رؤية تركية

دورية محكمة في
الشئون التركية والدولية


| المقالات والدراسات < رؤية تركية

لماذا تتصادم قطر والمملكة العربية السعودية؟

على الرغم من كون دولة قطر صغيرة جدًّا من حيث عدد السكان والمساحة، فإن لديها أجندة واعية للسياسة الخارجية، ولديها تميز في الوجود بصفتها لاعبًا أساسيًّا في المنطقة.

لماذا تتصادم قطر والمملكة العربية السعودية؟

تسلّط هذه الدراسة الضوء على دور الانسجام الأيديولوجي في السياسة الدولية، مع الصراع على القوة المادية، وعلى سعي الدول إلى الحفاظ على شكل معين من الهيكل الأيديولوجي لبيئتها الدولية؛ لأن ذلك يضفي الشرعية على هياكلها السياسية، وكان ما يُسمَّى (الربيع العربي) آخر هذه المواجهات الأيديولوجية. وفي سياق هذا الصراع، سعت الكتلة المكونة من تركيا وقطر، إلى دعم تغيير الهيكل الأيديولوجي للنظام نحو حكم ديمقراطي شعبي. ومن ناحية أخرى، فإن قوى الوضع الراهن كافحت من أجل الحفاظ على البنية الأيديولوجية القائمة، التي تتشكل أساسًا حول الاستبداد. وتدّعي هذه المقالة أن الأزمة المستمرة في منطقة الخليج بين السعودية  وقطر يمكن فهمها في سياق هذا التناقض والمواجهة الأيديولوجية.

مدخل

تعرّضت قطر مرّة أخرى للحصار في يونيو 2017 من قبل المجموعة التي تقودها المملكة العربية السعودية، ففي 19 يونيو أعلنت السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطعها جميع العلاقات الدبلوماسية مع قطر. وفي وقت لاحق، انضمت إليها اليمن وليبيا وجزر المالديف. وقد أُوقِف جميع الرحلات الجوية من هذه البلدان إلى قطر، وأُغلِقت الموانئ أمام السفن التي تحمل علم قطر، وعلّقت البنوك المصرية معاملات تحويل الأموال مع البنوك القطرية، وأُخرِجت قطر من التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين الشيعة في اليمن، كما طُلِب من الدبلوماسيين والمواطنين القطريين مغادرة هذه البلدان. بعد ذلك، أعلنت هذه الدول عن قائمة مطالب تحتوي على 13 مطلبًا، منها وقف بثّ قناة الجزيرة، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر، والحدّ من علاقات قطر مع إيران، وهي مطالب عُدَّت مُنتقِصة من سيادة قطر.[1]

وقد وضعت الدول المحاصرة لقطر مسوّغات لهذا الحصار، مثل تقديم قطر الدعم المالي والسياسي لمنظمات، مثل الإخوان المسلمين وحماس والقاعدة وتنظيم داعش، إضافة إلى تناول عدد من الموضوعات التي أثارت جدلًا، مثل دفعِ فدية لإنقاذ أفراد من عائلة آل ثاني اختطفتهم ميليشيات شيعية في العراق، وتوجيهِ الشيخ تميم بن حمد انتقادات لاذعة لعدد من بلدان المنطقة،[2] وكان الردّ القطري على عملية الحصار يتمثل في نفي كل هذه الاتهامات، ووصفها بأنها اتهامات مرفوضة، ولا أساس لها، كما أكدت قطر أنها لن تردّ بالمثل على إجراءات دول الحصار المتخذة ضدها.[3] وانتقدت الدوحة قائمة الـ13 مطلبًا التي أُعلِن عنها في وقت لاحق، وقالت إنها غير مقبولة، موضحة أن رفض هذه الطلبات جاء لأنها لم تكن (واقعية ومنطقية). وقد جادل مسؤولون قطريون بأن السبب الرئيس وراء كل هذه الأحداث هو سحب سياسة قطر الخارجية المستقلة إلى خط السعودية.

ولم تكن هذه المحاولة الأولى من قبل دول الخليج وعلى رأسها السعودية لمحاصرة قطر، فقبل ثلاث سنوات، وتحديدًا في عام 2014، أعلنت المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين بيانًا مشتركًا في 5 مارس، أكدت فيه سحب سفرائها من قطر. وعند أخذ هذا القرار، قالت هذه البلدان الأربعة: إن السبب يرجع إلى عدم وفاء قطر بالتزاماتها حين وقّعت هذه الدول إضافة إلى سلطنة عمان والكويت على الاتفاقية الأمنية لمجلس التعاون الخليجي، التي وُقِّعت في 23 تشرين الثاني 2013. ووفقًا للاتفاق الذي وقعته البلدان الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي تعهدت الدول ألا تدعم أي منظمات أو أفراد يهددون أمن دول مجلس التعاون الخليجي واستقراره؛ سواء باستخدام الأسلحة المباشرة أم باستخدام النفوذ السياسي، كما تعهدت الدول بعدم دعم أي بثّ إعلامي للمعارضة في الدول الأعضاء.[4]

ومن خلال النظر إلى الانتقادات التي وُجِّهت للشيخ يوسف القرضاوي الذي كان يتحدث عبر قناة الجزيرة التي تُبَثّ من الدوحة، وهو أحد الشخصيات المهمّة في جماعة الإخوان المسلمين- يُفْهَم أن التهديد الذي تقصده هذه الدول في بيانها هو جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى ذلك، أعلنت مصر بعد يوم واحد وتحديدًا في 6 مارس، سحب سفيرها من قطر. وأمام هذه المناورات الدبلوماسية من الكتلة التي تقودها السعودية أعلنت قطر استغرابها من سحب السفراء، وقالت إنها لن تتخذ قرارًا بالرد بالمثل.

ومن المعروف أن دول مجلس التعاون الخليجي، وبخاصة المملكة العربية السعودية، تشعر بالانزعاج الشديد من السياسة الخارجية لدولة قطر، وينبع هذا الانزعاج من قطر، بسبب دعمها لطائفة من الجماعات المعارضة في عدد من بلدان المنطقة، وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين، وبسبب علاقاتها الوثيقة مع تركيا، وموقفها المتشدد ضد حكومة الانقلاب في مصر، وسياستها في دعم المعارضة السورية، واتهامها بدعمه الحوثيين في اليمن، وكذلك اقترابها أحيانا من إيران.

وتبين هذه الأزمات الدبلوماسية في السنوات الثلاث الماضية أن الخلاف لا يزال موجودًا بين الجانبين، بل دخل مرحلة جديدة من التوتر، حيث لم تشهد دول مجلس التعاون الخليجي الذي أُسِّس في عام 1981 مثيلًا لهذا القرار منذ أُسِّس المجلس لمواجهة التمدد الإيراني المتنامي في الخليج بعد ثورة 1979، إضافة إلى ذلك، عندما تُقارَن الأزمة الحالية مع الأزمة الدبلوماسية في عام 2014، فإننا نلاحظ أن المملكة العربية السعودية وحلفاءها في أزمة 2017 أكثر حدةً وحسمًا في قرار الحصار، بل و أكثر توسعًا في نطاق الأزمة. وهذا يشير إلى أن التوتر بين المملكة العربية السعودية وقطر ذو أسباب بنيوية، لا لأسباب ظرفية فحسب، وهذا يجعلنا نطرح سؤالًا، وهو: ما السبب البنيوي للتوتر بين البلدين؟

التوتر بين السعودية وقطر

هناك سببان رئيسان يجعلان البلدين في مواجهة بعضهما: أولهما أنّ لدى كل بلد من البلدين تصورًا مختلفًا للنظام الإقليمي. وهكذا، فإن التطورات الأخيرة تحمل بعدًا أيديولوجيًّا ومؤسسيًّا يتجاوز الصراع الجيوسياسي على القوة. وعندما ننظر إلى تفاعل هذين البعدين في تاريخ العلاقات الدولية في الشرق الأوسط نواجه مشهدًا من هذا القبيل. وفي البداية، نجد أن أغلبية الدول في الشرق الأوسط قد أُسِّست في بداية القرن الماضي وَفْقَ نظام دول قومية معتمدة على سيادة الملكيات التي كانت قائمة، لكن هذا النظام واجه باستمرار تحديات أيديولوجية؛ أي أن التحول الأيديولوجي الذي حدث في بلد ما جعل توافق الآراء الأيديولوجي قائمًا على النظام الدولي. إن الدولة المتحولة أيديولوجيًّا تمردت على معايير النظام الدولي الحالي. وقد أعقب ذلك  ما يسمى (بحروب تشكيل النظام) لتحديد مصير النظام الدولي... وقد شكلت حروب النظام هذه عنصرًا مهمًّا في مراجعة أو حماية التوافق الأيديولوجي حول النظام الإقليمي أو الدولي.[5]

أما السبب الثاني فيندرج في سياق الإطاحة بالانظمة الملكية ففي عام 1952، اُطِيحَ بالنظام الملكي في مصر واعتُمِد النظام القومي العربي بديلًا عنه، وفي عام 1979 استُبدِل بالنظام الملكي في إيران نظام إسلامي أدّى إلى تدهور التوافق الأيديولوجي للنظام الإقليمي الداخلي في المنطقة. ومن هذا التدهور: أولًا سلسلة من الحروب التي توزعت على مدى عقد من الزمان. ثانيًا الحرب بين إيران والعراق. وأخيرًا، عملية الربيع العربي، والمطالبة بالديمقراطية التي نادى بها الشعوب العربية التي خرجت إلى الشوارع، وأدت إلى تغيير النظام في أكثر من بلد. ومرة أخرى، تدهور توافق الآراء الأيديولوجي على مستوى النظام الدولي، وظهرت حالة من عدم اليقين الجيوسياسي والفكري البنيوي في المنطقة. وفيما دعمت دول مثل تركيا وقطر عملية التغيير في الأنظمة القائمة بدرجات متفاوتة كانت السعودية في طليعة الدول التي رفضت التغيير، ودعمت الحفاظ على الوضع القائم.

إن حملات التغيير الجذري التي تعرض لها النظام الإقليمي بعد النظام الإمبراطوري كانت تضيّق في كل مرة المجالات الدولية  للأنظمة الملكية. ولذلك، فإن الدولة القائمة على أساس النظام الملكي التي تُعَدّ من أكثر الدول المتحمسة والمدافعة عن النظام الدولي الذي يعترف بالملكيات- تعرّضت ل3.كثير من الإضعاف. وقد غطّى النظام الدولي بطبيعته المعتمدة على الديمقراطية وليس الملكية دول المنطقة كافة ماعدا ملكيات دول منطقة الخليج، وأصبح الآن قريبًا جدًّا من تغطية هذه الدول، والسؤال المهم المطروح هنا هو: إلى أي درجة سيستمر هذا التضييق؟ ولعل ما يقلق السعودية هو أن قطر التي تُعَدّ دولة تحكم بالنظام الملكي أو الأميري دَعَمت مطالب الشعوب والحركات الإسلامية، بالرغم من كونها دولة أميرية، وهذا الأمر دقّ ناقوس الخطر لدى السعودية. وقد عُدَّ هذا الدعم تضييقًا للنظام الدولي الذي يعتمد شرعية النظم الملكية، ومن ثَمّ تهديدًا وجوديًّا للنظم الملكية والدول القائمة على أساس الملكية، مثل المملكة العربية السعودية.[6]

كما أن هناك بعدًا آخر للتوتر بين الدوحة والرياض، وهو السياسة الخارجية (الإسلاموية) لقطر؛ أي الداعمة لحركات الإسلام السياسي، ففي ظل تراجع الأنظمة الملكية في النظام العالمي مع مرور الوقت حاولت السعودية أن تظهر نفسها قائدة للعالم السنّي، لكن دورها في هذا الإطار واجه صعوبات، وتحديدًا مع قدوم الربيع العربي، حيث توجهت الأنظار إلى قطر، ودورها في دعم الربيع العربي، وهذا جعل السعودية في مواجهة مع التهديد المتصوّر لها من قطر؛ حيث اعتبرت السعودية دعم قطر للثوار في البلدان العربية ضد الحكام المستبدين خسارة لموقعها وشرعيتها الإقليمية عند هذه الدول، وخسارة لمشروعيتها عند شعبها. والخلاصة أن قطر حاولت بهذه الخطوات كسر الهيمنة السعودية في الخليج. وبهذا تعدّ السعودية خاضعة لحصار تفرضه قطر عليها في الخليج وفي الشرق الأوسط بشكل عام، وبخاصة في العالم العربي.[7] ولكن مع الرياح المعاكسة للربيع العربي حدث ضعف للسياسة الخارجية الإصلاحية لدولة قطر، في حين أصبحت المملكة العربية السعودية التي كانت تسعى جاهدة للحفاظ على الوضع الراهن في وضع أفضل.

هل العلاقة بين قطر والإسلاميين براغماتية أو أيديولوجية؟

عندما يتمّ التفكير تحديدًا في الصراع الجاري على قيادة المجتمعات الإسلامية في المنطقة فإن موقف كل من الرياض والدوحة تجاه موقف جماعة الإخوان المسلمين يتبوّأ مكانة مهمّة جدًّا في التوتر بين قطر والمملكة العربية السعودية؛ ففي الوقت الذي نجد فيه الرياض غير مرتاحة لجماعة الإخوان المسلمين، فإن قطر تقدّم دعمًا غير محدود للجماعة، من خلال قنوات السياسة والاقتصاد والإعلام.[8] والسبب في انزعاج المملكة العربية السعودية في جوهرها هو الأيديولوجيا، حيث يهدّد الإخوان المسلمون السيادة القائمة على الملكية، لكن لماذا تدعم قطر، التي يحكمها النظام الملكي، العناصر الاجتماعية الديمقراطية والعناصر الإسلامية التي تُعَدّ معادية للملكية؟ هناك إجماع بين الخبراء الإقليميين على وصف سياسة قطر على أنها سياسة براغماتية.[9] وممّا لا شك فيه أن هناك سطحية في إطلاق هذا الوصف (لكن هذا لا يشمل كلّ التحليلات)، كما أن تقييم الفاعلين السياسيين والسلوكيات الاجتماعية تمّ من وجهة نظر الوضعية المادية بشكل أكبر. ووفقًا لهذا الرأي، فإن جميع الجهات الفاعلة هي أساسًا براغماتية؛ لأن العلاقة بين الهوية والسلوك علاقة وسيلية. ووفقًا لنهج آخر معاكس، فإن الصراع من أجل السلطة لا يكون بهدف الحصول على مكاسب معينة فقط، ولكن أيضا لتحقيق هوية معينة في نفس الوقت، وإن العلاقة بين السلوك والهوية ليست علاقة وسيلية، بل علاقة وجودية. وفي هذه الحالة، قد يُعَدّ بعض الفاعلين براغماتيين، ويُعَدّ آخرون ليسوا كذلك.[10]

فكيف نفصل بين الفاعل البراغماتي والفاعل غير البراغماتي؟ تتمثل السمة الأساسية للفاعل البراغماتي في التصرف وفقًا للظروف البنيوية الحالية والإمكانيات. وهذا يعني أنه مستعد لأداء دور في الهياكل القائمة، وأما في خارج هذه البنى فإنه لا يملك إرادته ومبادئه القوية والمستقلة. وهكذا، فإننا نجد أمامنا فاعلًا ينتهز الفرص، ولكن لا يكافح من أجل التغيير ولا يقوم بالمخاطرة. وعندما نفكر في هذا التعريف، لا ينبغي أن نقول إن قطر تُعَدّ فاعلًا براغماتيًّا. ولو كانت قطر فاعلًا براغماتيًّا ما وقفت في وجه المملكة العربية السعودية وعدد من القوى التي تريد الحفاظ على الوضع القائم والهياكل الموجودة، وبالرغم من أن قطر دولة صغيرة، فإن لديها إرادة قوية في سياستها الخارجية باتجاه تغيير الهياكل القائمة.

وخلافًا لذلك، لا بدَ أن نقول إن قطر التي بدت معارضة للنظام الإقليمي في الشرق الأوسط تصرفت في سياستها الخارجية كمن لا يعرف ماذا يفعل! حيث إنها بدت كالذي لم يقرأ الشروط البنيوية بما فيه الكفاية بشكل جيد، ومن ثَمّ يصعب تفسير سبب اتباعها للسياسة الخارجية الإصلاحية لفترة طويلة من الزمن، بإصرار وثبات. وبالمثل، يصعب تفسير استمرار الدوحة في دعم جماعة الإخوان المسلمين والعناصر الإسلامية الأخرى بانتظام منذ وصول حمد بن خليفة آل ثاني إلى السلطة في عام 1995.

إن الدعم الذي قدّمته قطر على المدى الطويل من دون تأخير للإسلاميين جاء عند رؤيتها أن الإسلاميين في المنطقة سوف يصبحون طرفًا سياسيًّا فاعلًا مهمًّا، وهذا يدحض الادعاء بأن ذلك استثمار في المستقبل. ولم يمكن لقطر تحويل هذا الدعم إلى مكاسب مادية. ولو كانت قطر تحركت فقط وفقًا للاهتمامات المادية، لكان دعمها للإسلاميين في أوقات صعودهم أقل خطرًا من دعما لهم في فترات تراجعهم، خاصة بعد وقوع الانقلاب العسكري في مصر في تموز 2013، ومن هنا كان ينبغي عليها إيقاف دعمها (للإسلاميين  الخاسرين)، ووفق هذه النظرة فقد توقّع عدد كبير من الخبراء الذين بنوا مواقفهم وتحليلاتهم على البراغماتية أن سياسة قطر الخارجية تجاه مصر بعد الانقلاب العسكري في مصر في يوليو 2013 سوف تتحول لتصبح أكثر حذرًا وفي مستويات أقل، ولكن خلافًا للتقديرات، لم يحدث تغيير كبير في السياسة الخارجية القطرية تجاه مصر حتى الآن.[11]

وبالمثل، فإن تقوية قطر لموقفها الدولي من خلال زيادة قوة دعمها للجماعات الإسلامية ينطوي على مخاطر كبيرة، فلا يمكن بمثل هذه السياسة كسب الاحترام والمكانة في العالم الغربي. وإضافة إلى ذلك، فمن وجهة نظر الغرب هناك شبهة وشكوك كبيرة في أن الدعم المقدم من قطر إلى جماعة الإخوان المسلمين، في ضوء الوضع الراهن في المنطقة- سوف يكسب قطر أو يعزز من نفوذها. وإذا أردنا أن نواصل في هذا السياق فإن الدعم القطري المقدم إلى الجماعات الإسلامية في السنوات الأخيرة في بعض الحالات عُدّ نوعًا من الوقوف بوجه بعض الدول وبخاصة الولايات المتحدة، وعلى سبيل المثال أخذت زيارة الأمير الوالد حمد بن خليفة إلى غزة بالرغم من الحصار المفروض عليها في أكتوبر 2012، بعين الاعتبار في هذا السياق، وهذا يتناقض مع القول إن علاقة قطر بالإسلام السياسي علاقة وسيلية. وتعدّ القوى السياسية التي تعرّض وجودها المادي للخطر بهذه الطريقة أنّها تعرض وجودها الثقافي للخطر أيضًا، وهي مرحلة قد تعدّ بعد مرحلة الأمن المادي. وإن التحليلات الموجودة تعدّ الفاعلين على أنهم أنانيون يلهثون خلف القوة المادية متجاهلين الاتجاه الهوياتي والثقافي، ولهذا فإنّ التحليلات التي تتحدث عن دولة تُدار بالنظام الملكي أو الأميري وتدعم في الوقت نفسه جماعات رافضة للحكم الملكي أو الأميري- تضطر لتفسير ذلك بالبراغماتية.

ومما لاشك فيه أنه من الأمور المتناقضة أن نجد دولة يحكمها النظام الملكي وتدعم الحركات الشعبية الإسلامية الديمقراطية. وما ينبغي أن نأخذه في الاعتبار هنا هو أن تبنّي جماعة الإخوان المسلمين عزّز من دور إمارة قطر أكثر من إضعاف شرعيتها السياسية الداخلية. ومع ذلك، يجب علينا أن نقول على الفور إن هذا ليس متغيرًا أساسيًّا، بل هو متغير ثانوي. وإذا كان أحد أبعاد الديمقراطية يتمثل في إنشاء وإدامة نظام سياسي قائم على التعددية، والمشاركة والحرية، فإن الجانب الآخر هو بعد المجتمع المدني، وتجمع الإرادة الوطنية للمجتمع، وهو ما تُطلَق عليه الإرادة الوطنية، وانعكاس هذه الإرادة في قرارات الحكومة. وعند النظر إلى خيارات السياسة الخارجية لدولة قطر، نجد هناك أعلى درجات التوافق بين النظام والشعب، وإذا وضعنا 1.2 مليون عامل مهاجر جانبًا فإن هناك تطابقًا كبيرًا في وجهات النظر يمكن ملاحظته. ومثل هذا من شأنه أن يغطي على عيوب نقص الديمقراطية في الأنظمة الملكية بشكل إيجابي؛ أي أن السياسة الخارجية لدولة قطر لا تهدّد الحكم الملكي/ الأميري (على الأقل حتى الآن)؛ لذلك، فإن الدعم المقدّم إلى جماعة الإخوان المسلمين في السياسة الخارجية القطرية لا يشكل تهديدًا للنظام، وليس هذا فحسب، بل إنه يؤدّي دورًا في حماية وتعزيز شرعية النظام.

ولعل التساؤل الذي يجب طرحه، حول الرياض التي تواجه مشكلات الشرعية في كثير من الأحيان، وهو التساؤل المتمثل في سبب عدم تقديم الرياض الدعم للحركات المجتمعية، وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين لتعزيز يدها في الداخل والخارج، ولماذا لم تحذُ حذو قطر؟ وبعبارة أخرى، لماذا لا يصبح دعم الإسلاميين خيارًا لفاعل يتصور نفسه زعيمًا للعالم الإسلامي إذا كان الوقوف مع الإسلاميين يمكن أن يجلب قوة ومصداقية للبلد الذي يدعمه؟ فما الذي يمنع السعودية من تنفيذ هذه السياسة؟

التغيير والاستمرارية في السياسة الخارجية لدولة قطر

على الرغم من كون دولة قطر صغيرة جدًّا من حيث عدد السكان والمساحة، فإن لديها أجندة واعية للسياسة الخارجية، ولديها تميز في الوجود بصفتها لاعبًا أساسيًّا في المنطقة كما ذكرنا آنفًا. وهذا هو بالضبط السبب في جلب استفزاز المنطقة، وبخاصة المملكة العربية السعودية، عندما يتعلق الأمر بذلك. إنّ أساس السياسة الخارجية لدولة قطر يكمن في الخط الآتي: المضي في دورها في الصراعات الجيوسياسية في المنطقة من خلال الوساطة، وسياسة الحياد، ودعم الاستقرار، وبناء السلام؛ وذلك لضمان أمنها، ووضع نفسها في مكان ريادي، ثم انسجامها بلا تردد أو انقطاع مع حركة خطوط الصدع المجتمعية التي حدثت في المنطقة. وبناء على ذلك، فإن هذه المعادلة تؤدي إلى تغيير في الهياكل التي بُنِيت في المنطقة، وكانت الفكرة أن هذا التغيير سيضمن أن تصبح قطر فاعلًا قويًّا ومحترمًا ومهمًّا.

ووفقًا لهذه الإستراتيجية فإن الدوحة، تعمل على إصلاح النقاط التي تعمل على خنق عمليات التغيير الاجتماعية التي تواجه البنى والهياكل الموجودة في المنطقة والتي تجرّ المنطقة إلى عملية الصراع الجيوسياسي. وكان أهمّ أداة لها هو دور الوسيط أمام الصراعات في المنطقة.[12] وقد أقرّ الدستور القطري الذي دخل حيّز التنفيذ في عام 2003 بأن الوساطة عنصر مهمّ في سياسة قطر الخارجية، ومنذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شرعت قطر في مبادرات الوساطة مع زيادة في الكفاءة والظهور على الصعيد الدولي. وفي هذا السياق، دخلت قطر في تشرين الأول/ أكتوبر 2006، في وساطة بين حركتَي فتح وحماس اللتين خاضتا منافسة في فلسطين، وقد دفعت هذه المبادرة المملكة العربية السعودية، التي لا تريد أن تأخذ قطر الدور القيادي منها، إلى دعوة الطرفين. في شباط/ فبراير 2007، ووقعت حركتا فتح وحماس من خلال جهود الرياض اتفاق مكة المكرمة الذي انهار لاحقًا. وفي عام 2007، حاولت قطر إنهاء الصراع بين الحكومة والمتمردين الحوثيين في اليمن. و اتُّفِق على وقف إطلاق النار في حزيران/ يونيه 2007، ووُقِّع على معاهدة سلام في الدوحة في شباط/ فبراير 2008، ولكن بعد ذلك استؤنفت الصراعات، ثم انضمت قطر، في آب/ أغسطس 2010 إلى الأطراف وأقنعتها بوقف إطلاق النار. ولعل أكبر نجاح لجهود الوساطة القطرية هو اتفاقات الدوحة الموقعة في أيار/ مايو 2008 بين المجموعات المتصارعة في لبنان. وقد سمح هذا الاتفاق بإنهاء الخلاف الذي وصل إلى حدّ النزاع المسلح مع الحكومة وصولًا إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بين حزب الله وحكومة فؤاد السنيورة. ومرة أخرى نجحت قطر في دارفور في عام 2008 بوقف الاشتباكات بين الحكومة السودانية والمتمردين من خلال الوساطة بين الجماعات المتصارعة نيابة عن الجامعة العربية. ونتيجة للمفاوضات الجارية، وقع في شباط/ فبراير 2010 اتفاق لوقف إطلاق النار بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة.

كان على قطر أن تكيّف سياستها الخارجية مع الظروف الجديدة خلال الربيع العربي حتى ولو كان ذلك بدون رغبة منها عندما بدأت المظاهرات في تونس في ديسمبر 2010.[13]وقد تركت  الدوحة دور الوساطة جانبًا وأيدت بشكل مباشر تحركات التغيير الاجتماعي المعارضة للأنظمة. وخلافًا للاعتقاد السائد، فإن الانتقال من دور الوساطة إلى الدور المثير للجدل ليس انقطاعًا في السياسة الخارجية للدوحة، بل هو استمرارية. وبعبارة أخرى، بينما ظلت الإستراتيجية مستقرة، حدث تغيّر تكتيكي في ظل ظروف جديدة. لم تكن وجهة نظر قطر هي الوقوف وسيطًا بين المتمردين وبين النظام؛ بل وقفت قطر داعمة بقوة للتغييرات الجوهرية في المنطقة، ورأت في ذلك عملًا ضروريًّا.

لذلك، بعد وقت قصير من المظاهرات في ليبيا، دعت الدوحة الجامعة العربية إلى إعلان منطقة حظر جوي، ووجهت دعوة للتدخل العسكري، وفي آذار/ مارس 2011، أصبحت أول بلد يعترف بالمجلس الوطني الانتقالي بعد فرنسا. كما شاركت في هجمات الناتو بنشاط عبر إرسال طائرات، وقد وفّرت للمعارضين منبرًا في وسائل الإعلام من خلال قناة الجزيرة، كما قدّمت العديد من المساعدات والذخائر العسكرية الكبيرة والمعونات الاقتصادية.

في سوريا، بدأت قطر، التي كانت أكثر حذرًا في البداية بسبب عامل إيران، تتناقض مع دمشق بسبب سياسة دعم الثورات في سوريا من خلال قناة الجزيرة. وفي وقت لاحق، في يوليو 2011، أصبحت قطر أول دولة عربية تغلق السفارة في دمشق، وبدأت من خلال جامعة الدول العربية في الضغط على دمشق. وفي نوفمبر 2011 عُلِّقت عضوية سوريا في الجامعة، وفي منتصف كانون الثاني/ يناير 2012، ذهبت قطر إلى أبعد من ذلك حيث دعت الدول العربية إلى التدخل في سوريا، وقدمت للثوار السوريين دعمًا عسكريًّا واقتصاديًّا، ولا تزال تقدّم الدعم.

ومنذ بداية الثورة التي بدأت في يناير 2011 في مصر شاركت قطر بنشاط في دعم الإخوان المسلمين، وقدّمت الدعم السياسي والاقتصادي الواسع للحكومة المدنية والديمقراطية الأولى في مصر بقيادة الرئيس محمد مرسي في يونيو 2012. وفي تموز/ يوليو 2013، وقع الانقلاب العسكري ضد حكومة مرسي، ومع ذلك، وبعد الانقلاب، لم تغير الدوحة سياستها تجاه مصر، وخلافًا للتوقعات واصلت دعمها لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وظلت تدعو نظام الانقلاب الذي يقوده السيسي إلى وضع حد لأعمال العنف ضد المدنيين، والإفراج العام عن الرئيس محمد مرسي.

الربيع العربي والمملكة العربية السعودية

على النقيض من ذلك، حاولت الرياض التي رأت أهمية الحفاظ على سياسة الوضع الراهن التقليدية إضعاف وتشتيت انتفاضات الربيع العربي الاجتماعية، من خلال زيادة تأثير سياستها الخارجية، ولهذا الغرض، تقدّم الدعم العسكري لقمع الانتفاضة في البحرين التي بدأت في فبراير 2011، كما بذلت السعودية جهودًا لكسب المواقف السياسية لأنظمة الحكم القديمة.[14] وأوضح مثال على ذلك هو الدور النشط الذي أدّته الرياض في الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في مصر. وفي مصر، أعربت الرياض عن سرورها بالانقلاب الذي نفّذه الجيش بقيادة السيسي، وقدمت له مساعدات اقتصادية واسعة النطاق. إضافة إلى ذلك، تبنّت الرياض سياسة الحدّ من الأضرار الناجمة عن الانتفاضات الشعبية، وقد حاولت تقويض موقف جماعات المعارضة والمجموعات التي من شأنها أن تزعج الرياض، مثل الإخوان المسلمين... وسوريا مثال جيد على هذا الوضع.[15] كما تجدر الإشارة إلى أن السعوديين دعموا السلفيين المصريين بوصفهم عنصرًا موازنًا ضد الإخوان المسلمين. ومرة أخرى، دخلت الرياض في السياسة الداخلية اليمنية، وفي هذا الاتجاه فكرت الرياض في ضمّ غيرها من الدول الملكية السُّنّيّة ذات الفكر السياسي القريب إلى دول مجلس التعاون الخليجي، مثل الأردن والمغرب لزيادة التضامن في ظل الظروف الجيوسياسية الجديدة، وقد عُدّ هذا بديلًا عن جامعة الدول العربية.

ولم تُخْفِ المملكة العربية السعودية، موقفها من إدارة رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما التي عملت على الحد من التوترات بين الغرب وإيران، وبشكل عام كانت منزعجة من سياسة الانتظار والترقب التي أظهرها الغرب تجاه الربيع العربي.[16] وبدأت  الرياض ودول مجلس التعاون تشعر بضرورة الحاجة إلى تطوير تحالفات بديلة عن الغرب في بعض الدوائر، ولكن تلقيها الدعم من الغرب شكّل ضغطًا عليها. ولهذا السبب، اضطر أمير قطر السابق في الأيام الأخيرة من حزيران/ يونيو 2013 إلى ترك مقعده لابنه تميم البالغ من العمر 33 عامًا. وفي الوقت نفسه، تركَ منصبَه وزيرُ الخارجية حمد بن جاسم، مهندس السياسة الخارجية النشطة والإصلاحية في قطر. وأدّى ذلك إلى تعليقات مفادها أن سياسة قطر الخارجية ستكون أكثر سلبية وحذرًا. [17] لكن الأمير تميم -من أجل الحدّ من التوترات المتزايدة- أدلى بتصريحات أشار فيها إلى أن سياسته لن تكون متناقضة مع إرث والده ووزير الخارجية السابق... وهذه المقاومة المستمرة كانت السبب الرئيس للأزمات الدبلوماسية المذكورة آنفًا.

هل يعود الشرق الأوسط إلى سياسته التقليدية؟

يبدو أن هذه الأزمات تأخذ بعدًا مختلفًا في بداية المرحلة الثالثة من الربيع العربي. إنّ المرحلة الأولى من الربيع العربي تشكلت من ثورات الشعوب التي نزلت إلى الشوارع للمطالبة بالديمقراطية والتمرد ضد الأنظمة الاستبدادية. أما المرحلة الثانية فتميزت بفراغ السلطة وبروز المنظمات الإرهابية التي نمت في هذا المجال وبأعمال العنف. وفي المرحلة الثانية من الربيع العربي، صعدت منظمات -مثل داعش ووحدات حماية الشعب- استخدمت العنف الذي أدّى إلى تخريب الجهود المطالبة بالإصلاح في المنطقة. ووجدت إيران فرصة في إطار هذا الدمار، وفي محاولة لملء الفراغ السلطوي، فحاولت من خلال الميليشيات الشيعية زيادة نفوذها في المنطقة. أما تراجع الولايات المتحدة عن سياسة المراقبة من خلال فتح المعركة مع داعش ودعم وحدات حماية الشعب الكردية، إضافة إلى تدخل روسيا المباشر في المنطقة ودعمها للنظام السوري فكان للغرض نفسه.

ونحن نرى أنه في المرحلة الأولى ثُبِّطت مطالب الإصلاحات تقريبًا، وشهدنا تزايدًا كبيرًا للعنف الذي وصل إلى ذروته مع المرحلة الثانية التي تصاعد فيها تنظيم داعش بشكل كبير، وكانت نقطة البداية للمرحلة الثالثة، عندما بدأت تتشكل تكتلات تجميعية بين الدول من جهة، وظهرت كتلة تريد تحقيق التوازن في مواجهة التوسع الإيراني من جهة أخرى.

ومن الجدير بالذكر أنه في إطار هذه المرحلة وداخل حدود العراق، أدّى إخفاق إقليم كردستان في شمال العراق في تحقيق مبتغاه من عملية الاستفتاء على استقلال الإقليم في سبتمبر 2017 إلى تراجع الإقليم إلى حدود 2003، وتجدر الإشارة مرة أخرى، في هذا السياق إلى الضربات القوية التي وجهتها تركيا إلى مشروع إنشاء (ممرّ كردي) على الحدود العراقية السورية، ويمكننا أن نضيف هنا أيضًا المكاسب التي حقّقها النظام السوري على الأرض في الفترة الأخيرة.

وفي إطار آخر من الضروري الحديث عن التطورات التي تلت ذلك، منها جهود تشكيل كتلة معادية لإيران تحت قيادة المملكة العربية السعودية. وهناك تطوران مترابطان في هذا السياق:

التطور الأوّل هو نقل الرسالة القائلة بأن إيران تشكل خطرًا على أمن المنطقة، وهناك بُعد أكثر تطورًا، من أجل اتّباع سياسة تصعيد التوتر في المنطقة. ولبلوغ هذه الغاية، أعلن الزعيم اللبناني سعد الحريري في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر أن إيران وحزب الله يزعزعان استقرار المنطقة، فقدّم استقالته من الرياض، قائلا: إن حياته معرضة للخطر.[18] وقال وزير الدولة للشؤون الخليجية في السعودية ثامر السبهان قاصدًا إيران: "يجب قطع أيدي الخيانة والعداء". أما طهران، فقد رأت أن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وراء استقالة الحريري، وأن هذا القرار اتّخذ لمواجهة حزب الله، وقالت طهران أيضًا: إن الحريري إذا كان يرغب في الحفاظ على كرامة الشعب اللبناني فكان الأولى به عدم تقديم الاستقالة من المملكة العربية السعودية، بل من بلده، واصفة إياه بأنه دمية بيد السعودية.[19]

وأعقب ذلك إعلان الرياض بأن الحوثيين قد نفذوا هجومًا صاروخيًّا باليستيًّا من اليمن ضد الرياض. وقال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في حديث هاتفي مع وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون: إن إيران هي التي زوّدت الحوثيين بالصواريخ، مؤكدًا أن ذلك يُعدّ عملًا من أعمال الحرب.[20] كما أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب قال: إن أصابع إيران موجودة في الهجوم الصاروخى، وإن السعودية ستحمي نفسها من خلال صواريخ باتريوت التي اشترتها من الولايات المتحدة. ولم يتأخر نفي إيران هذا الادعاء. فقد رفض بهرام قاسمي المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية الاتهامات، ووصفها بأنها "غير عادلة، وغير مسؤولة، ومدمّرة، واستفزازية"، وقال قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، الذي اتّهم ترامب بالكذب: إنه ليس لديه أي علاقة بذلك، وأنه ليس بإمكانه إرسال صواريخ إلى اليمن.[21]

أما التطور الثاني فهو عملية مكافحة الفساد في المملكة العربية السعودية بوصفه جزءًا من الصراع على الحكم، إذ أسس الملك وولي العهد في 5 تشرين الثاني 2017م هيئة مكافحة الفساد، وعين الملك سلمان ابنه الأمير محمد بن سلمان رئيسًا لها، واعتقلت الهيئة 11 من الأمراء وبعض الوزراء السابقين. وقد اُعْفِي كل من رؤساء الحرس الوطني ووزراء الاقتصاد والتخطيط وقائد القوات البحرية من مناصبهم. وأعقبت هذه العملية عملية احتجاز للموجة الثانية في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني. ومن بين المعتقلين، مقرّبون من ولي العهد السابق ووزير الدفاع سلطان بن عبد العزيز الذي توفّي في عام 2011.[22] وعلى الرغم من أن هذه الاعتقالات تسيء إلى سيادة القانون في البلاد وتؤثر سلبيًّا في الاستثمارات الأجنبية فإن ولي العهد محمد بن سلمان يعتقد أنها كانت خطوة إستراتيجية لتثبيت حكمه. وعلاوة على ذلك، من الواضح تمامًا أنه منذ الخمسينيات كانت هناك مركزية للسلطة في البلاد، موزّعة باتزان بين الأسرة الحاكمة، لكن في يونيو 2017 عُيِّن محمد بن سلمان في منصب ولي العهد، بدلًا من ابن عمه محمد بن نايف، وهو أمر حظي بأهمية كبيرة في هذه المرحلة.[23] وفي هذه الحالة، وُضِع حدّ لأكثر من شخص من كبار العائلة، وكان بدايةً لتطبيق جديد، حيث إن منصب العرش سيمرّ من الأب إلى الابن بدلًا من مروره سابقًا من الأخِ إلى الأخ. وعندما بدأت العملية الحالية لمكافحة الفساد بالتزامن مع السيطرة على الأمن والاقتصاد فإن ما يجري هو أن المملكة العربية السعودية، ستصبح دولة مركزية جدًّا، ويمكن القول إن الذي يحدث هو تغيير هيكليّ.

وقد جاءت هذه العمليات بعد رسالة الأمير محمد بن سلمان الموجهة إلى الغرب من خلال شعار (الإسلام المعتدل)[24]، وعندما تقرأ هذه التطورات جنبًا إلى جنب مع الدعم المقدّم من الرئيس ترامب لابن سلمان فإن هذا يظهر لنا معنى ما يجري في سياسة المنطقة. إن ما يجري من تغيير في هياكل الدولة السعودية مع الاندفاع إلى حضن الولايات المتحدة يرتبط بشكل كبير مع خطوط المواجهة الجديدة. ولابد أن نقول إن إعلان الأمير محمد بن سلمان قبل عمليات الاعتقال مباشرة عن مصطلح (الإسلام المعتدل)[25]، والتعاون بين الرياض والولايات المتحدة وإسرائيل (وبطبيعة الحال، يجب أن نضيف هنا مصر والإمارات العربية المتحدة)- كان يهدف إلى القول إن السعودية تمثل (الإسلام المعتدل) ضد إيران التي تمثل كتلة (الإسلام الراديكالي)، ونحن نرى أن هذا تمهيد للطريق إلى الصراع بين الكتلتين.. إن هذا المحور الجديد للصراع في الشرق الأوسط الذي يُغذّيه الغرب سوف يعمل على استمرار تطور الوضع الراهن بصفته صراعًا طائفيًّا بين السنة والشيعة. وفي الواقع، فإن الاستقطاب السعودي الإيراني الآن سيكون عائقًا أمام استقلال المنطقة، وأمام إرساء الديمقراطية على المستوى الإقليمي.

لهذا السبب، كان هناك استهداف للإخوان المسلمين في المنطقة، ولحزب العدالة والتنمية في تركيا، ولحكومة قطر، بسبب الحساسية الإسلامية. وفي هذا السياق فإن الحصار الذي فُرِض على قطر في يونيو 2017 والتركيز على مطلب قطع علاقاتها مع تركيا والإخوان المسلمين لا يُعدّ أمرًا مستغربًا. وعند هذه النقطة، يمكننا القول إن السعودية وإسرائيل اللتين تعتمدان على استمرارية الهيمنة الغربية في المنطقة بدأتا مرحلة ثانية من الضغط على الدول التي دعمت التغيير الذي جاء به الربيع العربي في المنطقة.

خاتمة

إن منطقة الشرق الأوسط تعجّ بتناقضات السياسة الدولية، ومن هذه التناقضات الصراع بين السنة والشيعة، التوترات العرقية التركية-العربية-الفارسية-الكردية، والخلافات الدينية-العلمانية، والصدع بين الهويات العابرة للحدود الوطنية وهوية الدولة ذات السيادة، والمواجهة بين القوى الديمقراطية والحكومات الاستبدادية، والصراعات داخل الأسر الحاكمة، والمنافسة بين الدول، والصراع العربي الإسرائيلي. وقد كان الربيع العربي اعتراضًا على الحكومات الديكتاتورية، وفي الوقت نفسه كان اعتراضًا على الاعتماد على الغرب، وأصبحت السياسة في المنطقة، عبارة عن مواجهة بين الحكومات الاستبدادية والهيمنة الغربية من جهة، وقوى التغيير الديمقراطية المحلية والوطنية من جهة أخرى. ولو نجحت قوى التغيير لحدث تحوّل هيكلي في المنطقة، ولأثّر بشكل عميق في السياسة العالمية. ولسوء الحظ، أخفقت التحركات، وشهدت الأمور عودة إلى السياسة التقليدية في الشرق الأوسط. بتعبير أدق، شهدت عودة إسرائيل والمملكة العربية السعودية وإيران وهي قوى الوضع الراهن في المنطقة. والآن وبدعم من الغرب يوجد سعي نحو التصعيد بين هذه القوى. تتفق هذه البلدان على حماية الوضع الراهن في المنطقة بالرغم من الصراعات التي بينها. وهذا هو بالتحديد السبب الذي يجعل جميع هذه البلدان على الجبهة نفسها ضد السياسات الإصلاحية التي جاء بها الربيع العربي.

إن الاستنتاج الأساسي الذي يمكن استخلاصه من هذه التطورات في المنطقة، أن قطر طالما لم تنشئ محورًا خاصًّا فلن تكون أمامها فرصة إلا أن تكون تحت هيمنة الرياض، أو هيمنة طهران، ومن الواضح أن قطر لم تظهر تغييرات إستراتيجية في سياستها الخارجية. إن أكبر مشكلة بالنسبة لقطر هو أن فترة الربيع العربي حصلت بالفعل في فترة أقل من المتوقع. حيث إن قطر أُجبِرت على اتخاذ مواقف جديدة في السياسة الخارجية تجاه الثورات الشعبية، ومن ثَمّ اهتزت صورة الدوحة وموثوقيتها بصفتها بلدًا محايدًا، وضعفت قدرتها على المناورة، إضافة إلى ذلك، من المحتمل أن تتراجع في المنطقة في الفترة المقبلة، والواقع الذي تعيشه مصر وسوريا يشير إلى ذلك.

ونتيجة لذلك، فقد نجحت الدول التي دعمت الوضع الراهن إلى حدّ كبير في ملء الفرص والفضاء السياسي الذي نتج عن عملية الربيع العربي، وهذه مشكلة كبرى بالنسبة لتركيا، التي تقع في نفس الخط مع قطر؛ لذلك سوف نجد للنظام الدولي في الفترة المقبلة زيادة احتمال نشوب نزاع بين الدول التي تريد تطوير سياسة خارجية مستقلة، والدول التي تريد الحفاظ على تبعيتها للنظام الدولي، ولذلك من المتوقع استمرار الضغط.

الهوامش والمصادر:

 

[1]  ما الذي يحدث في أزمة قطر؟ بي بي سي التركية، 5 تموز 2017

[2]  ما هي أزمة قطر؟ سي إن إن التركية، 22 حزيران 2017.

[3]  قطر ترفض الـ13 مطلبًا، مللييت، 24 حزيران 2017

[4]  السعودية والإمارات والبحرين تسحب سفراءها من قطر، خبر تورك، 5 مارس 2014.

[5] “Qatar's foreign policy - the old and the new,” Aljazeera, 21 Kasım 2014.

 

[6] “Saudi Arabia and the Arab Spring: Absolute monarchy holds the line,” The Guardian, 30 Eylül 2011.

 

[7] “Why Saudi Arabia is taking a risk by backing the Egyptian coup,” The Guardian, 20 Ağustos 2013.

 

[8]  “Obama reassures Saudi Arabia over Iran,” USA Today, 4 Eylül 2015.

 

[9]  “Qatar’s Leadership Shake-Up: Powerful Emir to Step Down for 33-Year-Old Son,” Time, 24 Haziran 2013.

 

[10]  “Saudi Arabia and Iran Battle for Power in the Middle East,” NBC News, 9 Kasım 2017.

 

[11] Maridi Nahas, “State-Systems and Revolutionary Challenge: Nasser, Khomeini and the Middle East,” International Journal of Middle East Studies, Cilt 17, Sayı 4, 1985, ss. 507-527.

 

[12] “Saudi foreign minister: Qatar must end support for Hamas, Muslim Brotherhood,” Arab News, 6 Haziran 2017.

 

[13] David Roberts, “Qatar and the Muslim Brotherhood: Pragmatism or Preference?,” Middle East Policy Council,” Cilt 21, Sayı 3.

 

[14]  “Muslim Brotherhood is at the Heart of Gulf Standoff with Qatar,” Bloomberg, 7 Haziran 2017.

 

[15] Lina Khatib, “Qatar’s foreign policy: The limits of pragmatism,” International Affairs, 2013, Cilt 89, Sayı 2, ss. 417-431.

 

[16] Erik Ringmar, Identity, Interest and Action, Cambridge: Cambridge University Press, 1996, 1-16.

 

 [17]  4  أسباب لأزمة قطر، بي بي سي التركية، 7 حزيران  2017

[18]  “Qatari Mediation: Between Ambition and Achievement,” Brookings, 10 Kasım 2014.

 

 [19]   الزلزال يهز لبنان، ستار، 6 نوفمبر 2017.

 

[20]  الحريري بين إيران والسعودية، TGRT Haber، 6 نوفمبر 2017  

 

[21]  تصاعد التوتر بين إيران والسعودية، حرييت، 8 نوفمبر 2017.

 

[22] تعليقات مختلفة على الأزمة السعودية، ملييت، 7 نوفمبر 2017.

 

[23]  السعودية: إطلاق الصاروخ الإيراني من اليمن إعلان حرب، تي 24، 7 نوفمبر 2017

 

[24]  الموجة الثانية في السعودية، صباح، 9 نوفمبر 2017

 

[25]  ابن سلمان: نعود إلى الإسلام المعتدل، سي إن إن ترك، 24 أكتوبر 2017.

 


ملصقات
 »  

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط بطريقة محدودة ومقيدة لأغراض محددة. لمزيد من التفاصيل ، يمكنك الاطلاع على "سياسة البيانات الخاصة بنا". أكثر...