 1980، فكان هذا الأمر بمثابة مأسسةٍ لوصاية الجيش على السياسة[6]. حيث أُعيدت هيكلة السياسة، وسُنَّت القوانين التي من شأنها أن تؤسس ديمقراطيةً مقيدةً تنهي الحاجة للتدخل العسكري، وتحافظ على استقرار الوضع الراهن[7]. وفي 28 شباط 1997 نفّذت القوات المسلحة التركية "انقلاب ما بعد الحداثة"، وغيرت الحكومة من دون الاستيلاء على الحكم بصورةٍ مباشرةٍ. وقد وصف جويك بير وهو أحد قادة هذا الانقلاب بأنه "ضبط توازن الديمقراطية"[8]. وتبع هذا الانقلاب حلُّ حزب الرفاه، شريك الحزب الحاكم، ومُنِع نجم الدين أربكان وعدد من رجالات الحزب من ممارسة السياسة... وقد سارت هذه الانقلابات من دون أن تواجه مقاومةً؛ لا من داخل الجيش ولا من المؤسسات الأمنية الأخرى، وقد انتهت محاولة انقلاب 9 آذار قبل أن تبدأ.

في الألفينيات تراجعت وصاية الجيش الظاهرية على السياسة تحت تأثير مسيرة عملية العضوية الكاملة في الاتحاد الأوربي، لكن مجموعةً من المعارضين الذين عملوا على نقل الامتعاض من الحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية إلى خارج نطاق السياسة، إذ لم يتوانوا في التعبير عن مطالباتهم بالانقلاب، وكان انتقال هذه المطالب إلى عناوين الصحف والجرائد مثالًا صادمًا من هذه الناحية[9]. و تظهر الخطط الانقلابية التي ظهرت في الأعوام اللاحقة مثل المطرقة (Balyoz) أن الجيش لم يتخلص تمامًا من ذهنية الانقلاب رغم وصايته المتراجعة ظاهريًّا، فالجدل القائم سواء في المجال الاجتماعي أو في المجال السياسي زادت حدّته خلال فترة الانتخابات الرئاسية، والمؤتمر الصحفي الذي عقدته رئاسة هيئة الأركان العامة في 12 نيسان 2007 يتضمن كثيرًا من العبارات والجمل التي لم نلحظها في بضع السنوات الأخيرة، وأهم مثالٍ على ذلك العبارة التي قالتها بعد خمسة عشر يومًا بخصوص جولة الاقتراعات الأولى في الانتخابات الرئاسية: "الارتباط بالأتاتوركية والعلمانية وأسس الجمهورية يجب أن يكون بالأفعال لا بالأقوال". وإن ّتشديد رئاسة هيئة الأركان العامة على الرجعية في بيانها الذي نشرته على صفحاتها في الويب بتاريخ 27 نيسان 2007 يعكس أجواء محاولة انقلاب 28 شباط. فالرأي العام فسر هذا البيان على أنه مذكرة، و أصدر حزب العدالة والتنمية بيانًا ركّز فيه على هذا الأمر، وأكّد رفضه له وعدم قبوله. بعد هذه التطورات عادت القوات المسلحة التركية إلى الصمت عن الموضوعات السياسية، فكانت تصفية الضباط المتقاعدين والموظفين في إطار محاكمات أَرْغَنَكون واعتقالهم وضعًا جديدًا جدًّا في السياسة التركية عمومًا والعلاقات العسكرية-المدنية خصوصًا. وأفضى اعتقال رئيس هيئة الأركان العامة المتقاعد في هذا السياق إلى تأويلاتٍ وتفسيراتٍ حول رفع "الحصانة" عن الجيش في تركيا، وانتهاء فترة الانقلابات وزوالها.  

البارامترات الأساسية لمحاولة انقلاب 15 تموز

في ليلة 15 تموز 2016 تحركت طَغَام من الجيش نظموا أنفسهم داخل القوات المسلحة التركية للاستيلاء على النظام السياسي الديمقراطي في تركيا وتنفيذ انقلابٍ عسكريٍّ، مستعملين في ذلك الأساليب الإرهابية. لم تكن محاولة الانقلاب هذه مفاجأةً كبيرةً في تركيا التي يزخر تاريخها بالانقلابات العسكرية، لكن وقوعها رغم التحول السياسي والاجتماعي على مدى أربعة عشر عامًا كان العامل الأساسي في إخفاقها.

وقد بينت ردود الأفعال التي صدرت خلال الساعات الأولى من المحاولة أن المجموعة التي قامت بالانقلاب تحركت خارج التسلسل القيادي العسكري، وأن قسمًا من الجيش لم يشارك في الانقلاب، وفي مقدمته قادة القوات، لذلك كان هذا الانقلاب انقلاب طغَام بكل ما في الكلمة من معنى، وقد صرح رئيس الجمهورية أردوغان أن هؤلاء الطَّغَام أدارهم تنظيم جماعة فتح الله غولن (فتو) الإرهابي. ظهر تنظيم (فتو) باعتباره جماعةً توظّف الخطابات الدينية في كل مجالٍ على وجه التقريب؛ بدءًا من البيروقراطية إلى السياسة، ومن المجال الاجتماعي إلى عالم الأعمال، منذ بداية الثمانينيات، واستعملت هذه الجماعة ما لديها من مقومات، وشكلت كيانًا موازيًا [للدولة] في جميع المجالات. إن هذه البنية السرية والمغلقة التي تتحرك بوصفها تنظيمًا يؤمن بالمنقذ الغيبي أكثر من كونها جماعةً دينيةً؛ وأصبح لها كيانٌ في المؤسسات العامة.

وقد ظهر سعي هذه البنية أنها تخوض معركةً من أجل الحكم في تركيا باستعمال أدواتٍ غير مشروعةٍ إلى العلن، بعد مطالبتها باعتقال رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية هاقان فيدان[10]، فالعملية التي نفذتها على أيدي بيروقراط القضاء وجهاز الأمن بتاريخ 17-25 كانون الأول 2013 تبيّن أن الوصاية البيروقراطية تحولت إلى أحد أهم مواردها، ودبّر التنظيم بعد هذه العملية عددًا من المكائد وعمليات الابتزاز، وبدأ يفقد مشروعيته لدى السياسة والمجتمع على حدّ سواء، وقد نُفِّذت عمليات ناجحة ضد هذا التنظيم الذي يسمّى ببنية الدولة الموازية (PDY) خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وعمل أتباع هذا التنظيم على مغادرة البلاد وتسيير فعاليات اللوبيات ضد تركيا بدلًا من تبرئة أنفسهم بالمثول أمام القضاء في الدعاوى التي فتحتها المؤسسات القضائية ضد التنظيم، وعندما لم يحصل التنظيم على أي نتيجةٍ رغم كل محاولاته التي تصب في تحقيق الهدف ذاته بدأ يتحول تدريجيًّا إلى الراديكالية، ويعمل على شلّ جهود الحكومة في مجال مكافحة الإرهاب.

وعندما أخفق جميع محاولات الإطاحة بالحكومة من خلال الوسائل غير المشروعة أقدم التنظيم في ليلة 15 تموز على خطوةٍ جديدةٍ يمكن وصفها "بالكاميكازية"، حيث خرج أتباع (فتو) من القوات التركية المسلحة خارج التسلسل القيادي العسكري، ونفّذوا انقلابًا عسكريًّا. تميّز هذا الانقلاب عن سائر الانقلابات التي وقعت في الأعوام 1960 و1971 و1980 و1997 في تركيا بأن الانقلابيين استعملوا أساليب إرهابيةً، وأطلقوا النار على المدنيين[11]. وإنّ استعمالهم الأساليب الإرهابية لا يجردهم من وصف الطَّغَام.  

خطة حركة الانقلاب

عند النظر إلى الوحدات التي تحركت في ليلة 15 تموز يتبين أنه خُطِّط لتحرك تجمعاتٍ واسعةٍ جدًّا، إذ خُطِّط لتحرُّك مجموعةٍ مهمّة من ألوية المغاوير والمحاربين وكامل القواعد الجوية باستثناء بعضها، وتقريبًا كامل القوات البحرية باستثناء الغواصات البحرية. وقد قدَّر البيان الذي نُشِر على الصفحة الرسمية للقوات المسلحة التركية على الويب عدد الموظفين المشاركين في انقلاب 15 تموز والآلات الحربية التي استُعمِلت- وفق الآتي:

استُعمِل في المحاولة الانقلابية 35 طائرةً: 24 طائرة حربية و37 طائرة هليكوبتر و8 طائرات اعتراضية، و246 مدرعًة منها 74 دبابةً، و3 سفن، و3991 سلاحًا خفيفًا. أما عدد المشاركين من (الإرهابيين الخونة باللباسٍ العسكريّ الذين ينتمون إلى عصابة (فتو) غير الشرعية) فقد تبين أنّ عددهم 8.651 : (1.676 منهم ضباط صف/جنود، و1.214 منهم طلاب عسكريون)[12]. وعند النظر إلى هذه الأرقام تتشكل قناعةٌ أنها غير كافية لتنفيذ انقلابٍ عسكريٍّ، لكن يعتمد التخطيط في نجاح الانقلاب على السرعة في تنفيذه، وخلق الفوضى في البلاد.

تُبيِّن المعلومات التي ظهرت في 16 تموز أن هؤلاء الطَّغَام كانوا يستهدفون رئيس الجمهورية، ورئيس هيئة الأركان العامة، وضباط القادة الأمراء في قيادة القوات، وموظفين في مواقع حساسة، مثل الاستخبارات والمعلوماتية. وكان الهدف من هذا كله السيطرة على الجيش بإصابة الأهداف الإستراتيجية في أنقرة وإسطنبول أو تعطيلها، وكسر المقاومة التي يمكن أن يقوم بها الشعب، وأخيرًا الاستيلاء على السلطة السياسية. إن الأمر الذي يثير الانتباه هو أن الطَّغَام قوبلوا بالمقاومة في جميع هذه الوحدات على وجه التقريب.

وكان لكل مقاومةٍ ضد هؤلاء الطَّغَام -أيًّا كان حجمها- تداعياتٌ سلبيةٌ على الساحة التي ستسير فيها العملية. تحرك تنظيم الطَّغَام ‏ من الناحية العملية في ليلة 15 تموز في إطار خطةٍ مكونةٍ من ثلاث مراحل: في المرحلة الأولى يستولي على رئاسة هيئة الأركان العامة، وفي المرحلة الثانية يُحكِم السيطرة على عموم تركيا، وفي المرحلة الثالثة يؤسِّس إدارة عرفية، ويَكوِّن نظامًا سياسيًّا واجتماعيًّا جديدًا. ويمكن استنباط الخيوط التي تكشف الكيفية التي نُفِّذ بها الانقلاب والأسباب الكامنة وراء إخفاقه من خلال النظر إلى هذه المراحل مرحلةً مرحلة.

كان الهدف الأول في المرحلة الأولى السيطرة على رئاسة هيئة الأركان العامة، باعتقال قادة القوات، وفي مقدمتهم رئيس هيئة الأركان العامة، والهدف الأساسي من ذلك هو تنفيذ محاولة الانقلاب ضمن التسلسل القيادي العسكري، وهو السبب الأساسي في محاولة إجبار رئيس هيئة الأركان العامة وقادة القوات على التوقيع على البيان، لكن ذلك لم يتحقق لهم بسبب المقاومة التي تلقوها، ورغم ذلك لم يتخلّ تنظيم الطَّغَام عن محاولة الانقلاب، بل عمل على توجيه القوات المسلحة التركية باحتجاز القادةِ رفيعي المستوى. وأهم مؤشر على ذلك هو أن الانقلابيين واجهوا مقاومةً عنيفةً من قبل قيادة الجيش الأول، فضلًا عن أن اتصال عددٍ كبيرٍ من القادة رفيعي المستوى بالقنوات التلفزيونية، وإدلائهم بتصريحات الجاهزية للتصدي لهؤلاء للطَّغَام ، كلُّ ذلك كان عائقًا أمام سيطرة التنظيم على القوات المسلحة التركية.

المرحلة الثانية هي مرحلة الاستيلاء على عموم تركيا، إذ وزَّع الانقلابيون الدبابات في مواقع إستراتيجية في إسطنبول، مثل جسر المضيق، ومطار أتاتورك الدولي، وبلدية مدينة إسطنبول الكبرى، ومؤسسة ترك تلكوم للاتصالات. وفي أنقرة حاصروا مجمع رئاسة الجمهورية في بَشْ تبه، ومجلس الشعب التركي الكبير، والقيادة العامة للجندرمة، ورئاسة هيئة الأركان العامة، وجهاز الاستخبارات الوطنية، ودائرة الحركات الخاصة، والقوات الخاصة. واستُعْمِلَت الأسلحة الثقيلة وطائرات الهليكوبتر الحربية لصدّ أي مقاومة محتملة من الوحدات الأمنية التابعة لجهاز الاستخبارات الوطنية والأمنيات، لكن الوحدات جميعها أبدت مقاومةً عنيفةً ولم تستسلم.

منذ اللحظات الأولى من التحرك تلقى الطَّغَام مقاومةً مسلحةً في العديد من الوحدات، وفي مقدمتها رئاسة هيئة الأركان العامة، لكن نقاط الضعف الموجودة في الخطة كانت قد مهدت الطريق أمام إخفاقها، فخطة الحرب السريعة ركزت على الأساليب التكتيكية والعملية، وأخطأت في تحقيق أهدافها السياسية والإستراتيجية[13]. وشنّ الطَّغَام حملة لشل تأثير رئيس الجمهورية، ففي تصريح له على قناة CNN الدولية بيّن رئيس الجمهورية أردوغان أن الانقلاب يرمي إلى اغتياله أو احتجازه، وأنه نجا من ذلك بفاصل 10-15 دقيقةً، وأن اثنين من حراسه قد استشهدا[14].  وهكذا شكّل إخفاق الطَّغَام في اغتيال أو احتجاز أردوغان الذي يحمل صفة القائد العام ورئيس الجمهورية- إحدى نقاط التحول في مسيرة الانقلاب نحو الإخفاق.

من ناحية أخرى توجه الطَّغَام إلى القيام بمحاولةٍ أخرى، وهي التوجه إلى القنوات الإعلامية، فإحكام السيطرة على الإعلام كان أداةً ناجحةً في إعلان الانقلاب، وتأمين الثقة النفسية؛ لهذا السبب كان الاستيلاء على قنوات TRT التلفزيونية وقراءة بيان الانقلاب هدفًا مهمًّا للانقلابيين، ونجحوا في ذلك، حيث أجبروا المذيعة على قراءة البيان في قناة TRT الرسمية، لا في القنوات التلفزيونية الخاصة بهم، لكن هذا البيان لم يكن له أي أهمية في تحقيق استعلاءٍ إستراتيجيٍ أو نفسيٍ للطَّغَام؛ لاقتصار تلاوة البيان على قناة TRT، بل حرصت القنوات الأخرى على تصريحات رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، والوزراء، وقائد القوات الخاصة، ومسؤولين رفيعي المستوى من جهاز الأمن، وجهاز الاستخبارات الوطنية، وأفضى استيلاء الطَّغَام على TRT إلى الإخفاق، ولم تُحدِث تلاوةُ بيان الانقلاب عبر قناة TRT أثرها المطلوب في محاولة الانقلاب، بل أثارت غضب المدنيين المقاومين، وحملتهم على طرد الانقلابيين من مبنى TRT في وقتٍ قصير. 

العناصر الأساسية التي أدت إلى إخفاق الانقلاب

يرى نونيهال سينغ أن الانقلاب العسكري يمكن صده من قبل مجموعةٍ مسلحةٍ أخرى، وفي الغالب من قبل وحدات مسلحة أخرى من الجيش فحسب، ولا يعلم المدنيون ما يحدث من بداية عملية الانقلاب إلى نهايتها، وجُلُّ ما يمكنهم عمله هو التأثير في السلوكيات المختلفة داخل الجيش، ومهما قاموا به من مظاهراتٍ وبذلوا من جهودٍ فلن تكون قوتهم وحدها كافيةً لعرقلة الانقلاب، فالوحدات العسكرية قادرةٌ على تفريق التجمعات الواسعة عندما تريد[15]. في حين يرى لوتْواك أن هناك قاعدتين رئيستين  لنجاح أي انقلابٍ عسكريٍّ؛ أُولاهما اعتقال أو قتل رئيس الحكومة، وثانيهتما شلُّ الآليات والتجمعات العسكرية التي ترفض الانضمام إلى الانقلابيين[16]. وعند النظر إلى محاولة انقلاب 15 تموز نجد صحة كلا الرأيين جزئيًّا. فعدم مشاركة قسمٍ كبيرٍ من الجيش في محاولة الانقلاب، واندفاع مجموعة أخرى من الجيش مع الوحدات الأمنية الأخرى لصد الانقلاب أمرٌ صحيحٌ لا لبس فيه، لكن التحليل الذي يتناول أسباب إخفاق الانقلاب يبقى ناقصًا إن لم يُؤخَذ بالحسبان المقاومة التي أبداها المدنيون.

فقد خرج المدنيون إلى الشوارع ولم يكن رئيس الجمهورية قد ظهر بعدُ على شاشات التلفزيون، ولم يكتفوا بالاحتجاجات، بل أبدوا في الوقت نفسه مقاومةً فعالةً سلميَّةً ضد الانقلاب. ويمكننا تقييم إخفاق محاولة الانقلاب اعتمادًا على هذه العناصر الرئيسة الأربعة: أولها المقاومة الشعبية ضد محاولة الانقلاب، وثانيها قيادة سياسية قوية، وثالثها النشاطات العملية التي أدّتها الوحدات الأمنية، مثل القوات المسلحة التركية، وجهاز الاستخبارات الوطنية، والأمنيات، وقد شكلت هذه العناصر الثلاثة كتلة المقاومة والممانعة، إلى جانب القنوات الإعلامية التي ساندت كتلة المقاومة هذه من خلال مواكبتها بالبث[17]. ويمكن إيجاز الأدوار التي أداها كلٌّ من هذه العناصر على الشكل الآتي:

كان إغلاق جسر مضيق إسطنبول بالدبابات واحدًا من المؤشرات الأولى التي عكست للرأي العام محاولة الانقلاب التي حصلت في ليلة 15 تموز؛ ومنذ الساعات الأولى التي أدرك فيها المدنيون أن هذا التحرك ليس سوى محاولة انقلابٍ؛ اجتمعوا واحتشدوا عند النقاط الحساسة التي استولى عليها الانقلابيون. وقد عرقلت المقاومة التي أبداها المدنيون في هذه النقاط الحساسة كالمطار والجسر ووحدات الأمن ومجمع رئاسة الجمهورية- جهود الانقلابيين، وحالت دون تحقيق أهدافهم في هذه النقاط.

كما أن تدخل المدنيين لصدّ التجمعات الانقلابية المجهزة بأثقل الأسلحة، وعدم تراجعهم رغم إطلاق النار عليهم- أسهما في تأمين علوِّ قوى الأمن الأخرى وتفوقها على قوى الانقلاب، وقد حققت هذه المقاومة الفعلية علوًّا وتفوقًا نفسيًّا لأنها أظهرت أن الشعب لن يتراجع أمام محاولة الانقلاب، فثبات الشعب، وعدم تراجعه رغم إجبار الانقلابيين المذيعةَ على تلاوة بيان الأحكام العرفية عبر قناة TRT، واقتحامُه القناة، وإجباره الانقلابيين على الاستسلام- كان ذلك كله واحدًا من أهم مظاهر علوِّ المقاومة المدنية وتفوقها. ويمكن القول باختصارٍ إن الشعب استعمل جميع ما لديه من إمكاناتٍ، وضرب مثلًا في المقاومة المدنية الفعالةٍ جدًّا من دون اللجوء إلى السلاح، ومن دون إلحاق الضرر لا بالممتلكات العامة ولا بالممتلكات الخاصة.

أما العنصر الثاني فهو ما يتحلى به رجب طيب أدوغان من قيادةٍ قويةٍ، فقد حاول الاتصال بالعديد من القنوات التلفزيونية خلال الساعات الأولى من محاولة الانقلاب، وأعلن وقوفه ضد الانقلاب، ودعا الشعب إلى الدفاع عن الديمقراطية، فكانت لهذه القيادة أثرٌ مهمٌّ في إخفاق الانقلاب من ناحيتن: أولاهما أنها خلقت حافزًا كبيرًا لدى الشعب الذي كان قد بدأ نضاله ضد محاولة الانقلاب، فقد ظهر أردوغان على شاشات التلفزيون، وجعل الكتلة المعارضة للانقلاب تجتمع حول هدفٍ واحدٍ ألا وهو إخفاق محاولة الانقلاب. ثانيتهما أن أردوغان بصفته القائد العام ورئيس الجمهورية قام بمجازفةٍ كبيرةٍ، وجاء إلى إسطنبول في الوقت الذي كانت فيه طائرات ف16 تحلّق في السماء، فجعل المبادرة المدنية والوحدات العملية تلتقي مع القيادة السياسية، وكان ذلك نقطة انعطافٍ قلبت موازين الأزمة في ساعاتها الأولى. هذا الوضع -على حد قول سينغ- عزّز التصور "بأن الانقلاب سيُخفِق"[18]. فضلًا عن أن تحرك رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة بما يتوافق مع إرادة رئيس الجمهورية كان مهمًّا في تسيير عمليةٍ كاملةٍ ضد الانقلاب. فاتصال رئيس الوزراء بن علي يلدريم بالعديد من القنوات التلفزيونية خلال الساعات الأولى من محاولة الانقلاب، وتصريحاته بالوقوف الحازم ضد الانقلاب، وإبداء الكثير من أعضاء الحكومة الإرادة ذاتها؛ سهّل تفعيل الإمكانات العامة لصدّ الانقلاب. ينبغي علينا أن نذكر أيضًا الدعم الذي جاء من الأحزاب المعارضة، فتصريحات الرئيس العام لحزب الحركة القومية دولت بهجلي في الساعات الأولى من بدء حركة الانقلاب أسهمت بشكلٍ ملموسٍ في توسيع الكتلة التي تقف ضد الانقلاب.

والعنصر الثالث الذي حال دون نجاح محاولة الانقلاب هو مبادرات وحدات الأمن، فالوحدات التابعة لجهاز الأمن وفي مقدمتها غرفة الحركات الخاصة استنفرت بالإمكانات المتوفرة لدى جهاز الاستخبارات الوطنية، وشكلت قواتٍ خاصةٍ لصدِّ الانقلابيين الذين يملكون الأسلحة الثقيلة. أضف إلى ذلك أن المقاومة التي أبدتها وحداتٌ عديدةٌ داخل القوات المسلحة التركية، وفي مقدمتها القوات الخاصة، وتصريحات عددٍ كبيرٍ من قادة الجيش رفيعي المستوى عبر وسائل الإعلام تأكيد وقوفهم ضد الانقلابيين- جعلت الانقلابيين يرون حدود قوتهم التي بالغوا فيها، وأظهرت عزيمة الوحدات المقاوِمة. اقتحمت الحركات الخاصة التابعة لجهاز الأمن والوحدات الأخرى الأبنية التي احتلها الانقلابيون، وبدؤوا عملية إنقاذ رئيس هيئة الأركان العامة وقادة القوات المحتجزين، وقد أدّى هذا دورًا مهمًّا في إعادة السيطرة على الساحة.

تحركت هذه العناصر الثلاثة على هيئة كتلةٍ واحدةٍ، وجعلت الإعلام تلحق بها، فعبّر قسمٌ مهمّ من وسائل الإعلام علنًا عن عدم دعمه لمحاولة الانقلاب بدءًا من الساعات الأولى لحركة الانقلاب في أنقرة وإسطنبول، ونَقَلَ المقاومة الشعبية إلى الشاشات، وكان ذلك أول مؤشرٍ على موقفه من الانقلاب. إن تجاهل معظم القنوات التلفزيونية بيان الانقلاب الذي تُلِي قسرًا على شاشة قناة TRT التلفزيونية، وعدم الاهتمام به، أو الاكتفاء ببثه جزئيًّا على أنه خبر من الأخبار؛ كشف إحدى نقاط الضعف المهمّة لدى الانقلابيين. لم يكن الانقلابيون قد أحكموا سيطرتهم لا على الساحة ولا على الإعلام. إذ تراجع الانقلابيون خلال وقت قصير عن الأبنية التي تخص قناة TRT، ومجموعة دوغان ميديا التي اقتحموها، وبُثَّت مشاهد انسحابهم بثًا مباشرًا على شاشات العديد من القنوات التلفزيونية، وكان ذلك مؤشرًا مهمًّا على تعزيز الكتلة التي تقاوم الانقلاب وشعورها بقوتها.

عندما تُخفِق محاولات الانقلاب يحدث تغييرٌ في العلاقات العسكرية- المدنية وفي المتغيرات السياسية الأخرى للدولة[19]. وتركيا أيضًا شهدت تغيرات في هذا السياق بعد انقلاب 15 تموز، فقد طُهِّرت المجالات كافة، وفي مقدمتها مجال البيروقراطية من أتباع تنظيم (فتو). والموضوع الذي يمكن تقييمه في إطار هذه الأعمال هو القرارات والتطبيقات التي تؤثر في تغير علاقة السياسة- الجيش. ففي 27 تموز أُقيل عناصر تنظيم (فتو) الذي أقام لنفسه كيانًا في القوات المسلحة التركية، والضباط الموظفون الذين دعموا محاولة الانقلاب. إذ طُرِد 149 جنرالًا، و1099 ضابطًا، و436 ضابط صف. واتُّخذت قرارات في اجتماع مجلس الشورى العسكرية الأعلى (YAŞ) تقضي بتعيينات جديدة في الكوادر الشاغرة. وبقي قادة القوات في أماكنهم.

إضافةً إلى ذلك أُتبِعت القيادة العامة للجندرمة وقيادة أمن السواحل لوزارة الداخلية، وأُتبِعت المشافي العسكرية لوزارة الصحة، وأصبح بإمكان رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء إصدار أوامر مباشرةٍ إلى قادة القوات عند الحاجة، كما توسعت كثيرًا صلاحيات وزارة الدفاع، وأُغلِقت المدارس الثانوية العسكرية التي يُعشِّش فيها تنظيم (فتو)، وخُطِّط لاستقبال الطلاب من الثانويات كافة في المدارس الحربية، ورُبِط قادة القوات بوزارة الدفاع الوطني.

وغُيِّر أعضاء مجلس الشورى العسكري الأعلى المكون من 14 شخصًا، بحيث يكون 10 منهم مدنيين و4 منهم ضباطًا. هذه التغييرات كانت لها تداعيات كثيرة، فقد أفضى ضمّ الجندرمة وأمن السواحل إلى وزارة الداخلة، والتوزع الجديد للقوى، واستقبال المدارس الحربية طلابًا من الثانويات كافة- إلى أن تعكس القوات المسلحة التركية أوساطًا مجتمعيةً أوسع، وأن تخرج من كونها تمثل فئةً محددةً، كما أدى إعادة تنظيم مجلس الشورى العسكرية الأعلى إلى أن تخرج السلطات المدنية من كونها سلطة موافقةٍ على القرارات العسكرية.

الخاتمة

إنّ التطورات التي شهدتها تركيا منذ اللحظة التي بدأت فيها محاولة الانقلاب ليلة 15 تموز لها مكانةٌ استثنائيةٌ في تاريخ السياسة التركية، وإن محاولة انقلاب 15 تموز ليست الأولى، لكنها تختلف كثيرًا عن التطورات المشابهة التي حدثت في تاريخ تركيا، وما يميز محاولة الانقلاب هذه عن السابقة لها أن مخططها ومنفذها جماعةٌ ظهرت في سبعينيات القرن الماضي على أنها جماعة دينية، لكنها صارت منظمة إرهابيةً بعد تسللها إلى مؤسسات الدولة خلال عشرات الأعوام.

وأهم ما يميز محاولة الانقلاب هذه أنها جوبهت بمقاومةٍ مدنيةٍ واسعةٍ منذ لحظة ابتدائها. في الماضي لم تتوان الشرائح المعارضة الممتعضة من الانقلابات في تركية –رغم أنها ظلت صامتةً أمام الانقلابات- عن تأكيدها التعبير عن اعتراضها مستعملةً حقها في الانتخاب الذي يُعَدّ أهم أداةٍ سياسيةٍ، يتضح هذا الوضع بشكلٍ أكبر عند النظر إلى نتائج الانتخابات التي جرت بعد كل انقلابٍ، وأبرز مثالٍ على ذلك تقديم دستور 1982 المتشكل بعد انقلاب 1980 إلى الشعب بطريقة "الاقتراع العلني والتعداد السري"، كما شهدت البلاد احتجاجات واسعة جدًّا ضد القرارات التي اتُّخِذت بعد انقلاب 28 شباط، ولكن لم يحدث أي تغيير، أمّا في انقلاب 15 تموز فقد أبدى الشعب ردود أفعاله في لحظة الحركة وبشكلٍ فعالٍ، فالمقاومة الشعبية هذه أثارت حميّة الوحدات الأمنية الأخرى التي تقف ضد الانقلاب، وقدمت إسهامات ملموسة في نضالها ضده. وهكذا أُحبِطت المحاولة الانقلابية بالإسهامات التي قدمها المدنيون على نطاقٍ واسع. وأكسب هذا الوضع أدبيات السياسة التركية تحوّلًا مفهوميًّا في إطار "روح 15 تموز".

والعلامة الفارقة الثالثة هي التغيرات التي حدثت وتحدث بعد إحباط الانقلاب بإرادة رئيس الجمهورية والحكومة والشعب الذي انتخبهما. وأهم نتيجةٍ يمكن رؤيتها في المجال السياسي هي أن الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة يتركون الجدل السياسي جانبًا وهو في أشد مستوياته وخطوطه الساخنة، ويتَّحِدون ضد الانقلاب. والمؤتمر الذي نُظِّم في يني كابي بإسطنبول في 7 آب هو أوضح مؤشرٍ على صورة الوحدة هذه. أما المجال البيروقراطي؛ فقد صُفِّي من عناصر تنظيم (فتو)من جهةٍ، واتُّخِذت خطوات مهمّة لإعادة هيكلة الدولة من جهةٍ أخرى، وسيكشف المستقبل أهمية هذه الخطوات التي تعزز الديمقراطية في جعل بنية الجيش أكثر فعاليةً، ومنعه من الانقلابات المحتمَلة.

وأخيرًا يمكن القول إنه لم تكن هناك أسبابٌ تساعد في نجاح الانقلاب رغم التحول السياسي والمجتمعي الذي حدث خلال السنوات الخمس الأخيرة. فلا يمكن لانقلابٍ عسكريٍ أن يشكّل أرضيةً مشروعةً إلا إن كان ضد حكومةٍ لا تستطيع أن تواكب الديناميكيات المجتمعية المتحولة. فكان المجالان السياسي والمجتمعي يشهدان تغيرًا ديناميكيًّا كبيرًا، لكن البنى البيروقراطية كانت تقاوم مواكبة هذا التحول، فضلًا عن أن المجال البيروقراطي مجالٌ يكثر فيه تلاعب تنظيم (فتو).

كل هذه الأمور تشير إلى أن محاولة الانقلاب لم تكن تملك أيّ أرضية سياسية في 15 تموز 2016، وعندما وقعت كانت تركيا يديرها رئيس جمهورية منتخب بمعدل أصواتٍ قدره 52%، وحكومة منتخبة بمعدل قدره 49.5 %، وكان الشعب في نقطةٍ تمكنه من إعطاء ردود أفعالٍ سريعةٍ جدًّا ضد الأحداث السياسية والمجتمعية، وكانت الحكومة ووحدات الأمن تقوم بمكافحة العمليات الإرهابية بشكلٍ فعّالٍ وحازمٍ لا رجعة فيه.

وبينما كان المجال المجتمعي يشهد نقاشاتٍ حادةً بسبب الخسائر الكبيرة الناجمة عن الهجمات الإرهابية كان التضامن الاجتماعي في مستوياتٍ يمكن رؤيتها بوضوح، ولم تكن هناك أي قيودٍ على مشاركة الأحزاب السياسية في الانتخابات، و كان الطريق مفتوحًا أمام المعارضة، وكان الإعلام يسلط عدساته عليها، وكان هذا  الإعلام حرًّا إلى درجةٍ أنه كان مصدرًا لهذه المعارضة. وكان الناس في تركيا يملكون حرية تعبيرٍ لم يملكوها في تاريخهم، وكان الاقتصاد يسير عبر مؤشراتٍ ثابتةٍ جدًّا، وأهم مؤشرٍ على ذلك هو أن تركيا كانت إحدى أقل البلدان تضررًا بالأزمة الاقتصادية العالمية التي حدثت عام 2008. ومن المؤشرات المهمّة على استقرار الوضع الاقتصادي في تركيا أيضًا عدم وقوع أزمةٍ اقتصاديةٍ رغم تناقص حجم الصادرات مع اندلاع الأزمة السورية والأعباء المترتبة على استقبال 3 ملايين لاجئ، وعدم وجود تناقص في القدرة الشرائية لدى الناس... نعم على هذه الأرضية السياسية والمجتمعية تحركت الكتلة التي تعارض الانقلاب بشكلٍ سريعٍ وأحبطته.

 

[1] Edward Luttwak, Coup D’Etat: A Practical Handbook, New York, Alfred A. Knopf, 1969, p.12.

[2] Naunihal Singh, Seizing Power: The Strategic Logic of Military Coups, Baltimore, Johns Hopkins University Press, 2014, p. 2-3.

[3] Jonathan M. Powell, &Clayton L. Thyne,  Global instances of coupsfrom 1950 to 2010: A newdataset, Journal of Peace Research48(2), 2011, p. 255.

[4] Ömer Aslan, TheJuly 15th Failed Coup Attempt in Turkey: Causes, Consequences, andImplications in Comparative Perspective, Alsharq Forum, İstanbul, 2016. p. 9.

[5] https://tr.wikisource.org/wiki/Kenan_Evren%27in_radyo_ve_televizyon_konu%C5%9Fmas%C4%B1

[6]  يابراق غورصوي، تحول العلاقات العسكرية– المدنية في تركيا، إسطنبول، منشورات جامعة بلغي إسطنبول، 2012، ص8-9.

[7]  طانل دميرال، السياسة والعسكر في الألفينيات: الجيش التركي بين التغيير المنضبط والوضع الراهن، SETA Analiz، عدد18، شباط 2010، ص5.

[8] http://www.ntv.com.tr/turkiye/28-subatin-kudretli-komutanlari,MZfxYxBI0Uq-OriNnOyOAw

[9]صحيفة الجمهورية، 23 أيار 2003.

[10]برهان الدين دورار، "لقد تطرفتم في الوسائلية، و..." / “Aşırı Araçsallaştınız Ve…”، صحيفة صباح 08 03 2016.

[11]ويسل قورت، 5 أسئلة: محاولة انقلاب15 تموز، http://setav.org/tr/5-soru-15-temmuz-darbe-girisimi/yorum/40685.

[12] http://www.haberturk.com/gundem/haber/1272644-tsk-asker-elbiseli-teroristlerin-sayisi-ve-oranini-acikladi

[13]حسن بصري يالجين، خطة حركة الانقلاب ومكافحة إرهاب الطغمة،SETA Analiz, ، تموز 2016، العدد 160، ص9.

[14] http://cnnpressroom.blogs.cnn.com/2016/07/18/full-transcript-cnn-world-exclusive-interview-with-turkish-president-recep-tayyip-erdogan/

[15] Naunihal Singh,SeizingPower: The Strategic Logic of MilitaryCoups, Baltimore, Johns Hopkins UniversityPress, 2014, p.5.

[16] Edward Luttwak, “WhyTurkey’sCoupd’ÉtatFailed”, ForeignPolicy, http://foreignpolicy.com/2016/07/16/why-turkeys-coup-detat-failed-erdogan/ 16.07.2016.

[17] Veysel Kurt, “Main Tenets of FailedCoup”, Fahrettin Altun, Burhanettin Duran, TheTriumph of TurkishDemocracy: TheJuly 15 CoupAttemptAndItsAftermath, SETA Yayınları, 2016, p.19-20.

[18] “WhyTurkey’scoupfailed, accordingto an expert”, http://www.vox.com/2016/7/16/12205352/turkey-coup-failed-why 16.06.2016.

[19] Burhanettin Duran, “July 15 Marks TheBırth Of A Brand-New Period”, TheTriumph of TurkishDemocracy: TheJuly 15 CoupAttemptAndItsAftermath, SETA Yayınları, 2016, p.26.


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...