لم تشهد سورية في 8 ديسمبر 2024 مع النهاية المفاجئة والدرامية لنظام بشار الأسد، تغييرًا تاريخيًّا في النظام فحسب، بل دخلت أيضًا في عملية انتقالية تشكل أساسًا لرؤية سياسية واجتماعية جديدة، وإعادة بناء مؤسسي، وبنية سياسة خارجية. يمثل هذا الانتقال أمرًا أكبر بكثير من مجرد تغيير في السلطة. إن انهيار نظام الأسد وولادة سورية الجديدة يجسدان إلى حدّ كبير العناصر المثيرة للانقسام في فترة انتقالية. وبهذا المعنى، تواجه سورية فترة انتقالية يمكن وصفها بهذا التعبير: "مات القديم، ولم يُولَد الجديد بعد". لذلك، لم تعد السياسة الخارجية في سورية مجرد أداة تحدّد مكانة الدولة في النظام الدولي، بل أصبحت تضطلع بوظائف متعددة الأبعاد، مثل إرساء النظام الداخلي، وبناء شرعية النظام، ودعم عملية الانتعاش الاقتصادي، وإعادة بناء البنية الأمنية؛ لذلك، يتطلب تحليل السياسة الخارجية "الجديدة" لسورية منظورًا يتجاوز أطر تحليل السياسة الخارجية الكلاسيكية.
تتشكل تفضيلات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس أحمد الشرع إلى حد كبير من خلال الواقع الجيوسياسي الإقليمي الجديد الذي ظهر بعد انهيار النظام، والتحول الهيكلي في آليات صنع القرار، والبيئة الأمنية الداخلية. وقد أفسحت عملية صنع السياسة الخارجية، التي كانت في الفترة السابقة شديدة المركزية، وتعتمد على البيروقراطية الأمنية- المجال لنموذج قائم على التنوع المؤسسي، وهو نموذج أكثر تنسيقًا، لكنه لا يزال يحمل طابعًا مؤقتًا. يُعَدّ إشراك الجهات المؤسسية الفاعلة، مثل وزارة الخارجية ووزارتي الدفاع والداخلية بعد إعادة هيكلتهما، والمخابرات- في عمليات صنع القرار أحد التطورات المهمّة التي تحدّد الإطار المؤسسي لهذه الحقبة الجديدة. ومع ذلك، لم تتطور هذه العملية بعد إلى نموذج حوكمة مستقر. وبدلًا من ذلك، يجري محاولة تحقيق توازن إداري براغماتي ومرن خاص بمرحلة الانتقال.
يتناول هذا القسم من عملية التحول المذكورة آنفًا في ثلاثة سياقات أساسية: أولًا، تناقش مسألة: لماذا اضطرت إدارة الشرع إلى إعادة هيكلة السياسة الخارجية في سياق السياسة الخارجية السورية على محور الاستمرارية والانقطاع؟ في هذا الإطار، يجري تحليل الاختلافات بين تقاليد السياسة الخارجية لنظام الأسد والتوجه الجديد لإدارة الشرع من خلال التحول الجيوسياسي، وتطور هيكل صنع القرار، والأزمات المؤسسية التي نتجت عن انهيار النظام. ثانيًا، جرى تناول المعايير الأساسية للسياسة الخارجية الجديدة، مثل السعي إلى الحصول على الاعتراف الإقليمي والدولي، والتوجه الدبلوماسي المتعدد الأطراف، والإستراتيجيات التي تهدف إلى رفع العقوبات الاقتصادية، والدبلوماسية الأمنية؛ ويُثار التساؤل عن العلاقة الهيكلية التي تقيمها هذه المعايير مع عملية الانتقال. أخيرًا تبحث الورقة العوامل الدافعة والجاذبة التي تشكل السياسة الخارجية، وهي الضغوط الداخلية والخارجية على حد سواء.
أدت التحديات الهيكلية على وجه الخصوص، مثل التهديدات الأمنية الداخلية، ومسألة ضمان سلامة الأراضي، وإستراتيجيات التنافس بين الأطراف الإقليمية، والانهيار الاقتصادي، وضعف قدرات الدولة- إلى أن تصبح السياسة الخارجية ليس مجرد توجه، بل أداة لإدارة الأزمات. وفي هذا السياق أيضًا، فإن التوجه البراغماتي المتعدد الأطراف لإدارة الشرع في السياسة الخارجية، الذي يسعى إلى تحقيق التوازن والبقاء خارج المنافسة الإقليمية- يقود سورية نحو توجه جديد في السياسة الخارجية. وتهدف الاتصالات التي تحقق تطويرها مع الجهات الفاعلة الإقليمية، مثل تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة والعراق ومصر والأردن إلى تأمين الاعتراف الدبلوماسي والشرعية، وكذلك إلى استقرار البيئة الأمنية الداخلية، وإرساء الأسس؛ لإعادة هيكلة اقتصادية محدودة.
تهدف الدراسة إلى الكشف بشكل منهجي عن ديناميات السياسة الخارجية الجديدة في حقبة ما بعد الأسد، من خلال دراسة بنية السياسة الخارجية لسورية الجديدة في سياق قطيعة مع الاستمرارية التاريخية، ضمن إطار متعدد الأبعاد يمتد من عمليات صنع القرار إلى بناء معايير جديدة، ومن إدارة الأزمات إلى إستراتيجيات الشرعية الدولية.
