رؤية تركية
دورية محكّمة في
الشؤون التركية والدولية
ISSN 2458-8458
E-ISSN 2458-8466

| المقالات والدراسات < رؤية تركية

تحول الخطاب الجيوسياسي في السياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية

يحاول هذا البحث دراسة تحوّل الخطاب الجيوسياسي في السياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية، ويعالج فترات استخدام خطاب التغريب الصارم والخطاب الأمني والدفاعي، وكيف أسبغت فترة حزب العدالة والتنمية الطابع الديمقراطي على خطاب الدولة القومي. ومع بروز النفس الليبرالي برز أيضًا التحول نحو الاستقلال الذاتي، وبرزت قدرة تركيا في المنافسة الجيوسياسية على المستويين الإقليمي والدولي. وقد غيّر الخطاب الجيوسياسي التركي لحزب العدالة والتنمية الخطاب الجيوسياسي السائد في تركيا، وظهر هذا التحول بعد صراع مع الخطابات الجيوسياسية الأخرى.

تحول الخطاب الجيوسياسي في السياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية

من الشائع الحديث عن تحول جذري في الهوية والدوافع والارتباطات الدولية للسياسة الخارجية التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002. ونظرًا لهوية السياسة الخارجية، كان مشروع التغريب الصارم الذي هيمن عليه الخطاب الأمني وخطاب السياسة الخارجية الدفاعية والممارسة المبنية على خطاب الدولة القومية الإقصائي- سائدًا قبل عام 2002. عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، غيّر طبيعة هوية السياسة الخارجية التركية وأسبغ الطابع الديمقراطي على خطاب الدولة القومية من خلال إعادة صياغته في سياق مشروع تدويلي ليبرالي. فيما يتعلق بدوافع السياسة الخارجية، سعى حزب العدالة والتنمية إلى أن تحقق تركيا مكانتها بصفتها دولة تتمتع بالقرار الذاتي في السياسة الدولية. في البداية، عُدّ القرار الذاتي بمثابة طيف يعكس إيجابيات سياسات تركيا الخارجية والأمنية والدفاعية وسلبياتها. في وقت لاحق، تحول الاستقلال الذاتي إلى مبادرة للسياسة الخارجية تحاول بناء تركيا أكثر قدرة واستقلالًا في فترة المنافسة الجيوسياسية المتزايدة على المستويين الإقليمي والدولي.

وكانت دوافع تركيا تهدف بشكل أساسي إلى تعميق "الاستقلال" وتعزيزه في كل من السياسة الخارجية والأمنية؛ لتحقيق موقف مستقل من شأنه أن يغير مكانة تركيا بوصفها قوة في توزيع القوى الدولي، حيث كانت ارتباطات تركيا الخارجية متعددة الأبعاد مع القوى الصاعدة، وزيادة العلاقات الاقتصادية مع دول المنطقة، وتطبيع العلاقات السياسية مع الدول المجاورة قبل الثورات العربية- من بين الإستراتيجيات التي اتّبعتها لتحقيق هدفها في سياسة الاستقلال الذاتي. وأدّت هذه الإستراتيجية دورًا حيويًّا في تجزئة ممارسات السياسة الخارجية مع التحالف الغربي القديم. وهكذا، بينما عزّزت تركيا علاقاتها مع الغرب، كانت تهدف في الوقت نفسه إلى الحصول على حرية التصرف بشكل مستقل عن الغرب. فيما يتعلق بالمشاركة الدولية ونشاط السياسة الخارجية، سعت السياسة الخارجية التركية بقيادة أردوغان إلى تعميق ممارسات السياسة الخارجية وتوسيعها على المستويين الإقليمي والدولي، وهذا يسمح لتركيا بإعادة تصميم رؤيتها الجيوسياسية العالمية ومكانتها في السلطة.

إن رؤية "السياسة الخارجية الجديدة" في عهد حزب العدالة والتنمية، بالإضافة إلى إعادة تفسير تركيا للطابع المتغير للنظام الدولي- ستعيدان في النهاية تحديد مكانة تركيا الدولية بوصفها قوة رئيسة (على عكس وضع القوة المتوسطة الحجم) وتقّوي مكانتها في السياسة الإقليمية والدولية، التي هي نتاج "مقاربة الاستقلال الذاتي الإستراتيجي دوليًّا" الذي من شأنه أن يعزز الدور. في المجمل، كان تخطيط السياسة الخارجية وتنفيذها مصحوبينِ بالخطاب الجيوسياسي الذي أكمل وشكّل السياسة الخارجية من أعلى، ولكن أيضًا من الداخل.

إن الخطاب الجيوسياسي هو عملية بناء وعمل من أعمال التقييد الذي يحدد ما هو مناسب للتحدث وما هو غير مناسب، وليس شكلًا كلاميًّا بسيطًا. على هذا النحو، يمكن فهم الخطاب الجيوسياسي على أنه مجموعة من الإجراءات التي تشكل بنية السياسة الخارجية، لا مجرد تعبيرات عن الكلام.

إن الخطاب الجيوسياسي التركي لحزب العدالة والتنمية غيّر الخطاب الجيوسياسي السائد في تركيا، وظهر هذا التحول بعد صراع مع الخطابات الجيوسياسية الأخرى، وفي النهاية بنى هيكل الخطاب الجيوسياسي الخاص به.

ومع ذلك، بالنظر إلى السنوات العشرين الماضية من القوة، لم تظل البنية المذكورة ثابتة، ولكنها خضعت لتحول مستمر. وهنا، بدلًا من رؤية التحول عمليةً تحدث من تلقاء نفسه، من الضروري رؤيته عملية ديناميكية في تفاعل مستمر مع الخارج. عند النظر بهذه الطريقة، يمكن الحديث عن وجود 4 فترات مختلفة في الخطابات الجيوسياسية التي تهيمن على السياسة الخارجية التركية تحت قيادة حكومة حزب العدالة والتنمية وأردوغان.

الفترة الأولى (2002-2007): وتتضمن مبادرتين متزامنتين. بينما تحاول المبادرة الأولى إعادة بناء الرؤية التقليدية للسياسة الخارجية، التي يتم فيها إعطاء الأولوية للعلاقات مع الغرب وترتكز على عضوية الاتحاد الأوروبي، فإن الثانية هي الفترة التي جرى فيها بناء خطاب جيوسياسي جديد، في محاولة لتكييف تركيا من خلال إعادة وضعها في النظام الدولي.

والفترة الثانية (2007-2011): هي فترة توطيد الخطاب الجيوسياسي الجديد التي بدأت بتوطيد حزب العدالة والتنمية لسلطته في هيكل صنع القرار في السياسة الخارجية، وبدأ في تحويل السياسة الخارجية التركية على المستويين الإقليمي والدولي. والفترة المعنية هي أيضًا فترة توطيد للسياسة الخارجية تحاول إعادة وضع تركيا بوصفها قوة "عظيمة" و"مستقلة" في النظام الدولي من أجل تحقيق أهدافها الإستراتيجية.

أما المرحلة الثالثة (2011-2016) فهي الفترة التي هيمن عليها الخطاب الجيوسياسي الذي بدأ مع الثورات العربية، وانطلق على محور النضال الذي أثّر بشكل أساسي في رؤية السياسة الخارجية لتركيا ودوافعها.

في المرحلة الأولى من الثورات العربية كانت تركيا حريصة على قيادة التحول الإقليمي الجديد، حيث وضعت نفسها على أنها أحد أهم اللاعبين الذين يمكن أن يشكّلوا السياسة الإقليمية؛ وفي المرحلة التالية، كان عليها أن تتعامل مع صعوبات السياسة الخارجية الإستراتيجية والتكتيكية؛ بسبب نقص القدرة المالية لتحقيق أهدافها والطابع الداخلي للسياسة الإقليمية.

وهدفت تركيا إلى أن تكون جهة فاعلة تدير عملية التحول في بداية الثورات العربية. ومع ذلك، لم تنجح هذه الفترة حيث تحولت التطورات في مصر وسوريا إلى أزمة أعمق واضطرت إلى تبني سياسة من شأنها حماية أمنها القومي.

 في هذه الفترة، بُنيت اللغة الجيوسياسية المهيمنة على خطاب المقاومة والبقاء على المستوى الوطني والإقليمي.

بدأت الفترة اللاحقة (2016-2022) مباشرة بعد محاولة الانقلاب في تركيا، وتسببت في تجربة تركيا لواحدة من أكثر التحولات جذرية في السياسة الخارجية في ظل إدارة حزب العدالة والتنمية، وفي هذه الفترة كانت العمليات العسكرية التركية في سوريا قائمة، خاصة على الحدود السورية، لمنع التهديدات الأمنية من داعش وذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا، وحدات حماية الشعب، كما حاولت تركيا منع محاولة الانقلاب في قطر وليبيا بعد الاتفاق مع ليبيا. وأيضًا كان هناك دعم تركيا العسكري لأذربيجان خلال حرب كاراباخ بالإضافة إلى دور تركيا في حرب أوكرانيا وهذه كلها من بين السمات المميزة للسياسة الخارجية التي تحولت تحت قيادة أردوغان وتسببت في مراجعة جديدة في الخطاب الجيوسياسي.

إن الفترة الرابعة هي فترة أزمة في العلاقات التركية الأمريكية أيضًا؛ بسبب التقارب السريع بين تركيا وروسيا (بما في ذلك شراء تركيا نظام الدفاع الصاروخي الروسي إس-400) واتجاه أنقرة وواشنطن نحو اتجاهين مختلفين في سوريا. ونتيجة لذلك، اهتزت السياسة الخارجية التركية الجديدة في فترة ما بعد الثورات العربية بشكل أساسي بفعل الأزمة السورية ووضعت على محور أمنيّ التوجه.

 على الرغم من أن السياسة الخارجية والخطاب الجيوسياسي الجديد بهما انحرافات كبيرة عن الفترة التي سبقت الثورات العربية، إلا أنه يحتوي على استمرارية مع الفترة السابقة في أهداف السياسة الخارجية لتركيا. إذا أخذنا ذلك على هذا النحو، يمكن عدّ السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية بمثابة عملية بناء وإصلاح في الفترة الأولى، ونضال وتوطيد في الفترة الثانية، وكلاهما نضال واكتساب القرار الذاتي في الفترتين الثالثة والرابعة.

بينما يُظهر الخطاب الجيوسياسي أوجه تشابه في جميع الفترات الأربع، فإن التكامل الذي يشكّل مركز الخطاب قد تغير باستمرار.

تقدّم هذه الدراسة إطارًا لفهم التغيير والتحول في السياسة الخارجية التركية بين 2002-2022 في سياق الخطابات الجيوسياسية المتباينة على مدى عشرين عامًا. ومن أجل فهم التحول، يفحص الجزء الأول من البحث الرؤية التقليدية للسياسة الخارجية قبل حزب العدالة والتنمية ويحدّد الخطاب الجيوسياسي الكلاسيكي. وفي الجزء الثاني، يجري فحص الخطاب الجيوسياسي الذي وضع الأساس لممارسات السياسة الخارجية مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. في الجزء الثالث، يجري تحليل كيف تكشف الانقسامات في الخطاب الجيوسياسي القائم على البناء والإصلاح عن التغيير في الخطاب الجيوسياسي الذي سيجري ترسيخه لاحقًا. في الجزء الرابع من البحث يجري تقييم الخطاب الجيوسياسي والتحول في السياسة الخارجية، الذي شهد تغييرًا جذريًّا في حد ذاته.


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...