رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

العلاقات التركية الصينية الاقتصادية في مئوية آسيا

يتناول المقال الذي بين أيدينا العلاقات التركية الصينية في المجال الاقتصادي، حيث تعمل الصين التي تُعدّ ثاني أكبر اقتصاد في العالم على تحويل النموذج الذي حقّق لها نموًّا اقتصاديًّا لمواجهة تراجع الطلب والتدابير الحمائية المتزايدة في العالم إبّان الأزمة العالمية. وهذا يحتّم عليها أن تقيّم تركيا على أنها حليف بديل، ورغم أن العلاقات الاقتصادية التركية الصينية، ومبادرة "الحزام والطريق"، تتسببان في عدد من الشبهات، فإنهما يحملان فرصًا كبيرة ومهمّة. ومن ثَمّ، فإن العلاقات التجارية والاستثمارية التي ستبنيها الصين مع بلدان نامية مثل تركيا لإنجاح نهج العولمة من النوع الصيني ستكون حقل اختبار مهمّ من أجل نافذية نموذجها. وسيكون من الأهمية بمكان بالنسبة للصين إقامة تعاون ثنائي مع منظور أكثر شفافية وشمولية يقوم على الربحية المتبادلة. مما سيساعد تركيا في أن تؤدّي دورًا أكثر فاعليةً في منطقتها، وسيشكل مثالًا تستعين به بقية البلدان.

العلاقات التركية الصينية الاقتصادية في مئوية آسيا

عزلت الصين نفسها عن الاقتصاد العالمي حوالي 30 عامًا بعد تبنيها النظام الاشتراكي في أعقاب الغزوات والاضطراب الداخلية التي انتهت إبان الحرب العالمية الثانية. وجاءت حركات الإصلاح التي بدأت في عهد "دينغ شياوبينغ" في أواخر سبعينيات القرن الماضي لتشكّل انطلاقة لانفتاح الصين على الخارج، وتكلّلت هذه الإصلاحات بالنجاح بعد أن جرَت على مراحل، وتحوّلت الصين إلى قوة كبيرة لها تأثيرها في السياسة والاقتصاد العالميين. فالصين تشكّل اليوم كبرى اقتصادات العالم، بالنظر إلى فروق الأسعار بين البلدان، بعد أن كانت دولةً فقيرةً يعتمد اقتصادها المغلق على الإنتاج الزراعي، وتحوّّلت إلى مركز قوةٍ عالميةٍ بفضل عضويتها الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 1971، والإصلاحات الاقتصادية التي أجرتها اعتبارًا من عام 1980. ولا شك أنّ الصين تُعَدّ اليوم أحد أهم لاعبي الاقتصاد العالمي، وذلك بعد أن ارتفع ناتجها القومي من 150 مليار دولار في عام 1978 إلى 13,1 تريليون دولار في عام 2018، وارتفع بذلك دخل الفرد من 310 دولارات إلى 9.600 دولار، وبينما ازداد متوسط نصيب الفرد من الدخل عالميًّا بمعدل 400%، ازداد هذا المتوسط في الصين 8 أضعاف، وبينما كانت حصة الصين في الاقتصاد العالمي 1,8 في المئة عام 1978 اقتربت اليوم من 15 في المئة، وأصبحت الصين تملك تأثيرًا كبيرًا في الاقتصاد العالمي؛ بسبب النجاحات التي أحرزتها في التنمية الاقتصادية بناءً على إستراتيجية الانفتاح على الخارج، وحازت لقَب "تنين آسيا"، والفضل في ذلك يعود إلى هذه النجاحات التنموية الإعجازية التي حوّلتها إلى عملاق سياسي واقتصادي.

يقف وراء قصة النجاح الاقتصادي للصين عددٌ من العوامل المهمة نذكر منها: الهوية الإصلاحية للصين، وسوق العمالة الرخيصة، والتكاليف المنخفضة، ونموذج النمو الاقتصادي القائم على التصدير، والانسجام الاقتصادي مع الأسواق الإقليمية والعالمية، والأهمية التي تعيرها الحكومة للاقتصاد. فالصين التي أخرجت الهوية الإصلاحية من مركزية الدولة، وشددت على اتخاذ خطواتٍ من شأنها أن تعطي مزيدًا من الأهمية لاقتصاد السوق؛ ترسم بروفيلًا ناجحًا للانسجام مع النظام الاقتصادي العالمي المتغير، وذلك في ضوء القرارات التي اتُّخِذت في مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني عام 2013. إن تحليل العلاقات التركية الصينية الاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، خلال عملية التحوّل التي أعلن عنها رئيس الحكومة "شي جين بينغ" للرأي العام العالمي، يحمل أهميةً للإمكانات الاقتصادية التركية والحملات الاستثمارية الصينية في آن واحد، لكن إمكانات بلدانٍ مثل تركيا تحمل أهميةً أكبر عند النظر إلى أن حجم الاستثمارات الصينية في الخارج بلغت 1,94 تريليون دولار خلال الأعوام 2005-2018. في الأعوام نفسها، بلغ إجمالي الاستثمارات الصينية في تركيا قرابة 15 مليار دولار، وازداد البَلدانِ تقاربًا، ولاسيّما عبر مبادرة "الحزام والطريق" التي وفّرت فرصًا مهمّة في تمويل التنمية في تركيا. هذه الدراسة التي انطلقت من العلاقات التركية الصينية الاقتصادية تتناول الاقتصاد الصيني والمكانة التي يتبوَّؤها اليوم في الاقتصاد العالمي، والبنية المتحوّلة للعلاقات الاقتصادية التي تربط الصين بتركيا باعتبارها قوة إقليمية صاعدة.

  1. الاقتصاد الصيني: بنيته المتغيرة وموقعه في العالم:

بعد تأسيسها بقيادة "ماو تسي تونغ" تبنّت جمهورية الصين الشعبية النظام الاشتراكي، وفي سنواتها الأولى، رجّحت كفّة الأيديولوجية الاشتراكية في البنية الاقتصادية التي كانت تقوم على الزراعة، لكن النظام الاشتراكي المعتمد على الزراعة لم يوفر زيادة في إنتاجية الاقتصاد، ولم يحقق النجاح المأمول لإستراتيجيات التنمية التي جرى العمل على رسمها بحيث يبقى الاقتصاد الصيني في معزل عن العالم الخارجي. أما إستراتيجية الانفتاح على الخارج التي تبنتها الصين إثر الإصلاحات الاقتصادية التي نفذها "دينغ شياوبينغ" الزعيم الإصلاحي بعيد عام 1978، فقد عزّزت آلية الأسواق، فجرى تحرير نظام التنمية التي تعتمد على التصدير، ومن ثَمّ جرى تحرير التجارة تدريجيًّا. وهكذا فتحت الصين أسواقها على العالم الخارجي بطريقة خاضعة للرقابة باستثناء قطاع الأموال. وأدّى انفتاح اقتصاد الصين على العالم الخارجي تحت رقابة الدولة إلى ارتفاع معدّل النمو في السنوات اللاحقة، وتحويل الصين إلى لاعب رئيس ومؤثّر في الاقتصاد العالمي. ورؤوس الأموال الأجنبية التي تدفقت إلى الصين بمعدلات مرتفعة وفّرت تطبيق النظام التنموي القائم على التصدير والمدعوم بقيادة الدولة، وكانت للعمالة الرخيصة والتكاليف المنخفضة التي أوجدها النظام الاشتراكي في سنوات الدولة الأولى آثارٌ إيجابية في الصادرات في فترة ما بعد التحرير الاقتصادي، إذ ارتفعت الصادرات من 7,17 مليار دولار إلى أكثر من 2,2 تريليون دولار في السنوات الأربعين الماضية.

 


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...