رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

العلاقات التركية الروسية ومعضلة ثنائية التعاون والأزمات

العلاقات التركية الروسية ومعضلة ثنائية التعاون والأزمات

العلاقات التركية الروسية ومعضلة ثنائية التعاون والأزمات

 ملخص تتناول هذه الدراسة أبعاد تطوّر العلاقات التركية الروسية اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا من منظور تاريخي. وتحاول تقييم تأثيرات الحرب في سوريا في العلاقات الثنائية، وترى الدراسة أن روسيا كانت تشكّل مصدر خطر دائم بالنسبة لتركيا، ولا تزال كذلك، ولكن من جهة أخرى ترى أن استمرار العلاقات القوية مع دولة قوية مثل روسيا يشكّل أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا في هذه الجغرافيا التي يعمل فيها البلدان. ورغم أن المقال لم يتطرق إلى الموضوع بجميع أبعاده بسبب محدودية البحث؛ فإنه استعرض بعض المجالات التي تحمل الطبيعة التنافسية في العلاقات، وبعض المجالات التي تحمل التعاون والانسجام.
 

تقوم العلاقات التركية الروسية تاريخيًّا على أساس التنافس عمومًا، وقد أخذت هذه العلاقات التي سيطر عليها التنافس والحروب على مدى التاريخ- أبعادًا مختلفة مع انهيار الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية في بدايات القرن العشرين، وسرعان ما شكّلت الحربُ الباردة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، وتَموضعُ الدولتين في كتلتين متخاصمتين- الأرضية لعودة العلاقات التركية الروسية إلى بيئة تنافسية من جديد. وعادت العلاقات الثنائية للتشكل من جديد بأبعادها الإقليمية والدولية بشكل موازٍ للتطورات التي يشهدها العالم بعدما وضعت الحرب الباردة أوزارها.
في هذا السياق يمكن أن تُسمَّى سنوات التسعينيات من القرن الماضي بفترة البحث عن الأرضية للعلاقات التركية الروسية. ورغم أن العلاقات لم تتطور وفقًا للشكل المخطط له، فإن الطرفين أدركا أنه يمكن لهما أن يكونا على اتصال فيما بينهما، بعيدًا عن أجواء الحرب الباردة. وقد اتّسمت هذه الفترة بمحاولات إحداث نفوذ في القفقاس وآسيا الوسطى اللتين تشكّلان ساحة اهتمام البلدين في الأغلب. وكان سلوك تركيا تجاه المسألة الشيشانية، وسلوك روسيا تجاه مسألة حزب العمال الكردستاني PKK بشكل خاص يشكّلان الأسباب الرئيسة لاختلاف الطرفين في المسائل الواقعة مع المناطق التي سبق ذكرها في هذه الفترة، لكن مع دخول فلاديمير بوتين الساحة السياسية في نهايات التسعينيات من القرن الماضي، والخطوات المختلفة التي اتخذتها تركيا، اُبْعِدَت تأثير الأزمات الإثنية في العلاقات الثنائية إلى حدّ كبير.
من أجل رفع مستوى العلاقات بين الطرفين إلى أبعادٍ مختلفةٍ اغتُنِمَت فرصة التعاون البيني في المجالات المختلفة، من التجاري إلى الثقافي بنجاح، ولاسيّما في سنوات الألفية الثالثة. وعلى الرغم من بعض النكسات التي شهدتها العملية اكتسبت العلاقات صورة جميلة من التسارع بتأثير السلطة السياسية الحاكمة في كلا البلدين، فالاهتمام الذي أبدته حكومة حزب العدالة والتنمية التي تسلّمت السلطة في عام 2002 لتطوير العلاقات الثنائية، ولاسيّما في الخطابات التي تضمنها بيانه الانتخابي- أسفر عن نتائجه، وفي البيان الانتخابي لعام 2002 تبنى حزب العدالة والتنمية خطابًا مفاده: "ستقوم العلاقات مع روسيا الاتحادية والقفقاس وآسيا الوسطى على أساس التعاون بدل التنافس"[1]، وعرض الموقف نفسه في البيان الانتخابي لأعوام 2007 و2011 و2015، ومع مرور الزمن أخذت العلاقات مع روسيا والقفقاس تتبوَّأ موقعًا أوسع في البيانات الانتخابية، وقد انعكس هذا الموقف إلى طرح الجزء الخاص بروسيا والقفقاس تحت عنوان منفصل في البيان الانتخابي لعام 2011:
"أولت حكومة حزب العدالة والتنمية أهمية خاصة للعلاقات التركية الروسية؛ القائمة السياسية منها والتجارية. وقد شهدت علاقاتنا التجارية مع روسيا قفزة كبيرة بوصفها مظهرًا من مظاهر "تصفير المشكلات" في علاقاتنا، والتعاون الاقتصادي الكامل مع الجوار، إذ بينما تلبّي روسيا حاجات تركيا من الغاز الطبيعي بدأت الشركات التركية بتنفيذ مشروعات ضخمة في روسيا، ومع إلغاء تأشيرات الدخول المتبادل مع روسيا اكتسبت العلاقات السياسية والاقتصادية تسارعًا جديدًا. وهذه التطورات التي شهدتها العلاقات التركية الروسية تمنح الفرصة لنشوء أرضية جديدة للتعاون المشترك في مختلف المجالات الإقليمية، من القفقاس حتى آسيا الوسطى. ويشكّل إلغاء تأشيرات الدخول بالتدريج مع روسيا خطوةً مهمّة لتحقيق التسارع في العلاقات الثنائية. وسنستمر في تعزيز علاقات مع روسيا في هذا الإطار"[2].
في سياق هذه الصورة العامة المقدَّمَة، سنقوم في هذا القسم بدراسة أبعاد تطور العلاقات التركية الروسية اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا من منظور تاريخي.
 

العلاقات الاقتصادية:

للعلاقات الدولية أبعاد واسعة، ورغم صعوبة دراسة كلِّ بُعْد بمفرده مستقلًّا عن أقرانه، فالميل العام للعلاقات بين الدول يجب أن يؤخذ في الاعتبار من الناحية الاقتصادية والسياسية والأمنية. وفي هذا السياق نرى أن المجال الاقتصادي هو الأسرع تطورًا في العلاقات التركية الروسية، فبعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1990 كانت التجارة التي أُسِّست على العلاقات الثنائية مقدّمة لتطور العلاقات السياسية.

وعند النظر إلى بنية العلاقات الاقتصادية في هذه العلمية، نجد أنها العنصر البارز في التكامل. في بدايات أعوام التسعينيات من القرن الماضي، تمّت التجارة من خلال صادرات المنتجات الجاهزة من تركيا مقابل البضائع التي أُدخِلَت من روسيا، ولاسيما عبر تجّار الحقائب، وكانت روسيا هي الدولة الأولى التي بلغ الحجم التجاري معها مليار دولار في هذه الفترة. ورغم دفاع عنصر التكامل هذا عن وجوده عبر الزمن، بدأ ميزان العلاقات الاقتصادية يتطور ضد تركيا. ويُلاحَظ في هذا الصدد أن الموادّ الأولية للطاقة (البترول والغاز الطبيعي) بدأت تأخذ دورها. وشهدت تركيا عجزًا تجاريًّا متزايدًا، وبخاصة منذ بداية عام 2000، وبرز الخلل بمعدلاته المتزايدة مع توالي السنوات. وفي ظل ازدياد حاجة السوق الداخلية التركية إلى البترول والغاز الطبيعي، إضافة إلى زيادة أسعار البترول والغاز الطبيعي في الأسواق العالمية- استمرت تركيا في زيادة معدل وارداتها، ولا زال هذا الازدياد مستمرًّا حاليًّا.

وصلت حصة العلاقات التجارية والاقتصادية التي تشكّل أساس العلاقات مع روسيا الاتحادية وخصوصًا في فترة حزب العدالة والتنمية إلى 38 مليار دولار، وهو الحجم التجاري الأعلى لتركيا في التداول مع أي دولة أخرى، (الجدول1). وفي هذا المعنى، غدت روسيا أهم شريك تجاري لتركيا في تطور العلاقات بعد عام 2002. وتشكّل الطاقة أهمّ عنصر في العلاقات التركية الروسية. وإنّ الازدهار الذي شهدته تركيا خاصة خلال سنوات الألفية الثالثة، زاد من استهلاكها من البترول والغاز الطبيعي أيضًا، كما أن حرمان تركيا من مصادر هذه الطاقة جلب معه الارتباط بالخارج أيضًا، إذ إنّ معدل ارتباط تركيا بوارداتها من البترول هو 93.6 بالمئة، بينما معدل ارتباطها بالغاز الطبيعي 99.2 بالمئة. وتتبوَّأ روسيا بمعدلها البالغ 18% المرتبة الثانية في توزيع الدول التي تستورد تركيا البترول منها (الشكل1)، في حين أنها تتبوَّأ المرتبة الأولى بمعدلها البالغ 55% في توزيع الدول التي تستورد تركيا الغاز الطبيعي منها (الشكل2).

الجدول1: حجم التجارة التركية الروسية (مليار دولار)

الجدول1: حجم التجارة التركية الروسية (مليار دولار)

الحجم

الواردات

الصادرات

الأعوام

4,5

3,9

0,6

2000

4,3

3,4

0,9

2001

5,1

3,9

1,2

2002

6,9

5,5

1,4

2003

10,9

9

1,9

2004

15,3

12,9

2,4

2005

21

17,8

3,2

2006

28,2

23,5

4,7

2007

37,8

31,3

6,5

2008

22,7

19,5

3,2

2009

26,2

21,6

4,6

2010

29,8

23,9

5,9

2011

33,30

26,62

6,68

2012

32,02

25,06

6,96

2013

31,23

25,29

5,94

2014

23,99

20,40

3,59

2015

16,9

15,1

1,8

2016

المصدر: مؤسسة الإحصاء التركية

 


المصدر: مؤسسة الإحصاء التركية
 

 

الشكل1: مخطط توزيع واردات تركيا من البترول في عام 2015 وفقًا للدول المنتجة[3].

 

 

 

 

 

الشكل2: مخطط توزيع واردات تركيا من الغاز الطبيعي في عام 2015 وفقًا للدول المنتجة[4].

 

 

في فترة حزب العدالة والتنمية لم يتوقف تعاوننا مع الاتحاد الروسي، وهو أحد شركائنا الرئيسين في شراء المواد الخام للطاقة، في مجال الطاقة؛ عند حدود الاستيراد. ففي هذا السياق نقلت مشروعات مدّ الخطوط الجديدة والمفاعل النووي العلاقات إلى مستوى متقدّم. وإنّ محطة أق قويو النووية، ومشروع التدفق التركي بشكل خاص- من الأمثلة البارزة في هذا الباب. كما بلغت استثمارات الشركات التركية في روسيا الاتحادية حوالي 10 مليارات دولار. ومقابل ذلك تبلغ الاستثمارات الروسية التي تنشط في مجالات السياحة والخدمات وأعمال البترول والغاز الطبيعي والتخزين في تركيا حوالي 10 مليارات دولار. ولدى تقييمنا التراكمي، نجد أن المقاولين الأتراك الذين يستثمرون في قطاع الإنشاءات، نفّذوا حتى اليوم حوالي ألفي مشروع بكلفة إجمالية تقدر بأكثر من 60 مليار دولار[5].

إلى جانب العلاقات التجارية المذكورة، تشكل النشاطات السياحية التي توفّر المدخولات في المقام الأول لمصلحة تركيا- البعد الآخر للعلاقات القائمة بين الطرفين، فمن الملاحظ أن تسارع العلاقات التي تطوّرت بعد عام الألفين في فترة حزب العدالة والتنمية رافقه تزايد عدد السائحين القادمين من روسيا بمعدلات كبيرة (الجدول2).

الجدول2: عدد السائحين الروس القادمين إلى تركيا 2000 – 2016 (بالملايين)
2000
2001
2002
2003
2004
2005
2006
2007
2008
2009
2010
2011
2012
2013
2014
2015
2016
0.7
0.8
0.9
1.2
1.6
1.8
1.8
2.4
2.8
2.7
3.1
3.4
3.6
4.2
4.5
3.6
0,8
المصدر: مؤسسة الإحصاء التركية
وهكذا غدت تركيا البلد الأكثر زيارة من قبل المواطنين الروس من خلال التزايد الذي حصل بعد 2002. لكن السبب الرئيس في التراجع الذي أظهرته الأرقام في عام 2015 هو التراجع الاقتصادي الروسي نتيجة العقوبات المفروضة عليها من قبل العالم الغربي. كما يعود التراجع الكبير الذي أظهرته الأرقام في عام 2016 إلى إسقاط الطائرة الروسية من قبل الطائرات التركية، إذ قد وصلت الأمور بعد إسقاط الطائرات التركية طائرة حربية روسية في 24 تشرين الثاني عام 2015 إلى أعتاب أزمة كبيرة. وإنّ انتهاك الطائرة الحربية الروسية المجال الجوي التركي، وقيام الطائرات التركية بإسقاطها وفقًا لقواعد الاشتباك- هزّ العلاقات التركية الروسية التي تعيش عصرها الذهبي من الأعماق، وأحدث تأثيرات إقليمية وعالمية، لكن عناصر التوازن والاحتياط المتوفّرة في العلاقات التركية الروسية أدّت دورًا كبيرًا في تخطّي أزمة الطائرة بنجاح خلال تسعة أشهر[6]. وإنّ انتهاء الأزمة بهذه السرعة، والعمل على إعادة العلاقات وبنائها على أسس أقوى يمنح الأمل في أن يعود عدد السائحين الذي شهد تراجعًا إلى مستواه السابق في مدة قصيرة.

 

العلاقات السياسية: انتعاش العلاقات الثنائية:

لم يكن تطور البعد السياسي للعلاقات الثنائية بالسرعة التي كانت عليها العلاقات الاقتصادية، فالفراغ الأمني الذي نشأ في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي أزعج روسيا في موضوع الأنشطة التركية. والمخاوف الروسية التي شكلتها النشاطات العسكرية التركية في البحر الأسود، وأهميتها بالنسبة للجمهوريات التركية- توجهت إلى العلاقات التركية الروسية في سنوات التسعينيات من القرن الماضي. ورغم الفرضيات الموجودة سابقًا، فقد تمّ العمل لتطوير أوّل منتجات العلاقات السياسية في عام 1992، فمن خلال "معاهدة المبادئ الأساسية للعلاقات بين الجمهورية التركية والاتحاد الروسي" في تاريخ 25 أيار 1992 اعتبرت الجمهورية التركية والاتحاد الروسي بعضهما دولتينِ صديقتينِ، وأبدتا إرادةً لبناء العلاقات؛ وفقًا لقواعد حسن الجوار والصداقة والتعاون والثقة المتبادلة[7].

ورغم كثافة اجتماع القيادات، إذ زار رئيس الجمهورية التركية ورئيس الوزراء التركي موسكو أربع مرات حتى عام 1996[8] إبّان المعاهدة الثنائية المذكورة- رغم ذلك لم تصل العلاقات السياسية بين البلدين إلى المستوى المطلوب، بسبب إقبال روسيا على تحديد مناطق نفوذها وفقًا لسياسة "المحيط القريب"، وعدم رغبتها في منح تركيا فرصة إبداء الرأي في هذه المناطق، واستمرار تقديم تركيا الدعم الخارجي للشيشان في روسيا، وتقديم روسيا الدعم الخارجي لحزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا، والاتهامات المتبادلة بين الأطراف في هذه القضية، لكن تواصل العمل على تنظيم مؤتمرات القمة التركية التي كانت أولها في تشرين الأول 1992. لم يُحدِث انطلاق عهد بوتين في مطالع الألفية الثالثة تغييرًا مهمًّا جدًّا في سياسة روسيا الخارجية، ولكن عقلية بوتين في محاولة الحفاظ على مناطق نفوذه من خلال التأثير الاقتصادي أدت إلى إعادة تشكيل العلاقات الخارجية الروسية، واكتسبت سياسة بوتين معنى ومغزى نتيجة فقر البنى التحتية الاقتصادية للبلدان التي تغطيها سياسة "المحيط القريب" الروسية. ومن أهم الأمثلة في هذا السياق، إنشاء الجماعة الاقتصادية الأوراسيوية عام 2000، التي تضم روسيا وبيلاروس وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان. إضافة إلى ذلك، وفّرت سياسة بوتين في إقامة علاقات مع جميع الدول بشرط ألا تضرّ بمصالح الدولة إحرازَ تقدّمٍ في العلاقات التركية الروسية. ووجدت تركيا وروسيا فرصة التحرك المشترك على اعتبارهما جزءًا من الكتلة المعادية للإرهاب التي شكّلتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول التي أحدثت تحولًا جذريًّا في النظام الدولي. في ضوء هذه الخلفية وضعت الزيارة الأولى لرئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان إلى روسيا في كانون الأول 2002 اللبنة الأولى لتأسيس العلاقات التركية الروسية في عهود الحزب الأولى. وبدأت تتوسع حدود العلاقات بين الدولتين بفعل هذه الزيارة والظروف التي تشكّلت بعد عام 2000.

في هذا السياق، أعطت التطورات الإيجابية ثمارها، فأصبحت الفترة 2004-2005 الفترة التي ارتفعت فيها كثافة العلاقات التركية الروسية. ومما يلخّص عملية التحول التي شهدتها العلاقات الثنائية، الزيارة التي قام بها أوّلًا نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية عبد الله غول إلى موسكو في 23-26 شباط عام 2004، ثم زيارة رئيس الاتحاد الروسي الأولى إلى أنقرة في تاريخ 5-6 كانون الأول عام 2004 بعد انقطاع دام 32 عامًا[9]. كانت زيارة بوتين هذه مهمّة جدًّا من حيث التصوّر الذي خلقته، وكانت حافلة بالأحداث التي تصبّ في تشكيل العلاقات الثنائية المستقبلية، حيث وُقِّع خلالها على ستّ اتفاقيات مختلفة[10]، وصدر "البيان المشترك حول تعزيز الصداقة والشراكة المتعددة الأبعاد بين الاتحاد الروسي والجمهورية التركية"[11].

بعد فترة قصيرة من هذه الزيارة، أي في شهر كانون الثاني 2005، قام رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان بزيارة رسمية إلى روسيا مع وفد مكوّن من 600 رجل أعمال، واتُّخِذت في هذه الزيارة أولى الخطوات الملموسة لبناء مستقبل العلاقات التجارية الثنائية، واتّفق الطرفان على رفع حجم التجارة بين البلدين إلى 25 مليار دولار بحلول عام 2017. أما المكسب السياسي الأكبر من هذه الزيارة فهو التصريح الذي أعلن فيه بوتين أن روسيا تدعم تركيا فيما يتعلق بقضية قبرص، بقوله: "إن العزلة المفروضة على قبرص الشمالية ليست عادلة"[12]. واستمرت اللقاءات الثنائية في العام نفسه، إذ قام رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بزيارة إلى موسكو في 10-12 كانون الثاني 2005 لافتتاح السوق التجاري المركزي التركي، ثم في 8-9 أيار 2005 للمشاركة في احتفالات الذكرى السنوية الستين للانتصار في الحرب العالمية الثانية، أعقبها بزيارة عمل إلى سوتشي في 17-18 تموز 2005 اجتمع خلالها بالرئيس الروسي بوتين. وفي 17 تشرين الثاني 2005 حضر بوتين مراسيم افتتاح خط أنبوب سيلان الغاز الطبيعي الأزرق في سامسون[13].

وسرعان ما أثمرت نتائج الفهم الذي يملكه بوتين الذي أخذ زمام الأمور في البلاد في مطلع الألفين، والسياسية الخارجية المتعددة الأبعاد التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى سدّة الحكم في تركيا عام 2002، فكان عاما 2004 و2005 عامينِ مثمرينِ للغاية بالنسبة للطرفين. ونتيجة لاستقرار أرضية العلاقات السياسية الحالية واستمرارها لاحقًا أُعلِن عام 2007 عامَ الثقافة الروسية في تركيا، وعام 2008 عام الثقافة التركية في روسيا. وفي إطار تطبيق عام الثقافة الذي يُعَدّ مرحلة مهمّة لإزالة الصورة التنافسية المستمرة بين الشعبين منذ القدم، أقيمت أنشطة تحقّق التعارف بين الشعبين، منها الحفلات الموسيقية لفرق الأوركسترا السمفونية، وعروض الرقص الحديثة، ومعارض الصور الفوتوغرافية، وفعاليات تذوق الطعام، والزيارات التي تمت في 2009 على مستوى رؤساء الجمهورية ورؤساء الدولة، أعقبها تشكيل مجلس التعاون رفيع المستوى في عام 2010. كما يُعَدّ قرار إلغاء التأشيرات المتبادل بين البلدين في العام نفسه مهمًّا من حيث إظهار مدى تطور العلاقات السياسية خلال فترة حزب العدالة والتنمية.

 

تأثير الحرب الداخلية السورية في العلاقات الثنائية

بدأت الحرب السورية في فترة ازدهار العلاقات الثنائية، ورغم أنها اكتسبت صورة تهديد العلاقات السياسية، إلا أنّ العملية أظهرت عدم وجود أساس لهذا القلق، فالوضع الذي نشأ في سوريا كان تجلّيًا للسياسة الروسية في رغبتها في حماية قاعدتها العسكرية الموجودة في طرطوس منذ الحرب الباردة، ومن ثَمّ الحفاظ على وجودها في سوريا، والتمكن من العودة إلى الجغرافيا التي كانت تسيطر عليها أيام الاتحاد السوفيتي، فيما أقبلت تركيا على مبادرات ومحاولات تفاديًا لوقوع مزيد من الضحايا من السكان المدنيين نتيجة الحرب الداخلية، متبنية سياسة منسجمة على العموم مع حلف الناتو، وعملت على تطوير سياسات تَحُول دون ظهور تنظيمات تهدّد أمنها على الجانب الآخر من حدودها المتاخمة لسوريا.

ظهر التأثير الأكبر للحرب السورية في العلاقات الثنائية خلال أزمة إسقاط الطائرات التركية طائرة روسية المذكورة آنفًا، إذ تزعزعت عميقًا العلاقات الاقتصادية والتجارية التي لم تتضرر رغم تضارب المصالح في القضايا السياسية، وأدت إلى الدخول في فترة كانت لها تداعيات سلبية على الطرفين، ولاسيّما على المدى القصير.

وتجلّى أوّل تداعيات هذا الوضع على العلاقات بإلغاء زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى تركيا المقررة في 25 كانون الأول 2015 للمشاركة في اجتماع مجموعة التخطيط الإستراتيجي المشترك الذي يشكّل الجهاز الثانوي في مجلس التعاون التركي الروسي الرفيع المستوى. وفي أعقاب ذلك، أصدرت روسيا بيانًا تؤكد فيه أن هذا الحدث سيكون له عواقب خطيرة للغاية، وخلال الساعات الـ24 الأولى عقب إسقاط الطائرة الروسية، دعا وزير الخارجية الروسية لافروف المواطنين الروس إلى عدم السفر إلى تركيا، وأرسل الأسطول البحري الروسي في البحر المتوسط، السفينة الحربية الحاملة لصواريخ s-300 للدفاع الجوي إلى جهة الشمال الغربي لسوريا، حيث مكان سقوط الطائرة الحربية، وصرحت روسيا بأنها مستمرة في عملياتها العسكرية المكثّفة في الحدود التركية، وقدّم النواب الروس مشروعًا حول تجريم كل من ينكر وقوع "إبادة الأرمن" في عام 1915، وأعلنت مؤسسة روسّلخوزنادزور (Rosselkhoznadzor) العامة المنظّمة للسوق الروسية أن روسيا ستتوقف عن استيراد اللحوم البيضاء من تركيا اعتبارًا من 1 كانون الأول 2015[14].

ارتفع التوتر وعادت معه علاقات التعاون والشراكة الإستراتيجية التي بدأت في الألفينيات إلى دوّامة عدم الثقة النابعة من غياب الحوار النابع بدوره من غياب الثقة المتبادلة السائدة في أعوام التسعينيات من القرن الماضي[15]. والعلاقات التي تكثّفت بناء على رفض مجلس الشعب التركي الكبير مذكّرة العراق عام 2003، إثر تطابق المصالح الذي نادرًا ما تحقّقَ بين الدولتين المتنافستين طوال التاريخ- عادت مرة أخرى إلى نقطة البداية؛ بسبب اندلاع أزمة سياسية جديدة، لكن زيارة بوتين إلى تركيا عام 2004 شكلت في الواقع علامة تاريخية، فكانت بمثابة إزالة للعقبات القائمة أمام العلاقات الاقتصادية، أكثر من كونها بناءً لشراكةٍ استراتيجية تُعَدّ ضمن التوقعات العامة، واستطاع الطرفان إزالة تلك العقبات بنجاحٍ، وباشرا في تحديد الأهداف نحو رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 100 مليار دولار[16]. وتبيّن من حادثة إسقاط الطائرة الروسية وفي 24 تشرين الثاني 2015 أن حالة عدم تضارب مصالح البلدين لن تدوم طويلًا.

جاءت الخطوة الأولى نحو تطبيع العلاقات الثنائية بعد أزمة الطائرة عبر رسالة التهنئة التي أرسلهما رئيس الجمهورية أردوغان ورئيس الوزراء يلدرم إلى نظيريهما بمناسبة العيد الوطني لروسيا في 12 حزيران 2016. تضمّنت رسالة التهنئة التي بعث بها رئيس الجمهورية أردوغان إلى رئيس دولة الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين العبارة الآتية [17]:

"بمناسبة اليوم الوطني للاتحاد الروسي أقدّم التهنئة باسم شعبي لسيادتكم نيابة عن الشعب الروسي، وأرجو أن تتطوّر العلاقات الروسية التركية في الفترة المقبلة وتبلغ المستوى التي تستحقها".

بينما أعرب يلدرم في رسالته عن أمله في أن يصل التعاون والعلاقات بين البلدين إلى المستوى المطلوب، لما فيه مصلحة الشعبين المشتركة، وتمنياته للشعب الروسي بالازدهار. وبهذا خطا المسؤولون الأتراك خطوات مهمّة من أجل تليين العلاقات، ولم تبق هذه الخطوات من دون مقابل، فقد عقد المتحدّث باسم بوتين في الكرملين ديمتري بسكوف مؤتمرًا صحفيًّا حول تطور العلاقات جاء فيه:

"نرغب ونأمل في تطبيع علاقات مع أنقرة، وفي تحوّلها إلى تعاون متبادل سليم ومفيد، لكنّ رئيس الدولة فلاديمير بوتين قال صراحةً: إن العلاقات لن تعود إلى طبيعتها ما لم تتخذ أنقرة الخطوات المطلوبة"[18].

رغم أنها لم تكن مبادرة واعدة، إلا أن رسالة بسكوف تفيد بالمعنى الدبلوماسي أن قنوات الاتصال مفتوحة. عقب ذلك دعا رئيس الجمهورية أردوغان السفير الروسي أندريه كارلوف إلى المشاركة في مأدبة الإفطار[19]. وفي أعقاب التقارب المذكور أرسل رئيس الجمهورية أردوغان برسالة إلى الرئيس الروسي بوتين، أدت هذه الرسالة من جهةٍ إلى تحقيق مزيد من التقارب في العلاقات الثنائية، وأثارت من جهةٍ أخرى جدلًا جديدًا. وفقًا للبيان الصادر من تركيا، أعرب رئيس الجمهورية أردوغان في الرسالة عن أسفه الشديد لإسقاط الطائرة العسكرية الروسية، واستخدم عبارة: "أُعبِّر مرة أخرى عن مشاركتي أحزان عائلة الطيار الروسي الذي فقد حياته، وأقدّم لها التعازي والاعتذار"[20]. في المقابل أصدرت روسيا بيانًا أكّدت فيه تقديم أردوغان للاعتذار، وأوردت اعتذاره على النحو الآتي:

"أُعرِب مرة أخرى عن أسفي وتعازيَّ العميقة لعائلة الطيار المتوفَّى، وأقدّم اعتذاري، وأشاركها مصابها من أعماق قلبي. واعتبر عائلة الطيار عائلة تركية، ونحن على استعداد لاتخاذ جميع المبادرات اللازمة للتخفيف من الآلام والأضرار"[21].

إن الوصول بالعلاقات التركية الروسية بعد أزمة الطائرة إلى هذه المرحلة يحمل أهمية بالنسبة لمستقبل العلاقات والمنطقة، سواء تمّ الاعتذار أم لم يتمّ.

العلاقات الثنائية بعد محاولة 15 تموز 2016 الانقلابية

شكّلت المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا بعد شهر بالضبط من هذه التصريحات المتبادلة مرحلةً مهمّة أخرى في عملية تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا، بينما ازداد التوتر القائم في العلاقات التركية الأمريكية مع إخفاق المحاولة الانقلابية التي أدارها تنظيم فتح الله غولن الإرهابي (فتو)؛ لعدم الوصول إلى نتيجة في الطلب المقدَّم إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة فتح الله غولن المستقِرّ فيها منذ زمن طويل على خلفية وقوفه وراء المحاولة الانقلابية، وبسبب البيان الذي أعلنه فيما بعد سليمان صويلو وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في تلك الفترة بأن "الولايات المتحدة الأمريكية تقف وراء الانقلاب"[22].

فالسياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة قبل المحاولة الانقلابية، مثل عدم اتخاذ الخطوات المطلوبة في الحرب السورية، وزيادة الدعم المقدّم إلى حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)- باتت تشكّل عراقيل أمام تقدّم العلاقات القائمة بين البلدين ووصولها إلى المستوى المنشود، فضلًا عن أن العلاقات القائمة بين أمريكا وتنظيم فتو تُعَدُّ من بين العوامل التي كشفت عن وجود اضطرابات مفتوحة في العلاقات التركية الأمريكية. كما أن تخاذل الاتحاد الأروبي وإعراضه عن إبداء ردود الأفعال المُتَوَقَّعَة منه حيال المحاولة الانقلابية الفاشلة، لا بل إقدامه على زيادة جرعة الانتقادات لتركيا- كان سببًا في هيمنة التوتّر على العلاقات التركية الأروبية. ويمكننا القول: إن التوتّر الذي حصل في علاقات تركيا مع الغرب هيّأ الأوساط المناسبة للتدخل الروسي المباشر في العملية، إضافة إلى أن تطبيع العلاقات التركية الروسية التي بدأ بالظهور في النصف الثاني من عام 2016 أدّى إلى تسريع العملية، وأسهم هذا الوضع في تسهيل قنوات الحوار بين البلدين إلى درجة أن الزيارة الأولى لرئيس الجمهورية أردوغان إلى خارج البلاد بعد 15 تموز كانت إلى روسيا في 9 آب 2016، حيث اجتمع خلالها بالرئيس الروسي بوتين في قصر قسطنطين. وبعد الاجتماع صرح بوتين بالبيان الآتي:

"إن قدومكم اليوم إلى هنا رغم الوضع الصعب الذي تشهده تركيا في سياستها الداخلية مؤشّر على رغبتنا جميعًا في تطبيع العلاقات الثنائية، وسيعود ذلك بالفائدة لشعبَي البلدين".

بينما البيان الذي صرّح به أردوغان أشار إلى أن العلاقات التركية الروسية ماضية في التطبيع، وأنه يسعى إلى إزالة آثار الأزمة التي وقعت قبل تسعة أشهر سريعًا:

"دخلت العلاقات التركية الروسية مرحلةً إيجابية متميزة للغاية؛ مرحلةً حدّدنا فيها أهدافنا المستقبلية الكبيرة. إنّي على ثقة بأننا مقبلون على مرحلة مختلفة جدًّا من خلال الخطوات التي اتّخذناها الآن، والتي سنتخذها مستقبلًا. وإنّ اتصالكم بنا من موقع الرئاسة في اليوم التالي من المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016، أدخل السرور إلينا حكومة وشعبًا". [23]

ورغم أنّ البلدين لم تتوافق سياستهما في المسألة السورية حتى هذا التاريخ، غير أن التقارب الذي حصل، ضمنت سكوت الروس عن عملية درع الفرات العسكرية التي بدأت في تاريخ 24 آب 2016، ومنحت الفرصة لإتمام عملية تطهير الشمال السوري من داعش وحزب العمال الكردستاني بنجاح. وقبل انقضاء شهرين على لقاء بوتين- أردوغان الذي تمّ في 9 آب 2016، شارك الرئيسان في قمة مجموعة العشرين G-20 المنعقدة في الصين في 3 أيلول 2016، وعقدا اجتماعًا لمدة ساعتين لبحث سلسلة من الموضوعات، وبعد الاجتماع أصدر بوتين بيانًا حول الاجتماع أكّد فيه أن العلاقات الثنائية تتقدّم باطراد يومًا بعد يوم، وهذا نصّ البيان:

"إنّنا مسرورون على عودة الحياة السياسية الداخلية في تركيا إلى طبيعتها. نحن نرى أن تركيا مرّت بفترة عصيبة. إنّ تركيا تكافح ضد الإرهاب، وهي تواجه مخاطر جمّة، إنّنا ندرك ذلك. وقد أعلنّا مواقفنا بشأن مكافحة الإرهاب بالفعل سابقًا، هناك إنجازات مهمّة في تطبيع الوضع مع تركيا، لكن بمجرد أن يتمّ تحقيق التطبيع بالكامل، سنكون قادرين على التقدّم بسرعة أكبر.[24]

وكان اللقاء الذي حدث في أثناء وجود بوتين في إسطنبول في 10 تشرين الأول 2016 للمشاركة في المؤتمر الدولي للطاقة الثالث والعشرين من اللقاءات المكثفة في الربع الأخير من عام 2016، إذ تحدث رئيس الجمهورية حول تطبيع العلاقات الثنائية عقب اللقاء، فقال:

"إنّي على ثقة تامّة بأنّ عملية تطبيع العلاقات التركية الروسية ستستمرّ على الوتيرة نفسها. المفاوضات القائمة في المنطقة موضوع حسّاس للغاية، تمكنّا من تناول القضية السورية باستفاضة، تمكنّا من تقييم ما نستطيع التعاون فيه في هذا الموضوع، كما قمنا بتقييم موضوع التدفّق التركي[25] أيضًا. ومن خلال التوقيع الذي قمنا به منذ قليل وضعنا النقاط على الحروف".[26]

وبينما كانت الاتصالات الهاتفية المكثّفة بين رئيس الجمهورية أردوغان ورئيس الدولة الروسية بويتن تؤسّس لأرضية عودة الاتصالات بين الطرفين في نهاية الجهود المبذولة من أجل تطبيع العلاقات بعد أزمة الطائرة وتسهم في عملية التطبيع القائمة- جاءت عملية اغتيال السفير غير المتوقعة في 19 كانون الأول 2016 لتطرح في الأذهان على الساحة العامة والدولية سؤالًا: "هل ستكون أزمة جديدة لها نفس تأثير أزمة الطائرة نهاية 2015 التي أدّت إلى تجميد العلاقات؟". إذ تعرض السفير الروسي في تركيا أندريه كارلوف إلى عملية اغتيال بينما كان يلقي كلمة في جانقايا بأنقرة في افتتاح معرض للصور تحت عنوان "روسيا من كالينينغراد إلى كامتشاتكا بعيون رحالة". وبعد الاغتيال منع النهج المعتدل للطرفين من تكرار ما حدث في نهاية عام 2015، وتمّ عقد الاجتماعي الثلاثي لوزراء الخارجية التركي والروسي والإيراني وفقًا لما هو مقرّر في تاريخ 20 كانون الأول 2016.

وقد أشار رئيس الدولة الروسية بوتين إلى أن عملية الاغتيال كانت عملية استفزازية، فقال:
"إن اغتيال كارلوف حدثٌ يستهدف إفساد العلاقة الروسية التركية... ينبغي الحديث بوضوح، إنّي أنظر بريبة إلى أنّ عملية إسقاط طائرتنا تمّت بدون أمر من القيادة التركية، إنّها تمّت من قبل أشخاص يريدون الإضرار بالعلاقة الروسية التركية. لكنّي بدأت في تغيير رؤيتي بعد قيام شرطي بالهجوم على سفيرنا... فكلّ شيئ ممكنٌ بالنسبة لي. من الممكن أن تكون العناصر الهدّامة ذات نفوذ عميق في أجهزة الدولة التركية، بما فيها تشكيلات الشرطة، والمخابرات، والجيش. لكن لا أجد لنفسي الحقّ في إلقاء التهمة على أحد، إن اغتيال كارلوف لن يضرّ بالعلاقات الروسية التركية".[27]
العلاقات الأمنية:

اتّخذت تركيا وروسيا خلال الحرب الباردة موقعهما في معسكرين متنافسين، وحدث في هذه الفترة أن طلبت روسيا أرضًا من تركيا. وقد كانت تركيا بحاجة دائمة إلى دعم الناتو لتحقيق التوازن مع روسيا في هذا النظام ذي القطبين، لكنّ تفكك الاتحاد السوفيتي خفّف الضغط الروسي بنسبة كبيرة. فبعد النظام الثنائي القطب، تطور العالم إلى نظام هرمي أو أحاديّ القطب تحت قيادة الولايات المتحدة، ثم اتّخذ بنية متعددة الأقطاب، ولهذا السبب تراجعت المخاوف الأمنية التركية نحو روسيا بشكل ملحوظ. وعلى الرغم من هذا التراجع النسبي بدأت بعض الصعوبات في العلاقات التركية الروسية في الظهور للعيان في أواسط التسعينيات من القرن الماضي. وفي هذا السياق، جاءت عقيدة "البيئة القريبة" المهيمنة على السياسة الخارجية لروسيا منذ بداية عام 1993، وتعارض المصالح بين تركيا وروسيا سواء بالنسبة لتركيا أم روسيا- في مقدمة هذه الصعوبات، ولكي تتمكّن روسيا من وضع عقيدة البيئة القريبة موضع التنفيذ، استخدمت الصراعات العرقية في القفقاس وفي جنوب آسيا، وقامت بالتدخّل في هذه الصراعات، بل وشجّعت حدوث صراعات جديدة[28]. ورغم هذه التطورات، وبالتوازي مع تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية، اكتسب المجال الأمني أيضًا تطورًا في نهايات القرن الماضي.

يشكّل البحر الأسود نقطة التقاطع الحسّاسة بين البلدين. وإنّ الاهتمام الذي تبديه الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة يثير المشكلات في تشكيل التوازن الأمني، وقد ظهرت إحدى هذه المشكلات بسبب الرغبة الأمريكية في تكوين نفوذ لها في البحر الأسود، وقد دفع هذا التطور كلًّا من تركيا وروسيا إلى التعاون من أجل الدفاع عن معاهدة مونترو[29]. ومرّ البعد الأمني للعلاقات التركية المتطورة على هذا الأساس من خلال العديد من العمليات المهمّة في فترة حزب العدالة والتنمية. وكان رفض البرلمان التركي المذكّرة المقدّمة في 1 آذار 2003 بشأن السماح للولايات المتحدة الأمريكية باستخدام الأراضي التركية (الأجواء والموانئ) قُبَيل احتلالها العراق من أولى هذه العمليات. وقد نقل هذا الرفض تركيا إلى نقطة مميزة بالنسبة لروسيا، وحوّلها إلى بلد لديه القدرة على الانسلاخ من دوره التقليدي في التحالف الغربي، واتّخاذ قرار مستقلّ، ويمكن أن يكون حليفًا موثوقًا به في هذا السياق.

والأمر الآخر هو الحرب الروسية الجورجية عام 2008، إذ كانت تركيا حريصة خلال هذه الحرب على الوقوف على الحياد، إلى جانب العمل لمساعدة الشعب الجورجي لكي لا تحدث أزمة إنسانية. ورغم أن تركيا ضمن الكتلة الغربية، لكنها اكتسبت احترام روسيا الكبير في المنطقة؛ نظرًا لالتزامها بتنفيذ معاهدة مونترو بالكامل، ووقوفها على الحياد، ولاسيّما وقت الحرب[30]. ففي هذا السياق، رفضت تركيا الطلب الأمريكي بمرور سفينتَي المشفى الحربيتين المحمّلتين "بالمساعدات" التي يصل وزنها إلى 140.000 طنّ إلى جورجيا؛ نظرًا لتعارض الأمر مع معاهدة مونترو؛ ومنعت مرورهما، وبدلًا من هذا سمحت بمرور ثلاث سفن أمريكية أصغر منهما حجمًا. وانطلاقًا من الوعي بأهمية الحفاظ على السلامة الإقليمية للبلدان القفقاسية قدّمت تركيا في فترة حزب العدالة والتنمية اقتراحًا بمبادرة منصّة الاستقرار والتعاون في القفقاس[31]، من أجل إيجاد حل للمشكلات الإقليمية بالطرق السلمية وتطوير التعاون الإقليمي، وبذلت جهودها من أجل تحقيق ذلك. ورغم وجود بعض الموضوعات الهشّة بين الأطراف في هذه المبادرة التي تلقّت الدعم من روسيا -ولاسيّما الصدامات المجمّدة في البلقان وجنوب القفقاس- فإنها مؤشر على أن العلاقات التركية الروسية الأمنية بدأت تترسخ على قواعد صلبة.

وتشكّلُ مسألة قبرص أحد الموضوعات المطروحة في مجال العلاقات التركية الروسية الأمنية، إذ اختارت روسيا العلاقات الجيدة مع اليونان وجنوب قبرص اليونانية (GKRK)، خصوصًا من حيث الظروف. فإلى جانب علاقاتها التجارية والسياسية المتقدّمة جدًّا مع اليونان، ترى روسيا في قبرص الجنوبية GKRK منطقة (أوف شورت) لها، وهي تكتسب أهمية بوصفها قاعدة إستراتيجية لها؛ بسبب وجودها في البحر الأبيض المتوسط. رغم أن هذا النهج قد خضع لتغييرات طفيفة خلال فترة حزب العدالة والتنمية، إلا أنّ النظرة العامة لم تتغير كثيرًا. ويأتي اعتراض روسيا على العرض المقدّم إلى الأمم المتحدة بشأن رفع العزلة المفروضة عن جمهورية قبرص الشمالية التركية (KKTC) بعد النتيجة السلبية للاستفتاء الذي جرى في نيسان 2004 وفق خطّة عنان- مظهرًا لاستمرار الوضع القديم.

الخاتمة:

كانت روسيا بما تمتلكها تشكّل مصدر خطر دائم بالنسبة لتركيا، ولا تزال كذلك. وإنّ استمرار العلاقات القوية مع دولة قوية مثل روسيا، يشكّل أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا في هذه الجغرافيا التي هي فيها. ورغم أن البحث لم يتطرق إلى الموضوع بجميع أبعاده بسبب محدوديته؛ فإنه استعرض بعض المجالات التي تحمل الطبيعة التنافسية في العلاقات، وبعض المجالات التي تحمل التعاون والانسجام.

وفي هذا السياق، تستمرّ العلاقات التركية الروسية بدون انحراف يُذكَر عن مفهوم السياسة الخارجية الأساسي لتركيا. وقد لُوحِظ بين الحين والآخر تبنّي هذا الفهم للسياسة الخارجية في فترة حزب العدالة والتنمية أيضًا، إذ تبنّت تركيا في الغالب عدم استعمال العنف في حلول مشكلات السياسة الخارجية، وعملت على تطوير علاقاتها على أساس "المصالح" التي تشكّل الحافز الأساسي للعلاقات بين الدول، إلى جانب عدم الوقوف صامتًا أمام التطورات الإقليمية والدولية من خلال مفهوم الدولة المسؤولة.

برزت السياسة التركية تجاه روسيا في حقبة تسعينيات القرن الماضي إلى الواجهة على أنّها فترة هيمنت عليها التنافسية؛ التي كانت امتدادًا لتأثير الحرب الباردة، وسيطر الخطاب القومي في الغالب على العلاقات الثنائية، لكنْ حلَّ محلَّها في سنوات الألفين التعاونُ المتوازن الحذر القائم على الثقة المتبادلة تحت تأثير مفهوم السياسة الخارجية الاستباقية التي طرحته حكومات حزب العدالة والتنمية. وشهدت العلاقات الثنائية أشدّ حالاتها قربًا منذ الإمبراطورية العثمانية حتى اليوم في هذه الفترة التي سُمِّيت بالعصر الذهبي. وبينما كان من المتوقّع أن تُطَوَّر هذه العلاقات الاقتصادية المكثفة بشكل أكبر حتى يمكن استخدامها لتوفير السلام والاستقرار بالمعنى الإقليمي- جرت الحرب الروسية الجورجية في عام 2008 والحرب في سوريا، اللتين اختبرتا العلاقات المتبادلة، لكنهما لم تقصما ظهرها.

وبينما كانت الحرب الداخلية السورية من جهة تختبر العلاقات التركية الروسية منذ عام  2011، فإنّها كانت من جهة أخرى سببًا في تشكيل إجماع دوليّ على سلامة هذه العلاقات، إلّا أنّ انتهاك الطائرة الروسية للمجال الجوي التركي في الربع الأخير من سنة 2015، وإسقاطها لهذا السبب من قبل الطائرات التركية وفقًا لقواعد الاشتباك- أدّى إلى اهتزاز العلاقات التركية الروسية التي كانت تعيش عصرها الذهبي في الصميم، وأدّت إلى حدوث تأثيرات إقليمية وعالمية. وأعقبت ذلك عملية الاغتيال الأليم للسفير الروسي في تركيا فأبرزت الشكوك حول سير العلاقات إلى الواجهة مرة أخرى، لكن من الواضح أن الأزمات قد حُلَّت بنجاح، واستمرّ تطوير العلاقات رغم كل هذه الوقائع.

 

الهوامش والمصادر:

 


[1] البيان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية 2002. http://www.akparti.org.tr/upload/documents/2002-beyanname.pdf, (تاريخ زيارة الموقع: 15 أيلول 2017).
[2] البيان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية 2011. http://www.akparti.org.tr/upload/documents/2011-beyanname.pdf (تاريخ زيارة الموقع: 15 أيلول 2017).
[3] "تقرير قطاع المواد الأولية من البترول والغاز الطبيعي لعام 2016"، وزارة الطاقة والموارد الطبيعية، http://www.enerji.gov.tr (تاريخ الزيارة: 15 أيلول 2017).
[4] "تقرير قطاع المواد الأولية من البترول والغاز الطبيعي لعام 2016".
[5] من أجل المعلومات المفصّلة، تُمكِن زيارة الموقع الرسمي لوزارة الخارجية التركية، www.mfa.gov.tr
[6] أوزغور تُفَكجي، "تأثير التعاون الإقليمي في العلاقات التركية الروسية: أمثلة الاتحاد الاقتصادي: أوراسيا وتراسيكا"، مجلة TYB Akademi، الإصدار:6، ص17، (أيار 2016).
[7] الجريدة الرسمية، العدد: 21784، 10، كانون الأول 1993.
[8] م. تورغوت دمير تبا، وحبيب أوزدال، وحسن سليم أوزرتم، وكريم هاص، العلاقات التركية الروسية: من التنافس إلى تعاون متعدد الأبعاد، منشورات أوساك، (أنقرة: 2013)، ص20.
[9] مَدَت جاليك بالا، "العلاقات التركية الروسية من تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم". ملف أوراسيا، الإصدار: 13، العدد: 1، (2007)، ص283.
[10] اتفاقية بشأن منع الأحداث الخطرة في المياه المظلمة خلف البحر الأسود، واتفاقية بشأن حماية المعلومات والمواد المتبادلة المصنّفة بالسرية في سياق التعاون في الصناعة الدفاعية، واتفاقية حماية حقوق الملكية الفكرية والصناعية المتبادلة في نطاق التعاون العسكري التقني الثنائي، ومذكّرة تفاهم بشأن التعاون بين مركز البحوث الإستراتيجية في وزارة الخارجية والأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية الروسية، واتفاقية في إطار التعاون المشترك في مجال الطاقة بين غازبروم وبوتاش، وبروتوكول تعاون بين أكسيم بنك التركي وفناشك أونوم بانك وروساكسيم بنك الروسيين.
[11] فاتح أوزباي، "العلاقات التركية الروسية بعد الحرب الباردة: 1992-2010". الإستراتيجية الحكيمة، الإصدار: 2، العدد: 4، (ربيع 2011)، ص52.
[12] "أتمَّ أردوغان زيارته إلى روسيا"، صوت أمريكا، 13 كانون الأول 2005.
[13] أوزباي، "العلاقات التركية الروسية بعد الحرب الباردة: 1992-2010". ص52.
 [14] "القرارات التي اتخذتها موسكو خلال 24 ساعة من إسقاط الطائرة الروسية"، BBC التركية، 25 تشرين الثاني 2015.
[15] جانك باشلاميش، "العلاقات التركية الروسية: هل انهارت تراكمات 15 عامًا خلال 17 ثانية؟" BBC التركية، 25 تشرين الثاني 2015.
[16] باشلاميش، "العلاقات التركية الروسية: هل انهارت تراكمات 15 عامًا خلال 17 ثانية؟".
[17] "خطوة مفاجئة! رسالة من أردوغان إلى بوتين..." مِلِّيَّتْ، 14 حزيران 2016.
[18] "الرد الروسي على رسالة أردوغان". NTV، 15 حزيران 2016.
[19] "خطوة رئيس الجمهورية أردوغان الثانية تجاه روسيا". حُرِّيَّتْ، 15 حزيران 2016.
[20] "الكرملين: أردوغان قدّم اعتذارًا". BBC التركية، 27 حزيران 2016.
[21] "الكرملين: أردوغان قدّم اعتذارًا".
[22] "الولايات المتحدة الأمريكية تقف وراء الانقلاب"، يني شفق، 17 تموز 2016.
[23] "اللّقاء التاريخي بين أردوغان وبوتين في روسيا"، (تاريخ زيارة الموقع: 09. 08. 2016)
http://www.trthaber.com/haber/gundem/rusyada-tarihi-erdogan-putin-gorusmesi-265253.html
[24] "انتهى اللّقاء بين أردوغان وبوتين في الصين". TRT Haber، 3 أيلول 2016.
[25] تدفّق الغاز الروسي عبر الأنابيب المارّة من البحر الأسود في تركيا إلى أوربا.
[26] " في اللّقاء الذي جمع بين أردوغان وبوتين عقب المؤتمر الدولي للطاقة، وقّعا على السيل التركي". Energy World، 11 تشرين الأول 2016، (تاريخ الزيارة: 11 تشرين الأول 2016)
http://energyworld.com.tr/dunya-enerji-kongresinde-bir-araya-gelen-erdogan-ve-putin-sonrasinda-turk-akiminda-mzalari-atti.html,
[27] "بوتين: الهدف من إسقاط الطائرة الروسية..." الجزيرة، 23 كانون الأول 2016.
[28] "إلتر طوران، العلاقات التركية الروسية، المشكلات والفرص". (تقرير بلغسام، العدد: 5، إسطنبول: 23 أيار، 2009).
[29] جليك بالا، "العلاقات التركية الروسية من تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم". ص289.
[30] أوزباي، "العلاقات التركية الروسية بعد الحرب الباردة: 1992-2010". ص57.
 [31] لمزيد من المعلومات حول المنصّة، انظر؛ Vügar İmanov، "منصّة التعاون والاستقرار في القفقاس"، Central Euroasian Studies: Past, Present and Future, (أيار 2011)، ص143- 153.


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...